اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

عليه باعتباره لازما لمفاد الجملة بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ؛ ولأجل هذا يختصّ المفهوم بالمدلول الالتزاميّ.

مثاله قولهم : «إذا بلغ الماء كرّا لا ينجّسه شيء». فالمنطوق فيه هو مضمون الجملة وهو عدم تنجّس الماء البالغ كرّا بشيء من النجاسات. والمفهوم ـ على تقدير أن يكون لمثل هذه الجملة مفهوم ـ أنّه إذا لم يبلغ كرّا يتنجّس.

وعلى هذا يمكن تعريفهما بما يلي :

المنطوق «هو حكم دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق».

والمفهوم «هو حكم دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق (١)».

والمراد من الحكم الحكم بالمعنى الأعمّ ، لا خصوص أحد الأحكام الخمسة.

وعرّفوهما أيضا بأنّهما حكم مذكور وحكم غير مذكور (٢) ؛ وأنّهما حكم لمذكور وحكم لغير مذكور (٣) ، وكلّها لا تخلو عن مناقشات طويلة الذيل (٤). والذي يهوّن الخطب أنّها تعريفات لفظيّة لا يقصد منها الدقّة

في التعريف ، والمقصود منها واضح كما شرحناه.

٢. النزاع في حجّيّة المفهوم

لا شكّ أنّ الكلام إذا كان له مفهوم يدلّ عليه فهو ظاهر فيه ، فيكون حجّة من المتكلّم على السامع ، ومن السامع على المتكلّم ، كسائر الظواهر الأخرى.

__________________

(١) هكذا عرّفهما ابن الحاجب في منتهى الوصول والأمل : ١٤٧. كما نسبه إليه الأسنويّ في نهاية السئول ٢ : ١٩٨ ، والشيخ الأنصاريّ في مطارح الأنظار : ١٦٧. ونسبه صاحب الفصول إلى المشهور ، الفصول الغرويّة : ١٤٥.

(٢) كما في كفاية الأصول : ٢٣٠.

(٣) هكذا عرّفهما العضديّ في شرحه على مختصر ابن الحاجب ١ : ٣٠٦ ، والشوكاني في إرشاد الفحول : ١٧٨.

(٤) وإن أردت تفصيلها فراجع نهاية الدارية ١ : ٦٠٥ ، ونهاية الأفكار ١ : ٤٦٩.

ويمكن القول بأنّ المفهوم ما دلّ عليه مدلول اللفظ بالدلالة العقليّة ، فالمنطوق في قولهم ؛ «الماء إذا بلغ كرّا لا ينجّسه شيء» هو مفاد الجملة ـ أي عدم تنجّس الماء البالغ كرّا بشيء من النجاسات ـ ، وهذا المنطوق يدلّ عقلا على أنّه إذا لم يبلغ كرّا يتنجّس. وعليه فلا يبعد القول بأنّ مسألة المفهوم مسألة عقليّة لا لفظيّة.

١٢١

إذن ، ما معنى النّزاع في حجيّة المفهوم حينما يقولون مثلا : هل مفهوم الشرط حجّة أو لا؟

وعلى تقديره ، لا يدخل هذا النزاع في مباحث الألفاظ التي كان الغرض منها تشخيص الظهور في الكلام وتنقيح صغريات حجيّة الظهور ، بل ينبغي أن يدخل في مباحث الحجّة ، كالبحث عن حجّيّة الظهور وحجّيّة الكتاب ونحو ذلك.

والجواب أنّ النزاع هنا في الحقيقة إنّما هو في وجود الدلالة على المفهوم ، ـ أي في أصل ظهور الجملة فيه وعدم ظهورها ـ. وبعبارة أوضح : النزاع هنا في حصول المفهوم للجملة لا في حجّيّته بعد فرض حصوله.

فمعنى النزاع في مفهوم الشرط ـ مثلا ـ أنّ الجملة الشرطيّة مع قطع النظر عن القرائن الخاصّة هل تدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط؟ وهل هي ظاهرة في ذلك؟ لا أنّه بعد دلالتها على هذا المفهوم وظهورها فيه يتنازع في حجّيته ، فإنّ هذا لا معنى له ، وإن أوهم ذلك ظاهر بعض تعبيراتهم ، كما يقولون مثلا : «مفهوم الشرط حجّة أم لا؟». ولكن غرضهم ما ذكرنا.

كما أنّه لا نزاع في دلالة بعض الجمل على مفهوم لها إذا كانت لها قرينة خاصّة على ذلك المفهوم ، فإنّ هذا ليس موضع كلامهم ؛ بل موضوع الكلام ومحلّ النزاع في دلالة نوع تلك الجملة ، كنوع الجملة الشرطيّة على المفهوم مع تجرّدها عن القرائن الخاصّة.

٣. أقسام المفهوم

ينقسم المفهوم إلى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة :

١. مفهوم الموافقة ما كان الحكم في المفهوم موافقا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق ، فإن كان الحكم في المنطوق الوجوب ـ مثلا ـ كان في المفهوم الوجوب أيضا ، وهكذا ، كدلالة الأولويّة في مثل قوله (تعالى) : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (١) على النهي عن الضرب والشتم للأبوين ، ونحو ذلك ممّا هو أشدّ إهانة وإيلاما من التأفيف المحرّم بحكم الآية.

__________________

(١) الإسراء (١٧) الآية : ٢٣.

١٢٢

وقد يسمّى هذا المفهوم «فحوى الخطاب».

ولا نزاع في حجّيّة مفهوم الموافقة ، بمعنى دلالة الأولويّة على تعدّي الحكم إلى ما هو أولى في علّة الحكم ، وله تفصيل كلام يأتي في موضعه (١).

٢. مفهوم المخالفة ما كان الحكم فيه مخالفا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق ، وله موارد كثيرة وقع الكلام فيها نذكرها بالتفصيل ، وهي ستّة :

١. مفهوم الشرط.

٢. مفهوم الوصف.

٣. مفهوم الغاية.

٤. مفهوم الحصر.

٥. مفهوم العدد.

٦. مفهوم اللقب.

تمرينات (١٤)

التمرين الأوّل

١. ما معنى كلمة «المفهوم»؟

٢. ما المقصود من «المفهوم» في المقام؟

٣. ما هو تعريف المفهوم والمنطوق؟

٤. ما معنى النزاع في حجّيّة المفهوم؟

٥. ما هو مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة؟ ايت بمثال لهما.

التمرين الثاني

١. ما هي الأقوال في حقيقة المفهوم والمنطوق؟

__________________

(١) يأتي في مبحث «قياس الأولويّة» من مباحث القياس في الجزء الثالث.

١٢٣

الأوّل : مفهوم الشرط

تحرير محلّ النزاع

لا شكّ في أنّ الجملة الشرطيّة يدلّ منطوقها ـ بالوضع ـ على تعليق التالي فيها على المقدّم الواقع موقع الفرض والتقدير. وهي على نحوين :

١. أن تكون مسوقة لبيان موضوع الحكم ، أي إنّ المقدّم هو نفس موضوع الحكم ، حيث يكون الحكم في التالي منوطا بالشرط في المقدّم على وجه لا يعقل فرض الحكم بدونه ، نحو قولهم : «إن رزقت ولدا فاختنه» ؛ فإنّه في المثال لا يعقل فرض ختان الولد إلاّ بعد فرض وجوده. ومنه قوله (تعالى) : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ؛ (١) فإنّه لا يعقل فرض الإكراه على البغاء إلاّ بعد فرض إرادة التحصّن من قبل الفتيات.

وقد اتّفق الأصوليّون على أنّه لا مفهوم لهذا النحو من الجملة الشرطيّة ؛ لأنّ انتفاء الشرط معناه انتفاء موضوع الحكم ، فلا معنى للحكم بانتفاء التالي على تقدير انتفاء المقدّم إلاّ على نحو السالبة بانتفاء الموضوع. ولا حكم حينئذ بالانتفاء ، بل هو انتفاء الحكم. فلا مفهوم للشرطيّة في المثالين ، فلا يقال : «إن لم ترزق ولدا فلا تختنه» ولا يقال : «إن لم يردن تحصّنا فأكرهوهنّ على البغاء».

٢. ألاّ تكون مسوقة لبيان الموضوع ، حيث يكون الحكم في التالي منوطا بالشرط على وجه يمكن فرض الحكم بدونه ، نحو قولهم : «إن أحسن صديقك فأحسن إليه» ، فإنّ فرض الإحسان إلى الصديق لا يتوقّف عقلا على فرض صدور الإحسان منه ، فإنّه يمكن الإحسان إليه ، أحسن أو لم يحسن.

وهذا النحو الثاني من الشرطيّة هو محلّ النزاع في مسألتنا ، ومرجعه إلى النزاع في دلالة الشرطيّة على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، بمعنى أنّه هل يستكشف من طبع التعليق على الشرط انتفاء نوع الحكم المعلّق ـ كالوجوب مثلا ـ على تقدير انتفاء الشرط؟

__________________

(١) النور (٢٤) الآية : ٣٣.

١٢٤

وإنّما قلنا : «نوع الحكم» (١) ؛ لأنّ شخص كلّ حكم في القضيّة الشرطيّة أو غيرها ينتفي بانتفاء موضوعه ، أو أحد قيود الموضوع ، سواء كان للقضيّة مفهوم ، أو لم يكن.

وفي مفهوم الشرطيّة قولان : أقواهما أنّها تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء.

المناط في مفهوم الشرط

إنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم تتوقّف على دلالتها ـ بالوضع أو بالإطلاق ـ على أمور ثلاثة مترتّبة :

١. دلالتها على الارتباط والملازمة بين المقدّم والتالي.

٢. دلالتها ـ زيادة على الارتباط والملازمة ـ على أنّ التالي معلّق على المقدّم ، ومترتّب عليه ، وتابع له ، فيكون المقدّم سببا للتالي. والمقصود من السبب هنا هو كلّ ما يترتّب عليه الشيء وإن كان شرطا ونحوه ، فيكون أعمّ من السبب المصطلح في فنّ المعقول.

٣. دلالتها ـ زيادة على ما تقدّم ـ على انحصار السببيّة في المقدّم ، بمعنى أنّه لا سبب بديل له يترتّب عليه التالي.

وتوقّف المفهوم للجملة الشرطيّة على هذه الأمور الثلاثة واضح ؛ لأنّه لو كانت الجملة اتّفاقيّة أو كان التالي غير مترتّب على المقدّم أو كان مترتّبا ولكن لا على نحو الانحصار فيه فإنّه في جميع ذلك لا يلزم من انتفاء المقدّم انتفاء التالي.

وإنّما الذي ينبغي إثباته هنا هو أنّ الجملة ظاهرة في هذه الأمور الثلاثة وضعا أو إطلاقا ؛ لتكون حجّة في المفهوم.

والحقّ ظهور الجملة الشرطيّة في هذه الأمور ؛ وضعا في بعضها ؛ وإطلاقا في

__________________

(١) وقد يعبّر عنه بـ «سنخ الحكم» ويقال : إنّ المقصود من انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط أو الوصف هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه. بيان ذلك : أنّ انتفاء الحكم الشخصيّ عند انتفاء القيد ضروريّ لا يقبل النزاع ، فإذا قيل : «إذا جاء زيد فأكرمه» فعند عدم المجىء لا يتحقّق وجوب الإكرام المسبّب عن المجيء ، قطعا ؛ إنّما الكلام في انتفاء وجوب الإكرام رأسا عند انتفاء المجيء ، بمعنى أنّ زيدا عند انتفاء المجيء محكوم بعدم وجوب إكرامه مطلقا ، أي حتى الوجوب الذي يفرض عند تحقّق شيء آخر.

١٢٥

البعض الآخر.

١. أمّا دلالتها على الارتباط ووجود العلقة اللزوميّة بين الطرفين ، فالظاهر أنّه بالوضع بحكم التبادر ؛ ولكن لا بوضع خصوص أدوات الشرط (١) حتّى ينكر وضعها لذلك ، بل بوضع الهيئة التركيبيّة للجملة الشرطيّة بمجموعها (٢). وعليه فاستعمالها في الاتّفاقيّة يكون بالعناية وادّعاء التلازم والارتباط بين المقدّم والتالي إذا اتّفقت لهما المقارنة في الوجود.

٢. وأمّا دلالتها على أنّ التالي مترتّب على المقدّم بأيّ نحو من أنحاء الترتّب فهو بالوضع أيضا ، ولكن لا بمعنى أنّها موضوعة بوضعين : وضع للتلازم ، ووضع آخر للترتّب ، بل بمعنى أنّها موضوعة بوضع واحد ؛ للارتباط الخاصّ وهو ترتّب التالي على المقدّم.

والدليل على ذلك هو تبادر ترتّب التالي على المقدّم منها ، فإنّها تدلّ على أنّ المقدّم وضع فيها موضع الفرض والتقدير ، وعلى تقدير حصوله فالتالي حاصل عنده تبعا ـ أي يتلوه في الحصول ـ. أو فقل : إنّ المتبادر منها لابديّة الجزاء عند فرض حصول الشرط. وهذا لا يمكن أن ينكره إلاّ مكابر أو غافل ، فإنّ هذا هو معنى التعليق الذي هو مفاد الجملة الشرطيّة التي لا مفاد لها غيره. ومن هنا سمّوا الجزء الأوّل منها «شرطا ومقدّما» ، وسمّوا الجزء الثاني «جزاء وتاليا».

فإذا كانت جملة إنشائيّة ـ أي إنّ التالي متضمّن لإنشاء حكم تكليفيّ أو وضعيّ ـ فإنّها تدلّ على تعليق الحكم على الشرط ، فتدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط المعلّق عليه الحكم.

وإذا كانت جملة خبريّة ـ أي إنّ التالي متضمّن لحكاية خبر ـ فإنّها تدلّ على تعليق حكايته على المقدّم ، سواء كان المحكيّ عنه خارجا وفي الواقع مترتّبا على المقدّم ، فتتطابق الحكاية مع المحكيّ عنه ، كقولنا : «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» ، أو مترتّبا عليه بأن كان العكس كقولنا : «إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة» ، أو كان لا ترتّب بينهما ، كالمتضايفين في مثل قولنا : «إن كان خالد ابنا لزيد فزيد أبوه».

__________________

(١) كما في هداية المسترشدين : ٢٨٢ ، ومطارح الأنظار : ١٧٠.

(٢) كما في الفصول الغرويّة : ١٤٧.

١٢٦

٣. وأمّا دلالتها على أنّ الشرط منحصر ، فبالإطلاق ؛ لأنّه لو كان هناك شرط آخر للجزاء بديل لذلك الشرط ، وكذا لو كان معه شيء آخر يكونان معا شرطا للحكم ، لاحتاج ذلك إلى بيان زائد إمّا بالعطف بـ «أو» في الصورة الأولى ، أو العطف بالواو في الصورة الثانية ؛ لأنّ الترتّب على الشرط ظاهر في أنّه بعنوانه الخاصّ مستقلاّ هو الشرط المعلّق عليه الجزاء ، فإذا أطلق تعليق الجزاء على الشرط فإنّه يستكشف منه أنّ الشرط مستقلّ لا قيد آخر معه ، وأنّه منحصر لا بديل ، ولا عدل له ، وإلاّ لوجب على الحكيم بيانه وهو ـ حسب الفرض ـ في مقام البيان. وهذا نظير ظهور صيغة «افعل» بإطلاقها في الوجوب العينيّ والتعيينيّ (١).

وإلى هنا تمّ لنا ما أردنا أن نذهب إليه من ظهور الجملة الشرطية في الأمور التي بها تكون ظاهرة في المفهوم.

وعلى كلّ حال ، إنّ ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم ممّا لا ينبغي أن يتطرّق إليه الشكّ ، إلاّ مع قرينة صارفة ، أو تكون واردة لبيان الموضوع. ويشهد لذلك استدلال إمامنا الصادق عليه‌السلام بالمفهوم في رواية أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرّك ويهراق منها دم كثير عبيط؟ فقال عليه‌السلام : «لا تأكل إنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : إذا ركضت الرّجل أو طرفت العين فكل» (٢) ، فإنّ استدلال الإمام بقول عليّ عليه‌السلام لا يكون إلاّ إذا كان له مفهوم ، وهو إذا لم تركض الرّجل أو لم تطرف العين فلا تأكل.

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء

ومن لواحق مبحث «مفهوم الشرط» مسألة ما إذا وردت جملتان شرطيّتان أو أكثر ، وقد تعدّد الشرط فيهما وكان الجزاء واحدا. وهذا يقع على نحوين :

١. أن يكون الجزاء غير قابل للتكرار ، نحو التقصير في السفر فيما ورد «إذا خفي الأذان

__________________

(١) هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٤٨١ ـ ٤٨٣. واستدلّ الأعلام بوجوه أخر على العليّة المنحصرة ، فراجع الفصول الغرويّة : ١٤٧ ـ ١٤٨ ، وكفاية الأصول : ٢٣٣ ، ونهاية الأفكار ٢ : ٤٨٢.

(٢) الوسائل ١٦ : ٣٢١ ، الباب ١٢ من أبواب الذبائح ، الحديث ١.

١٢٧

فقصّر» ، و «إذا خفيت الجدران فقصّر».

٢. أن يكون الجزاء قابلا للتكرار ، كما في نحو «إذا أجنبت فاغتسل» ، «إذا مسست ميّتا فاغتسل».

أمّا النحو الأوّل : فيقع فيه التعارض بين الدليلين ، بناء على مفهوم الشرط ، ولكن التعارض إنّما هو بين مفهوم كلّ منهما مع منطوق الآخر ، كما هو واضح. فلا بدّ من التصرّف فيهما بأحد وجهين :

الوجه الأوّل : أن نقيّد كلاّ من الشرطيّتين من ناحية ظهورهما في الاستقلال بالسببيّة ، ذلك الظهور الناشئ من الإطلاق ـ كما سبق ـ الذي يقابله التقييد بالعطف بالواو ، فيكون الشرط في الحقيقة هو المركّب من الشرطين ، وكلّ منهما يكون جزء السبب ، والجملتان تكونان حينئذ كجملة واحدة مقدّمها المركّب من الشرطين ، بأن يكون مؤدّاهما هكذا «إذا خفي الأذان والجدران معا فقصّر».

وربّما يكون لهاتين الجملتين معا حينئذ مفهوم واحد ، وهو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرطين معا ، أو أحدهما ، كما لو كانا جملة واحدة.

الوجه الثاني : أن نقيّدهما من ناحية ظهورهما في الانحصار ، ذلك الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقييد بـ «أو». وحينئذ يكون الشرط أحدهما على البدليّة أو الجامع بينهما على أن يكون كلّ منهما مصداقا له ، وذلك حينما يمكن فرض الجامع بينهما ولو كان عرفيّا.

وإذ يدور الأمر بين الوجهين في التصرّف ، فأيّهما أولى؟ هل الأولى تقييد ظهور الشرطيّتين في الاستقلال أو تقييد ظهورهما في الانحصار؟ قولان في المسألة.

والأوجه ـ على الظاهر ـ هو التصرّف الثاني ؛ لأنّ منشأ التعارض بينهما هو ظهورهما في الانحصار الذي يلزم منه الظهور في المفهوم ، فيتعارض منطوق كلّ منهما مع مفهوم الأخرى ـ كما تقدّم ـ ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور كلّ منهما في الانحصار بالإضافة إلى المقدار الذي دلّ عليه منطوق الشرطيّة الأخرى ؛ لأنّ ظهور المنطوق أقوى ؛ أمّا ظهور كلّ من الشرطيّتين في الاستقلال فلا معارض له حتّى ترفع اليد عنه.

١٢٨

وإذا ترجّح القول الثاني ـ وهو التصرّف في ظهور الشرطيّتين في الانحصار ـ يكون كلّ من الشرطين مستقلاّ في التأثير ، فإذا انفرد أحدهما كان له التأثير في ثبوت الحكم. وإن حصلا معا ، فإن كان حصولهما بالتعاقب كان التأثير للسابق ، وإن تقارنا كان الأثر لهما معا ويكونان كالسبب الواحد ؛ لامتناع تكرار الجزاء حسب الفرض.

وأمّا النحو الثاني : ـ وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتكرار ـ : فهو على صورتين :

١. أن يثبت بالدليل أنّ كلاّ من الشرطين جزء السبب. ولا كلام حينئذ في أنّ الجزاء واحد يحصل عند حصول الشرطين معا.

٢. أن يثبت من دليل مستقلّ ، أو من ظاهر دليل الشرط أنّ كلاّ من الشرطين سبب مستقلّ ، سواء كان للقضيّة الشرطيّة مفهوم أم لم يكن ، فقد وقع الخلاف ـ فيما إذا اتّفق وقوع الشرطين معا في وقت واحد أو متعاقبين ـ في أنّ القاعدة أيّ شيء تقتضي؟ هل تقتضي تداخل الأسباب فيكون لها جزاء واحد كما في مثال تداخل موجبات الوضوء من خروج البول أو الغائط والنوم ونحوهما ، أم تقتضي عدم التداخل فيتكرّر الجزاء بتكرّر الشروط ، كما في مثال تعدّد وجوب الصلاة بتعدّد أسبابه من دخول وقت اليوميّة وحصول الآيات؟

أقول : لا شبهة في أنّه إذا ورد دليل خاصّ على التداخل (١) أو عدمه (٢) وجب الأخذ بذلك الدليل.

وأمّا مع عدم ورود الدليل الخاصّ فهو محلّ الخلاف. والحقّ أنّ القاعدة فيه عدم التداخل.

بيان ذلك أنّ لكلّ شرطيّة ظهورين :

١. ظهور الشرط فيها في الاستقلال بالسببيّة. وهذا الظهور يقتضي أن يتعدّد الجزاء في الشرطيّتين موضوعتي البحث ، فلا تتداخل الأسباب.

٢. ظهور الجزاء فيها في أنّ متعلّق الحكم فيه صرف الوجود. ولمّا كان صرف الشيء لا يمكن أن يكون محكوما بحكمين ، فيقتضي ذلك أن يكون لجميع الأسباب جزاء واحد

__________________

(١) كالروايات الواردة في باب الغسل. راجع الوسائل ١ : ٥٢٥ ـ ٥٢٧ ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

(٢) كما في مثال تعدّد وجوب الصلاة بتعدّد أسبابه.

١٢٩

وحكم واحد عند فرض اجتماعها ، فتتداخل الأسباب.

وعلى هذا ، فيقع التنافي بين هذين الظهورين ، فإذا قدّمنا الظهور الأوّل لا بدّ أن نقول بعدم التداخل ، وإذا قدّمنا الظهور الثاني لا بدّ أن نقول بالتداخل ، فأيّهما أولى بالتقديم؟ والأرجح أنّ الأولى بالتقديم ظهور الشرط على ظهور الجزاء ؛ لأنّ الجزاء لمّا كان معلّقا على الشرط فهو تابع له ثبوتا وإثباتا ، فإن كان واحدا كان الجزاء واحدا وإن كان متعدّدا كان متعدّدا. وإذا كان المقدّم متعدّدا ـ حسب فرض ظهور الشرطيّتين ـ كان الجزاء تابعا له ؛ وعليه ، لا يستقيم للجزاء ظهور في وحدة المطلوب ؛ فيخرج المقام عن باب التعارض بين الظهورين ، بل يكون الظهور في التعدّد رافعا للظهور في الوحدة ؛ لأنّ الظهور في الوحدة لا يكون إلاّ بعد فرض سقوط الظهور في التعدّد ، أو بعد فرض عدمه ، أمّا مع وجوده فلا ينعقد الظهور في الوحدة.

فالقاعدة في المقام ـ إذن ـ هي «عدم التداخل». وهو مذهب أساطين العلماء الأعلام (قدّس الله أسرارهم) (١).

تنبيهان

١. تداخل المسبّبات

إنّ البحث في المسألة السابقة إنّما هو عمّا إذا تعدّدت الأسباب فيتساءل فيها عمّا إذا كان تعدّدها يقتضي المغايرة في الجزاء وتعدّد المسبّبات ـ بالفتح ـ أو لا يقتضي فتتداخل الأسباب ، وينبغي أن تسمّى بـ «مسألة تداخل الأسباب».

وبعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب هناك ينبغي أن يبحث أنّ تعدّد المسبّبات إذا

__________________

(١) بل هو منسوب إلى المشهور. راجع مطارح الأنظار : ١٧٥ ؛ كفاية الأصول : ٢٣٩ ـ ٢٤٢ ؛ نهاية الأفكار ٢ : ٤٨٩ ؛ فوائد الأصول ٢ : ٤٩٣ ؛ المحاضرات ٥ : ١١٨.

وفي المقام قولان آخران : أحدهما : التداخل ، كما ذهب إليه العلاّمة الخوانساريّ في مشارق الشموس : ٦١. ثانيهما : التفصيل بين ما إذا تعدّدت الأسباب نوعا أو جنسا ، وبين ما إذا تعدّدت شخصا ، فالقاعدة على الأوّل عدم التداخل وعلى الثاني التداخل ، وهذا مذهب الحلّي (ابن إدريس) في السرائر ١ : ٢٥٨.

١٣٠

كانت تشترك في الاسم والحقيقة ـ كالأغسال ـ هل يصحّ أن يكتفى عنها بوجود واحد لها أو لا يكتفى؟

وهذه مسألة أخرى ، غير ما تقدّم ، تسمّى بـ «مسألة تداخل المسبّبات» ، وهي من ملحقات الأولى.

والقاعدة فيها أيضا عدم التداخل.

والسرّ في ذلك أنّ سقوط الواجبات المتعدّدة بفعل واحد ـ وإن أتي به بنيّة امتثال الجميع ـ يحتاج إلى دليل خاصّ ، كما ورد في الأغسال بالاكتفاء بغسل الجنابة عن باقي الأغسال (١) ، وورد أيضا جواز الاكتفاء بغسل واحد عن أغسال متعدّدة (٢). ومع عدم ورود الدليل الخاصّ فإنّ كلّ وجوب يقتضي امتثالا خاصّا به ، لا يغني عنه امتثال الآخر وإن اشتركت الواجبات في الاسم والحقيقة.

نعم ، قد يستثنى من ذلك ما إذا كان بين الواجبين نسبة العموم والخصوص من وجه ، وكان دليل كلّ منهما مطلقا بالإضافة إلى مورد الاجتماع ، كما إذا قال ـ مثلا ـ : «تصدّق على مسكين» ، وقال ـ ثانيا ـ : «تصدّق على ابن سبيل» ، فجمع العنوانين شخص واحد بأن كان مسكينا وابن سبيل ، فإنّ التصدّق عليه يكون مسقطا للتكليفين.

٢. الأصل العمليّ في المسألتين

إنّ مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في تداخل الأسباب هو التداخل ؛ لأنّ تأثير السببين في تكليف واحد متيقّن ، وإنّما الشكّ في تكليف ثان زائد. والأصل في مثله البراءة.

وبعكسه في مسألة تداخل المسبّبات ؛ فإنّ الأصل يقتضي فيه عدم التداخل كما مرّت الإشارة إليه ؛ لأنّه بعد ثبوت التكاليف المتعدّدة بتعدّد الأسباب يشكّ في سقوط التكاليف الثابتة لو فعل فعلا واحدا. ومقتضى القاعدة ـ في مثله ـ الاشتغال ، بمعنى أنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ ، فلا يكتفى بفعل واحد في مقام الامتثال.

__________________

(١ و ٢) راجع الوسائل ١ : ٥٢٥ ـ ٥٢٨ ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

١٣١

تمرينات (١٥)

التمرين الأوّل

١. ما هو محلّ النزاع في مفهوم الشرط؟

٢. ما المراد من قوله : «نوع الحكم»؟

٣. ما المناط في مفهوم الشرط؟

٤. بيّن وجه ظهور الجملة الشرطيّة فيما هو المناط في مفهوم الشرط؟

٥. ما العلاج في المعارضة بين الدليلين إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ولم يكن الجزاء قابلا للتكرار؟

٦. ما القاعدة فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء وكان الجزاء قابلا للتكرار؟

٧. هل القاعدة في المسبّبات المشتركة هي التداخل أو عدم التداخل؟

٨. ما هو مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في تداخل الأسباب والمسبّبات؟

التمرين الثاني

١. بيّن كيفيّة المعارضة بين قولهم «إذا خفي الأذان فقصّر» و «إذا خفي الجدران فقصّر». واذكر ما ذكر في علاجها.

٢. ما هو رأي العلاّمة الخوانساريّ والمحقّق الحلّي فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء وكان الجزاء قابلا للتكرار؟

١٣٢

الثاني : مفهوم الوصف

موضوع البحث

المقصود بالوصف هنا ما يعمّ النعت وغيره ، فيشمل الحال والتمييز ونحوهما ممّا يصلح أن يكون قيدا لموضوع التكليف ؛ كما أنّه يختصّ بما إذا كان معتمدا على موصوف (١) ، فلا يشمل ما إذا كان الوصف نفسه موضوعا للحكم ، نحو : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) فإنّ مثل هذا يدخل في باب مفهوم اللقب (٣). والسرّ في ذلك أنّ الدلالة على انتفاء [الحكم عند انتفاء] الوصف لا بدّ فيها من فرض موضوع ثابت للحكم يقيّد بالوصف مرّة ، ويتجرّد عنه أخرى ، حتّى يمكن فرض نفي الحكم عنه.

ويعتبر ـ أيضا ـ في المبحوث عنه هنا أن يكون أخصّ من الموصوف مطلقا أو من وجه ؛ لأنّه لو كان مساويا ، أو أعمّ مطلقا لا يوجب تضييقا وتقييدا في الموصوف ، حتّى يصحّ فرض انتفاء الحكم عن الموصوف عند انتفاء الوصف.

وأمّا دخول الأخصّ من وجه في محلّ البحث فإنّما هو بالقياس إلى مورد افتراق الموصوف عن الوصف ، ففي مثال : «في الغنم السائمة زكاة» (٤) يكون مفهومه ـ لو كان له مفهوم ـ عدم وجوب الزكاة في الغنم غير السائمة وهي المعلوفة. وأمّا بالقياس إلى مورد افتراق الوصف عن الموصوف فلا دلالة له على المفهوم قطعا ، فلا يدلّ المثال على عدم الزكاة في غير الغنم السائمة أو غير السائمة كالإبل ـ مثلا ـ ؛ لأنّ الموضوع ـ وهو الموصوف الذي هو الغنم في المثال ـ يجب أن يكون محفوظا في المفهوم ، ولا يكون متعرّضا لموضوع آخر ، ولا نفيا ولا إثباتا.

__________________

(١) وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٥٠١ ، وأجود التقريرات ٢ : ٢٧٥.

(٢) المائدة (٥) الآية : ٣٨.

(٣) خلافا للشيخ الأنصاريّ وصاحب الفصول ، فإنّ الظاهر من عباراتهم أنّ موضوع البحث لا يختصّ بما إذا اعتمد الوصف على الموصوف ، بل يعمّ ما إذا كان الحكم محمولا على الوصف. راجع مطارح الأنظار : ١٨٤ ، والفصول الغرويّة : ١٥١.

(٤) عوالي اللئالئ ١ : ٣٩٩.

١٣٣

فما عن بعض الشافعيّة (١) من القول بدلالة القضيّة المذكورة (٢) على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة لا وجه له قطعا.

الأقوال في المسألة والحقّ فيها

لا شكّ في دلالة التقييد بالوصف على المفهوم عند وجود القرينة الخاصّة ، ولا شكّ في عدم الدلالة عند وجود القرينة على ذلك ، مثل ما إذا ورد الوصف مورد الغالب الذي يفهم منه عدم إناطة الحكم به وجودا وعدما ، نحو قوله (تعالى) : (وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ) (٣) ؛ فإنّه لا مفهوم لمثل هذه القضيّة مطلقا ؛ إذ يفهم منه أنّ وصف الربائب بأنّها في حجوركم لأنّها غالبا تكون كذلك ، والغرض منه الإشعار بعلّة الحكم ؛ إذ أنّ اللاّئي تربّى في الحجور تكون كالبنات.

وإنّما الخلاف عند تجرّد القضيّة عن القرائن الخاصّة ، فإنّهم اختلفوا في أنّ مجرّد التقييد بالوصف هل يدلّ على المفهوم ـ أي انتفاء حكم الموصوف عند انتفاء الوصف ـ أو لا يدلّ؟ نظير الاختلاف المتقدّم في التقييد بالشرط. وفي المسألة قولان : والمشهور القول الثاني ، وهو عدم المفهوم (٤).

والسرّ في الخلاف يرجع إلى أنّ التقييد المستفاد من الوصف هل هو تقييد لنفس الحكم ـ أي إنّ الحكم منوط به ـ أو أنّه تقييد لنفس موضوع الحكم أو متعلّق الموضوع باختلاف الموارد ، فيكون الموضوع أو متعلّق الموضوع هو المجموع المؤلّف من الموصوف والوصف؟

فإن كان الأوّل فإنّ التقييد بالوصف يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفائه بمقتضى

__________________

(١) نقل عنهم في اللمع : ٤٦ ، والمنخول : ٢٢٢.

(٢) أي قوله عليه‌السلام : «في الغنم السائمة زكاة».

(٣) النساء (٤) الآية : ٢٣.

(٤) نسبه الشيخ الأنصاريّ إلى المشهور. راجع مطارح الأنظار : ١٨٢. والقول الأوّل نسب إلى ظاهر كلام الشيخ ـ من الإماميّة ـ والشافعي ومالك وأكثر أصحابهما ـ من العامّة ـ. راجع الفصول الغرويّة : ١٥١ ؛ والمستصفى ٢ : ١٩١.

١٣٤

الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق يقتضي ـ بعد فرض إناطة الحكم بالوصف ـ انحصاره فيه كما قلنا في التقييد بالشرط.

وإن كان الثاني فإنّ التقييد لا يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ؛ لأنّه حينئذ يكون من قبيل مفهوم اللقب ؛ إذ إنّه يكون التعبير بالوصف والموصوف لتحديد موضوع الحكم فقط ، لا أنّ الموضوع ذات الموصوف ، والوصف قيد للحكم عليه ، مثل ما إذا قال القائل : «اصنع شكلا رباعيّا قائم الزوايا ، متساوي الأضلاع» ، فإنّ المفهوم منه أنّ المطلوب صنعه هو المربّع ، فعبّر عنه بهذه القيود الدالّة عليه ، حيث يكون الموضوع هو مجموع المعنى المدلول عليه بالعبارة المؤلّفة من الموصوف والوصف ، وهي في المثال «شكل رباعيّ قائم الزوايا ، متساوي الأضلاع» ، وهي بمنزلة كلمة مربّع ، فكما أنّ جملة «اصنع مربّعا» لا تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، كذلك ما هو بمنزلتها لا يدلّ عليه ؛ لأنّه في الحقيقة يكون من قبيل الوصف غير المعتمد على الموصوف.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الظاهر في الوصف ـ لو خلّي وطبعه من دون قرينة ـ أنّه من قبيل الثاني ـ أي إنّه قيد للموضوع لا للحكم ـ ، فيكون الحكم من جهته مطلقا غير مقيّد ، فلا مفهوم للوصف.

ومن هذا التقرير يظهر بطلان ما استدلّوا به لمفهوم الوصف من الأدلّة الآتية :

١. إنّه لو لم يدلّ الوصف على الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائدة فيه.

والجواب : أنّ الفائدة غير منحصرة برجوعه إلى الحكم. وكفى فائدة فيه تحديد موضوع الحكم وتقييده به.

٢. إنّ الأصل في القيود أن تكون احترازيّة.

والجواب : أنّ هذا مسلّم ، ولكن معنى الاحتراز هو تضييق دائرة الموضوع ، وإخراج ما عدا القيد عن شمول شخص الحكم له. ونحن نقول به ، وليس هذا من المفهوم في شيء ؛ لأنّ إثبات الحكم لموضوع لا ينفي ثبوت سنخ الحكم لما عداه ، كما في مفهوم اللقب. والحاصل أنّ كون القيد احترازيّا لا يلزم إرجاعه قيدا للحكم.

٣. إنّ الوصف مشعر بالعلّية ، فيلزم إناطة الحكم به.

١٣٥

والجواب : أنّ هذا الإشعار وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّه ما لم يصل إلى حدّ الظهور لا ينفع في الدلالة على المفهوم.

٤. الاستدلال بالجمل التي ثبتت دلالتها على المفهوم ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مطل الغنيّ ظلم» (١).

والجواب : أنّ ذلك على تقديره لا ينفع ؛ لأنّا لا نمنع من دلالة التقييد بالوصف على المفهوم أحيانا لوجود قرينة ، وإنّما موضوع البحث في اقتضاء طبع الوصف ـ لو خلّي ونفسه ـ للمفهوم. وفي خصوص المثال نجد القرينة على إناطة الحكم بالغنى من جهة مناسبة الحكم والموضوع ، فيفهم أنّ السبب في الحكم كون المدين غنيّا ، فيكون مطله ظلما ، بخلاف المدين الفقير ؛ لعجزه عن أداء الدين ، فلا يكون مطله ظلما (٢).

تمرينات (١٦)

التمرين الأوّل

١. ما المراد من «الوصف» في مفهوم الوصف؟

٢. هل في وصف الربائب باللاتي في الحجور في قوله تعالى : «وربائبكم اللاّتى في حجوركم» مفهوم؟

٣. بيّن وجه عدم ثبوت المفهوم للوصف عند المصنّف؟

٤. ما دليل المثبتين؟ وما الجواب عنه؟

التمرين الثاني

١. هل موضوع البحث يختصّ بما إذا اعتمد الوصف على الموصوف أو يعمّ؟ (بيّن آراء العلماء).

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ٨٥ ، سنن النسائي ٧ : ٣١٧.

قال في مجمع البحرين : ٤٥٤ : «المطل : الليّ والتسويف والتعلّل في أداء الحقّ ، وتأخيره من وقت إلى وقت».

(٢) هذه الأدلّة الأربعة وأجوبتها تعرّض لها الشيخ في مطارح الأنظار : ١٨٤ ، والمحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

١٣٦

الثالث : مفهوم الغاية

إذا ورد التقييد بالغاية نحو (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) ، ونحو : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» (٢) ، فقد وقع خلاف الاصوليّين فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في دخول الغاية في المنطوق ـ أي في حكم المغيّى ـ. فقد اختلفوا في أنّ الغاية ـ وهي الواقعة بعد أداة الغاية نحو «إلى» و «حتّى» ـ هل هي داخلة في المغيّى حكما ، أو خارجة عنه وإنّما ينتهي إليها المغيّى موضوعا وحكما؟ على أقوال :

منها : التفصيل بين كونها من جنس المغيّى فتدخل فيه ، نحو : «صمت النهار إلى الليل» ، وبين كونها من غير جنسه فلا تدخل ، كمثال «كلّ شيء لك حلال ...» (٣).

ومنها : التفصيل بين كون الغاية واقعة بعد «إلى» فلا تدخل فيه ، وبين كونها واقعة بعد «حتّى» فتدخل ، نحو : «كل السمكة حتّى رأسها» (٤).

والظاهر أنّه لا ظهور لنفس التقييد بالغاية في دخولها في المغيّى ، ولا في عدمه ، بل يتّبع ذلك ، الموارد والقرائن الخاصّة الحافّة بالكلام.

نعم ، لا ينبغي الخلاف في عدم دخول الغاية فيما إذا كانت غاية للحكم ، كمثال «كلّ شيء لك حلال ...» ؛ فإنّه لا معنى لدخول معرفة الحرام في حكم الحلال (٥).

__________________

(١) البقرة (٢) الآية : ١٨٧.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ ؛ وسائل الشيعة ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٣) وهذا القول نسبه ابن الحاجب إلى الأندلسيّ. راجع شرح الكافية ٢ : ٣٢٦.

(٤) وهذا هو الظاهر من كلام ابن الحاجب في الكافية ، راجع شرح الكافية ٢ : ٣٢٦. ولا يبعد رجوع هذا التفصيل إلى التفصيل الأوّل ؛ لأنّ من قال بدخول الغاية في المغيّى إذا وقعت بعد «حتّى» قال بكون ما بعد «حتّى» جزءا ممّا قبلها ، بخلاف «إلى» ؛ فإنّها لا تستعمل إلاّ فيما إذا لم يكن ما بعدها جزءا ممّا قبلها ، فلا تدخل الغاية الواقعة بعدها في المغيّى. راجع شرح المفصّل ٧ : ١٦.

وذهب إلى هذا التفصيل أيضا المحقّق العراقيّ في مقالات الأصول ١ : ٤١٥.

(٥) وهذا هو القول بالتفصيل بين ما كان غاية الفعل ، كمثال : «سر من البصرة إلى الكوفة» فيدخل ، وما كان غاية الحكم كقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال ...» فلا يدخل. وذهب إليه المحقّق الحائريّ في ـ

١٣٧

ثمّ إنّ المقصود من كلمة «حتّى» التي يقع الكلام عنها هي «حتّى» الجارّة ، دون العاطفة ، وإن كانت تدخل على الغاية أيضا ؛ لأنّ العاطفة يجب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها ؛ لأنّ هذا هو معنى العطف ، فإذا قلت : «مات الناس حتّى الأنبياء» فإنّ معناه أنّ الأنبياء ماتوا أيضا. بل «حتّى» العاطفة تفيد أنّ الغاية هو الفرد الفائق على سائر أفراد المغيّى في القوّة أو الضعف ، فكيف يتصوّر أن لا يكون المعطوف بها داخلا في الحكم ، بل قد يكون هو الأسبق في الحكم ، نحو : «مات كلّ أب حتّى آدم».

الجهة الثانية : في مفهوم الغاية. وهي موضوع البحث هنا ، فإنّه قد اختلفوا في أنّ التقييد بالغاية ـ مع قطع النظر عن القرائن الخاصّة ـ هل يدلّ على انتفاء سنخ الحكم عمّا وراء الغاية ومن الغاية نفسها أيضا إذا لم تكن داخلة في المغيّى ، أو لا؟

فنقول : إنّ المدرك في دلالة الغاية على المفهوم كالمدرك في الشرط والوصف ، فإذا كانت قيدا للحكم كانت ظاهرة في انتفاء الحكم فيما وراءها ، وأمّا إذا كانت قيدا للموضوع أو المحمول فقط ، فلا دلالة لها على المفهوم (١).

وعليه ، فما علم في التقييد بالغاية أنّه راجع إلى الحكم فلا إشكال في ظهوره في المفهوم ؛ مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه نجس» (٢) وكذلك مثال

__________________

ـ درر الفوائد ١ : ١٧٤.

وذهب الشيخ الأنصاريّ إلى الدخول مطلقا ، فراجع مطارح الأنظار : ١٨٥. وذهب السيّد الإمام الخمينيّ إلى عدم الدخول مطلقا ، فراجع مناهج الوصول ٢ : ٢٢٤.

(١) وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٢٤٦. واختاره المحقّق النائينيّ وتلميذه المحقّق الخوئيّ ، فراجع فوائد الأصول ٢ : ٥٠٤ ، والمحاضرات ٥ : ١٣٧ ـ ١٤٠.

وذهب المشهور ـ على ما في مطارح الأنظار ـ وأكثر المحقّقين ـ على ما في القوانين والفصول ـ إلى دلالة الغاية على المفهوم مطلقا. فراجع مطارح الأنظار : ١٨٦ ؛ قوانين الأصول ١ : ١٨٦ ؛ الفصول الغرويّة : ١٥٣. ومذهب الشيخ الطوسيّ والسيّد المرتضى عدم دلالتها على المفهوم مطلقا ، فراجع العدّة ٢ : ٤٧٨ ، والذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٠٧.

(٢) هذا مفاد الرواية. وإليك نصّها «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» أو «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر». راجع الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤ ؛ مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨٣ ، الباب ٤ من أبواب النجاسات والأواني ، الحديث ٤.

١٣٨

«كلّ شيء حلال ...».

وإن لم يعلم ذلك من القرائن ، فلا يبعد القول بظهور الغاية في رجوعها إلى الحكم ، وأنّها غاية للنسبة الواقعة قبلها ، وكونها غاية لنفس الموضوع أو نفس المحمول هو الذي يحتاج إلى البيان والقرينة.

فالقول بمفهوم الغاية هو المرجّح عندنا.

تمرينات (١٧)

١. ما هو مفهوم الغاية؟

٢. ما هي الأقوال في دخول الغاية في حكم المغيّى وخروجه؟

٣. هل تدلّ الغاية على المفهوم أم لا؟ ما الدليل عليه؟

١٣٩

الرابع : مفهوم الحصر

معنى الحصر

الحصر له معنيان :

١. القصر بالاصطلاح المعروف عند علماء البلاغة (١) ، سواء كان من نوع قصر الصفة على الموصوف ، نحو : «لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ» (٢) ، أم من نوع قصر الموصوف على الصفة ، نحو : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ) ، (٣) (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) (٤).

٢. ما يعمّ القصر والاستثناء الذي لا يسمّى قصرا بالاصطلاح ، نحو : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً) (٥). والمقصود به هنا هو هذا المعنى الثاني.

اختلاف مفهوم الحصر باختلاف أدواته

إنّ مفهوم الحصر يختلف حاله باختلاف أدوات الحصر كما سترى ، فلذلك كان علينا أن نبحث عنها واحدة واحدة ، فنقول :

١. «إلاّ» وهي تأتي لثلاثة وجوه :

أ. صفة بمعنى غير.

ب. استثنائيّة.

ج. أداة حصر بعد النفي.

أمّا «إلاّ» الوصفيّة : فهي تقع وصفا لما قبلها ، كسائر الأوصاف الأخرى. فهي تدخل من هذه الجهة في مفهوم الوصف ، فإن قلنا هناك : إنّ للوصف مفهوما فهي كذلك ، وإلاّ فلا.

__________________

(١) وهو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص ؛ راجع المطوّل : ١٦١ ، ومختصر المعاني : ٧٨.

(٢) الرياض النضرة ٣ : ١٥٥ ، الكامل في التاريخ ١ : ٥٥٢.

(٣) آل عمران (٣) الآية : ١٤٤.

(٤) الرعد (١٣) الآية : ٧ ، النازعات (٧٩) الآية : ٤٥.

(٥) البقرة (٢) الآية : ٢٤٩.

١٤٠