الفصول المهمة في تأليف الأمة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

الفصول المهمة في تأليف الأمة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وأخرج البخاري عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله (ص) ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات (ص) قال رجل برأيه ما شاء ا ه‍.

وأخرج أحمد في مسنده من طريق عمران القصير عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى ، وعملنا بها مع رسول الله (ص) فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها النبي حتى مات (ص) ا ه‍.

وأمر المأمون أيام خلافته فنودي بتحليل المتعة ، فدخل عليه محمد بن منصور وأبو العيناء فوجداه يستاك ويقول (٢) وهو متغيظ : متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وعلى عهد أبو بكر وأنا أنهى عنهما ومن أنت يا جعل حتى تنهى عما فعله رسول الله (ص) وأبو بكر. فأراد محمد بن منصور أن يكلمه فأومأ اليه أبو العيناء وقال : رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن فلم يكلماه ، ودخل عليه يحيى بن أكثم فخوفه من الفتنة وذكر له أن الناس يرونه قد أحدث في الاسلام بسبب هذا النداء حدثا عظيماً ، لا ترتضيه الخاصة ولا تصبر عليه العامة ، اذ لا فرق عندهم بين النداء باباحة المتعة والنداء باباحة الزنى ، ولم يزل به حتى صرف عزيمته احتياطاً على ملكه واشفاقاً على نفسه.

الخاتمة

قال العسكري « فيما نقله السيوطي عنه في ترجمة عمر من كتابه تاريخ الخلفاء » هو أول من سمي أمير المؤمنين ، وأول من كتب التاريخ من الهجرة ، وأول من اتخذ بيت المال ، وأول من سن قيام شهر رمضان « بالتروايح » وأول

__________________

(٢) فيما نقله ابن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم من وفيات الاعيان ، لكنه لم ينقل حديث يحيى بن أكثم مع المأمون على وجهه والصحيح ما نقلناه.

٨١

من عس بالليل ، وأول من عاقب على الهجاء ، وأول من ضرب في الخمر ثمانين ، وأول من حرم المتعة الخ.

والذين صرحوا بهذا من أعلام السلف والخلف لا يحيط بهم هذا الاملاء وفي هذا القدر كفاية إذ تبين به أن تحريم المتعتين إنما كان عن اجتهاد محض وتأول صرف ، وقد قوبل بالاذعان ولم يندد به من الجمهور انسان ، فثبت ما أردناه في هذه العجالة وتم ما أفردنا له هذه الرسالة من معذرة المجتهدين ونجاة المتأولين من المسلمين والحمد لله رب العالمين.

ولنرجع إلى ما كنا فيه من موارد تأولهم فنقول عطفا على ما سبق.

ومنها تأولهم في أذان الصبح حيث تصرفوا فيه فنظموا في سلك فصوله فصلاً لم يكن أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألا وهو نداء مؤذنهم « الصلاة خير من النوم » بل لم يكن أيام أبي بكر وانما أمر به الخليفة الثاني فيما دلت عليه الأحاديث المتواترة من طريق العترة الطاهرة ، وحسبك من غيرها ما أخرجه الامام مالك في باب ما جاء في النداء للصلاة من موطأه من أنه بلغه ان المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح انتهى بلفظه. وقال العلامة الزرقاني عند بلوغه إلى هذا الحديث من شرح الموطأ ما هذا لفظه : هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر. ( قال ) وأخرج عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع بن عمر عن عمر انه قال لمؤذنه : إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل « الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم » ا ه‍.

قلت : وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة ، ورواه جماعة آخرون يطول المقام بذكرهم.

٨٢

وانت تعلم أن لا عين ولا أثر لهذه الكلمة فيما هو مأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كيفية الأذان ، فراجع ان شئت كتاب الأذان في الجزء الأول من صحيح البخاري ، وباب صفة الأذان وهو في أول كتاب الصلاة من صحيح مسلم ، تعلم حقيقة ما نقول.

وأيضاً ذكروا في أصل مشروعية الأذان (١) قضية تمنعها الامامية حاصلها أن عبد الله بن زيد بن ثعلبة الأنصاري رأى ليلة فيما يراه النائم شخصاً علمه الأذان والاقامة ، فلما انتبه قبل الفجر وقص الرؤيا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره أن يلقن بلالاً ما حفظه في تلك الرؤيا ، وأمر بلالاً أن ينادي به أول الفجر ، ففعلا ذلك وشرع الأذان بهذا الطيف فيما زعموا. ونحن نظرنا فيما نقلوه من تلقين عبد الله لبلال فلم نجد فيه مع كونه أذاناً للفجر « الصلاة خير من النوم » والأدلة على كون هذه الكلمة ليست من الله تعالى ولا من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرة ، وما ذكرناه كاف لاثبات تأولهم في الأذان واف بمعذرة المتأولين في كل زمان.

ومنها تأولهم في اسقاط « حيَّ على خير العمل » من الأذان والاقامة ، وذلك أنهم كانوا يرغبون في إعلام العامة بأن خير العمل إنما هو الجهاد في سبيل الله ليشتاقوا اليه وتعكف هممهم عليه ، والنداء على الصلاة بخير العمل في كل يوم خمس مرات (٢) ينافي ذلك.

بل ربما رأوا ان في بقاء هذه الكلمة في الأذان والاقامة تثبيطاً للعامة عن

__________________

(١) ذكر هذه القضية مالك في موطأه على سبيل الاجمال ، وفصلها أكل من ابن عبد البر والزرقاني في شرحيهما ، وأوردها الحلبي في باب بدء الاذان ومشروعيته من الجزء الثاني من سيرته ، وكل من ذكر عبد الله بن زيد من أهل التراجم أشار إلى هذه القضية وربما سموه صاحب الاذان ، وأصحابنا ينكرونها ويعدونها من المحال.

(٢) بل كل مسلم ملتزم بالنسبة يقولها كل يوم عشر مرات.

٨٣

الجهاد ، اذ لو عرفوا أن الصلاة خير العمل من ما فيها من الدّعة والسلامة لاقتصروا في ابتغاء الثواب عليها ، وأعرضوا عن خطر الجهاد المفضول بالنسبة اليها ، وكانت همم ولي الأمر يومئذ « عمر بن الخطاب (رض) » مصروفة إلى الاستيلاء على ممالك الأرض ، وعزائمه مقصورة على امتلاكها في الطول والعرض.

وفتح الممالك لا يكون الا بتشويق الجند إلى التورط في سبيله بالمهالك ، بحيث يشربون في قلوبهم الجهاد حتى يعتقدوا أنه خير عمل يرجونه يوم المعاد.

ولذا ترجح في نظره اسقاط هذه الكلمة تقديماً لتلك المصلحة على التعبد بما جاء به الشرع الأقدس ، فقال وهو على المنبر « كما نص عليه القوشجي أواخر مباحث الامامة من شرح التجريد وهو من ائمة المتكلمين على مذهب الاشاعرة » : ثلاث كن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن : متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحي على خير العمل (٣).

وتبعه في اسقاطها عامة من تأخر عنه من المسلمين ، حاشا أهل البيت ومن يرى رأيهم : فان حي على خير العمل مع شعارهم ، كما هو بديهي من مذهبهم حتى أن شهيد فخ الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليهم‌السلام لما ظهر بالمدينة أيام الهادي (٤) من ملوك العباسيين ، أمر المؤذن أن ينادي بها ففعل ، نص على ذلك أبو الفرج الاصفهاني حيث ذكر صاحب فخ ومقتله في كتابه مقاتل الطالبيين. وذكر العلامة الحلبي في باب بدء الاذان ومشروعيته في صفحة ١١٠ من الجزء الثاني من سيرته أن ابن عمر (رض) والامام زين العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام كانا يقولان في الأذان بعد حي على الفلاح حي على خير العمل ا ه‍.

__________________

(٣) واعتذر بعد أن أرسله عنه ارسال المسلمات بأنه قد اجتهد في ذلك.

(٤)

مضل الناس قد سموه هاد

كما قد سمي الاعمى بصيرا

٨٤

قلت : وهذا متواتر عن أئمة أهل البيت ، فراجع حديثهم في كتاب وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة لتكون على بصيرة من مذهبهم.

ونحن الآن في ان السلف تأولوا ، فأسقطوا فصلاً من الأذان والاقامة فلم يقدح ذلك عند الجمهور في تبوئهم منصة الخلافة وأريكة الامامة ، فكيف لا يكون المتأول بعدهم معذوراً ، أم كيف لا يكون مثاباً مأجوراً ، فاحكموا بالعدل أيها المنصفون.

ومنها صلاة التراويح (٥) إذ لم تكن أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا في ولاية أبي بكر ، وانما سنها الخليفة الثاني سنة ١٤ للهجرة بالاجماع ، نصّ العسكري على ذلك في اوائله ، ونقله السيوطي في الفصل الذي عقده لخلافة عمر من كتابه تاريخ الخلفاء (٦).

وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر من الاستيعاب : وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه.

وقال العلامة ابو الوليد محمد بن الشحنة ، حيث ذكر وفاة عمر في حوادث سنة ٢٣ من تأريخه « روضة المناظر » (٧) هو أول من نهى عن بيع امهات الأولاد ، وجمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز ، واول من جمع الناس على امام يصلي بهم التراويح الخ.

__________________

(٥) هي نافلة رمضان جماعة ، وانما سميت تراويح للاستراحة فيها بعد كل أربع ركعات ، ونحن نصلي نافلة رمضان فرادى كما كانت على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٦) في صفحة ٥١.

(٧) عرفت سابقا انه مطبوع في هامش ابن الأثير وما نقلناه عنه هنا موجود في صفحة ١٢٢ من جزء ١١.

٨٥

ولما ذكر السيوطي في كتابه « تاريخ الخلفاء » أوليّات عمر نقلاً عن العسكري قال : هو اول من سمي امير المؤمنين ، إلى ان قال : واول من سن قيام شهر رمضان « بالتراويح » ، واول من حرم المتعة ، واول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات الخ.

وقال محمد بن سعد « حيث ترجم عمر في الجزء الثالث من الطبقات » وهو اول من سن قيام شهر رمضان « بالتراويح » وجمع الناس على ذلك وكتب به إلى البلدان وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة ، وجعل للناس بالمدينة قارئين قارئاً يصلي « التراويح » بالرجال وقارئاً يصلي بالنساء .. الخ.

واخرج البخاري « في أواخر الجزء الأول من صحيحه في كتاب صلاة التراويح » ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. قال : فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة ابي بكررضي‌الله‌عنهوصدرا من خلافة عمر ا ه‍.

وأخرج مسلم « في باب الترغيب في قيام رمضان من الجزء الأول من صحيحه » ان رسول الله (ص) كان يرغّب في قيام رمضان من غير ان يأمرهم فيه بعزيمة ، فيقول : من قام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » قال : فتوفي (ص) والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر على ذلك ا ه‍.

واخرج البخاري في كتاب صلاة التراويح من صحيحه عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ (٨) قال : خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد ، فاذا الناس

__________________

(٨) « عبد القاري » بتنوين عبد وتشديد ياء القاري نسبة إلى قاره ، وهو ابن ديش بن محلم بن غالب المدني. كان عبد الرحمن هذا عامل عمر

٨٦

أوزاع متفرقون ... إلى أن قال : فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. « قال » ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر (رض) نعمت البدعة هذه ـ الحديث.

وقال العلامة القسطلاني « في أول الصفحة الرابعة من الجزء الخامس من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري » عند بلوغه إلى قول عمر في هذا الحديث « نعمت البدعة هذه » ما هذا نصه : سماها بدعة لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسن لهم الاجتماع لها ، ولا كانت في زمن الصديق ولا أول الليل ، ولا كل ليلة ، ولا هذا العدد الخ.

وفي تحفة الباري مثله فراجع. وهذا أمر لا يناقش فيه أحد من المسلمين وحسبك به دليلاً على معذرة المتأولين.

ومنها تأولهم آية الزكاة ، إذ أسقطوا منها سهم المؤلفة قلوبهم مع نص الكتاب والسنة على ثبوته ، وكونه معلوما بحكم الضرورة من دين الاسلام ، وقد أجمعت كلمة المسلمين واتفقت جميع طوائفهم على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعطيهم منها حتى لحق بربه عز وجل ، وأنه لم يعهد إلى أحد من بعده باسقاط سهمهم ؛ وقد ذكر (٩) صاحب كتاب الجوهرة النيّرة على مختصر

__________________

على بيت المال وهو حليف بني زهرة روى عن عمر ، وابي طلحة ، وابي ايوب ، وابي هريرة ، وروى عنه ابنه ، محمد والزهري ، ويحيى بن جعدة بن هبيرة مات سنة ثمانين ، وله ثمان وسبعون سنة.

(٩) وذكر المؤرخون نظير هذه الحكاية أيضاً ، اذ قالوا جاء عيينة بن حصين والاقرع بن حابس إلى أبي بكر ، فقالا له : ان عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلا ولا منفعة ، فان رأيت ان تقطعناها لعل الله ان ينفع بها بعد اليوم. فقال أبو بكر لمن حوله : ما تقولون ؟ قالوا : لا بأس ، فكتب لهما

٨٧

القدوري (١٠) في الفقه الحنفي في صفحة ١٦٤ من جزئه الأول : ان المؤلفة قلوبهم جاءوا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ابي بكررضي‌الله‌عنهليكتب لهم بعادتهم ، فكتب لهم بذلك فذهبوا بالكتاب إلى عمر (رض) ليأخذوا خطه على الصحيفة ، فمزقها وقال : لاحاجة لنا بكم فقد اعز الله الاسلام واغنى عنكم ، فان اسلمتم والا فالسيف بيننا وبينكم فرجعوا إلى ابي بكر فقالوا له : انت الخليفة أم هو ؟ فقال : بل هو إن شاء الله وامضى ما فعله عمر واستقر الأمر من يومها عند الجمهور على اسقاط هذا السهم ، بحيث لا تبرأ الذمة عندهم باعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة.

ومنها تأولهم آية الخمس ، وهي قوله تعالى في سورة الانفال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم (١١) مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَىٰ وَاليَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ

__________________

بها كتاباً فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما فيه ، فأخذه منهما ثم تفل فيه فمحاه ، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة ، ثم ذهباً إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا : والله ما ندري أأنت الخليفة أم عمر ؟ فقال : بل هو ، وجاء عمر حتى وقف على ابي بكر وهو مغضب فقال : اخبرني عن هذه الأرض التي اقطعتها هذين اهي لك خاصة أم بين المسلمين ؟ فقال : بل بين المسلمين. فقال : ما حملك على ان تخص بها هذين ؟ قال : استشرت الذين حولي. فقال : أوكل المسلمين وسعتهم مشورة ورضا ؟ فقال أبو بكر (رض) : فقد كنت قلت لك انك اقوى على هذا الأمر مني لكنك غلبتني.

نقل هذه القضية ابن ابي الحديد في الجزء الثاني عشر من شرح النهج في صفحة ١٠٨ من المجلد الثالث ، والعسقلاني في ترجمة عيينة من اصابته وغيرهما. وليته كان يوم السقيفة وسع كل المسلمين مشورة ، ويا حبذا لو تأنى حتى يفرغ بنو هاشم من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(١٠) هو من أشهر الكتب الحنفية يتبركون به ، ولمصنفه شأن عظيم ، وما نقلناه هنا عنه مصرح به في كلمات المحدثين والفقهاء كما لا يخفى.

(١١) الغنيمة لغة هي الفوز بالشيء ، وذلك أعم من غنائم دار الحرب ، وبهذا تعلم دلالة الآية على مذهبنا في الخمس.

٨٨

وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ (١٢) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) حيث صرفوا الخمس إلى خلاف منطوقها.

فذهب الامام مالك « كما هو معلوم من مذهبه » إلى ان الخمس بأسره مفوض إلى السلطان يصرفه كيف شاء وانه لاحق لأحد بالمطالبة فيه ، وذهب الامام ابو حنيفة « كما هو بديهي من مذهبه » إلى انه يقسم ثلاثة اسهم : فيعطى لمطلق ايتام المسلمين سهم ، ولمطلق مساكينهم سهم ، ولمطلق ابناء السبيل منهم سهم ، ولا فرق عنده في ذلك بين ذي القربى منهم وغيره.

وانت ترى نص الكتاب قد فرض لذي القربى في الخمس حقاً قصره عليهم ، وتعلم ان السنة المطهرة قد جعلت لهم فيه سهما لن تبرأ الذمة إلا بدفعه اليهم ، وقد اجمع كافة أهل القبلة من أهل كل مذهب منهم ونحلة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يختص بسهم من الخمس ويخص منه اقاربه بسهم آخر ، ولم يعهد بتغيير ذلك إلى أحد حتى لحق بربه عز وجل فلما ولي ابو بكر (رض) تأول الأدلة فأسقط سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسهم ذوي القربى ، ومنع « كما في تفسير هذه الآية من الكشاف وغيره » بني هاشم من الخمس.

وفي أواخر باب غزوة خيبر من صحيح البخاري في صفحة ٣٦ من جزئه الثالث ان فاطمة ارسلت إلى ابي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (ص) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فأبى ابو بكر أن يدفع اليها شيئاً ، فوجدت عليه فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي (ص) ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ، ولم يؤذن بها ابا بكر وصلى عليها ـ الحديث. وهو موجود أيضاً في باب قول النبي « لا نورث ما تركناه فهو

__________________

(١٢) معنى هذا الشرط ان الخمس مصروف إلى هذه الوجوه الستة فاقطعوا عنه اطماعكم وأدوه لأربابه ان كنتم آمنتم بالله ، وفيه من البعث على أداء الخمس والانذار لتاركيه ما لا تسع بيانه عبارة.

٨٩

صدقة » من صحيح مسلم في صفحة ٧٢ من جزئه الثاني ، وفي مواضيع أخر من الصحيحين كما لا يخفى.

وأخرج مسلم في أواخر كتاب الجهاد والسير من الجزء الثاني من صحيحه عن قيس بن سعد عن يزيد بن هرمز قال : كتب نجدة بن عامر ( الحروري الخارجي ) إلى ابن عباس قال ( يزيد بن هرمز ) فشهدت ابن عباس حين قرأ كتابه وحين كتب جوابه. قال : فقال ابن عباس : والله لولا ان ارده عن نتن يقع فيه ما كتبت اليه ولا نعمة عين. قال : فكتب اليه إنك سألت عن سهم ذي القربى الذين ذكر الله من هم ؟ وإنا كنا نرى ان قرابة رسول الله (ص) هم نحن ، فأبى ذلك علينا قومنا ـ الحديث (١٣).

وأخرجه أيضاً الإمام أحمد من حديث ابن عباس في أواخر صفحة ٢٩٤ من الجزء الأول من مسنده ، ورواه المحدثون بطرق كلها صحيحة ، وهذا هو مذهب أهل البيت والمتواتر عن أئمتهم عليهم‌السلام.

ومنها اقتصارهم في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات ، كما هو معلوم من فقه أهل المذاهب الأربعة وسيرتهم ، واول من جمع الناس على ذلك عمر بن الخطاب (رض) كما نص عليه جماعة كثيرون ، منهم السيوطي حيث ذكر أوليات عمر في تاريخ الخلفاء ، وابن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر في حوادث سنة ٢٣ من تأريخه روضة المناظر (١٤) وغيرهما من أهل الأخبار.

ويدلك على تأولهم في هذه المسألة ما أخرجه أحمد بن حنبل من حديث زيد ابن أرقم في صفحة ٣٧٠ من الجزء الرابع من مسنده عن عبد الاعلى قال : صليت

__________________

(١٣) فراجعه في أول صفحة ١٠٥ من ج ٢ من صحيح مسلم المطبوع سنة ١٣٢٧ على نفقة الحلبي وأخويه.

(١٤) وهو مطبوع في هامش ابن الاثير وما نقلناه عنه هنا موجود في صفحة ١٢٢ من جزء ١١.

٩٠

خلف زيد بن أرقم على جنازة فكبر خمساً ، فقام اليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده فقال : نسيت ؟ قال لا ولكن صليت خلف أبي القاسم خليلي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكبر خمساً فلا أتركها ابداً ا ه‍.

ومنها تأولهم في البكاء على الميت حيث حرمه الخليفة الثاني ، حتى أخرج الطبري عند ذكر وفاة أبي بكر في حوادث سنة ١٣ من الجزء الرابع من تأريخه بالاسناد إلى سعيد بن المسيب قال : لما توفي أبو بكر اقامت عليه عائشة النوح فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها فنهاهن عن البكاء على أبي بكر فأبين ان ينتهين فقال عمر لهشام بن الوليد : أدخل فأخرج الي ابنة أبي قحافة. فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر : اني أحرج عليك بيتي. فقال عمر لهشام : أدخل فقد أذنت لك. فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت ابي بكر إلى عمر فعلاها بالدرة فضربها ضربات فتفرق النوح حين سمعوا ذلك ا ه‍.

هذا مع ما أخرجه الامام احمد من حديث ابن عباس في صفحة ٣٣٥ من الجزء الأول من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكاء النساء عليها قال : فجعل عمر يضربهن بسوطه فقال النبي دعهن يبكين ، وقعد على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي. قال : فجعل النبي يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة ا ه‍.

واخرج أحمد أيضاً من حديث ابي هريرة في صفحة ٣٣٣ من الجزء الثاني من مسنده حديثاً جاء فيه انه : مر على رسول الله جنازة معها بواكي فنهرهن عمر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعهن فإن النفس مصابة والعين دامعة.

واخرج الامام احمد من حديث ابن عمر في صفحة ٤٠ من مسنده قال : رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحد فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولكن حمزة لا بواكي له قال : ثم نام

٩١

فانتبه وهن يبكين حمزة قال : فهن اليوم إذا بكين يندبن حمزة ا ه‍ ـ وهذا الحديث مستفيض بين المسلمين ، وقد ذكره ابن جرير ، وابن الأثير ، وصاحب العقد الفريد ، وجميع أهل السير والأخبار.

وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي ، قال : لم تبك امرأة من الأنصار على ميت بعد قول رسول الله « لكن حمزة لا بواكي له » إلى اليوم إلا بدأت بالبكاء على حمزة. وذكر ابن عبد البر في ترجمة جعفر من استيعابه قال : لما جاء النبي (ص) نعي جعفر أتى امرأته اسماء بنت عميس فعزاها. قال ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول واعماه ، فقال رسول الله (ص) على مثل جعفر فلتبك البواكي.

وأخرج البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى على زيد وجعفر ، وذكر ابن عبد البر في ترجمة زيد من استيعابه انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى على جعفر وزيد ، وقال : اخواي ومؤنساي ومحدثاي. وبكى على ولده إبراهيم فقال له عبد الرحمن بن عوف ( كما في الجزء الأول من صحيح البخاري ) وأنت يا رسول الله ؟ قال : يابن عوف انها رحمة ، ثم اتبعها ـ يعني عبرته ـ بأخرى فقال : إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وانا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون.

وقد علم الناس كافة بكاءه على عمه حمزة حتى قال ابن عبد البر في ترجمته من الاستيعاب : لما رأى النبي حمزة قتيلاً بكى ، فلما رأى ما مثل به شهق.

وذكر الواقدي ( كما في أواخر صفحة ٣٨٧ من المجلد الثالث من شرح النهج ان النبي (ص) كان يومئذ اذا بكت صفية يبكي وإذا نشجت ينشج ، قال : وجعلت فاطمة تبكي فلما بكت بكى رسول الله.

وبكى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صبي مات لاحدى بناته ، فقال له

٩٢

سعد ( كما في صحيحي البخاري ومسلم ) ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ا ه‍ ـ إلى ما لا يحصى من قبيل هذه الأحاديث المشهورة ، مما لا يمكن استقصاؤه وفي هذا المقدار كفاية.

وأما ما جاء في الصحيحين من ان الميت يعذب ببكاء اهله عليه ، وفي رواية ببعض بكاء اهله عليه ، وفي رواية ببكاء الحي ، وفي رواية يعذب في قبره بما نيح عليه ، وفي رواية من يبك عليه يعذب ، فإنه خطأ من الرواي بحكم العقل والنقل.

قال الفاضل النووي ( عند ذكر هذه الروايات في باب الميت يعذب ببكاء اهله عليه من شرح صحيح مسلم ) : هذه الروايات كلها من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبدالله. قال : وانكرت عائشة عليهما ، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه واحتجت بقوله تعالى : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ).

قلت : وانكر هذه الروايات أيضاً ابن عباس واحتج على خطأ راويها ، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما ، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض حتى ناحت على ابيها يوم مات ، فكان بينها وبين عمر ما قد سمعت ، والتفصيل في رسالتنا « الأساليب البديعة في رجحان مآتم الشيعة » وفي مقدمة مجالسنا الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة (١٥).

وللسلف تأولات غير الذي ذكرناه كتأخيرهم مقام ابراهيم إلى موضعه اليوم (١٦) وكان ملصقاً بالبيت ، وتوسعتهم المسجد الحرام سنة ١٧ للهجرة

__________________

(١٥) المطبوعة سنة ١٣٣٢.

(١٦) أخره الخليفة الثاني كما هو مستفيض عنه فراجع صفحة ١١٣ من المجلد الثالث من شرح النهج الحديدي طبع مصر ، ومادة « الديك » من حياة الحيوان للفاضل الدميري. وقال ابن سعد في ترجمة عمر من

٩٣

باضافة دور جماعة من حوله اليه ، وكانوا أبوا بيعها فهدمها الخليفة الثاني عليهم (١٧) ووضع اثمانها في بيت المال حتى اخذوها ، وكحكمه على اليمانيين بدية أبي خراش الهذلي الشاعر الصحابي المشهور (١٨) إذ باتوا ضيوفاً عنده ، فذهب يستقي لهم فمات من حية نهشته في الطريق ، وكنفيه نصر بن الحجاج بن علابط السلمي إلى البصرة (١٩) إذ تغنت به امرأة في دارها وكان في غاية من الحسن والجمال (٢٠) وكقضاياه المختلفة في ميراث الجد مع الأخوة (٢١) حتى رجع إلى رأي زيد بن ثابت الأنصاري.

وكتأوله آية التجسس ، إذ رأى فيه صلاح المملكة ونفع الرعية ، فكان

__________________

طبقاته ما هذا لفظه : وهو الذي أخر مقام ابراهيم إلى موضعه اليوم وكان ملصقاً بالبيت ا ه‍ ـ ونقل السيوطي ذلك في أحوال عمر من تاريخ الخلفاء.

(١٧) نص على ذلك جميع أرباب السير كابن الاثير في حوادث تلك السنة من كامله وغيره.

(١٨) ذكر هذه القضية ابن عبد البر في ترجمة ابن خراش من كتاب الكنى من الاستيعاب ، ونقلها عنه الدميري في مادة « الحية » من كتاب حياة الحيوان.

(١٩) هذه القضية مستفيضة فراجع صفحة ٩٩ من المجلد الثالث من شرح ابن أبي الحديد طبع مصر تجد تفصيلها ، وقد ذكرها ابن خلكان في ترجمة نصر بن الحجاج من وفياته تفصيلا.

(٢٠) وكنفيه ضبيع التميمي إلى البصرة أيضاً بعد ضربه الضرب المبرح اذ سأله عن تفسير آية من القرآن في قضية ذكرها ابن أبي الحديد في صفحة ١٢٢ من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة.

(٢١) في صفحة ١٧٣ من الجزء الثاني المطبوع في هامشه كتاب عوارف المعارف ..

٩٤

يتجسس نهارا ويعس ليلاً ، حتى ذكر الغزالي في احياء العلوم (٢٢) انه سمع وهو يعس بالمدينة صوت رجل يتغنى في بيته فتسور عليه ، فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال : يا عدو الله اظننت ان الله يسترك وأنت على معصيته ؟ فقال : ان كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيته انت في ثلاثة. قال الله : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) وقد تجسست ، وقال : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) وقد تسورت عليّ ، وقال ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ) الآية ، وقد دخلت بيتي بغير اذن ولا سلام. فقال عمر (رض) : هل عندك من خير إن عفوت عنك ؟ قال : نعم فتركه وخرج ، إلى غير ذلك من مصاديق اجتهاداته وموارد تأولاته التي عدل بها عن ظواهر الأدلة حرصاً على توطيد دعائم السياسة وابتغاء لتنظيم شؤونها ، وتقديما لمصلحة المملكة ، وايثارا لتقوية الشوكة من وضعه الخراج على السواد ، وكيفية ترتيبه للجزية وعهده بالشورى على الوجه المعلوم ، وقوله (٢٣) يومئذ : « لو كان سالم ( ابن معقل مولى ابي حذيفة ) حيا استخلفته » مع انعقاد الاجماع (٢٤) نصاً وفتوى على عدم جواز عقد الامامة لمثله ، ضرورة انه من أهل فارس ، إما من اصطخر أو من كرمد ، استرقته زوجة أبي حذيفة ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكانت من الأنصار.

__________________

(٢٢) روى ذلك طارق بن شهاب الزهري ، والتفصيل في مادة « الحية » من حياة الحيوان للدميري.

(٢٣) هذا القول متواتر عنه ، وهو موجود في كامل ابن الاثير وغيره من كتب السير والاخبار حتى صرح ابن عبد البر ، حيث أورد هذه المقالة في ترجمة سالم من استيعابه بأنها عن رأي رآه عمر واجتهاد ادى اليه نظره ، وأخرج احمد من حديث عمر في صفحة ٢٠ من مسنده انه قال : لو ادركني أحد رجلين لوثقت به سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة.

(٢٤) صرح بانعقاد الاجماع على ذلك جماعة كثيرون ، منهم النووي في أول كتاب الامارة من شرحه لصحيح مسلم ، ولو راجعت ذلك الكتاب في صحيح مسلم لازددت بصيرة في ائمتك الاثني عشر عليهم‌السلام ..

٩٥

تنبيه :

أفادتنا سيرة بعض الصحابة انهم إنما كانوا يتعبدون بالنصوص ويجمدون عليها إذا كانت متمحضة للدين مختصة بالشؤون الاخروية ، كنصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صوم شهر رمضان دون غيره ، واستقبال القبلة في الصلاة لا غيرها ، ونحو ذلك من أوامره المتمحضة للنفع الاخروي ، أما ما كان منها متعلقاً بالسياسة كالولايات والتأميرات وتدبير قواعد الدولة وتقرير شؤون المملكة وتسريب الجيش ، فإنهم لم يكونوا يرون التعبد به والالتزام في جميع الأحوال بالعمل على مقتضاه ، بل جعلوا لأفكارهم فيه مسرحاً للبحث ومجالاً للنظر والاجتهاد ، فكانوا إذا رأوا في خلافه رفعاً لكيانهم أو نفعاً في سلطانهم عدلوا عنه إلى ما يرفعون به كيانهم أو ينتفعون به في سلطانهم ، ولذلك عدل هؤلاء في الخلافة عن وليها المنصوص عليه من نبيها فجعلوها للخلفاء الثلاثة (رض) واحداً بعد واحد ، مع عهد النبي (ص) بها إلى أخيه ووليه ، ووارثه ووصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).

لم يكونوا غائبين عن عهد النبي بها اليه ، ولا جاهلين بنصوصه (١) المتواترة عليه. وكانت تترى من مبدأ أمره بأبي هو وأمي إلى آخر عمره ، كما أوضحناه في مراجعاتنا الأزهرية وفي سبيل المؤمنين ، وانما غلب على ظنهم أن العرب لا تخضع لعلي ولا ترتضيه مالكاً لأزمة الحكم عليها حيث انه وترها في سبيل الله وسفك دماءها بسيفه في إعلاء كلمة الله ، وكشف القناع منابذاً لها في نصرة الحق حتى ظهر أمر الله على رغم كل عات كفور.

فهم لا يطيعونه إلا عنوة ولا يخضعون لامامته إلا بالقوة ، وقد عصبوا به كل

__________________

(١) لم نذكر شيئاً من هذه النصوص هنا اكتفاء بمراجعاتنا الازهرية ومناظراتنا المصرية ، وقد استقصيتها بأسانيدها المعتبرة عند أهل السنة ، وسنطبع تلك المناظرات وكل قريب آت الا أن يشاء الله تعالى.

٩٦

دم أراقه الاسلام أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جريا على عادتهم في أمثال ذلك ، إذ لم يكن بعد رسول الله (ص) في عشيرته أحد يستحق أن تعصب به تلك الدماء عند العرب غيره ، لانه الأمثل في عشيرته والأفضل في قبيلته ، ولذلك تربصوا به الدوائر وقلبوا له الأمور وأضمروا له ولذريته كل حسيكة ووثبوا عليهم كل وثبة ، وكان ما كان مما طار في الأجواء وطبق رزؤه الأرض والسماء.

وأيضاً فإن قريشاً خاصة والعرب عامة كانت تنقم من علي شدة وطأته على اعداء الله ونكال وقعته فيمن يتعدى حدود الله أو يهتك حرماته عز وجل ، وكانت ترهب من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. وتخشى عدله في الرعية ومساواته بين الناس في كل قضية ، ولم يكن لها فيه مطمع ولا لأحد عنده هوادة ، فالقوي العزيز عنده ضعيف ذليل حتى يأخذ منه الحق ، والضعيف الذليل عنده قوي عزيز حتى يأخذ له بحقه ، فمتى تخضع الاعراب لمثله ( وهم أشد كفراً ونفاقا واجدر ان لا يعلموا حدود ما انزل الله على رسوله ) ، ( وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) وفيها بطانة لا يألونها خبالا.

على ان قريشاً وسائر العرب كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من فضله ، حيث بلغ في علمه وعمله رتبة عند الله ورسوله تقاصر عنها الاقران وتراجع عنها الاكفاء ، ونال من الله ورسوله بسوابقه وخصائصه منزلة تشرئب اليها أعناق الاماني وشأوا تنقطع دونه هوادي المطامع ، وبذلك دبت عقارب الحسد له في قلوب المنافقين واجتمعت على نقض مجده كلمة الفاسقين والناكثين والقاسطين والمارقين ، فاتخذوا النص ظهرياً وكان لديهم نسياً منسيا.

وكان ما كان مما لست أذكره

فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

على ان قريشاً وسائر العرب كانوا قد تشوفوا إلى تداول الخلافة بين

٩٧

قبائلهم واشرأبت إلى ذلك اطماعهم ، فأمضوا نياتهم عليه ووجهوا عزائمهم اليه ، فتصافقوا على تناسي النص وعدم ذكره بالمرة ، وتبايعوا على صرف الخلافة من اول ايامها عن وليها المنصوص عليه من نبيها ، فجعلوها بالاختيار والانتخاب ليكون لكل حي من احيائهم امل في الوصول اليها ولو بعد حين ولو عملوا بالنص فقدموا علياً بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما خرجت الخلافة من عترته الطاهرة ، حيث قرنها يوم الغدير وغيره بمحكم الكتاب وجعلها قدوة لأولي الألباب إلى يوم الحساب ، وما كانت العرب لتصبر على حصر الخلافة في بيت مخصوص بعد أن طمحت اليها الابصار من كافة قبائلها وحامت عليها النفوس من جميع أحيائها.

وقد هزلت حتى بدا من هزاله

كلاها وحتى استامها كل مفلس

ومن ألمّ بتاريخ قريش والعرب في صدر الاسلام يعلم انهم لم يخضعوا للنبوة الهاشمية إلا بعد أن تهشموا ولم يبق فيهم من رمق ، فكيف يرضون باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم وقد قال الخليفة الثاني لابن عباس في كلام دار بينهما : ان قريشاً كرهت أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة فتجحفون على الناس.

والسلف الصالح لم يتسنَّ له أن يقهرهم يومئذ على التعبد بالنص فرقاً من انقلابهم إذا قاومهم وخشية من سوء عواقب الاختلاف في تلك الحال وقد ظهر النفاق بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقويت بفقده شوكة المنافقين وعتت نفوس الكافرين وتضعضعت اركان الدين وانخلعت قلوب المسلمين ، حيث صاروا بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية بين ذئاب كاسرة ووحوش ضارية ، وقد ارتدت طوائف من العرب وهمت بالردة أخرى وعظم قلق السلف الصالح على الاسلام واشتد فرقهم على أمة سيد الأنام فصبروا على مخالفة النص بقيا على المسلمين واحتياطا على الدين ـ صبروا وفي أعينهم من ذلك قذى وفي حلوقهم منه شجى كما قالوا عليهم‌السلام ـ وأشفق علي امير المؤمنين أن يظهر

٩٨

ارداة القيام بأمر الناس مخافة البائقة وفساد العاجلة والآجلة ، والقلوب على ما وصفنا والمنافقون على ما ذكرنا ، يعضون عليهم الانامل من الغيظ وأهل الردة على ما بينا والأنصار قد خالفوا المهاجرين ، وانحازوا عنهم يقولون منا أمير ومنكم أمير و.و. فدعاه النظر للدين إلى الكف عن الاظهار والتجافي عن الأمور ، وعلم أن طلب الخلافة والحال هذه يستوجب التغرير في الدين والخطر بالأمة فاختار الكف ضناً بالدين وايثاراً للآجلة على العاجلة.

غير أنه قعد في بيته ( ولم يبايع حتى أخرجوه كرهاً ) احتفاظاً بحقه واحتجاجاً على من عدل عنه ، ولو أسرع إلى البيعة ما تمت له حجة ولا سطع له برهان ، ولكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه من امرة المؤمنين ، فدل ذلك على اصالة رأيه ورجاحة علمه وسعة صدره وشدة زهده وفرط سماحه وقلة حرصه ، ومتى سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل والأمر الجزيل ينزل من الله تعالى بغاية منازل الدين ، وإنما كانت غايته مما فعل أربح الحالين له وأعود المقصودين عليه.

أما الخليفة الأول وأتباعه (رض) أجمعين فقد تأولوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدمناها ، ولا عجب منه في ذلك بعد الذي نبهناك اليه من عدم تعبدهم بما كان من نصوصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، متعلقاً بالسياسات والتأميرات وتدبير قواعد الدولة وتقرير شؤون المملكة واليك مضافاً إلى ما تلوناه نبذة من موارد تأولهم تكون نموذجا لرأيهم في تلك النصوص ، وحسبك بها أدلة على معذرة المتأولين ، وهي كثيرة :

فمنها سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى غزو الروم ، وهي آخر السرايا على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد اهتم فيها بأبي هو وأمي اهتماماً عظيماً ، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها وحضهم على ذلك ، ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهاقاً لعزائمهم واستنهاضاً لهممهم ، فلم يُبق أحداً من وجوه المهاجرين

٩٩

والأنصار كأبي بكر وعمر (٢) وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم إلا وقد عبأه بالجيش (٣) وكان ذلك لاربع ليال بقين من صفر سنة احدى عشرة للهجرة (٤) فلما كان من الغد دعا أسامة فقال له : سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك هذا الجيش فاغز صباحاً على أهل أبنى (٥) وحرق عليهم ، وأسرع

__________________

(٢) أجمع أهل السير والاخبار على ان ابا بكر وعمر كانا في الجيش ، وارسلوا ذلك في كتبهم ارسال المسلمات ، وهذا مما لم يختلفوا فيه ، فراجع ما شئت من الكتب المشتملة على هذه السرية كطبقات ابن سعد وتاريخي الطبري وابن الاثير والسيرة الحلبية والسيرة الدحلانية وغيرها لتعلم ذلك ، وقد أورد الحلبي حيث ذكر هذه السرية في الجزء الثالث من سيرته حكاية ظريفة نوردها بعين لفظه. قال : ان الخليفة المهدي لما دخل البصرة رأى اياس بن معاوية الذي يضرب به المثل في الذكاء وهو صبي وخلفه اربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة فقال المهدي : أف لهذه العثانين ـ أي اللحى ـ أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث ؟ ثم التفت اليه المهدي وقال : كم سنك يا فتى؟ فقال : سني أطال الله بقاء أمير المؤمنين سن أسامة بن زيد بن حارثة لما ولاه رسول الله (ص) جيشا فيه أبو بكر وعمر. فقال : تقدم بارك الله فيك. قال الحلبي : وكان سنه سبع عشرة سنة ا ه‍.

(٣) كان عمر يقول لاسامة : مات رسول الله (ص) وأنت علي أمير. نقل ذلك عنه جماعة من الاعلام كالحلبي في سرية أسامة من سيرته الحلبية وغير واحد من المحدثين والمؤرخين.

(٤) هذا بناء على ما صرح به كثير من أعلام السنة كابن سعد في سرية أسامة من طبقاته والحلبي والدحلاني في هذه السرية من سيرتيهما ، وقد اعتمدنا في شؤون هذه السرية على هاتين السيرتين.

(٥) ابنى بضم الهمزة وسكون الباء ثم نون مفتوحة بعدها الف مقصورة ناحية بالبلقاء من أرض سوريا بين عسقلان والرملة ، وهي قرب مؤتة التي استشهد عندها زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين في الجنة (ع).

١٠٠