الكشف والبيان - ج ٦

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٦

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٧

الحديث أنه كان يفتتح القراءة في الصلاة بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، يدل عليه أن الصلاة تفتتح بالتكبير بلا خلاف على أن الخبر متروك الظاهر.

ويدل على صحة ما قلنا حديث جبير بن مطعم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي فقال : «الله أكبر كبيرا والحمد لله وسبحان الله بكرة وأصيلا ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثة وهمزة».

وقال ابن مسعود : نفخة الكبر ونفثة الشعر وهمزة المرض يعني الجنون ، فإذا تقرر هذا ثبت أن الخبر المتقدم متروك بالظاهر مأخوذ المعنى.

واختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة : فقال أكثرهم : قبل القراءة ، وهو قول الجمهور ، وهو الصحيح المشهور.

وقال أبو هريرة : يتعوذ بعد القراءة وإليه ذهب داود بن علي.

وقال مالك في الصلاة التي يتعوذ فيها وهي قيام رمضان : يتعوذ بعد القراءة واحتج بظاهر الآية ، وقد بينّا وجهها ، والدليل على أنها قبل القراءة ، ما روى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ثمّ يقرأ، وأما الكلام في محل الاستعاذة في الصلاة ، فقد قال الشافعي : يقولها في أول الركعة ، وقيل : إن قال حيث يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن ما يقرأ به في شيء من الصلاة كما أمره به في أول ركعة. هذا قول عامة الفقهاء.

وقال ابن سيرين : يتعوذ في كل ركعة قبل القراءة. والصحيح المذهب الأوّل ، لأن المروي في الأخبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يتعوّذ إلّا في الأولى ، وأما صفتها وفي الصلاة فهي أن ينظر فإن كانت صلاة يسرّ فيها بالقراءة أسرّ فيها بالاستعاذة ، وإن كانت يجهر فيها بالقراءة :

فقال الشافعي في (الأم) : روي أن أبا هريرة أمّ الناس رافعا صوته : ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم (١) ، وكان ابن عمر يعوذ في نفسه.

قال الشافعي : فإن شاء جهر بها وإن شاء أسرّ بها.

قال الثعلبي : والاختيار الإخفاء ليفرّق بين ما هو قرآن وما هو ليس بقرآن.

فأما لفظة الاستعاذة فالأولى والمستحب أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ؛ لنص القرآن والخبر المتصل المتسلسل ، وهو أني قرأت على الشيخ أبي الفضل محمّد بن أبي جعفر

__________________

(١) كتاب الام : ١ / ١٢٩.

٤١

الخزاعي ، فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في المواضع كلّها فأني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمّد بالبصرة فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على عبد الله أبي حامد الزنجاني فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على محمّد بن عبد الله بن بسطام فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على روح بن عبد المؤمن فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على يعقوب الحضرمي فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على سلام بن المنذر ، فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلقد قرأت على عاصم فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلقد قرأت على زر بن حبيش فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلقد قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم ، فقال لي : «يا ابن أم عبد قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ».

قال ابن عجلان : وهكذا علمني أخي أحمد ، وقال : هكذا علمني أخي ، وقال : هكذا علمني وكيع بن الجراح ، وقال : هكذا علمني سفيان الثوري.

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) حجة وولاية (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

قال سفيان : (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) أن يحملهم على ذنب لا يغفر.

(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يطيعونه (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) أي بالله (مُشْرِكُونَ).

وقال بعضهم : الكناية راجعة إلى الشيطان ، ومجاز الكلام : الذين يسمعون قوله مشركون بالله ، وهذا كما يقال : صار فلان بك عالما ، أي من أجلك وبسببك عالما.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ

٤٢

مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦))

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) فيما يغيّر ويبدل أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما عدّل من أحكامه (قالُوا إِنَّما أَنْتَ) يا محمّد (مُفْتَرٍ) وذلك أن المشركين قالوا : إن محمدا يسجد بأصحابه يأمرهم اليوم ويؤمّرهم غدا ويأتيهم بما هو أهون عليهم ، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه.

قال الله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام (قُلْ نَزَّلَهُ) يعني القرآن (رُوحُ الْقُدُسِ) جبرئيل (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) تثبيتا للمؤمنين وتقوية لإيمانهم [.....] (١) تصديقا ويقينا (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) آدمي وما هو من عند الله ، واختلف العلماء في هذا البشر من هو :

قال ابن عبّاس : كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيا يسمى اللسان وكان المشركون يرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل عليه ويخرج منه فقالوا : إنما يعلمه بلعام ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال عكرمة وقتادة : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرّي غلاما لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب ، [فقالوا] : إنما يعلمه يعيش فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الفراء : قال المشركون إنما يتعلّم محمّد عن مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجمي فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

وقال ابن إسحاق : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني ، يقال له : خير ، عبد لبعض بني الحضرمي وكان يقرأ الكتب.

وقال المشركون : والله ما يعلم محمدا كثيرا ما يأتي به إلّا خير النصراني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال طلحة بن عمر : بلغني أن خديجة رضى الله عنها كانت تختلف إلى خير فكانت قريش تقول : إن عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة ، تعلّم محمّدا فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قال عبيد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل [عين التمر] يقال لأحدهما

__________________

(١) غير مقروءة في المخطوط.

(٢) زاد المسير : ٤ / ٣٦٠.

٤٣

يسار وللآخر خير ، وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن بالتوراة والإنجيل ، فربما مرّ بهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما يقرآن فيقف فيسمع (١).

وقال الضحاك : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا آذاه الكفار يقصد إليهما فيستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلم محمّد منهما ، فنزلت هذه الآية.

وقال السدي : كان بمكة رجل نصراني يقال له ابن ميسرة يتكلّم بالرومي ، فربما يقعد إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الكفار : إنما يتعلم محمّد منه ، فنزلت هذه الآية.

وروى علي بن الحكم وعبيد بن سليمان عن الضحاك : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) قال : كانوا يقولون : إنما يعلمه سلمان الفارسي ، وهذا قول غير مرضي ؛ لأن سلمان إنما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وهذه الآية مكية.

قال الله تكذيبا لهم [وإلزاما] للحجة عليهم : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) أي يميلون إليه ويشيرون إليه. وخص الكسائي هذا الحرف من بين سائره فقرأ بفتح الياء والحاء ؛ لأنه كان يحدّثه عن سفيان عن أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله كذلك.

(أَعْجَمِيٌ) والفرق بين الأعجمي والعجمي ، والعربي والإعرابي : أن الأعجمي لا يفصح وأنه كان نازلا بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. والإعرابي : البدوي ، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحا.

(وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) فصيح ، وأراد باللسان القرآن ؛ لأن العرب تقول للقصيدة واللغة : لسان ، كقول الشاعر :

لسان السوء تهديها إلينا

وحنت ما حسبتك أن تحينا (٢)

يعني باللسان القصيدة والكلمة.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ثمّ إن الله تعالى بعد ما أخبر عن إغراء المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتبين أنهم المفترون دونه ، فقال عز من قائل : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) لا محمدا.

روى يعلي بن الأشدق عن عبد الله بن حماد قال : قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال : «يكون ذلك». قال : قلت : يا رسول الله المؤمن يسرق؟ قال : «قد يكون ذلك». قال : قلت : يا رسول الله المؤمن يكذب؟

__________________

(١) زاد المسير : ٤ / ٣٦٠.

(٢) مغني اللبيب : ١ / ١٨١.

٤٤

قال : «لا ، قال الله (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ)» (١).

وروى [سهيل] بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول : إيّاكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) اختلف النحاة في العامل في (من) في قوله (مَنْ كَفَرَ) ومن يؤله (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً).

فقال نحاة الكوفة : جوابهما جميعا في قوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) إنّما هذان جزءان إن اجتمعا أحدهما منعقد بالآخر فجوابهما واحد ، كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه (٢).

وقال أهل البصرة : بل قوله (مَنْ كَفَرَ) مرفوع بالرد على الذي في قوله (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) ومعنى الكلام : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، ثمّ استثنى فقال (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في عمار وذلك ، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم ، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة ، وقيل : لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين في الإسلام رحمة الله ورضوانه عليهما ، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها.

قال قتادة : أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر مصون وقالوا له : أكفر بمحمد [ولم يتعمد] ذلك وقلبه كان مطمئنا فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن عمارا كفر. فقال : «كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه».

فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح عينيه ، وقال : «ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» [٩].

فأنزل الله هذه الآية (٣).

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب محمّد : إن هاجروا إلينا فإنا [لا نرى أنكم] منّا حتّى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا كارهين.

وروى ابن عون عن محمّد بن سيرين قال : تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن

__________________

(١) الدعوات للراوندي : ١١٨ ح ٢٧٥.

(٢) راجع تفسير الطبري : ١٤ / ٢٣٦.

(٣) أسباب النزول للواحدي : ١٩٠.

٤٥

أبي ربيعة ، وكان عياش من المهاجرين الأولين [وألجأ يضربه] (١) أن يكون بلغ ما بلغ أصحابه هذه [الفعلة] وكان قدم مهاجرا وكان برا بأمه ، فحلفت أن لا تأكل خبزا ولا تستظل بظل حتّى يرجع إليها ابنها قال : فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأمه ورجل آخر فأراد أن يرجع معه فقال له أبو جهل : أمك [لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست] ما استظلت ، فقال ابنها : بلى ألقاها ثمّ أرجع. فقال : أما إذا أتيت فلا [تعطين راحلتك] أحدا ، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحدا فانطلق هو وأبو جهل والرجل ، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل : لو تحوّل كل واحد منا على راحلة صاحبه فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا.

وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه وحلّفه باللات والعزى فلم يزل به حتّى أعطاه الذي أراد بلسانه ، ثمّ انطلق فرجع ، وفيه نزلت هذه الآية (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ).

وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي ، أكرهه سيّده على الكفر فكفر مكرها (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، وأسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر خير مع سيده.

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي فتح صدرا وكفر بالقبول وأتى على اختيار واستحباب (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الايمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان وأن اللسان هو المعبّر والترجمان.

حكم الآية

اتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر ، وعلى شتم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه ، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له.

وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه : فأجاز أهل العراق الطلاق المكره ، وكذلك قالوا في الإكراه على النذور والايمان [والرجعة] ونحوها ، رأوا ذلك [جائزا] ورووا في ذلك أحاديثا واهية الأسانيد.

وأما مالك والأوزاعي والشافعي : فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا : لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء ، ليس [وراءه] في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه ، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر.

وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيمرة وعبيد بن عمير ، وللشافعي

__________________

(١) هكذا في الأصل.

٤٦

في هذه المقالة مذهب ثالث : وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان ، ولم يجوّز ذلك إذا كان الإكراه من غير السلطان.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠))

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا) إلى قوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي [طردوا] ومنعوا من الإسلام [ففتنهم] المشركون (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) على الايمان والهجرة والجهاد (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي من بعد تلك الفتنة [والفعلة] (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخو أبي جهل من الرضاعة ، وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي ، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثمّ إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا ، فأنزل الله فيهم هذه الآية.

وقال الحسن وعكرمة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرخ ، وكان يكتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستزلّه الشيطان فلحق بالكفار ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ أسلم وحسن إسلامه ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.

وأما قوله (فُتِنُوا) فقرأ عبد الله بن عامر : (فَتَنُوا) بفتح الفاء والتاء ، ردّه إلى من أسلم من المشركين الذين فتنوا المسلمين واعتبر بقوله (جاهَدُوا وَصَبَرُوا) فأخبر بالفعل عنهم.

وقرأ الباقون : بضم الفاء وكسر التاء ، اعتبارا بما قبله إلا من أكره.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧))

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) تخاصم وتحتج عن نفسها بما أسلفت من خير

٤٧

وشر [مشتغلا بها لا تتفرّغ] إلى غيرها والنفس تذكر وتؤنث (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

روى أبو صالح المري عن جعفر بن زيد قال : قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لكعب الأحبار : يا كعب خوّفنا وحدّثنا حديثا [تنبهنا به] قال : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو [وافيت] القيامة بمثل عمل سبعين نقيبا ، لأتيت عليك ظلمات وأنت لا تهمل إلّا نفسك وأن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرّب ولا نبي مبعث إلا وقع جاثيا على [ركبتيه] حتّى إن إبراهيم ليدلي [بالخلة] فيقول : يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسالك إلا نفسي وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها).

وروى عكرمة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتّى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : يا رب الروح منك وأنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ، ويقول الجسد إنما خلقتني كالخشب ليس لي يد ابطش بها ولا عين أبصر بها ولا رجل أمشي بها ، فجاء هذا

كشعاع النور فيه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي فجدد عليه العذاب. قال : فيضرب الله لهما مثال أعمى ومقعدا دخلا حائطا فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يناله ، فنادى المقعد الأعمى : أتيني هاهنا حتّى تحملني ، قال : فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمر فعلى من يكون العذاب ، قالا : عليهما قال : عليكما جميعا العذاب ، (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) يعني مكة (كانَتْ آمِنَةً) لا يهاج أهلها ولا يغار أهلها (مُطْمَئِنَّةً) قارة بأهلها [لا يحتاجون] إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليها سائر العرب (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) يحمل إليها من البر والبحر ، نظيره قوله (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) جمع النعمة وقيل : جمع نعم ، وقيل : جمع نعماء مثل بأساء وأبوس (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرّقة والجيفة والكلاب الميتة [والعلهز] وهو الوبر يعالج بالدم ، ثم إن رؤساء مكة تكلموا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون (وَالْخَوْفِ) يعني بعوث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم.

وروى الخفاف والعباس عن أبي عمرو : (وَالْخَوْفَ) بالنصب بإيقاع أذاقها عليه (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

روى مشرح بن فأعان عن سليمان بن عمر بن عثمان قال : صدرنا من الحج مع حفصة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعثمان محصور بالمدينة ، فكانت تسأل عنه حين رأت راكبين ، فأرسلت إليهما تسألهما فقالا : قتل. فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها ـ يعني المدينة ـ القرية التي قال الله

٤٨

تعالى (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) الآية. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) إلى قوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) بفتح التاء والكاف بمعنى ولا تقولوا الكذب الذي تصف ألسنتكم وتكون (ما) للمصدر.

وقرأ ابن عبّاس : (الْكُذُبُ) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ويقولون : (أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) و (أَمَرَنا بِها ... إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) لا ينجون من عذاب الله (مَتاعٌ قَلِيلٌ) يعني الذي هم فيه من الدنيا متاع قليل أو لهم متاع قليل في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني في سورة الأنعام وهو قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّ‌مْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‌) (١) الآية.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يعني في سورة الأنعام وهو قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) (١) الآية.

(وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريم ذلك عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فجزيناهم ببغيهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) الآية قيل الهاء في قوله بعدها راجع إلى الجهالة ، وقيل : إلى المعصية لأن السوء بمعنى المعصية ، فردّ الكناية إلى المعنى ، وقيل : إلى الفعلة (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) أي معلما للخير يأتم بأهل الدنيا ، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة والأخلاق الجميلة ما يجتمع في أمة.

روى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) فقلت : إنما قال الله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً). فقال : أتدري ما الأمة وما

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٦.

٤٩

القانت؟ قلت : الله أعلم ، قال : الأمة الذي يعلّم الخير والقانت المطيع لله. وكذلك كان معاذ بن جبل فكان يعلّم الخير وكان مطيعا لله ولرسوله.

وقال مجاهد : كان مؤمنا وحده والناس كفار كلهم ، وقال قتادة : ليس من أهل دين إلا يقولونه ويرضونه.

شهر بن حوشب قال : لم يبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض ويخرج بركتها ، إلّا زمن إبراهيم فإنه كان وحده (قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) مسلما مستقيما على دين الإسلام (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) يعني الرسالة والحكمة والثناء الحسن.

وقال مقاتل بن حيان : يعني الصلوات في قول هذه الأمة : اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم ، [وقيل] أولادا أبرارا على الكبر. وقيل : القبول العام في جميع الأمم (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) حاجا مسلما (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جاء جبرئيل عليه‌السلام إلى إبراهيم عليه‌السلام فراح به إلى منى فصلى به الصلوات جميعا الظهر ، والعصر ، والمغرب والعشاء ، والفجر ثمّ غدا به إلى عرفات فصلى به الصلاتين جميعا الظهر والعصر ، ثمّ راح فوقف به حتّى إذا غربت الشمس أفاض به إلى جمع فصلى به الصلاتين المغرب والعشاء ، ثمّ بات به حتّى إذا كان كما عجل ما يصلي أحد من المسلمين صلى به [الفجر] ، ثمّ وقف حتّى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين أفاض به إلى منى فرمى الجمرة وذبح وحلق ، ثمّ أفاض به إلى البيت فطاف به» [١٠] فأوحى الله تعالى إلى محمّد (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) يقول : ما فرض الله تعالى بتعظيم السبت وتحريمه إلّا (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ).

فقال بعضهم : هو أعظم الأيام ، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثمّ سبت يوم السبت.

وقال آخرون : بل أعظم الله يوم الأحد لأنه اليوم الذي ابتدأ الله فيه خلق الأشياء واختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم تعظيمه ، وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فرض عليهم تعظيمه واستحلوه.

__________________

(١) الدر المنثور : ٤ / ١٣٤.

٥٠

قال الكلبي : أمرهم موسى بالجمعة فقال : تفرغوا لله عزوجل في كل سبعة أيام يوما واحدا فأعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصناعتكم ، وستة أيام لصناعتكم ، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلّا اليوم الذي فرض الله من الخلق يوم السبت ، فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه.

ثمّ جاءهم عيسى بن مريم بالجمعة فقالوا : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا ، يعنون اليهود واتخذوا [يوم] الأحد فقال الله (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ).

قال قتادة : (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) يعني اليهود واستحله بعضهم وحرمه بعضهم.

روى همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد» [١١] (١).

روى المسيب عن أبي سنان عن مكحول الشامي قال : كان لعمر بن الخطاب على يهودي حق فلقيه عمر فقال : والذي أصطفى أبا القاسم على البشر لا تعمل لي وأنا أطلبك [بشيء].

فقال اليهودي : ما اصطفى الله أبا القاسم على البشر ، فرفع عمر عليه‌السلام يده فلطم عينه ، فقال اليهودي : بيني وبينك أبو القاسم ، فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال اليهودي : إن عمر زعم إن الله اصطفاك على البشر وإني زعمت أن الله لم يصطفك على البشر ، فرفع يده فلطمني ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أنت يا عمر فأرضه من لطمته ، بلى يا يهودي ، آدم صفي الله ، وإبراهيم خليل الله ، وموسى نجي الله ، وعيسى روح الله ، وأنا حبيب الله ، بلى يا يهودي اسمان من أسماء الله تعالى سمّى بهما أمتي ، سمّى نفسه السلام وسمّى أمتي المسلمين ، وسمّى نفسه المؤمن وسمّى أمتي المؤمنين ، بلى يا يهودي طلبتم يوما وذخر لنا ـ يعني يوم الجمعة ـ فاليوم لنا عيد وغدا لكم وبعد غد للنصارى ، بلى يا يهودي أنتم الأولون ونحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بلى يا يهودي إن الجنة محرّمة على الأنبياء حتّى أدخلها أنا وإنها لمحرمة على الأمم حتّى يدخلها أمتي» [١٢] (٢).

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) دين ربك (بِالْحِكْمَةِ) بالقرآن (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) يعني مواعظ القرآن (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن.

قال المفسرون : أعرض عن أذاهم ولا تقصّر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق ،

__________________

(١) كتاب الام للشافعي : ١ / ٢١٧ ، ومسند أحمد : ٢ / ٣١٢.

(٢) المصنف لابن أبي شيبة : ٧ / ٤٤٤ ح ١٦٢.

٥١

ونسختها آية القتال (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ).

قال أكثر المفسرين : سورة النحل مكية كلها إلّا ثلاث آيات (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها ، فإنها نزلت بالمدينة في شهداء أحد ، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلهم يوم أحد في تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة ، حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا وقد مثّل به غير حنظلة الراهب فإن أباه أبو عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك ، فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لتزيدنّ على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ولنفعلنّ ولنفعلنّ ، ووقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عمّه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وإذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمصته ثمّ استرطبتها لتأكلها ، فلم تلبث في بطنها حتّى رمت بها ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا ، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئا من جسده النار» فلما نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحمة الله عليك فإنك ما علمتك ما كنت إلا فعالا للخيرات وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتّى تحشر من أفواه شتى ، أم والله لئن أظفرني الله عليهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» [١٣] (١).

فأنزل الله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) الآية فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل نصبر» [١٤] فأمسك عمّا أراد وكفّر يمينه.

وقال ابن عبّاس والضحاك : وكان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ، فلمّا أعز الله الإسلام وأهله ونزلت براءة وأمروا بالجهاد ، نسخت هذه الآية.

وقال قوم : بل هذه الآية محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالم أكثر مما نال الظالم منه أمر بالجزاء أو العفو ونهى عن الاعتداء. وهذا قول النخعي والثوري ومجاهد وابن سيرين ، ثمّ قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي بمعونة الله وتوفيقه (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) في إعراضهم عنك (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ).

قرأها بكسر الضاد هاهنا وفي سورة النحل ابن كثير والباقون : بالفتح واختاره أبو عبيد ، وقال : لأن الضيق في قلة المعاش وفي المساكن ، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه ضيق.

وقال أبو عمرو وأهل البصرة : الضّيق بفتح الضاد ، الغم والضيق بالكسر [الشدّة].

__________________

(١) المستدرك للحاكم : ٣ / ١٩٧ ، وأسباب النزول للواحدي : ١٩٢.

٥٢

وقال الفراء وأهل الكوفة : هما لغتان معروفتان في كلام العرب مثل رطل ورطل.

وقال ابن قتيبة : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهيّن ولين وليّن ، وعلى هذا التأويل صفته كأنه قال : ولا تكن في أمر ضيق.

(مِمَّا يَمْكُرُونَ) من مكرهم (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) بالعون والنصرة.

روى شعبة عن أبي يونس عن أبي قزعة عن هرم بن حيان وقالوا له : أوصنا.

قال : أوصيكم بالآيات الأواخر من سورة النحل (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) إلى آخر السورة.

٥٣

سورة بني إسرائيل (الإسراء)

مكية. وهي ستة ألف وأربعمائة وستون حرفا ،

وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، ومائة وإحدى عشر آية

روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين أعطى في الجنة قنطارين من الأجر والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والاوقية منها خير من الدنيا [وما فيها]» [١٥] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً).

عن طلحة بن عبيد الله قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير (سُبْحانَ اللهِ). قال : «تنزيه الله عن كل سوء» ويكون سبحان بمعنى التعجب.

قال الأعشى :

أقول لما جاءني فخر

سبحان من علقمة الفاخر

وفي بعض الحديث تفسير (سُبْحانَ اللهِ) : براءة الله من السوء (٢).

فالآية متضمنة للمعنيين جميعا.

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). اختلفوا فيه : قال بعضهم : كان أسراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مسجد مكة.

__________________

(١) مجمع البيان : ٦ / ٢١٣.

(٢) في هامش المخطوط : سبحان علم التسبيح كعثمان للرجل وانتصابه فعل مضمر متروك إظهاره تقديره : سبح الله سبحان ثم ذكر سبحان منزلة الفعل [فدل] على التنزيه من جميع القبائح التي يفعلها أعداءه.

٥٤

يدل عليه ما روى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبرئيل بالبراق ...» وذكر حديث المعراج [١٦] (١).

وقال الآخرون : عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دار أم هاني بنت أبي طالب أخت علي رضي‌الله‌عنه وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي.

وقالوا : معنى قوله (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) من الحرم ، لأن الحرم كله مسجد.

يدل عليه ما روى الكلبي عن أبي صالح عن باذان عن أم هاني بنت أبي طالب أنها كانت تقول : ما أسرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى في بيتي العشاء الآخرة فصليت معه ، ثمّ قمت فنمت وتركته في مصلاه فلم انتبه حتّى أنبهني لصلاة الغداة ، قال : «قومي يا أم هاني أحدثك العجب» [١٧].

فقلت : كل حديثك العجب بأبي أنت وأمي فقام وصلى الغداة فصليت معه فلما انصرف قال : «يا أم هاني لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بعد نومك ثمّ أتاني جبرئيل وأنا في مصلاي هذا فقال : يا محمّد أخرج فخرجت إلى الباب فإذا بملك راكب على دابة فقال لي : اركب فركبت فسارت بي إلى بيت المقدس ، فإذا أتيت على واد طالت يدا الدابة وقصرت رجلاها ، فإذا أتيت على عقبة طالت رجلاها وقصرت يداها حتّى إذا انتهيت إلى بيت المقدس فصليت فيه ثمّ صليت صلاة الغداة معكم الآن كما تروني» (٢).

قال مقاتل : كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة.

(إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) يعني بيت المقدس ، سمّي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) بالماء والأنهار والأشجار والثمار.

وقال مجاهد : سمّاه مباركا لأنه مقرّ الأنبياء ، وفيه مهبط الملائكة والوحي ، وهو الصخرة ، ومنه يحشر الناس يوم القيامة.

(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) عجائب أمرنا (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

وأما حديث المسرى ، فاقتصرت به على الأخبار المأثورة المشهورة دون المناكير والأحاديث الواهية الأسانيد وجمعتها على نسق واحد مختصر ، ليكون أعلى في الاستماع وأدنى إلى الانتفاع ، وهو ما روى الزهري عن ابن سلمة بن عبد الرحمن قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) راجع الدر المنثور : ٤ / ١٥٧ ، وتاريخ بغداد : ١١ / ٢٥٧.

(٢) مجمع الزوائد : ١ / ٧٧ ، والمعجم الأوسط : ٤ / ١٦٥.

٥٥

وروى السدي عن محمّد بن السائب عن باذان عن ابن عبّاس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دخل كلام بعضهم في بعض قالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان ، جاءني جبرئيل عليه‌السلام فقال يا محمّد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل : ائتني بطشت من ماء زمزم لكيما [وعطر قلبه] (١) وأشرح له صدره قال : فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم ، فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملاه حلما وعلما وإيمانا وختم بين كتفيّ بخاتم النبوة ، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي حتّى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال لملك : ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر ، فقال : توضأ فتوضأت ثمّ قال لي : انطلق يا محمّد. قلت : إلى اين؟ قال : إلى ربك ورب كل شيء ، فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد فإذا أنا بالبراق ـ دابة فوق الحمار ودون البغل ـ خدّه كخد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درة بيضاء عليه رحل من رحائل الجنة ، وله جناحان في فخذيه يمر مثل البرق خطوة منتهى طرفه فقال لي : اركب ، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام.

قال : فلما وضعت يديّ عليه شمس (٢) واستعصى عليّ ، فقال جبرئيل : مه يا براق ، فقال البراق : يا جبرئيل [مس ظهري] (٣) فقال جبرئيل : هل مسست [ظهرا] (٤) قال : لا والله إلّا إني مررت يوما على [نصاب إبل] فمسحت يدي على رؤسهما وقلت : إن قوما يعبدونكما من دون الله ضلال. فقال جبرئيل : يا براق أما تستحي فوالله ما ركبك مذ كنت قط نبي أكرم على الله من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فارتعش البراق وأنصب عرقا حياء مني ، ثمّ خفض لي حتى لزق بالأرض ، فركبته واستويت عليه قام بي جبرئيل نحو المسجد الأقصى بخطوا البراق مدّ البصر يرسل إلى جنبي لا يفوتني ولا أفوته حينا أنا في مسيري إذا جاءني نداء عن يميني قال : يا محمّد على رسلك أسلك بقولها ثلاثا فلم أرفق عليه ثمّ مضيت حتّى جاوزته ، فإذا أنا بامرأة عجوز رفعت لي عليها من كل زينة وبهجة تقول : يا محمّد إليّ ، فلم ألتفت إليها وقلت : يا جبرئيل من هذا الذي ناداني عن يميني؟ فقال : داعية اليهود والذي نفسي بيده لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك والذي ناداك من يسارك داعية النصارى ، والذي نفسي بيده لو أجبت لتنصّرت أمتك من بعدك ، فأما التي رفعت لك بهجتها وزينتها فهي الدنيا لو التويت إليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) شمست الدابة : شردت وجمحت وضعت ظهرها.

(٣) هكذا في الأصل.

(٤) هكذا في الأصل.

٥٦

ثمّ أتيت بإناءين أحدهما اللبن والآخر خمرة فقيل لي : اشرب أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته. فقال لي جبرئيل : أصبت الفطرة أنت وأمتك ، أما إنك لو أخذت الخمر لخمرت أمتك من بعدك قال : ثمّ سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسار معه جبرئيل فأتى على قوم يزرعون ويحصدون في يوم واحد ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من هؤلاء؟ فقال : هؤلاء المهاجرون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف ، وما أنفقوا (مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

قال : ثمّ أتى على قوم يرضخ رؤسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيئا. قال : ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.

ثمّ أتى على قوم إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع فيسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع ، والزقوم قد صف جهنم وحجارتها فقال : ما هؤلاء يا جبرئيل؟

فقال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ ... وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) ثمّ أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج طيب ولحم آخر خبيث ، فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب ، قال : ما هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : هذا الرجل من يكون عنده المرأة حلالا طيبا فأتى امرأة خبيثة فيبيت معها حتّى يصبح ، فالمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي الرجل الخبيث فتبيت معه حتّى تصبح ، ثمّ أتى على [امرأة] في الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء آخر إلا فتّته. فقال : ما هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا مثل أمتك يقعدون على الطريق فيقطعون بمثل (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) (٢) الآية ثمّ أتى على رجل جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال : ما هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا الرجل من أمتك عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يزيد عليها ، ثمّ أتى على قوم يقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد ، كلما قرضت عادت كما كانت. قال : ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة ، ثمّ أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع.

قال : ما هذا؟ قال : هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثمّ يندم عليها ولا يستطيع أن يردها. قال : ثمّ أتى واد فوجد ريحا طيبة باردة وصوتا. قال : ما هذه الريح الطيبة وما هذا الصوت؟ قال : هذا صوت الجنة ، فقال : ربّ أرني بما وعدتني فقد كثر غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ولبني وخمري ومائي ، فأتني بما وعدتني. فقال : لك كل مؤمن ومؤمنة من آمن بي وبرسلي

__________________

(١) سورة فصّلت : ٤٦.

(٢) سورة الأعراف : ٥٦.

٥٧

وعمل صالحا ولم يشرك بي ولم يتخذ من دوني أندادا ، ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل عليّ كفيته ، إني (أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لا أخلف الميعاد قد أفلح المؤمنين تبارك (اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) قال : قد رضيت. قال ثمّ أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنه فقال : ما هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا صوت جهنم تقول : [يا ربّ آتني] (١) ما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي ، وقد بعد قعري واشتد حرّي ائتني بما وعدتني ، قال : لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ).

قالت : قد رضيت يا رب ، ثمّ سار ومعه جبرئيل فقال له جبرئيل : انزل فصل. قال : فنزلت وصليت ، فقال : أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة إلى الله. ثمّ قال : انزل فصلّ قال فنزلت فصليت فقال : أتدري أين صليت! صليت بطور سيناء حيث (كَلَّمَ اللهُ مُوسى) ثمّ قال : انزل فصل ، قال : فنزلت فصليت. فقال : أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه‌السلام قال : ثمّ مضينا حتّى أتينا بيت المقدس فلما انتهيت إليه إذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونني بالبشارة والكرامة من عند رب العزة يقولون : السلام عليك يا أول ويا آخر ويا حاشر ، قال : قلت يا جبرئيل ما تحيتهم إياي؟ قال : إنك أول من تنشر عنه الأرض وعن أمتك ، وأول شافع وأول مشفع وإنك آخر الأنبياء وإن الحشر لك وبأمتك يعني حشر يوم القيامة».

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثمّ جاوزناهم حتّى انتهينا إلى باب المسجد ، فأنزلني جبرئيل وربط البراق بالحلقة الي كانت تربط بها الأنبياء عليه‌السلام بحطام عليه من حرير الجنة ، فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين» [١٨] (٢).

وفي حديث أبي العالية : «أرواح الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله قبلي من لدن إدريس ونوح إلى عيسى قد جمعهم الله عزوجل ، فسلموا عليّ وحيوني بمثل تحية الملائكة قلت : يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال : إخوتك الأنبياء ، زعمت قريش أن لله شريكا ، واليهود والنصارى أن لله ولدا ، سل هؤلاء المرسلين هل لله شريك؟ وذلك قوله تعالى (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٣) فأقرّوا بالربوبية لله تعالى ثمّ جمعهم والملائكة صفوفا فقدمني وأمرني أن أصلي بهم فصليت بهم ركعتين. ثمّ إن الأنبياء أثنوا على ربهم فقال إبراهيم عليه‌السلام الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني (مُلْكاً عَظِيماً) وجعلني

__________________

(١) عن تفسير الطبري : ١٥ / ١٢.

(٢) راجع تفسير الطبري : ١٥ / ١٠ ـ ١٦.

(٣) سورة الزخرف : ٤٥.

٥٨

(أُمَّةً قانِتاً) يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليّ (بَرْداً وَسَلاماً). ثمّ إن موسى عليه‌السلام أثنى على ربّه فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي كلمني تكليما وجعل هلاك فرعون منه ونجاة بني إسرائيل على يديّ ، وجعل من أمتي قوما (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ). ثمّ إن داود عليه‌السلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير وأعطاني (الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ). ثمّ إن سليمان عليه‌السلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي جنود الشياطين يعملون لي ما شئت (مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلا وآتاني ملكا عظيما (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب.

ثمّ إن عيسى عليه‌السلام أثنى على ربه فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي جعلني كلمة منه وجعلني أخلق (مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) وجعلني (أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) ورفعني وطهرني وأعاذني وأمّي (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فلم يكن للشيطان علينا سبيل.

ثمّ إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كلكم قد أثنى على ربه وأنا مثن على ربي فقال : الحمد لله الذي أرسلني (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) و (كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) وأنزل عليّ القرآن (فيه بيان كل شيء) وجعل أمتي (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) وجعل أمتي (أُمَّةً وَسَطاً) (٢) وجعل أمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما.

فقال إبراهيم عليه‌السلام : بهذا أفضلكم محمّد ، ثمّ أتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها : إناء فيه ماء فقيل له : اشرب فشرب منه يسيرا ، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له : اشرب فشرب منه حتّى روى ، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له : اشرب ، فقال : لا أريده قد رويت. فقال له جبرئيل : قد أصبت أما إنها ستحرم على أمتك ، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلّا قليل ، ولو رويت من الماء لغرقت وغرقت أمتك ثمّ أخذ جبرئيل عليه‌السلام بيدي فانطلق بي إلى الصخرة فصعد بي إليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثله حسنا وجمالا لم ينظر الناظرون إلى شيء قط أحسن منه. ومنه (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء إحدى عارضيه ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء درجة من فضة ودرجة من ذهب ودرجة من زمرد مكلل بالدر والياقوت وهو المعراج الذي ينطلق منه ملك الموت لقبض الأرواح [لمغاراتهم فيمنكم شخص أسرعت] (٣) عنه المعرفة إذا عاينه لحسنه ، فاحتملني جبرئيل حتّى

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.

(٢) سورة آل عمران : ١١٠.

(٣) هكذا في الأصل.

٥٩

وضعني على جناحه ثمّ ارتفع بي إلى سماء الدنيا من ذلك المعراج ، فقرع الباب فقيل : من؟ قال : أنا جبرئيل. قال : ومن معك؟ قال : محمّد.

قال : أوقد بعث محمّد؟ قال : نعم. قال : مرحبا به حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب ودخلنا. قال : فبينما أنا أسير في السماء الدنيا إذ رأيت ديكا له زغب أخضر ورأس أبيض بياض ريشه كأشد بياض ما رأيته قط ، وزغب أخضر تحت ريشه كأشد خضرة ما رأيتها قط وإذا رجلا في تخوم الأرض السابعة السفلى ورأسه عند العرش مثنيّ عنقه تحت العرش له جناحان من منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فإذا كان في بعض [الميل] نشر جناحيه وخفق بهما ، وصرخ بالتسبيح لله عزوجل يقول سبحان الملك القدوس الكبير المتعال (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ فإذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت ديكة الأرض كلها ، ثمّ إذا هاج بنحو ما فعلوا في السماء صاحت ديكة الأرض جوابا له بالتسبيح لله عزوجل بنحو قوله.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقا إليه أن أراه ثانية».

قال : ثمّ مررت بملك نصف جسده مما يلي رأسه نار والنصف الآخر ثلج وما بينهم رتق ، فلا النار يذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار ، وهو قائم ينادي بصوت له حسن رفيع : اللهم مؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين.

فقلت : يا جبرئيل من هذا؟ قال : ملك من الملائكة يقال له حبيب وكلّه الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين ، ما أنصحه لأهل الأرض هذا قوله منذ خلقه الله تعالى. قال : ثمّ مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جمع الدنيا بين ركبتيه ، وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا ينظر فيه كهيئة الحزين. فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ ما مررت أنا بملك أنا أشد خوفا منه شيء من هذا؟ قال : وما يمنعك كلّنا بمنزلتك ، هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح وهو أشد الملائكة عملا وأدأبهم. قلت : يا جبرئيل كل من مات نظر إلى هذا؟ قال : نعم. قلت : كفى بالموت من طامة. فقال : يا محمّد ما بعد الموت أطمّ وأعظم ، قلت : يا جبرئيل أدنني من ملك الموت أسلم عليه وأساله فأدناني منه فسلمت عليه فأومى إليّ فقال له جبرئيل : هذا محمّد نبي الرحمة ورسول العرب فرحب بي وحياني وأحسن بشارتي وإكرامي.

وقال : أبشر يا محمّد فإني ارى الخير كله في أمتك. فقلت : الحمد لله المنان بالنعم ، ما هذا اللوح الذي بين يديك؟ قال : مكتوب فيه آجال الخلائق.

قلت : فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية؟ قال : تلك في لوح آخر قد علمت خلقها ، ولذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه خلّفت عليها ، فقلت : يا ملك

٦٠