الفصول المهمة في تأليف الأمة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

الفصول المهمة في تأليف الأمة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ادلة المسألة (١٧) عقوبة للمستعجلين وردعا لأهل الطيش والجاهلين ، وهذا كاف لك في معذرة المتأولين. فتدبر ولا تكن من الغافلين.

ومنها تأولهم في متعة الحج ومتعة النساء وحكمهم فيهما بخلاف ما كانتا عليه أيام النبي (ص) كما هو مقرر معلوم ، وبيان ذلك على التفصيل يستوجب مباحث :

__________________

(١٧) وفي الصفحة ٢١٢ من المجلد ٤ من المنار تصريح بأن عمر قد اجتهد في هذه المسألة.

٦١

٦٢

« المبحث الأول »

في أصل مشروعيتهما

اعلم ان هذا المقدار باجماع المسلمين ، وبكل من الكتاب والسنة :

أما الاجماع فلأن أهل القبلة كافة متفقون على أن الله تعالى قد شرع هاتين المتعتين في دين الاسلام ، وأهل التوحيد من هذه الأمة قاطبة متصافقون على ذلك ، بحيث لا ريب فيه لأحد من المتقدمين والمتأخرين من كافة المسلمين ، بل لعل ذلك ملحق لدى أهل العلم بالضروريات الثابتة عن سيد النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينكره أحد من المذاهب الاسلامية مطلقاً.

وأما الكتاب العزيز ففيه آيتان محكمتان : إحداهما في تشريع متعة الحج والأخرى في تشريع متعة النساء (١).

__________________

(١) متعة النساء ( التي هي موضع الخلاف بين الشيعة والسنة ) ان تزوجك المرأة نفسها حيث لا يكون لك مانع في دين الاسلام عن نكاحها من نسب أو سبب أو رضاع أو احصان عدة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ، ككونها منكوحة لأبيك ، أو كونها اختا لزوجتك ، أو غير ذلك ـ تزوجك نفسها بمهر معلوم إلى أجل مسمى ، بعقد نكاح جامع لشرائط الصحة

٦٣

أما آية متعة الحج فهي قوله تعالى : ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ

__________________

الاسلامية ، فتقول لك بعد الاتفاق والتراضي : « زوجتك ، أو انكحتك ، أو متعتك نفسي ، بمهر قدره كذا يوماً أو شهرا أو سنة أو تذكر مدة أخرى معينة على الضبط. فتقول أنت لها على الفور : « قبلت ». وتجوز الوكالة في هذا العقد كغيره من العقود ، وبتمامه تكون زوجة لك ، وأنت تكون زوجا لها إلى منتهى الاجل المسمى في العقد ، وبمجرد انتهائه تبين من غير طلاق كالاجارة ، وللزوج فراقها قبل انتهائه بهبة المدة المعينة لا بالطلاق عملاً بالنصوص الخاصة الدالة على ذلك ، ويجب عليه مع الدخول وعدم بلوغها سن اليأس ان تعتد بعد هبة المدة أو انقضائها بقرءين اذا كانت ممن تحيض والا فبخسمة وأربعين يوماً كالامة عملاً بالادلة الخاصة أيضاً ، فاذا وهبها المدة أو انقضت قبل ان يمسها فماله عليها من عدة كالمطلقة قبل الدخول.

وولد المتعة ذكرا كان أو انثى يلحق كغيره من الابناء بأبيه ، فانه اشرف الابوين ، ولا يدعى الا له عملاً بقوله تعالى ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ ) ، وله من الارث ما أوصى به الله سبحانه حيث يقول : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) ولا فرق ( عند مبيحي المتعة ) بين ولديك المولود أحدهما منها والآخر من النكاح المألوف بين عامة المسلمين ، وجميع العمومات الواردة في الاخوة والاخوات وابنائهما والاعمام والعمات والاخوال والخالات وابنائهم ( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ) مطلقا.

نعم عقد نكاح المتعة لا يوجب توارثا بين الزوجين المتمتعين ولا ليلة ولا نفقة للمتمتع بها ، وللزوج ان يعزل عنها عملاً بالادلة الخاصة المخصصة للعمومات الواردة في أحكام الزوجات.

هذه هي متعة النساء التي فهم الامامية من الكتاب والسنة دوام اباحتها ، وأهل المذاهب الاربعة قالوا بتحريمها مع اعترافهم بأن الله تعالى شرعها في دين الاسلام ، وليس عندنا متعة نساء غيرها بحكم الضرورة الاولية من مذهبنا المدون في الوف منن مصنفات علمائنا المنتشرة بفضل الطبع في اكثر بلاد الاسلام ، لكن محمود شكري الالوسي غفر الله له لفق رسالة

٦٤

مِنَ الهَدْيِ ) إلى قوله عز اسمه : ( ذَٰلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ ) إذ لا خلاف بين المسلمين في نزولها في متعة الحج كما لا يخفى.

أما آية متعة النساء فهي قوله تعالى : ( فمن تمَتَّع بالعمرة إلى الحجِّ فما استمتعتم به منهن

__________________

بذيئة شحنها بافكه الواضح وبهتانه الفاضح ، وقد وقفت عليه في الجزء ٦ من المجلد ٢٦٩ من المنار فاذا هي كذب وسباب وتنابز بالالقاب نعوذ بالله السميع العليم من الافاك الاثيم ، اذ يقول غير متأثم : ان عند الشيعة متعة أخرى يسمونها المتعة الدورية ويروون في فضلها ما يروون ، هي ان يتمتع جماعة بامرأة واحدة فتقول لهم من الصبح إلى الضحى في متعة هذا ومن الضحى إلى الظهر في متعة هذا ومن الظهر إلى العصر في متعة هذا ومن العصر إلى المغرب في متعة هذا ومن المغرب إلى العشاء في متعة هذا ومن العشاء إلى منتصف الليل في متعة هذا ومن منتصف الليل إلى الصبح في متعة هذا ... إلى آخر بهتانه المبين فراجعه في صفحة ٤١. من المجلد ٢٩ من المنار.

وليت المنار سأل هذا المرجف المجحف فقال له : من الذي سماها من الشيعة بهذا الاسم وأي راو منهم روى في فضلها شيئاً أو أتى رواياته على ذكرها ، وما تلك الروايات التي زعمت انهم رووها في فضلها ، ومن أخرج تلك الروايات من محدثيهم ، وأي عالم أو جاهل منهم افتى بها أو ذكرها ، وأي كتاب من كتب حديثهم او فقههم أو تفسيرهم يشتمل على ذكرها ؟؟.

ولو تقدم المنار بهذا السؤال لعرف حقيقة الحال ، ونحن الآن نحيله على مصنفات الامامية في الفقه والحديث والتفسير وسائر الفنون ، وقد انتشر منها بفضل المطابع عشرات الالوف مختصرة ومطولة متونا وشروحا بعضها للمتقدمين وبعضها للمتأخرين ، فليتتبعها المنار كتاباً كتابا وليتصفحها حرفاً حرفا ليعلم ان الآلوسي وامثاله من المرجفين الظالمين لاحياء المؤمنين ولامواتهم ، وقد بهت السلف الصالح بما تستك به المسامع وترتعد منه الفرائص :

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليلة

٦٥

فآتوهن أجورهن ) حتى ان كلا من أُبي بن كعب وابن عباس (٢) وسعيد ابن جبير والسدي وغيرهم كانوا يقرءونها : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل

__________________

( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ).

(٢) أرسل الزمخشري في كشافه هذه القراءة عن ابن عباس ارسال المسلمات ، والرازي ذكر في تفسير الآية انه روى عن أُبي بن كعب انه كان يقرأ ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن اجورهن ). قال : وهذا هو أيضاً قراءة ابن عباس. قال : والامة ما انكروا عليهما في هذه القراءة. قال : فكان ذلك اجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة ـ هذا كلامه بلفظه فراجعه في صفحة ٢٠١ من الجزء ٣ من تفسيره الكبير.

ونقل القاضي عياض عن المازري ( كما في أول باب نكاح المتعة من شرح صحيح مسلم للفاضل النووي ) ان ابن مسعود قرأ « فما استمتعتم به منهن إلى اجل » والاخبار في ذلك كثيرة. وصرح عمران بن حصين الصحابي بنزول هذه الآية في المتعة وانها لم تنسخ حتى قال رجل فيها برأيه ما شاء.

ونص على نزول الآية في المتعة مجاهد أيضاً فيما أخرجه عنه الطبري في تفسيره باسناده اليه ، فراجع صفحة ٩ من الجزء ٥ من تفسيره الكبير.

ويشهد لنزولها في ذلك بالخصوص ان الله سبحانه قد أبان في أوائل السورة حكم نكاح الدائم بقوله تعالى : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) إلى أن قال : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) فلو كانت هذه الآية في بيان الدائم أيضاً للزم تكرار ذلك في سورة واحدة ، أما اذا كانت لبيان المتعة المشروعة بالاجماع فانها تكون لبيان معنى جديد.

وأهل النظر ممن تدبر القرآن الحكيم يعلمون ان السورة قد اشتملت على بيان الانكحة الاسلامية كلها ، فالدائم وملك اليمين تبيتا بقوله تعالى : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ).

والمتعة مبينة بآيتها هذه ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ ) ونكاح الاماء مبين بقوله تعالى : ( وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ ) إلى أن قال : ( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ ).

٦٦

مسمى ) اخرج ذلك عنهم الامام الطبري في تفسير الآية من أوائل الجزء الخامس من تفسيره الكبير ، ورواه عنهم وعن ابن مسعود جماعة كثيرون من ثقاة الأمة وحفظتها ، لا يسعنا استقصاؤهم.

واما نصوص السنة في اصل مشروعية المتعتين فمتواترة ، ولا سيما من طريقنا عن العترة الطاهرة ، وحسبك في ثبوت متعة الحج واستمرارها ما اخرجه الشيخان ( البخاري ومسلم ) في التمتع والافراد والقران من كتاب الحج من صحيحيهما فراجع.

على ان متعة الحج قد انعقد الاجماع بعد الخليفة الثاني على استمرارها ولم يعملوا بنهيه عنها ، فهي مما لا كلام في دوامه ، وانما الكلام في متعة النساء ، وقد اخرج الشيخان في اصل مشروعيتها احاديث في صحيحهما كثيرة عن كل من سلمة بن الأكوع ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس. وسبرة بن معبد الجهني ، وابي ذر الغفاري ، وعمران بن حصين ، والأكوع بن عبد الله الاسلمي ، واخرجهما أحمد بن حنبل في مسنده من حديث هؤلاء كلهم ومن حديث عبد الله بن عمر ، وأخرج مسلم في باب نكاح المتعة من كتاب النكاح من الجزء الأول من صحيحه عن جابر بن عبد الله ، وسلمة بن الأكوع ، قالا : خرج علينا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إن رسول الله أذن ان تستمتعوا يعني متعة النساء ا ه‍ والصحاح في هذا المعنى كثيرة وفيما اشرنا اليه كفاية.

٦٧
٦٨

« المبحث الثاني »

في دوام حلها واستمرار اباحتها

وقد ذهب إلى ذلك ائمتنا الاثنا عشر من أهل البيت ( واهل البيت ادرى بالذي فيه ) وتبعهم في ذلك شيعتهم واولياؤهم ، وحسبك حجة لهم ما قد سمعته من إجماع المسلمين على ان الله تعالى شرعها في دينه القويم وصدع باباحتها في الذكر الحكيم ، واذّن في الاذن بها منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يثبت نسخها عن الله تعالى ، ولا عن رسوله (ص) حتى انقطع الوحي باختيار الله تعالى لنبيه دار كرامته ومأوى اصفيائه ، بل ثبت عدم نسخها بحكم صحاحنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ، فراجعها في كتاب وسائل الشيعة إلى احكام الشريعة.

وان ابتغيت صحاحاً سواها فاليك ما أخرجه محدوثوك « أيها القائل بتحريمها » انقله اليك بعين ألفاظهم فأقول :

أخرج مسلم في باب نكاح المتعة من صحيحه (١) عن عطاء قال : قدم جابر

__________________

(١) في صفحة ٥٣٥ من جزئه الاول.

٦٩

ابن عبد الله معتمراً ، فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة ، فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر ا ه‍.

وأخرج مسلم في الباب المذكور أيضاً عن أبي نضرة قال : كنت عند جابر ابن عبد الله فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم نهانا عنهما عمر ، فلم نعدلهما ا ه‍.

وأخرج مسلم في الباب المذكور أيضاً عن ابي الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الايام على عهد رسول الله (ص) وابي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث ا ه‍.

وانت تعلم ان ليس المراد من قول جابر في هذه الأحاديث استمتعنا على عهد رسول الله (ص) مرة وفعلناهما مع رسول الله (ص) أخرى ، وكنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله (ص) تارة ، إلا بيان انهم كانوا يستمتعون بمرأى منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسمع ، فيقرهم على ذلك وانه لم ينههم عنها حتى اختار الله له لقاءه. وناهيك بهذا برهانا على دوام الاباحة. وأذا نظرت إلى قوله تمتعنا واستمتعنا ، وكنا نستمتع ، وفعلناهما مع رسول الله (ص) تجده ظاهراً في نسبة فعلهما أيام النبي (ص) وابي بكر إلى عموم الصحابة لا إلى نفسه بالخصوص ، ولو كان ثمة ناسخ ما فعلوهما بعد النبي (ص) ولا يجوز أن يخفى الناسخ عليهم مع ملازمتهم للرسول في حضره وسفره ليلاً ونهاراً ، وكيف يخفى عليهم ، ثم يظهر للمتأخرين عنهم. على أن قول جابر « حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث » صريح بأن النهي عنها لم يكن من الله ولا من رسوله

٧٠

(ص) وانما كان من عمر لقضية وقعت من عمرو بن حريث ـ وقوله ثم نهانا عمر دال على أن النهي كان متوجها منه إلى كافة الصحابة لا إلى شخص منهم مخصوص ، وأما قوله « فلم نعد لهما » فانما هو للتقية والخوف من العقوبة. والأخبار الدالة على دوام إباحة المتعة واستمرار حلها لا تستقصى في هذه العجالة ، وسأتلو عليك في المبحث الرابع والمبحث الخامس لمعة من الصحاح تدل على ذلك أيضاً.

٧١
٧٢

« المبحث الثالث »

في الأحاديث التي زعموا أنها ناسخة لحكم المتعة

أمعنا النظر فيها فوجدناها أحاديث ملفقة وضعها المتأخرون عن زمن الخلفاء الأربعة تصحيحا لرأي من حرّمها ، وقد استقصيناها في رسالتنا الموسومة بالنجعة في أحكام المتعة ، فأثبتنا من طريق خصومنا تضعيف تلك الأحاديث وان أخرجها الشيخان ، ونقلنا كلمات البعض من أئمتهم في الجرح والتعديل الدالة على ذلك ، على أن تلك الأحاديث الملفقة تناقض صحاحنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ، بل تناقض ما سمعته من صحاحهم الدالة على دوام حلها واستمرار إباحتها ، ومن تدبرها وجدها تناقض نفسها بنفسها ، وقد فصلنا ذلك كله في نجعتنا بما لا مزيد عليه.

وأنت هداك الله سمعت النص من جابر بن عبد الله على أن التحريم والنهي إنما كان من عمر في بادرة بدرت من ابن حريث ، وستسمع كلام عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وأمير المؤمنين ،

٧٣

فتراه صريحاً بأن التحريم لم يكن بناسخ شرعي وانما كان بنهي الخليفة الثاني ، ومحال أن يكون ثمة ناسخ فيجهلونه ، وهم من علمت منزلتهم من رسول الله وملازمتهم له (ص) وحرصهم على أخذ العلم منه.

على أنه لو كان هناك ناسخ لنبههم اليه بعض المطلعين عليه ، وحيث لم يعارضهم أحد من الصحابة فيما كانوا ينسبونه من التحريم إلى عمر علمنا أنهم أجمع معترفون بذلك ، مقرون بأن لا ناسخ من الله تعالى ، ولا من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يخفى.

على أن عمر نفسه لم يدع النسخ كما ستسمع من كلامه الصريح في إسناد التحريم والنهي إلى نفسه ، ولو كان هناك ناسخ لأسند التحريم إلى الله تعالى أو إلى الرسول (ص) فان ذلك أبلغ في الزجر وأولى بالذكر.

ومن غرائب الأمور دعواهم النسخ بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) بزعم انها ليست بزوجة ولا ملك يمين. قالوا : أما كونها ليست بملك يمين فمسلم ، وأما كونها ليست بزوجة فلأنها لا نفقة ولا إرث ولا ليلة ، والجواب أنها زوجة شرعية بعقد نكاح شرعي ، أما عدم النفقة والارث والليلة فانما هو بأدلة خاصة تخصص العمومات الواردة في أحكام الزوجات ، كما بيناه فيما علقناه على صفحة ٥٤ من هذه الفصول. على أن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة بالاتفاق ، فلا يمكن أن تكون ناسخة لاباحة المتعة المشروعة في المدينة بعد الهجرة بالاجماع.

ومن عجيب أمر هؤلاء المتكلفين ان يقولوا بأن اية ( المؤمنون ) ناسخة للمتعة ، إذ ليست بزوجة ولا ملك يمين ، فإذا قلنا لهم ولم لا تكون ناسخة لنكاح الاماء المملوكات لغير الناكح ، وهنّ لسن بزوجات للناكح ولا ملك يمين له ،

٧٤

قالوا حينئذ إن آية المؤمنين ونكاح الاماء المذكورات انما شرع بقوله تعالى في سورة النساء وهي مدنية : ( فمن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات فمما ملكت أيمانكم ) الآية ، والمكي لا يمكن أن يكون ناسخاً للمدني لوجوب تقدم المنسوخ على الناسخ ، يقولون هذا وينسون أن المتعة إنما شرعت في المدينة بقوله تعالى في سورة النساء أيضاً : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وقد منينا بقوم لا يتدبرون فانا لله وإنا اليه راجعون.

٧٥
٧٦

« المبحث الرابع »

في يسير من الأحاديث الدالة على أن التحريم إنما كان من الخليفة الثاني رضي‌الله‌عنه.

أخرج مسلم في باب المتعة بالحج والعمرة من صحيحه (١) بالاسناد إلى أبي نضرة قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها ، فذكرت ذلك لجابر فقال : على يدي دار الحديث ، تمتعنا مع رسول الله (ص) فلما قام عمر قال : إن الله يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، فأتموا الحج والعمرة ، وأبتوا نكاح هذه النساء ، فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى رجل إلا رجمته بالحجارة ا ه‍.

وهذا كما ترى صريح بما قلناه ، ولا تنس ما ذكرناه في المبحث الثاني من حديث جابر فإنه صريح أيضاً فراجعه وتأمل.

وقد استفاض قول الخليفة الثاني وهو على المنبر : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا انهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء » حتى نقل الرازي هذا القول عنه محتجاً به على حرمة متعة النساء ، فراجع تفسير آيتها من تفسيره الكبير.

__________________

(١) صفحة ٤٦٧ من جزئه الاول.

٧٧

والذي نقله متكلم الأشاعرة وحكيمهم الامام القوشجي في أواخر مبحث الامامة من شرح التجريد أن عمر قال وهو على المنبر : أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله (ص) وأنا انهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن : متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحي على خير العمل ، ثم اعتذر عنه بأن هذا إنما كان منه على تأول واجتهاد ، والأخبار في ذلك كثيرة تضيق هذه الفصول عن استقصائها.

وقد استمتع في أيامه ربيعة بن أمية بن خلف القرشي الجمحي ( وهو أخو صفوان ) فيما أخرجه الامام مالك في باب نكاح المتعة من موطأه عن عروة بن الزبير : أن خولة بنت حكيم السلمية دخلت على عمر فقالت : إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة فحملت منه ، فخرج عمر يجر رداءه ( من العجلة والغضب ) فقال : هذه المتعة ولو كنت تقدمت فيها لرجمت ا ه‍. أي لو كنت تقدمت في تحريمها والانذار برجم فاعلها قبل هذا لرجمت ، إذ كان هذا القول منه قبل نهيه عنها ، نص على ذلك ابن عبد البر كما في شرح الزرقاني لهذا الحديث من الموطأ ، وربما يكون المراد بقوله : « لو كنت تقدمت فيها لرجمت » انه لو تقدم باقامة الحجة من الكتاب والسنة على نسخها لرجم ، وحيث لا حجة على تحريمها فلا رجم.

وكيف كان فكلامه هذا ظاهر بأن التصرف في حكمها إنما هو منه لا من سواه ، وخطبته تلك على المنبر نص صريح بذلك ، حيث روى كون المتعتين كانتا على عهد النبي (ص) ولم يرو نهيه عنهما ، بل أسند النهي عنهما إلى نفسه ، فقال : « وأنا انهى عنهما » مقدما للمسند اليه ليكون النهي عنهما مقصورا عليه ، ولو كان هناك ناسخ لذكره كما لا يخفى.

٧٨

« المبحث الخامس »

في الاشارة إلى يسير ممن تسنى لهم أن يبوحوا ببعض ما تكنه نفوسهم من الانكار على تحريمها وهم كثيرون.

فمنهم جابر بن عبد الله الأنصاري وقد سمعت حديثه.

ومنهم أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما أخرجه الامامان الطبري والثعلبي عند بلوغهما في تفسيريهما الكبيرين إلى آية المتعة من سورة النساء بالاسناد إلى علي (١) قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي ، وهذا المعنى متواتر عنه من طريق أبنائه الميامين.

ومنهم عبد الله بن عباس حيث قال : ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها أمة محمد (ص) لولا نهيه ( يعني عمر ) عنها ما احتاج إلى الزنى إلا شقي ، أي إلا القليل من الناس. نقل ذلك عنه ابن الأثير في مادة « شقي » من النهاية ، ورواه عنه خلق كثير. وقوله في اباحة المتعة والانكار على من حرمها متواتر ، وله في ذلك مع ابن الزبير وغيره نوادر يطول المقام بذكرها ، وقد أخرج مسلم

__________________

(١) ونقله الرازي في صفحة ٢٠٠ من الجزء ٣ من تفسيره عن تفسير الطبري.

٧٩

بعضها عن جابر فراجع ٧٧ و ٧٨ من كتابنا هذا.

ومنهم عبد الله بن عمر كما هو ثابت عنه. اخرج الامام احمد في صفحة ٩٥ من الجزء الثاني من مسنده من حديث عبد الله بن عمر قال : سأل رجل ابن عمر عن متعة النساء فقال : والله لقد سمعت رسول الله (ص) يقول : ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون أو أكثر ا ه‍.

ونقل العلامة في نهج الصدق والشهيد الثاني في نكاح المتعة من روضته البهية عن صحيح الترمذي أن رجلاً من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء فقال : هي حلال. فقال : إن أباك قد نهى عنها. فقال ابن عمر : أرأيت ان كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله (ص) أتترك السنة وتتبع قول أبي ؟! ا ه‍.

ومنهم عبد الله بن مسعود ، كما هو مقرر معلوم ، أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين ، واللفظ للأول في الصفحة الثانية أو الثالثة من كتاب النكاح عن عبد الله « ابن المسعود » قال : كنا نغزوا مع رسول الله (ص) وليس لنا شيء فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ، ثم قرأ علينا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ا ه‍.

وأنت تعلم ان استشهاده بالآية دال على قوله باباحة المتعة وإنكاره على من حرمها كما صرح به كل من شرح صحيح البخاري.

ومنهم عمران بن حصين فيما صح عنه ، وقد نقل فخر الدين الرازي أثناء بحثه عن حكم متعة النساء في تفسير آيتها من تفسيره الكبير عن عمران بن حصين قال : انزل الله في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى ، وأمرنا رسول الله (ص) بالمتعة وما نهانا عنها ، ثم قال رجل برأيه ما شاء « قال الرازي » يريد عمر ا ه‍.

٨٠