الفصول المهمة في تأليف الأمة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

الفصول المهمة في تأليف الأمة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وآله وسلم فقال : يارسول الله اني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي. فقال له النبي (ص) : اذهب اليه فاقتله قال : فذهب اليه ابو بكر فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله ، فرجع إلى رسول الله (ص) قال : فقال النبي (ص) لعمر اذهب فاقتله ، فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه ابو بكر. فكره أن يقتله. قال : فرجع فقال يا رسول الله اني رايته يصلي متخشعاً فكرهت أن أقتله. قال يا علي اذهب فاقتله قال : فذهب علي فلم يره ، فرجع علي فقال : يا رسول الله انه لم يره. قال : فقال النبي (ص) ان هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه ، فاقتلوهم هم شر البرية ا ه‍.

وأخرج أبو يعلي في مسنده ( كما في ترجمة ذي الثدية من اصابة ابن حجر ) عن أنس قال : كان في عهد رسول الله (ص) رجل يعجبنا تعبده واجتهاده وقد ذكرنا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه فلم يعرفه ، فوصفناه بصفته فلم يعرفه ، فبينما نحن نذكره إذ طلع الرجل قلنا : هو هذا. قال : انكم لتخبروني عن رجل ان في وجهه لسفعة من الشيطان ، فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس ما في القوم أحد أفضل مني أو خير مني ؟ قال : الهم نعم. ثم دخل يصلي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من يقتل الرجل ؟ فقال أبو بكر أنا ، فدخل عليه فوجده يصلي ، فقال : سبحان الله أقتل رجلاً يصلي ؟! فخرج فقال رسول الله (ص) : ما فعلت ؟ قال : كرهت أن أقتله وهو يصلي ، وأنت قد نهيت عن قتل المصلين. قال من يقتل الرجل قال عمر : أنا فدخل فوجده واضعاً جبهته فقال عمر : أبو بكر أفضل مني ، فخرج فقال له النبي (ص) : مهيم ؟ قال : وجدته واضعاً جبهته لله فكرهت أن اقتله. فقال : من يقتل الرجل ؟ فقال علي : أنا. فقال صلى الله

١٢١

عليه وآله وسلم : انت ان ادركته ، فدخل عليه فوجده قد خرج ، فرجع إلى رسول الله (ص) فقال : مهيم ؟ قال : وجدته قد خرج. قال : لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان ـ الحديث.

وأخرجه الحافظ محمد بن موسى الشيرازي في كتابه الذي استخرجه من تفاسير يعقوب بن سفيان ومقاتل بن سليمان ويوسف القطان والقاسم بن سلام ومقاتل بن حيان وعلي بن حرب والسدي ومجاهد وقتادة ووكيع وابن جريح. وارسله ارسال المسلمات جماعة من الاثبات ، كابن عبد ربه الأندلسي انتهائه إلى القول في أصحاب الاهواء من الجزء الأول من عقده الفريد وقد جاء في آخر ما حكاه في هذه القضية ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ان هذا لاول قرن يطلع في أمتي لو قتلتموه ما اختلف بعده اثنان ، إن بني اسرائيل افترقت اثنين وسبعين فرقة وان هذه الأمة ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة (٥٣) واحدة ا ه‍.

وقريب من هذه القضية ما أخرجه الامام أحمد من حديث علي ( في صفحة ١٥٥ من مسنده ) قال : جاء النبي (ص) أناس من قريش فقالوا : يا محمد انا جيرانك وحلفاؤك وإن ناساً من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه انما فروا من ضياعنا وأموالنا فارددهم الينا. فقال لأبي بكر : ما تقول ؟ قال : صدقوا انهم جيرانك. قال : فتغير وجه النبي (ص) ثم قال لعمر ما تقول ؟ قال صدقوا انهم جيرانك وحلفاؤك فتغير وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكان بعضهم يلمزه في الصدقات قال الله تعالى ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) وأخرج

__________________

(٥٣) فرقة وشيعة لفظان « بحساب الجمل » مترادفان لان كلا منهما ٣٨٥ ، وهذا بما تتفاءل به تلك الفرقة.

١٢٢

البخاري (٥٤) عن عبد الله بن مسعود قال : قسم النبي (ص) قسمة كبعض ما كان يقسم فقال رجل من الأنصار : والله انها لقسمة ما أريد بها وجه الله. قلت : أما أنا لأقولن للنبي (ص) ، فأتيته وهو في أصحابه فساررته فشق ذلك على النبي (ص) وتغير وجهه وغضب حتى وددت اني لم أكن أخبرته ، ثم قال : قد أوذي موسى (ع) بأكثر من ذلك فصبر ا ه‍.

وأخرج البخاري أيضاً (٥٥) عن عبد الله قال : لما كان يوم حنين أثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الابل وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى أناساً من أشراف العرب فآثرهم في القسمة تألفاً لقلوبهم وقلوب عشائرهم وترغيباً لهم في الاسلام. فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل بها. فقلت : والله لاخبرن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتيته فأخبرته فقال : فمن يعدل إذا لم يعدل الله (٥٦) ورسوله ، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ا ه‍.

وأخرج الامام أحمد من حديث عمر في صفحة ٢٠ من الجزء الأول من مسنده عن الأعمش عن شقيق سلمان بن ربيعة قال : سمعت عمر يقول : قسم رسول الله قسمة فقلت : يا رسول الله لغير هؤلاء احق منهم أهل الصفة قال : فقال رسول الله انكم تسألوني بالفحش ـ الحديث.

__________________

(٥٤) في باب الصبر على الاذى من كتاب الآداب في صفحة ٤٤ من الجزء الرابع من صحيحه.

(٥٥) في أواخر كتاب الجهاد والسير في صفحة ١٣٢ من الجزء الثاني من صحيحه ، وهناك عدة أحاديث بهذا المعنى.

(٥٦) قوله اذا لم يعدل الله ورسوله نص بأنه بأبي هو وأمي كان مأموراً من الله تعالى بتلك القسمة التي أنكرها المنافقون الجاهلون بحكمته البالغة ( إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَىٰ ).

١٢٣

وكان بعضهم يتنزه عن الشيء يرخص فيه رسول الله ويفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... اخرج البخاري (٥٧) عن عائشة قالت : صنع النبي (ص) شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي (ص) فخطب فحمد الله ثم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء اصنعه ، فوالله اني لأعلمهم بالله واشدهم له خشية ا ه‍.

وسأل رسول الله (ص) حاطب بن بلتعة حين أرسل صحيفته إلى المشركين فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي ، وليس من أصحابك أحد إلا له هناك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال رسول الله (ص) صدق لا تقولوا له الا خيرا. فقال عمر : قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فلاضرب عنقه ـ الحديث. أخرجه البخاري في آخر كتاب استتابة المرتدين من الجزء الرابع من صحيحه ، وفي مواضع أخر من الصحيح.

ولا يخفى ما فيه من الدلالة على ما قلناه. ولو أردنا استيفاء ما كان من هذا القبيل من موارد تأولهم في مقابل الدليل لطال الباب وخرجنا عن خطة الكتاب ، فعساك تقنع بعد هذا بمعذرة المتأولين وتقلع عما ابتدعه طغام المرجفين.

وان أردت المزيد وابتغيت التأكيد فخذ مني مضافاً إلى ما تلوناه وعلاوة على ما اسلفناه دليلاً قاطعا وبرهانا ساطعا لا ترتاب بعده في معذرة المتأولين ولا تشك في نجاتهم يوم الدين ، وحاصله أن الجمهور أجمعوا على خلافة عثمان منذ بويع حتى قتل ، مع ما كان في أيامه من الأحداث التي لولا حمله فيها على التأول لبطلت أمامته وسقط عن أريكة الخلافة ، وحسبك من تلك الأحداث ما هو معلوم بالتواتر وضرورة التاريخ ، وسأتلو عليك يسيراً منها نقلاً من كتاب الملل

__________________

(٥٧) في كتاب الآداب في صفحة ٤٤ من الجزء الرابع من صحيحه.

١٢٤

والنحل للشهرستاني بعين لفظه : قال (٥٨) منها رده الحكم ابن أمية إلى المدينة بعد أن طرده النبي (ص) وكان يسمى طريد رسول الله ، وبعد أن تشفع إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أيام خلافتيهما فما أجاباه إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه أربعين فرسخاً. قال : ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة ، وتزويجه مروان بن الحكم بنته ، وتسليمه خمس غنائم أفريقية له ، وقد بلغت مئتي ألف دينار. قال : ومنها ايواؤه عبد الله بن سعيد بن أبي سرح ، بعد أن أهدر النبي (ص) دمه وتوليته اياه مصر بأعمالها ، وتوليته عبد الله بن عامر البصرة حتى أحدث ما أحدث إلى غير ذلك مما نقموا عليه ا ه‍.

قلت : كاحراقه المصاحف جمعاً للناس على قراءة واحدة كما هو مقرر معلوم ، وقد نص عليه المؤرخون وأرسله ابن الأثير في كامله ارسال المسلمات (٥٩) وكحماية لحمى ، وإعطائه المقاتلة من مال الصدقة ، وايثاره أهل بيته بالأموال وضربه عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ، وعدم اقامته الحد على عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان ، وكتابه إلى أهل مصر بقتل محمد بن أبي بكر وجماعة آخرين من فضلاء المسلمين.

ومن موارد تأوله أنه كان إذا خرج من مكة إلى عرفات يتم فيها وفي منى صلاة الظهرين والعشاء ، مع أن النبي (ص) وأبا بكر وعمر كانوا إذا خرجوا اليها يقصرون صلاتهم فيها ، بل كان عثمان أول امارته يقصر أيضاً روى ذلك

__________________

(٥٨) في اثناء الخلاف التاسع من الاختلافات التي أوردها في المقدمة الرابعة من المقدمات الخمس التي جعلها في أول كتابه « الملل والنحل » فراجع.

(٥٩) وذلك حيث ذكر غزوة حذيفة الباب وأمر المصاحف في صفحة ٤٢ من الجزء ٣.

١٢٥

البخاري في باب الصلاة بمنى من كتاب الحج من صحيحه (٦٠).

وأنت تعلم أن عذره في كل هذه الأمور كونه متأولاً مجتهداً ، وبهذا حفظت عندهم عدالته وامامته ، فمن بعدها لا يقول بمعذرة المتأولين ؟

والا بلغ من هذا كله في معذرة المتأولين اجماعهم على عدالة كثير من المجلبين عليه ، كعائشة وطلحة والزبير وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي وعمرو ابن العاص وغيرهم ، ضرورة أنه لا يتسنى لهم الحكم بامامة المقتول وعدالة من أمر بقتله ونبزه باسم اليهود « فقال اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا اقتلوا نعثلا فقد كفر » الا بناء على ما قلناه.

وان أردت المزيد فاعتق رقبتك من رق التقليد وانظر فيما كان من عائشة وطلحة أيام عثمان من تأليب الناس عليه ، وما كان منهما بعد قتله ، وانعقاد البيعة لأمير المؤمنين من الذهاب إلى البصرة طلبا بثأر عثمان ، فهم غير مصيبين في احدى الحالين ، أو في كليهما قطعاً ، ولكن الجمهور عذرهم اولاً وآخراً ، وذلك ليس إلا لما قلناه وبه يتم ما أردناه.

وإن أوجست في نفسك ريبة فيما نقول فانظر إلى ما كان من طلحة والزبير وعائشة في البصرة مع عثمان بن حنيف الأنصاري وحكيم بن جبلة العبدي وغيرهما من شيعة علي عليه‌السلام مما لا يخلو منه كتاب من كتب الأخبار ، وقد اشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار ، من القتل الذريع والنهب الفظيع والمثلة بعثمان بن حنيف حيا (٦١) هذا كله قبل مجيء امير المؤمنين عليه‌السلام إلى البصرة ثم جاء :

__________________

(٦٠) وأخرجه مسلم في باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافر من الجزء الأول من صحيحه بأسانيد متعددة وطرق مختلفة.

(٦١) أن أردت التفصيل فعليك بتاريخ ابن جرير أو كامل ابن الاثير أو ما شئت من كتب الاخبار.

١٢٦

فكان ما كان مما لست اذكره

فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

فهل تجد وجهاً للجزم بعدالة هؤلاء والقطع بمعذرتهم الا ما يذكره الجمهور من تأولهم في كل ما فعلوه ، وبه يتجلى لك عذر المتأولين.

دع كل ما ذكرناه وعرج على رأى الجمهور في معاوية تجد هناك معذرة المتأولين قالبا حسياً ، وتلفها أمامك شخصاً مرئياً فانه لما كان متأولاً على زعمهم ، لم يقدح في عدالته عندهم الحاقه زياداً بأبيه ( أبي سفيان ) بدعوى انه عاهر سمية وهي على فراش عبيد ، مستنداً في ذلك إلى شهادة أبي مريم القواد الخمار مع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (٦٢).

وقوله من حديث (٦٣) ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو راد ، وقوله تعالى : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ ) وكان فعله هذا أول عمل جاهلي عمل به في الاسلام علانية ، فلم يقدح مع ذلك عند الجمهور في عدالته ولم يمنع محمد بن اسماعيل البخاري عن الاحتجاج به في صحيحه (٦٤).

__________________

(٦٢) هذا الحديث متواتر قاله رسول الله (ص) حين ترافع اليه سعد ابن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام عهد عتبة بن أبي وقاص إلى أخيه سعد انه ابنه بسفاح الجاهلية ، فقال سعد : يا رسول الله انه ابن أخي وقد عهد به اليّ وعليه شبهة. وقال عبد بن زمعة : انه أخي وابن أبي ولد على فراشه من جاريته. فنظر النبي (ص) إلى الغلام فرأى عليه شبه عتبة بينا ولم يلحقه مع ذلك به وانما الحقه بزمعة ، وقال « الولد للفراش وللعاهر الحجر » اخرج البخاري هذه القضية بهذه الكيفية في ثلاثة مواضع من كتاب البيوع في أول الجزء الثاني من صحيحه ، واخرجه مسلم بطرق مختلفة في باب الولد للفراش من كتاب الرضاع من صحيحه.

(٦٣) أخرجه البخاري في باب النجش من كتاب البيوع في صفحة ١٢ من الجزء الثاني من صحيحه.

(٦٤) جميع المحدثين من أهل السنة يحتجون بمعاوية ويعتمدون عليه

١٢٧

وأيضاً لم يخدش في وثاقته عندهم عهده بالخلافة إلى ابنه يزيد ، وهو صبي يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ولا يعرف من الدين موطئ قدمه مع معرفته بليله ونهاره واعلانه واسراره وعلمه بمنزلة الحسين (ع) من الله عز وجل ومكانته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحله في نفوس المؤمنين ، على انه كان يومئذ في المهاجرين والأنصار وبقية البدريين وأهل بيعة الرضوان جم غفير وعدد كثير كلهم قارئ للقرآن عالم بمواقع الأحكام خبير بالسياسة حقيق على رأي الجمهور بالخلافة والرياسة ، فلم يراع سابقتهم في الاسلام ولا عناءهم في تأييد الدين وأمر عليهم شريره المتهتك وسكيره المفضوح ، فكان منه في طف كربلاء مع سيد شباب أهل الجنة وخامس أصحاب الكساء ما أثكل النبيين وأبكى الصخر الأصم دما ورمى المدينة الطيبة بمجرم بن عقبة ، وكان أبوه معاوية قد عهد (٦٥) بذلك اليه كما نص عليه جماعة (٦٦) فكانت أمور تكاد السماوات يتفطرن منها. وحسبك انهم أباحوا المدينة المنورة ثلاثة أيام حتى

__________________

في مسانيدهم وصحاحهم ، أما البخاري فقد احتج به في كتاب الجهاد والسير في باب قوله تعالى ( فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) من صحيحه ، واحتج به أيضاً في أول باب وصل الشعر من كتاب اللباس ، وفي مواضع أخر لا تخفي على المتتبع.

(٦٥) غير مبال بدعاء النبي (ص) على من أخاف أهل المدينة ، ولا مكترث بقوله (ص) « من أخاف أهل المدينة أخافه الله عز وجل وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا » أخرجه احمد من حديث السائب بن خلاد بطريقين في صفحة ٥٦ من الجزء ٤ من مسنده.

(٦٦) منهم الامام ابن جرير الطبري في الصفحة الاخيرة من حوادث سنة ٦٣ في اوائل الجزء ٧ من تاريخه ، وابن عبد ربه المالكي حيث ذكر وقعة الحرة في الجزء الثاني من العقد الفريد.

١٢٨

افتض فيها ألف عذراء من بنات المهاجرين والأنصار ؛ كما نص عليه السيوطي في تاريخ الخلفاء وعلمه جميع الناس (٦٧) وقتل يومئذ من المهاجرين والأنصار وأبنائهم وسائر المسلمين اللائذين بضريح سيد النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ١٠٨٧٠ رجلاً ، ولم يبق بعدها بدري (٦٨) وقتل من النساء والصبيان عدد كثير ، وكان الجندي يأخذ برجل الرضيع فيجذبه من أمه ويضرب به الحائط فينتشر دماؤه على الأرض وامه تنظر اليه (٦٩) ثم أمروا بالبيعة ليزيد ، على انهم خول وعبيد ان شاء استرق وان شاء اعتق ، فبايعوه على ذلك وأموالهم مسلوبة ورحالهم منهوبة ودماؤهم مسفوكة ونساؤهم مهتوكة ، وبعث مجرم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد ، فلما القيت بين يديه قال :

ليت أشياخي ببدر شهدوا : الأبيات (٧٠)

__________________

(٦٧) حتى قال ابن الطقطقي في صفحة ١٠٧ من تاريخه المعروف بالفخري ما هذا لفظه : فقيل ان الرجل من أهل المدينة بعد ذلك كان اذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها ويقول لعلها افتضت في وقعة الحرة ا ه‍. وقال الفاضل الشبراوي في صفحة ٦٦ من كتابه الاتحاف : وافتض فيها نحو ألف بكر وحمل فيه من النساء اللاتي لا أزواج لهن نحو من الف أمرأة. وقال ابن خلكان وقد ذكر الحرة في ترجمة يزيد بن القعقاع القارئ المدني من وفياته ما هذا لفظه : كان يزيد بن معاوية في مدة ولايته قد سير إلى المدينة جيشا مقدمه مسلم بن عقبة المري فنهبها وأخرج أهلها إلى هذه الحرة ، فكانت الوقعة بها وجرى فيها ما يطول شرحه ، وهو مسطور في التواريخ حتى قيل انه بعد وقعة الحرة ولدت أكثر من الف بكر من أهل المدينة بسبب ما جرى فيها من الفجور.

(٦٨) نص على ذلك ابن قتيبة في كتاب الامامة والسياسة وغير واحد من أهل الأخبار.

(٧٠) ارسال رؤوس أهل المدينة إلى يزيد وانشاده أبيات ابن الزبعري مشهور مستفيض ، وقد ذكره ابن عبد ربه في أواخر وقعة الحرة من العقد الفريد ، ونقل هناك اعتراف يزيد بارتداده عن الاسلام.

١٢٩

ثم توجه مجرم لقتال ابن الزبير فهلك في الطريق ، وتأمر بعده الحصين بن نمير بعهده من يزيد ، فأقبل حتى نزل على مكة المعظمة ونصب عليه العرادات والمجانيق (٧١) وفرض على أصحابه عشرة آلاف صخرة في كل يوم يرمونها بها ، فحاصروهم بقية المحرم وصفر وشهري ربيع يغدون على القتال ويروحون ، حتى جاءهم موت يزيد وكانت المجانيق أصابت جانب البيت فهدمته مع الحريق الذي أصابه.

وفظائع يزيد من أول عمره إلى انتهاء أمره أكثر من أن تحويها الدفاتر ، أو تحصيها الأقلام والمحابر ، قد شوهت وجه التاريخ وقبحت صحائف السير وكان أبوه يرى كلابه وقروده وصقوره وفهوده ويطلع على خموره وفجوره ، وبشاهد الفظائع من كل أموره ويعاين لعبه من الغواني ويعرف خبثه بكل المعاني ، ويعلم انه ممن لا يؤتمن على نقير ولا يولي أمر قطمير ، فكيف رفعه والحال هذه إلى أوج الخلافة وأحله عرش الملك والامامة وملكه رقاب المسلمين وسلطه على أحكام الدنيا والدين ، فغش بذلك امته ولم ينصح رعيته وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما أخرجه البخاري في الورقة الأولى من كتاب الأحكام من صحيحه (٧٢) : ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم الا حرم الله عليه الجنة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه احمد من حديث ابي بكر في صفحة ٦ من الجزء الأول من مسنده : من ولي من أمور المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما اخرجه البخاري في تلك الورقة أيضاً : ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحظها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة.

__________________

(٧١) ذكر ذلك ابن قتيبة في صفحة ٢١٤ من كتابه الامامة والسياسة.

(٧٢) في صفحة ٢٥٠ من جزئه الرابع.

١٣٠

والجمهور يعذرونه في ذلك بناء على اجتهاده كما عذر بعضهم في وقعتي الطف والحرة اكفر اولاده (٧٣).

وعذروه أيضاً في قتله عباد الله الصالحين كعمرو بن الحمق الخزاعي ، وكان بحيث ابلته العبادة ورأسه أول رأس حمل في الاسلام ، قتله ( وهو من خيار الصحابة ) بحبه علياً عليه‌السلام ، وكحجر بن عدي الكندي وكان من فضلاء الصحابة أيضاً ، قتله وأصحابه البررة الأتقياء إذ لم يلعنوا علياً عليه‌السلام ، ومعاوية هو الذي قتل الحسن سلام الله عليه بسم دسه اليه فسقته اياه بنت الأشعث عليها اللعنة ، علم بذلك كافة أهل البيت وشيعتهم واعترف به جماعة من غيرهم.

__________________

(٧٣) بل اعتقد قوم من الجمهور ان يزيد كان من اولياء الله ، وان من توقف فيه وقفه الله على نار جهنم ، فراجع ما حكاه ابن تيمية عنهم في الرسالة ٧ من مجموعة الرسائل الكبرى في صفحة ٣٠٠ من جزئها الاول. ونقل القسطلاني في باب ما قيل في قتال الروم من كتاب الجهاد من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري في صفحة ٢٣٠ من جزئه السادس عن المهلب انه كان يقول بثبوت خلافة يزيد وانه من أهل الجنة. ونقل ابن خلدون في صفحة ٢٤١ اثناء الفصل الذي عقده في مقدمته لولاية العهد عن القاضي ابي بكر ابن العربي المالكي انه قال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه ان الحسين قتل بشرع جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وذكر ابن الاثير في عدة حوادث سنة ٥٨٣ في آخر ورقة من الجزء ١١ من كامله ان في تلك السنة مات عبد المغيث بن زهير ببغداد قال : وكان من أعيان الحنابلة قد سمع الحديث الكثير وصنف كتاباً في فضائل يزيد بن معاوية أتى فيه بالعجائب ، وقد رد عليه أبو الفرج ابن الجوزي وكان بينهما عداوة ا ه‍. قلت : والذين عذروا يزيد من أوليائه واعتذروا عنه كثيرون ، منهم ابن تيمية فيما تقدمت اليه الاشارة من رسالته السابعة والغزالي في الآفة الثامنة من كتاب آفات اللسان من أحياء العلوم في صفحة ١١٢ من جزئه الثالث.

١٣١

قال أبو الحسن المدائني ( كما في أوائل الجزء ١٦ من شرح النهج لابن أبي الحديد في الصفحة ٤ من المجلد ٤ طبع مصر ) : كانت وفاة الحسن سنة ٤٩ وكان مريضاً ٤٠ يوماً وكان سنة ٤٧ سنة ، دس اليه معاوية سماً على يد جعدة بنت الأشعث ، وقال لها : ان قتلتيه بالسم فلك مائة ألف وأزوجك يزيد فلما مات وفى لها بالمال ولم يزوجها من يزيد وقال : أخشى ان تصنعي بابني ما صنعت بابن رسول الله (ص) ا ه‍.

ونقل المدائني عن الحصين بن المنذر الرقاشي ( كما في صفحة ٧ من المجلد الرابع من شرح النهج طبع مصر أيضاً ) : انه كان يقول : والله ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه قتل حجراً وأصحابه وبايع لابنه يزيد ، وسم الحسن ا ه‍.

وقال أبو الفرج الاصفهاني المرواني في كتابه مقاتل الطالبيين حيث ذكر السبب في وفاة الحسن عليه‌السلام ما هذا لفظه : وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس اليهما سماً فماتا منه الخ.

وفي صفحة ١٧ من المجلد ٤ من شرح ابن أبي الحديد طبع مصر ما يلفت الأنظار في هذا المقام فراجعه لتعلم ما قلناه.

وروى ابن عبد البر في ترجمة الحسن من استيعابه عن قتادة وأبي بكر بن حفص ان بنت الأشعث سقت الحسن بن علي السم ، ثم قال : وقالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية اليها وما بذل لها في ذلك ا ه‍. والأخبار في ذلك لا تحتملها هذه العجالة.

ولو أردنا ان نستوفي من قتلهم معاوية من المصلحين وأولياء الله (٧٤) صبراً

__________________

(٧٤) لم يقتصر معاوية على قتل أولياء الله في سبيل سياسته حتى قتل

١٣٢

وأبادهم غدراً واستأصلهم عتواً وطحنهم حرباً وسمل أعينهم ظلماً وقطع أيديهم وأرجلهم بغيا واستل ألسنة لهم تنطق بالحق عناداً واسقط شهاداتهم زورا وتقول عليهم افتراء وطلق حلائلهم مكراً وأخذ أموالهم سلباً وصاح في حجراتهم نهبا وهدم دورهم عشياً واقصاهم نفياً وأوسعهم ذلاً وضيق عليهم حبسا ودفنهم أحياء ولعنهم على المنابر أمواتاً ـ لافنينا المحابر واستغرقنا الصحف والدفاتر ثم لم نبلغ غايتنا المقصودة ولم نظفر بضالتنا المنشودة وكذلك لو أردنا أن نتصدى للأحكام التي بدلها والحدود التي عطلها والبوائق التي ارتكبها والفواقر التي احتقبها والدواهي التي حدثت في زمانه والغاشمين الذين اشركهم في سلطانه كابن شعبة وابن العاص وابن سعيد وابن ارطأة وابن جندب ومروان وابن السمط وزياد وابن مرجانة والوليد الذين فعلوا الأفاعيل وقهروا الأمة بالأباطيل وساموا عباد الله سوء العذاب يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وحسبك ما اجمع أهل الأخبار على نقله واتفق أهل العلم على صدوره من بعثه بسراً سنة أربعين لاستئصال من في اليمن من عباد الله الصالحين ، فراجع ما شئت من كتب الأخبار ولاحظ ما يحضرك مما يشتمل على أحداث تلك السنة من كتب الآثار ، لتعلم فظاعة هذه الواقعة وتعرف كنه ما كان يوم هذه الفاجعة من قتل الشيوخ الركع وذبح الأطفال الرضع ونهب الأموال وسبي العيال ، وما ينس فلا ينس ما فعله يومئذ بنساء همدان ، اذ سباهن فأقمن ( كما في ترجمة بسر من الاستيعاب ) في السوق ، وكشف عن سوقهن فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها.

قال في الاستيعاب : فكن أول مسلمات سبين في الاسلام ، وما أدري هذه

__________________

في ذلك اخص اوليائه به وأشدهم ملازمة له عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، حارب معه في صفين وحالفه على عداوة أمير المؤمنين ثم بعدها باعه بالتافه الزهيد وقتله مخافة أن ترغب الناس به عن يزيد ، وقصته مشهورة عند أهل الاخبار مستفيضة بين أهل السير والآثار ، فراجع ترجمة عبد الرحمن من الاستيعاب تجد التفصيل.

١٣٣

أفظع وأوجع أم ما فعله بطفلي عبيد الله بن العباس ، وكان عبيد الله يومئذ عاملا لأمير المؤمنين على اليمن فهرب اليه من بسر ، واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي وكان جد الطفلين لامهما ، فقتله بسر فيمن قتلهم يومئذ من الألوف المؤلفة من خيار الناس وقتل ابنه ، وبحث عن الطفلين فوجدهما عند رجل من كنانة في البادية ، فلما أراد بسر قتلهما قال له الكناني ( كما في تاريخ ابن الأثير ) لم تقتلهما وهما طفلان لا ذنب لهما ، فان كنت قاتلهما فاقتلني معهما ، فقتله ثم ذبحهما بين أيدي أمهما (٧٥) فهامت على وجهها جنوناً مما نالها تأتي الموسم تنشدهما فتقول :

يا من احسّ بابنيّ اللذين هما

كالدرتين تشظى عنهما الصدف

يا من أحسّ بابنيّ اللذين هما

مخ العظام فمخي اليوم مزدهف

يا من احسّ بابنيّ اللذين هما

قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف

من دل والهة حيرى مدلهة (٧٦)

على صبيين ذلاً إذ غدا السلف

نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا

من إفكهم ومن الاثم الذي اقترفوا

أحنى (٧٧) على ودجي ابني مرهفة

مشحوذة وكذاك الاثم يقترف

وقالت له امرأة من كنانة لما ذبحما ( كما في تاريخ ابن الأثير ) : يا هذا قتلت الرجال فعلى م تقتل هذين ؟! والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والاسلام والله يا بن أبي ارطأة سلطاناً لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان السوء.

قال ابن الأثير : فلما سمع امير المؤمنين بقتلهما جزع جزعاً شديداً ودعا على

__________________

(٧٥) كذا في ترجمة بسر من الاستيعاب.

(٧٦) الذاهبة العقل.

(٧٧) كذا في رواية ابن الأثير وفي رواية الاستيعاب وأبي الفداء انحى.

١٣٤

بسر فقال اللهم اسلبه دينه وعقله. قال فأصابه ذلك فكان يهذي بالسيف فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه ولم يزل كذلك حتى مات ا ه‍. ـ إلى غير ذلك من بوائق معاوية واعوانه وجرائم وزرائه ومقوية سلطانه ، وكان احدهم يقتل الألوف من افاضل الرجال ويعمل الأعمال التي يهتز منها عرش العظمة والجلال ثم لا يستعظم ما احتقب ولا يتألم مما ارتكب.

اخرج الامام الطبري في احداث سنة خمسين من تاريخه (٧٨) بالاسناد إلى محمد بن سليم قال : سألت أنس بن سيرين هل كان سمرة قتل احداً ؟ قال : وهل يحصى من قتلهم سمرة بن جندب ، استخلفه زياد على البصرة ستة اشهر حين كان والياً عليها وعلى الكوفة من قبل معاوية واتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس. فقال له زياد : هل تخاف ان تكون قتلت أحداً بريئاً ؟ قال لو قتلت اليهم مثلهم ما خشيت ا ه‍.

واخرج هناك أيضاً بالاسناد إلى ابي سوار العدوي قال : قتل سمرة من قومي في غداة سبعة واربعين رجلاً قد جمع القرآن ا ه‍.

واخرج هناك أيضاً باسناده عن عوف قال : اقبل سمرة من المدينة فلما كان عند دور بني اسد خرج رجل من بعض ازقتهم ففاجأ اول الخيل فحمل عليه رجل من القوم فأوجره الحربة عبثا وعتوا. قال : ثم مضت الخيل فأتى عليه سمرة بن جندب وهو متشحط بدمه فقال : ما هذا ؟ قيل : اصابته اوائل خيل الأمير ، قال عتوا واستكبارا : إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا اسنتنا ا ه‍.

وهذه القضايا متفق علي صدورها من سمرة نقلها كل من ارخ حوادث سنة الخمسين ، كابن جرير وابن الأثير وامثالهما. وإذا كانت هذه اعمال سمرة في

__________________

(٧٨) في صفحة ١٢٢ من جزئه السادس.

١٣٥

ستة أشهر وهو ثقة البخاري ودليله على دين الباري قد احتج به في الورقة الثالثة من كتاب بدء الخلق من صحيحه (٧٩).

وجزم بعدالته (٨٠) في ظاهر القول وصريحه ، فما ظنك بأعمال زياد بن سمية الخبيث الفاسق باجماع البرية ، وقد ولاه معاوية ( كما نص عليه الطبري (٨١) في احداث سنة خمسين من تاريخه ) اعمال الكوفة والبصرة والمشرق كله ، وسجستان وفارس والسند والهند ، فكم حرة في تلك الولاية هتكت. وكم حرمة لله انتهكت ، وكم دماء زكية سفكت ، وكم شرعة اندرجت وكم بدعة اسست ، وكم اعين سملت وايد وارجل قطعت و. و. و.؟! إلى ما لا يحصى من الأعمال البربرية والفظائع الأموية التي تقشعر لها جلود البرية ويتصدع بها قلب الانسانية.

__________________

(٧٩) في آخر صفحة ١٣٨ من جزئه الثاني قبل باب ما جاء في صفة الجنة بأربعة أحاديث ، واحتج به في موارد يعرفها المتتبع ، ونص الامام محمد بن القيسراني في كتابه « الجمع بين كتابي أبي نصر الكلاباذي وابي بكر الاصفهاني » على احتجاج البخاري ومسلم كليهما في سمرة بن جندب مع ما له من الاعمال ، فراجع أحواله في الجزء الرابع من شرح النهج للعلامة ابن أبي الحديد في السطر الأول من صفحة ٣٦٣ من المجلد الأول طبع مصر لتعلم الحقيقة ، ولو سبرت من قبل تلك الصفحة إلى ما بعدها بوريقات لعلمت أحوال جملة من رجال البخاري كابن العاص والمغيرة ومروان وابي هريرة وغيرهم من عمل معاوية وأوليائه.

(٨٠) مع ما ثبت عنه من المساوئ التي من جملتها بيع الخمر على عهد عمر فيما رواه المحدثون ، وأخرجه أحمد بن حنبل من حديث عمر بن الخطاب في صفحة ٢٥ من الجزء الأول من مسنده قال : ذكر لعمر أن سمرة باع خمرا. فقال : قاتل الله سمرة ان رسول الله قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها.

(٨١) في صفحة ١٣٤ من جزئه السادس.

١٣٦

لكن الجمهور لما بنوا على اجتهاد معاوية عذروه في اعمال عماله ، ولم يخدش في عدالته عندهم بوائقه ولا بوائق رجاله.

وعذروه أيضاً في حربه علياً عليه‌السلام ، وهو اخو النبي ووصيه ونفسه في آية المباهلة ووليه بعد انعقاد البيعة له حتى قتل من المسلمين ألوف مؤلفة ، وقد قال رسول الله (ص) فيما أخرجه البخاري (٨٢) ومسلم في صحيحيهما « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر » (٨٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم جلل علياً وفاطمة والحسن والحسين بالكساء فيما ذكره ابن حجر في صواعقه (٨٤) وابو بكر بن شهاب الدين في رشفته من جملة حديث : « أنا حرب لمن حاربهم

__________________

(٨٢) راجع من صحيح البخاري باب قول النبي (ص) لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض من كتاب الفتن في الجزء الرابع وراجع من صحيح مسلم كتاب الايمان.

(٨٣) فان قلت : كيف قاتل علي (ع) كلا من أهل الشام والبصرة والنهروان وهم مسلمون ؟ قلت : انما قاتلهم عملاً بقوله تعالى ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ) ولا ريب ببغي معاوية وأصحابه بدليل قتلهم لعمار ، على ان بغيهم أوضح من النهار.

وأيضاً أخرج مسلم في باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع من كتاب الامارة من صحيحه عن عرفجة قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : من اتاكم وامركم مجمع على رجل واحد يريد ان يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه ا ه‍. وقال ابن عبد البر في ترجمة علي من الاستيعاب ما هذا لفظه : وروي من حديث علي ومن حديث ابن مسعود حديث ابي ايوب الأنصاري انه « يعني علياً » أمر بقتال الناكثين « يوم الجمل » والقاسطين « يوم صفين » والمارقين « يوم النهروان » قال : وروي عنه انه قال : ما وجدت الا القتال أو الكفر بما انزل الله ا ه‍.

(٨٤) في الآية الاولى من الآيات التي أوردها في الفصل الأول من الباب الحادي عشر.

١٣٧

وسلم لمن سالمهم وعدو لمن عاداهم » (٨٥) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حرب علي حربي وسلمه سلمي » إلى غير ذلك من الصحاح التي لا حاجة إلى ايرادها لتواترها بين المسلمين.

وعذروه أيضاً في لعنه بقنوت الصلاة رجالاً اذهب عنهم الرجس محكم التنزيل وهبط بتطهيرهم جبرائيل وباهل بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر ربه الجليل ، أولئك الذين فرض الله مودتهم وأوجب الرسول ولايتهم ، وهم أحد الثقلين اللذين لا يضل من تمسك بهما ولا يهتدي إلى الله من ضل عنهما ، الا وهم امير المؤمنين أخو الرسول ووليه وصاحب العناء بتأسيس دينه ووصيه ومن شهد الرسول بأنه يحب الله ورسوله ، وانه منه بمنزلة هارون من موسى ، وولداه سبطا رسول الله وريحانتاه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

ولعن معهم عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة ، مع ما علم من وجوب تعظيمهم بحكم الضرورة من دين الاسلام وما ثبت بالعيان من شرف مقامهم لدى سيد الانام ، وكيف لا يكونون كذلك وهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ومعدن الرحمة.

وما اكتفى بذلك حتى أمر بلعن امير المؤمنين عليه‌السلام في كل كورة وترك ذلك سنة على أعوادها في كل عيد وجمعة ، وما زالت الخطباء في جميع الانحاء تعد تلك البدعة المكفرة جزء من الخطبة إلى سنة ٩٩ فأزالها خير بني مروان عمر بن عبد العزيز ، وهذا كله معلوم بالضرورة مقطوع فيه بحكم البداهة قد أجمع أهل العلم على صدوره واتفقت كلمة أهل السير على نقله فراجع ما شئت من كتب الأخبار لتعلم ان المسألة كضوء النهار.

__________________

(٨٥) واخرج احمد بن حنبل من حديث ابي هريرة في صفحة ٤٤٢ من الجزء الثاني من مسنده ان رسول الله (ص) نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال : انا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم.

١٣٨

وكان الحسن قد شرط على معاوية اذا اصطلحا شروطاً منها ان لا يشتم أباه فلم يجبه إلى هذه وأجابه إلى ما سواها ، فطلب الحسن أن لا يشتم علياً وهو يسمع ، قال ابن الأثير وابن جرير وابو الفداء وابن الشحنة وكل من ذكر صلح معاوية والحسن : فأجابه إلى ذلك ثم لم يف له به ا ه‍.

بل شتم علياً والحسن على منبر الكوفة ، فقام الحسين ليرد عليه فأجلسه الحسن عليهما‌السلام ، ثم قام بأبي هو وأمي ففضح معاوية وألقمه حجراً ، وهذه القضية ذكرها أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين وكثير من أهل السير والأخبار ، ولم يزل معاوية يلعن أمير المؤمنين أمام البر والفاجر ويحمل عليها الاصاغر والاكابر حتى أمر سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم في باب فضائل علي من صحيحه بالاسناد إلى عامر بن سعد قال : أمر معاوية بن ابي سفيان سعد ابن أبي وقاص فقال : ما منعك أن تسب ابا تراب ؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله (ص) فلن اسبه لان تكون لي واحدة منهن احب إلي من حمر النعم ـ الحديث (٨٦).

وامر الاحنف بن قيس فقال له كما نص عليه جماعة منهم أبو الفداء في أحداث سنة ٦٧ من تاريخه : والله لتصعدن المنبر ولتلعننه طوعاً أو كرهاً ، فكان بينهما كلام افضى إلى خوف معاوية من الفضيحة إذا استوى الاحنف على المنبر فأعفاه من ذلك. وقد علم الناس كافة ان معاوية لم يقتل حجراً وأصحابه الابدال إلا لامتناعهم عن لعن امير المؤمنين وسيد الوصيين ، ولو أجابوه إلى لعنه لحقنت دماؤهم فراجع مقتل حجر في أول الجزء ١٦ من كتاب الأغاني لأبي فرج المرواني ، وفي أحداث سنة ٥١ من تاريخ ابن جرين وابن الأثير وغيرهما لتعلم

__________________

(٨٦) وأخرجه النسائي في الصفحة الثانية من الخصائص العلوية ، وهو منقول عن الترمذي وعن الجمع بين الصحيحين والجمع بين الصحاح الستة.

١٣٩

الحقيقة ، وتعرف ان عبد الرحمن بن حسان العنزي لما ابى وامتنع عن لعن علي عليه‌السلام في مجلس معاوية أرسله إلى زياد وأمره ان يقتله شر قتلة ، فدفنه حيا ، وما زال يلعن علياً على رؤوس الاشهاد ، ويحمل على لعنه بالترهيب والترغيب كافة العباد في كافة البلاد. هذا مع ما صح من قول النبي (ص) : « من سب علياً فقد سبني » أخرجه الحاكم وصححه ، وهو عندنا من المتواترات ، وأخرج النسائي في صفحة ١٧ من الخصائص العلوية وابن حنبل في ٣٢٣ من الجزء السادس من مسنده من حديث أم سلمة عن عبد الله او ابي عبد الله الجدلي قال : دخلت على أم سلمة فقالت لي ايسب رسول الله فيكم ؟! قلت : معاذ الله او سبحان الله او كلمة نحوها قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول : من سب علياً فقد سبني (٨٧) ا ه‍.

وقال ابن عبد البر في ترجمة علي من استيعابه ما هذا لفظه : وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أحب علياً فقد احبني ومن ابغض علياً فقد ابغضني ، ومن آذى علياً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ا ه‍ (٨٨).

وقال (ص) فيما اخرجه الطبراني وغيره : ما بال أقوام يبغضون علياً ومن ابغض علياً فقد ابغضني ومن فارق علياً فقد فارقني ، ان علياً مني وانا منه ، خلق من طينتي وخلقت من طينة ابراهيم ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم يا بريدة اما علمت ان لعلي افضل من الجارية التي اخذ وهو وليكم بعدي.

وقال (ص) فيما اخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما ( كما في الفصل الثاني من الباب ٩ من الصواعق ) عن عمران بن حصين ان رسول الله قال : ما تريدون من

__________________

(٨٧) هذه الفضيلة من خصائص أمير المؤمنين ، ولذلك أوردها النسائي في خصائصه ، وبها وبأمثالها نكفر الخوارج وأشباههم.

(٨٨) وأخرج ابن خالويه في كتاب الآل عن ابن عباس وأبو يعلي والبزار عن سعد بن أبي وقاص والطبراني عن أم سلمة نحوه.

١٤٠