الفصول المهمة في تأليف الأمة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

الفصول المهمة في تأليف الأمة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١
٢

٣

٤

تنبيه أول :

توسعنا بالفصول المهمة في هذه الطبعة ، اكمالاً لفوائدها ، واتماماً لمقاصدها ، فظهرت اليوم بغير مظهرها أمس حتى كأنها غير الأولى ، فننبه المطلعين على تلك إلى أنها لا تغنيهم عن هذه ( وفي الحمية معنى ليس في العنب ).

وما أحق كتابي هذا بأن أخاطبه بقول ولي الدين يكن :

فما بك من أكذوبة فأخافها

ولا بك من جهل فيزري بك الجهل

تنبيه ثاني :

لما كانت الكتب المتكرر طبعها مختلفة في عدد الصفحات لم نقتصر في مقام النقل عنها في هذا الكتاب وغيره على تعيين الصفحة فقط بل عينا معها الباب أو الفصل مثلاً ، ليرجع اليه من لم تكن صفحات النسخ التي عنده موافقه لصفحات النسخ التي عندنا ، فاحفظ هذه الجملة وانتبه.

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الميامين (١).

لا تنسق أمور العمران ولا تستتب أسباب الارتقاء ولا تنبث روح المدنية ولا تبزغ شموس الدعة من أبراج السعادة ولا نرفع عن أعناقنا نير العبودية بيد الحرية إلا باتفاق الكلمة واجتماع الأفئدة وترادف القلوب واتحاد العزائم والاجتماع على النهضة بنواميس الأمة ورفع كيان الملة ، وبذلك تهتز الأرض طرباً وتمطر السماء ذهباً وتتفجر ينابيع الرحمة من قلب المواساة فتجري في سهوب الترقي وتتفرق في بيد (٢) العمران وأخاديد الحنان والاتحاد ، فتنشر روح الانسانية من أجداثها وتحشر الملة الفطرية من رفاتها ويتبلج القسط بازغة أنواره ويستوسق نظام العدل خافقة بنوده ويتفقد الحاكم أمر رعيته تفقد الوالد العطوف أمر ولده ، وعندها تجب مؤازرته في إحياء مواتها وعمارة فلواتها ورتق ما انفتق واصلاح ما فسد وارشاد من ضل وجهاد من بغى وأعانة من ضعف وتعليم من جهل.

__________________

(١) بسم الله الرحمن الرحيم. يقول ناظم عقد هذه الفصول عبدالحسين شرف الدين الموسوي : لما نفدت الطبعة الاولى من هذا الكتاب التمس مني من لا تسعني مخالفتهم من المؤمنين من أهل سوريا والعراق وغيرهما أن أعيد طبعه وان اتوسع فيه ليتضاعف نفعه ، فأجبتهم إلى ذلك وعلقت في أسفل صفحات الكتاب تعليقة نافعة جدا ، والله نسأل أن يكون الكتاب وتعليقته خالصين لوجهه الكريم انه الرؤوف الرحيم.

(٢) جمع بيداء كبيض جمع بيضاء.

٧

أما إذا كانت الأمة أوزاعاً متباينة وشيعاً متباغضة لاهية بعبثها غافلة عن رقيها لتكونن حيث منابت الشيح ومهافي الريح أذل الأمم دارا وأجدبها قرارا ، مذقة الشارب ونهزة الطامع وهدف السهام وقبسة العجلان ، في باحة ذل وحلقة ضيق وعرصة موت وحومة بلاء ، لا تأوي إلى جناح دعوة ، ولا تعتصم بظل منعة ، فحذا حذار من بقاء الفرقة وتشتت الألفة واختلاف الكلمة وتنافر الأفئدة ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) ، ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) ، ( ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء انما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ).

إلا وانا في عصر العلم ودور الذكاء والفطنة ، قد تفجر لذوي العصر ينبوع الحكمة وتقشعت عن أبصارهم غياهب العشوة ، فزهر كهرباء النور من أفكارهم وأشرقت شموس الفضل من وجوههم ، فهلا شرعوا خطي أقلامهم وجردوا صوارمها ووتروا قسي أفكارهم وناضلوا بثواقبها فأزهقوا نفس العصبية ومحقوا آثارها وصدعوا بوظائف الأنسانية ورفعوا منارها وهتفوا بدعوة التمدن واعتنوا باتحاد التشيع والتسنن بخطابة تملأ مسمع الدهر وملامة تفلل جلاميد الصخر ، فمتى يطلقون عنان براعتهم ويحملون على جيوش التوحش بيراعتهم ، وينهضون باجتماع الاملاء ويصدعون بأسباب التمدن والارتقاء ويحذرون الأمة مما يصطلم حوزتها ويفرق جماعتها ، فان الله سبحانه يقول : ( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ).

واني صادع بهذه المقالة شارع بعون الله تعالى في تصنيف رسالة سميتها ( الفصول المهمّة في تأليف الأمة ). ( إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ).

٨

الفصل الأول

في نبذة مما جاء في الكتاب العزيز والسنة المقدسة من الترغيب في الاجتماع والالفة.

قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ، ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) ، ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) إلى ان قال عز اسمه في وصفهم : ( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ، ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ، ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ، ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا ، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الدين النصحية. قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم ، والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

٩

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم يد على من سواهم ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ، ومن ستر مؤمناً ستره الله يوم القيامة.

وقال الصادق عليه‌السلام : المسلم أخو المسلم ، وهو عينه ومرآته ودليله لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه.

وقال عليه‌السلام لجماعة من شيعته : اتقوا الله وكونوا أخوة بررة متحابين في الله متواصلين متواضعين متراحمين ، تزاوروا وتلاقوا وأحيوا أمرنا.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المؤمن ألف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.

وفي حديث آخر : ان أحبكم إلى الله الذين يألفون ويؤلفون ، وان أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الاخوان.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المتحابون في الله على عمود من ياقوتة حمراء ، رأس العمود سبعون ألف غرفة يشرفون على الجنة يضيء حسنهم كما تضيء الشمس ،

١٠

عليهم ثياب سندس خضر مكتوب على جباههم : المتحابون في الله.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة وجوههم كالقمر ليلة البدر يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس وهم لا يخافون ، أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فقيل : من هم يا رسول الله ؟ فقال : هم المتحابون في الله.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان الله تعالى يقول : حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي ، وحقت محبتي للذين يتحابون من أجلي ، وحقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي ، وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي.

وعن باقر علوم النبيين عن آبائه الخلفاء الراشدين عن جدهم سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين من حديث طويل قال : إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين جيران الله جل جلاله في داره ؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم : ماذا كان عملكم فصرتم به جيران الله في داره ؟ فيقولون : كنا نتحاب في الله ونتباذل في الله ونتزاور في الله عز وجل. قال : فينادي مناد صدق عبادي خلوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار الله بغير حساب.

وعن عبد المؤمن الأنصاري قال : دخلت على الإمام أبي الحسن ( الكاظم ) عليه‌السلام وعنده محمد بن عبد الله الجعفري ، فتبسمت اليه فقال عليه‌السلام : أتحبه ؟ قلت : نعم وما أحببته الا لكم. فقال عليه‌السلام : هو أخوك ، والمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه ، ملعون ملعون من اتهم أخاه ، ملعون ملعون من غش أخاه ، ملعون ملعون من لم ينصح أخاه ، ملعون ملعون من استأثر على أخيه ملعون ملعون من اغتاب أخاه.

١١

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثناء على الأخوة في الدين : من أراد الله به خيراً رزقه خليلا صالحاً ان نسي ذكره أو ذكر أعانه ، ومثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل احداهم الأخرى ، وما التقى مؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيراً.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : عليكم بالأخوان فانهم عدة في الدنيا والآخرة ، الا تسمعون إلى قول أهل النار : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ).

وعن جرير بن عبد الله قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إقام الصلاة وايتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.

والأخبار في هذا متواترة والصحاح متظافرة ، وإذا راجعت حديث الفريقين رأيت الصبح قد أسفر لذي عينين ، وفي هذا كفاية لمن له من الله هداية.

١٢

الفصل الثاني

في بيان معنى الاسلام والايمان اللذين بهما ينال العهد غاية الرضوان ، وعليهما يكون المدار وبوجودهما تترتب الاثار.

دعاني إلى بيانهما اقناع أهل العصبية والتنديد بهؤلاء المرجفين على حمية الجاهلية ، فاقول : أجمع اخواننا أهل السنة على أن الاسلام والايمان عبارة عن الشهادتين ، والتصديق بالبعث ، والصلوات الخمس إلى القبلة ، وحج البيت ، وصيام الشهر ، والزكاة والخمس المفروضين (١). وبهذا تعلن الصحاح الستة وغيرها.

ففي البخاري بسنده قال رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم : من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم.

__________________

(١) وربما بعضهم فرق بين الاسلام والايمان بفارق اعتباري ، والذي يظهر من قوله تعالى : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ) أن الاسلام عبارة عن مجرد الدخول في الدين والتسليم لسيد المرسلين وان الايمان عبارة عن اليقين الثابت في قلوب المؤمنين مع الاعتراف به في اللسان ، فيكون على هذا أخص من الاسلام ، ونحن نعتبر فيه الولاية مضافاً إلى ذلك ـ فافهم.

١٣

وفيه أيضاً بالاسناد إلى أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم : من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تخفروا (٢) الله في ذمته.

وفيه بالاسناد إلى طلحة (٣) بن عبيد الله قال : جاء إلى رسول الله (ص) رجل من أهل نجد ناثر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الاسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خمس صلوات في اليوم والليلة. قال : هل عليّ غيرها ؟ (٤) قال : لا. إلا أن تطّوع. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وصيام رمضان. قال : هل عليّ غيره ؟ قال : لا. إلا أن تطّوع. قال : وذكر له الزكاة قال : هل عليّ غيرها ؟ قال : لا. إلا أن تطّوع. قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفلح إن صدق.

وفي صحيح البخاري أيضاً بالاسناد إلى نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله وقد علمت ما رغّب الله فيه؟ قال : يا ابن أخي بُني الاسلام على خمس : إيمان بالله ورسوله ، والصلاة والخمس ، وصيام رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت.

وفيه أيضاً بالاسناد إلى أبي هريرة قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بارزاً

__________________

(٢) الاخفار نقض العهد. وهذا الحديث والذي قبله مقيدان بما يدل على اشتراط الصوم والزكاة والحج كما لا يخفى.

(٣) هذا الحديث موجود في صحيح مسلم بهذا الاسناد أيضاً.

(٤) يعني من جنسها ، وكذلك المراد من قوله « هل علي غيرها » بعد ذكر الصيام والزكاة.

١٤

يوماً للناس ، فأتاه رجل فقال : ما الايمان ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الايمان أن تؤمن بالله وملائكته وتؤمن بالبعث. قال : ما الاسلام ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الاسلام أن تعبد الله ولا تشرك به ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ـ الحديث. وآخره ثم أدبر ( يعني السائل ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ردوه ، فلم يروا شيئاً ، فقال : هذا جبرائيل ، جاء يعلم الناس دينهم.

قلت : وأخرج هذا الحديث مسلم أيضاً في صحيحه بطرق مختلفة وأسانيد متعددة ، بعضها عن عمر بن الخطاب ، وبعضها عن ابنه عبد الله ، وبعضها عن أبي هريرة ، وفيه شيء ما من زيادة أو نقصان.

وأخرج البخاري في عدة مواضع من صحيحه بالاسناد إلى ابن عباس ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لوفد عبد القيس ( لما أمرهم بالايمان بالله وحده ) : أتدرون ما الايمان بالله وحده ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وايتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وان تعطوا من المغنم الخمس ـ الحديث (٥).

والأحاديث في هذا المعنى لا تكاد تحصى ، فمن أرداها فعليه بمظانها من الصحاح الستة وغيرها ، ولا سيما كتاب الايمان من صحيح مسلم ، فان فيه أبواباً كثيرة تفيد القطع بأن الاسلام والايمان عند أهل السنة ليس إلا ما ذكرناه ، على أن ما سنورده في الفصلين الآتيين صريح في ذلك أيضاً ، فتدبر ولا تذهل.

__________________

(٥) وأخرجه مسلم أيضاً في عدة مواضع من صحيحه. ولا يخفى ما فيه من الدلالة على ان الخمس ركن من أركان الاسلام كالصلاة والزكاة ، فيكون هذا الحديث مقيداً لجميع الاحاديث المطلقة بالنسبة إلى الخمس ، ولا غرو فان الكتاب والسنة يقيد بعضهما بعضا.

١٥

الفصل الثالث

في نبذة مما صح عند أهل السنة والجماعة من الاحاديث الدالة على أن من قال « لاإله إلا الله محمد رسول الله » محترم دمه وماله وعرضه.

أوردناها لينتبه الغافل ويقنع الجاهل ، وليعلما ان أمر المسلمين ليس كما يزعمه اخوان العصبية ، وابناء الهمجية ، وحلفاء الحمية ، حمية الجاهلية ، الذين شقوا عصا المسلمين وأضرموا نار الفتن بينهم ، حتى كانوا أوزاعاً وشيعا ، يكفر بعضهم بعضاً ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، من غير أمر يوجب ذلك ، إلا ما نفخته الشياطين ، أو نفثته أبالسة الأنس الذين هم انكى للاسلام من نسل آكلة الأكباد ، وهذا عصر العلم ، عصر الانصاف ، عصر النور ، عصر التأمل في حقائق الأمور ، عصر الأعراض عن كل تعصب ذميم ، والأخذ بكتاب الله العظيم ، وسنة نبيه الكريم ، واليك منها ما عقد الفصل لذكره :

أخرج البخاري في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : انك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله ، فان هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم ان الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فان هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم ان الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فان هم أطاعوا لك

١٦

بذلك ، فاياك وكرائم أموالهم ـ الحديث (١).

وتراه ينادي بثبوت الاسلام لهم بمجرد طاعتهم له بذلك ، بحيث تكون أموالهم حينئد فضلاً عن أعراضهم ودمائهم محترمة كغيرهم من أفضل أفراد المؤمنين.

ومثله في باب فضائل علي عليه‌السلام من الجزء الثاني من صحيح مسلم (٢) قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لاعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله ( وفي رواية أخرى هي في الصحاح أيضاً ويحبه الله ورسوله ) يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الامارة إلا يومئذ ، فتساورت لها رجاء أن أدعى لها. قال : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه اياها وقال : امش ولا تلتفت. قال فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت ، فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس ؟ قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم.

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله ، فكفّ الانصاري

__________________

(١) وأخرجه مسلم في صحيحه بالاسناد إلى ابن عباس أيضاً. ولا يخفى تقييده بما دل على اشتراط طاعتهم له في الصوم والحج والخمس من الصحاح الاخر.

(٢) وهو موجود في باب غزوة خيبر من الجزء الثالث من صحيح البخاري ، وفي باب مناقب علي عليه‌السلام من الجزء الثاني منه أيضاً بنوع ما من التغيير في الالفاظ.

١٧

عنه فطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمنا بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فقال : يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ قلت : كان متعوذاً. قال : فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.

قلت : ما تمنى ذلك حتى اعتقد أن جميع ما عمله قبل هذه الواقعة ( من ايمان وصحبة وجهاد وصلاة وصوم وزكاة وحج وغيرها ) لا يذهب عنه هذه السيئة ، وأن أعماله الصالحة بأجمعها قد حبطت بها. ولا يخفى ما في كلامه من الدلالة على انه كان يخاف ان لا يغفر له ، ولذلك تمنى تأخر اسلامه عن هذه الخطيئة ليكون داخلا في حكم قوله (ص) : « الاسلام يجب ما قبله ». وناهيك بهذا دليلاً على احترام لا إله إلا الله وأهلها ، وإذا كانت هذه حال من يقولها متعوذاً فما ظنك بمن انعقدت بها نطفته ثم رضعها من ثديي أمه ، فاشتد عليها عظمه ونبت بها لحمه وامتلأ من نورها قلبه ودانت بها جميع جوارحه ، فلينته أهل العناد عن غيهم وليحذروا غضب الله تعالى وسخط نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي الصحيحين بالاسناد إلى المقداد بن عمرو أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا فضرب احدى يدي بالسيف فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله ، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقتله ، فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن تقتله (٣) وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال (٤).

قلت : ليس في كلام العرب ولا غيرهم عبارة هي أدل على احترام الاسلام وأهله من هذا الحديث الشريف ، وأي عبارة تكايله في ذلك أو توازنه ، وقد

__________________

(٣) يعني انه يكون من عدول المؤمنين ، لان المقداد كان كذلك.

(٤) يعني انه يكون بمنزلة الكافر الحربي ، لان المقتول كان كذلك قبل ان يقول كلمته التي قالها.

١٨

قضى بأن المقداد على سوابقه وحسن بلائه لو قتل ذلك الرجل لكان بمنزلة الكافرين المحاربين لله ولرسوله ، وكان المقتول بمنزلة واحد من أعاظم السابقين وأكابر البدريين الأحديين ، وهذه أقصى غاية يؤمها المبالغ في احترام أهل التوحيد ، فليتق الله كل مجازف عنيد.

وأخرج البخاري في باب بعث علي عليه‌السلام وخالد إلى اليمن : أن رجلاً قام فقال : يا رسول الله اتق الله. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله. فقال : خالد يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ، لعله أن يكون يصلي (٥).

قلت : أعظم بهذا الحديث ودلالته على احترام الصلاة وأهلها ، وإذا كان احتمال كونه يصلي مانعاً من قتله ، وقد اعترض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهرة وكاشفه علانية ، فما ظنك بمن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم الشهر ويحج البيت ويحلل الحلال ويحرم الحرام ، ويتعبد بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله وتقريره ، ويقترب إلى الله تعالى بحبه وبموالاة أهل بيته ويرجو رحمة الله عز وجل بشفاعته متمسكاً بثقليه معتصما بحبليه ، ويوالي وليه

__________________

(٥) وأخرجه أحمد بن حنبل من حديث أبي سعيد الخدري في صفحة ٤ من الجزء الثالث من مسنده. ومثله ما نقله العسقلاني في الاصابة في ترجمة سرحوق المناطق من أنه لما أتى به ليقتل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل يصلي ؟ قالوا : أذا رآه الناس. قال : اني نهيت ان اقتل المصلين ا ه‍. وكذلك ما أخرجه الذهبي في ترجمة عامر بن عبد الله ابن يساف من ميزانه بسند ضعيف عن أنس قال : ذكر عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل فقيل ذلك كهف المنافقين فلما أكثروا فيه رخص لهم في قتله ثم قال : هل يصلي ؟ قالوا : نعم لا خير فيها. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اني نهيت عن قتل المصلين. قلت : اذا كانت هذه حاله مع المنافقين المرائين بصالتهم فما ظنك بالمحافظين عليها والخاشعين المخلصين لله فيها.

١٩

وان كان قاتل ابيه ويعادي عدوه وان كان خاصته وأهليه.

واخرج البخاري في باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان ، حيث ذكر مقتل عمر « رض » والحديث طويل ، وفيه : يابن عباس انظر من قتلني ؟ فجال ساعة ثم جاء فقال : غلام المغيرة. قال : الصنع ؟ قال : نعم. قال قاتله الله لقد امرت به معروفاً ، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الاسلام ، قد كنت أنت وابوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة. فقال : ان شئت قتلناهم. قال : كذبت بعد ان تكلموا بلسناكم ( أي اقروا بالشهادتين ) وصلوا قبلتكم وحجوا حجتكم .. الحديث.

والظاهر من قوله « الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الاسلام » ـ بقرينة ما ستسمعه من رواية ابن قتيبة وابن عبد البر ـ انه كان يخشى أن يكون قاتله مسلماً فيغفر له بسبب اسلامه ، فلما عرف أنه ممن لا يدعي الاسلام علم أن الله آخذ بحقه على كل حال ، وفي هذا من الدلالة على حسن عواقب المسلمين ما لا تسعه عباره.

ثم إذا نظرت إلى انكاره على ابن عباس ، وقوله له مع جلالته « كذبت » إلى آخر كلامه ذلك دلك على احترام أهل الشهادتين والصلاة والحج كيف كانوا.

وفي صفحة ٢٦ من كتاب الامامة والسياسة للإمام المجمع على فضله ابن قتيبة المتوفى سنة مائتين وسبعين : ان عمر لما أخبر ان قاتله غلام المغيرة قال : الحمد لله الذي لم يقتلني رجل يحاجني بلا إله إلا الله يوم القيامة.

وروى الحافظ أبو عمرو يوسف بن عبد البر القرطبي في ترجمة عمر من الاستيعاب أنه قال لولده عبد الله : الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يحاجني بلا إله إلا الله ا ه‍.

٢٠