الكشف والبيان - ج ٦

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٦

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٧

١
٢

٣
٤

سورة النحل

مكية ، إلى قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخره وهي سبعة ألف وسبعمائة

وسبعة أحرف ، والفان وثمانمائة وأربعون كلمة ، ومائة وثمان وعشرون آية

أبو أمامة الباهلي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ومن قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية» [١] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

(أَتى أَمْرُ اللهِ) أي جاء فدنا ، واختلفوا في هذا الأمر ما هو.

فقال قوم : هو الساعة.

قال ابن عبّاس : لما أنزل الله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا يزعم [أن] يوم القيامة قد قرب فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نرى شيئا ، فأنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) (٢) الآية.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٦ / ١٣٥.

(٢) سورة الأنبياء : ١.

٥

فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمّد ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فأنزل الله (أَتى أَمْرُ اللهِ) (١) فوثب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنوا فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ـ وأشار بإصبعيه ـ إن كادت لتسبقني» [٢] (٢).

وقال ابن عبّاس : كان بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة. وأن جبرئيل لما مرّ بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : الله أكبر قد قامت الساعة.

قال الآخرون : الأمر هاهنا العذاب بالسيف ، وهو جواب للنضر بن الحرث حين قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (٣) ـ الآية ـ يستعجل العذاب ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا من الجواب المقصور فقتل النضر يوم بدر صبرا.

وقال الضحاك : (أَمْرُ اللهِ) : الأحكام والحدود والفرائض.

والقول الأوّل أولى بالصواب ؛ لأنه لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة مستعجل بفريضة الله قبل أن تفرض عليهم ، وأمّا مستعجل العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرا.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ).

قرأه العامّة : بضم الياء وكسر الزاي المشدد ، الملائكة نصب. وخففه معظم أهل مكة والبصرة بمعنى ينزل الله.

وقرأ المفضل وروح وسهيل وزيد : يَنْزَلُ بفتح الياء والزاي ، الْمَلائِكَةُ رفع.

وقرأ الأعمش : يَنْزِلُ بفتح الياء وجزم النون وكسر الزاي من النزول ، والْمَلائِكَةُ رفع على هاتين القرائتين والفعل للملائكة.

(بِالرُّوحِ) بالوحي سمّاه روحا ، لأنه تحيا به القلوب والحق ، ويموت به الكفر والباطل.

وقال عطاء : بالنبوة فطرة يلقى الروح من أمره.

قتادة : بالرحمة.

أبو عبيدة : (بِالرُّوحِ) ، يعني : مع الروح وهو جبرئيل.

(مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ) محله نصب بنزع الخافض ، ومجازه بأن (أَنْذِرُوا) أعلموا ، من قولهم : (أَنْذِرْ بِهِ) أي أعلم (أَنَّهُ) في محل النصب بوقوع الإنذار عليه.

__________________

(١) سورة النحل : ١.

(٢) أسباب النزول : ١٨٧.

(٣) سورة الأنفال : ٣٢.

٦

(لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) يجادل بالباطل (مُبِينٌ) نظيره قوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (١) نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمّد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ نظيرها قوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) (٢) إلى آخر السورة نزلت في هذه القصة أيضا.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) يعني الإبل والبقر والغنم (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) يعني من أوبارها وأصوافها وأشعارها ملابس و [لحفا] وقطن يستدفئون (وَمَنافِعُ) بالنسل والدرّ والركوب والحمل وغيرها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) يعني لحومها (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ) أي حين يردّونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوى إليها. يقال : أراح فلان ماشيته يريحها إراحة ، والمكان الذي يراح إليه : مراح.

(وَحِينَ تَسْرَحُونَ) اي يخرجونها بالغداة من مراعيها إلى مسارحها. يقال : سرّح ماشيته يسرّحها سرحا وسروحا إذا أخرجها للرعي ، وسرحت الماشية سروحا إذا رعت.

قال قتادة : وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسنمتها.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ) آخر غير بلدكم.

عكرمة : البلد مكة.

(لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) أي تكلفتموه (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ).

قرأه العامّة : بكسر الشين ، ولها معنيان : أحدهما : الجهد والمشقة.

والثاني : النصف ، يعني (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) من القوة وذهاب شق منها حتّى لم تبلغوه إلّا بنصف قوى أنفسكم وذهاب نصفها الآخر.

وقرأ أبو جعفر : بِشَقِّ بفتح الشين. وهما لغتان مثل برَق وبرِق ، وحَصن وحصِن ، ورطل ورطل.

وينشد قول النمر بن تولب : بكسر الشين.

وذي إبل يسعى ويحسبها له

أخي نصب من شقها ودؤوب (٣)

ويجوز أن يكون بمعنى المصدر من شققت عليه يشق شقا.

__________________

(١) سورة النساء : ١٠٥.

(٢) سورة يس : ٧٧.

(٣) لسان العرب : ١٠ / ١٨٤.

٧

(إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) بخلقه حيث خلق لهم هذه الأشياء وهيّأ لهم هذه المنافع والمرافق.

(وَالْخَيْلَ) يعني وخلق الخيل وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء (وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها.

واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على تحريم لحوم الخيل ، روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنه سئل عن أكل لحوم الخيل فكرهها وتلا هذه الآية : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً).

قال : هو المركوب ، وقرأ التي قبلها : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) الآية ، وقال : هذه للأكل.

وقال : الحكم بلحوم الخيل حرام في كتاب الله ، ثمّ قرأ هذه الآيات ، وقال : جعل هذه للأكل وهذا للركوب.

وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء ، واحتجوا أيضا في ذلك بما روى صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جدّه عن خالد بن الوليد أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير» [٣] (١).

وقال الآخرون : لا بأس بأكل لحوم الخيل ، وليس في هذه الآية دليل على تحريم شيء ، وإنما عرّف الله عباده بهذه الآية نعمه عليهم ونبههم على حجج وحدانيته وربوبيته وكمال قدرته ، وإليه ذهب الشافعي واحتج بما روى محمّد بن علي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في لحوم الخيل.

وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال : أطعمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني يوم خيبر ـ لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر.

وروى سفيان عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر قال : كنا نأكل لحوم الخيل ، قلت : والبغال؟ قال : لا.

هشام عن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي‌الله‌عنه قالت : أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

سفيان عن منصور عن إبراهيم قال : نحر أصحابنا فرسا في النخع فأكلوا منه ولم يروا به بأسا.

(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

__________________

(١) سنن النسائي : ٧ / ٢٠٢.

٨

قال بعض المفسرين : يعني ما أعدّ في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها ما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر.

قال قتادة : يعني السوس في الثياب ، والدود في الفواكه.

وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) قال : يريد أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع.

يدخل جبرئيل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمته فينتفض فيخرج الله من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يعني طريق الحق لكم ، والقصد : الطريق المستقيم ، وقيل على الله القصد بكم إلى الدين (وَمِنْها جائِرٌ) يعني ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج ، وإنما أنث للكناية ، لأن لفظ السبيل واحد ومعناها جمع ، والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز ، والقصد من السبيل هو الحنيفية دين الإسلام ، والجائر منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الملل والكفرة.

وقال جابر بن عبد الله : (قَصْدُ السَّبِيلِ) يعني بيان الشرائع والفرائض ، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله : (قَصْدُ السَّبِيلِ) السنّة ، (وَمِنْها جائِرٌ) يعني الأهواء والبدع ، بيانه قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) (١) الآية. وفي مصحف عبد الله : ومنكم جائز.

(وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) نظيرها قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٢) وقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٣).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٥٣.

(٢) سورة يونس : ٩٩.

(٣) سورة السجدة : ١٣.

٩

بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ) أي من ذلك الماء (شَرابٌ) يشربونه (وَمِنْهُ شَجَرٌ) شراب أشجاركم حياة غروسكم ونباتكم (فِيهِ) ، في الشجرة وهو اسم [عام] (١) ، وإنما ذكر الكناية ، لأنه ردّه إلى لفظ الشجر.

(تُسِيمُونَ) ترعون ، وننسيكم يقال : أسام فلان إبله يسيمها أسامة ، إذا رعاها ، فهو مسيم وسامت هي تسوم فهي سائمة.

قال الشاعر :

ومشى القوم بالعماد إلى

المرعى وأعيا المسيم اين المساق (٢)

يعني يدخلون العماد تحت بطون الزرعى [...] (٣).

قال الشاعر :

أولى لك ابن مسيمة الإجمال (٤)

أي يا ابن راعية الإبل.

(يُنْبِتُ لَكُمْ). قرأه العامّة بالياء يعني : (يُنْبِتُ لَكُمْ). وقرأ عاصم برواية المفضل وحماد ويحيى بالنون ، والأوّل الاختيار.

(بِهِ) بالماء الذي أنزل (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) قرأه العامّة بالنصب نسقا على ما قبله.

وروى حفص عن عاصم ، (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) : بالرفع على الخبر والابتداء ، وقرأ ابن عامر وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ كلها بالرفع على الابتداء والخبر.

(بِأَمْرِهِ) بأذنه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَما ذَرَأَ) يعنى وسخّر ما ذرأ (لَكُمْ) أي

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) جامع البيان للطبري : ١٤ / ١١٥ ، وبتفاوت في الدر المنثور : ٤ / ١١٢.

(٣) كلمات غير مقروءة.

(٤) جامع البيان للطبري : ٣ / ٢٧٨.

١٠

خلق لأجلكم من الدواب والأشجار والثمار وغيرها (فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) نصب على الحال.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) يعني السمك (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً) يعني اللؤلؤ والمرجان.

روى حماد بن يحيى عن إسماعيل بن عبد الملك قال : جاء رجل إلى ابن جعفر قال : في حليّ النساء صدقة؟ قال : لا ، هي كما قال الله : (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها).

(تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ).

قال ابن عبّاس : جواري.

سعيد بن جبير : معترضة. قتادة ومقاتل : [تذهب وتجيء] (١) مقبلة ومدبرة بريح واحدة.

الحسن : مواقر.

عكرمة والفراء والأخفش : شقاق يشق الماء بجناحيها.

مجاهد : يمخر السفن الرياح ولا يمخر الريح من السفن إلّا الملك العظيم.

أبو عبيدة : سوابح.

وأصل المخرّ الدفع والشق ، ومنه مخر الأرض ، ويقال : امتخرت الريح وتمخّرتها ، إذا نظرت من أين مبعوثها ، وفي الحديث : «إذا أراد أحدكم البول فليمتخر الريح» (٢) أي لينظر من أين مخرها وهبوبها فيستدبرها حتّى لا يرد عليه البول.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعني التجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) يعني لئلّا تميد بكم ، أي تتحرك وتميل ، والميل : هو الاضطراب والتكفّؤ ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر : ميد.

قال وهب : لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتمور ، فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرّة أحدا على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ولم تدر الملائكة ممّ خلقت الجبال.

وقال علي رضي‌الله‌عنه : لما خلق الله الأرض رفضت وقالت : أي رب أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطيئة ويلقون عليّ الخبث ، فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٨٩.

(٢) نسبه إلى واصل في تفسير القرطبي : ١٠ / ٨٩.

١١

(وَأَنْهاراً) يعني وجعل فيها أنهارا (وَسُبُلاً) طرقا مختلفة (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ) فلا تضلون ولا تتحيرون ، يعني معالم الطرق.

وقال بعضهم : هاهنا تم الكلام ثمّ ابتدأ.

(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).

قال محمّد بن كعب القرظي والكلبي : أراد بالعلامات الجبال ، فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل.

وقال مجاهد وإبراهيم : أراد بهما جميعا النجوم ، فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به.

قال السدي : يعني بالثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي فيهتدون إلى الطرق والقبلة.

قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاث أشياء : لتكون زينة للسماء ، وعلامات للطريق ورجوما للشياطين. فمن قال غير هذا فقد قال برأيه وتكلّف ما لا علم به.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ) يعني الله تعالى (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) يعني الأصنام (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) نظيرها قوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (١) وقوله عزوجل : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) (٢) (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) لما كان منكم من تقصير شكر نعمه (رَحِيمٌ) بكم حيث وسّع عليكم نعمه ولم يقطعها منكم بتقصيركم ومعاصيكم. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ).

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)

__________________

(١) سورة لقمان : ١١.

(٢) سورة فاطر : ٤٠.

١٢

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

قرأه العامّة بالتاء ، لأن ما قبله كلّه خطاب.

وقرأ يعقوب وعاصم وسهل بالياء.

(لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ثمّ وصف الأوثان فقال : (أَمْواتٌ) أي هي أموات (غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ) يعني الأصنام (أَيَّانَ) متى (يُبْعَثُونَ) عبّر عنها كما عبّر عن الآدميين (١) وقد مضت هذه المسألة ، وقيل : وما يدري الكفّار عبدة الأوثان متى يبعثون.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) جاحدة غير عارفة (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) متعظّمون (لا جَرَمَ) حقا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يعني إذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم مشركوا قريش الذين اقتسموا عقاب مكة وأبوابهم ، سألهم الحجاج والوفد أيام الموسم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعما أنزل عليه قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أحاديثهم وأباطيلهم.

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) ذنوب أنفسهم التي هم عليها مقيمون (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فيصدونهم عن الإيمان (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ألا ساء الوزر الذي يحملون ، نظيرها قوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) (٢) الآية.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّما داع دعا إلى ضلاله فاتّبع ، فإن عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ، وأيّما داع دعا إلى هدى فاتّبع ، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» [٤] (٣).

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ولزم منها الصعود إلى السماء ينظر ويزعم إلى إله إبراهيم ، وقد مضت هذه القصة.

قال ابن عبّاس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراعا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٩٤ وزاد : «لأنهم زعموا أنها تعقل عنهم وتعلم وتشفع لهم عند الله تعالى فجرى خطابهم على ذلك» ولم ينسبه للمصنف كعادته.

(٢) سورة العنكبوت : ١٣.

(٣) الجامع الصغير : ١ / ٤٦٦ ح ٣٠١٠.

١٣

وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين فهبّت ريح وألقت رأسها في البحر وخرّ عليهم الباقي وانفكت بيوتهم وأحدث نمرود ، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل ، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية وذلك قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي قصد تخريب بنيانهم من أصولها فأتاها أمر الله وهو الريح التي خرّبتها (فَخَرَّ) فسقط (عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) يعني أعلى البيوت ، (مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من مأمنهم (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) يذلّهم بالعذاب. (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) تحالفون فيهم لا ينقذونكم فيدفعوا عنكم العذاب.

وقرأ العامّة على فتح النون من قوله : (تُشَاقُّونَ) إلّا نافع فإنه كسرها على الإضافة (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم المؤمنون (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالكفر نصب على الحال ، أي في حال كفرهم (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي استسلموا وانقادوا وقالوا : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) شرك ، فقالت لهم الملائكة : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قال عكرمة : عنى بذلك من قتل من قريش وأهل مكة ببدر وقد أخرج إليها كرها.

(فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الإيمان.

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه ، فيقولون : شاعر وساحر وكاهن وكاذب ومجنون [ويفرّق الأخوان] (١) ويقولون : إنه لو لم تلقه خير لك ، فيقول السائل : أنا شرّ داخل إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وأستطلع أمر محمّد أو ألقاه ، فيدخل مكة فيرى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث ، فذلك قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً).

__________________

(١) المخطوط مشوش والظاهر ما أثبتناه.

١٤

فإن قيل : لم ارتفع جواب المشركين في قولهم (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وانتصب في قوله (خَيْراً).

فالجواب : أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل فلما سئلوا قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يعني الذي يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أساطير الأولين ، والمؤمنين إنما كانوا مقرّين بالتنزيل ، فإذا قيل لهم : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) (١) يعنون أنزل خيرا.

ثمّ ابتدأ فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) كرامة من الله ، (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) ثمّ فسّرها فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) بدل عن الدار ، فلذلك ارتفع (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) مؤمنين. مجاهد : زاكية أعمالهم وأقوالهم.

(يَقُولُونَ) يعني في الآية (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قال القرظي : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال : السلام عليك وليّ الله ، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) يقبضون أرواحهم.

(أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) يعني يوم القيامة ، وقيل : العذاب (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتعذيبه إياهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) عقوبات كفرهم وأعمالهم الخبيثة.

(وَحاقَ) نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا) قل للذين

__________________

(١) عنه فتح القدير : ٣ / ١٥٩.

١٥

اقتدينا بهم (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فلولا أن رضيها لغير ذلك ببعض عقوباته أو هدانا إلى غيرها.

قال الله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يعني إلّا عليه ، فإنّها لم تحرم هذه الأشياء وأنهم ادعوا على الله.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) يعني بأن اعبدوا الله (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) وهو كل معبود من دون الله (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) في دينه (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ) أي وجبت (عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) حتّى مات على كفره (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي خراب منازلهم وديارهم بالعذاب والهلاك (إِنْ تَحْرِصْ) يا محمّد (عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ).

قرأ أهل الكوفة : (يَهْدِي) بفتح الياء وقسموا ذلك ، ولها وجهان : أحدهما : إن معناه فإنّ الله لا يهدي من أضله الله ، والآخر : أن يكون يهدي بمعنى يهتدي ، بمعنى من أضله الله لا يهتدي (١) يقول العرب : هدى الرجل وهم يريدون اهتدى.

وقرأ الباقون : بضم الياء وفتح الدال ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم على معنى من أضله الله فلا هادي له ، دليله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) (٢).

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يمنعونهم من عذاب الله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ).

الربيع عن أبي العالية قال : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلّم به : والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا ، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت فأقسم بالله (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) فأنزل الله هذه الآية.

قتادة : ذكر لنا أن رجلا قال لابن عبّاس : إن ناسا بالعراق يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة ويتأولون هذه الآية.

فقال ابن عبّاس : كذب أولئك ، إنما هذه الآية عامة للناس ، لو كان عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه ، قال الله ردا عليهم : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

في الخبر أن الله تعالى يقول : كذّبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ،

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ١٠ / ١٠٤.

(٢) سورة الأعراف : ١٨٦.

١٦

وشتمني ابن آدم ولا ينبغي له أن يشتمني ، وأمّا تكذيبه إياي فحلفه بي أن لا أبعث الخلق ، وأمّا شتمه إياي فقوله (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وأنا الله الواحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي (كُفُواً أَحَدٌ).

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) هو مردود إلى قوله : (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) يبين لهؤلاء المنكرين المقتسمين الذين يختلفون (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ. إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ) الآية ، يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم ولا في غير ذلك [مما نخلق ونكون ونحدث] ، لأنا إذا أردنا خلق شيء وإنشاؤه (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق ، فذكر أن الله عزوجل أخبر أنه إذا أراد شيئا قال (لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فلو كان قوله (كُنْ) مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان ولاحتاج ذلك القول إلى قول ثالث إلى ما لا نهاية فلما بطل ذلك ثبت أن الله خلق الخلق بكلام غير مخلوق.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) عذّبوا وقتلوا في الله ، نزلت في بلال وصهيب وخبّاب وعمار وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فعذّبوهم.

وقال قتادة : يعني أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم حتّى لحق جماعة منهم بالحبشة ثمّ بوّأهم الله بالمدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار الهجرة وجعل لهم على من ظلمهم [أنصارا من المؤمنين والآية تعم الجميع] (٢).

(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٤ / ١٤١.

(٢) تصويب العبارة من تفسير القرطبي : ١٠ / ١٠٧.

١٧

ويروى إن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كان إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أفضل ، ثمّ تلا هذه الآية.

وقال بعض أهل المعاني : مجاز قوله تعالى : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ليحسنّن إليهم في الدنيا. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا) في الله على ما نابهم (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) الآية نزلت في مشركي مكة حين أنكروا نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلّا بعثت إلينا ملكا.

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني هم أهل الكتاب (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) فإن قيل : ما الجالب لهذه الباء؟

قيل : قد اختلفوا في ذلك : فقال بعضهم : هي من صلة أرسلنا و (إلا) بمعنى غير ، مجازه : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة. وهذا كما تقول : ما ضرب إلّا أخوك عمر ، وهل كلم إلّا أخوك زيدا ، بمعنى ما ضرب عمر غير أخيك ، هل كلم زيدا غير أخيك.

قال أوس بن حجر :

أبني لبينى لستم بيد

إلا يد ليست لها عضد (١).

يعني غير يده ، قال الله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢) أي غير الله.

وقال بعضهم : إنما هذا على كلامين ، يريد : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) أرسلنا بالبينات والزبر ويشهد على ذلك بقول الأعمش :

وليس مجيرا إن أتى الحي خائف

ولا قائلا إلّا هو المتعيّبا (٣)

يقول : لو كان بذلك على كلمة لكان خطأ من سفه القائل ، ولكن جاء ذلك على كلامين كقول الآخر :

نبّئتهم عذّبوا بالنار جارهم

وهل يعذّب إلّا الله بالنار (٤)

وتأويل الكلام : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أرسلناهم (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (٥).

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٤ / ١٤٦.

(٢) سورة الأنبياء : ٢٢.

(٣) تفسير الطبري : ١٤ / ١٤٦ ، ولسان العرب : ١ / ٦٣٣.

(٤) المصدر السابق.

(٥) بطوله في تفسير الطبري : ١٤ / ١٤٦ ـ ١٤٧.

١٨

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) يعني نمرود بن كنعان وغيره من الكفار وأهل الأوثان (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ) العقاب (فِي تَقَلُّبِهِمْ) تصرفهم في أسفارهم بالليل والنهار (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) مسابقي الله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ).

قال الضحاك والكلبي : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) يعني يأخذ طائفة ويدع فتخاف الطائفة الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها.

وقال سائر المفسرين : التخوّف : التنقّص ، يعني ينقص من أطرافهم ونواصيهم الشيء بهذا الشيء حتّى يهلك جميعهم.

يقال : تخوّف مال فلان الإنفاق ، إذا انتقصه وأخذه من حافاته وأطرافه.

وقال الهيثم بن عدي : هي لغة لازد شنوءة ، وأنشد :

تخوّف عدوهم مالي وأهدى

سلاسل في الحلوق لها صليل (١)

قال سعيد بن المسيب : بينما عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه على المنبر فقال : يا أيها الناس ما تقولون في قول الله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) فسكت الناس ، فقام شيخ فقال : يا أمير المؤمنين هذه لغتنا في هذيل ، التخوّف : التنقص ، فقال عمر : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارهم قال : نعم ، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي : [يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه] (٢).

تخوّف السير منها تامكا قردا

كما تخوف عود النبعة السفن (٣)

فقال عمر :

يا أيها الناس عليكم بديوانكم الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم (٤) (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) يعني لم يعجّل العقوبة (أَوَلَمْ يَرَوْا) قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش : (تروا) بالتاء على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء خبرا عن (الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) وهو اختيار الأئمة.

__________________

(١) غريب الحديث : ٢ / ٨٣٥.

(٢) زيادة عن تفسير القرطبي ، وفي تاج العروس : أنضاها السير ونسبه لذي الرملة.

(٣) تاج العروس : ٩ / ٢٣٦ ولسان العرب : ٩ / ١٠١ ، ونسبه لابن مقبل وقال في ج ١٣ / ٢١٠ : قال الصاغاني : وعزاه الأزهري لابن مقبل وهو لعبد الله بن عجلان النهدي ، وفي الأغاني نسبه لابن مزاحم الثمالي.

(٤) انظر تفسير القرطبي : ١٠ / ١١١.

١٩

(إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) يعني من جسم قائم له ظل (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ).

بالتاء أهل البصرة. الباقون بالياء ، ومعنى قوله (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) : يميل ويرجع من جانب إلى جانب فهي في أوّل النهار ثمّ تعود إلى حال أخرى في آخر النهار ، فميلانها ودورانها من موضع إلى موضع سجودها ، ومنه قيل للظل بالعشي : فيء ، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق ، والفيء : الرجوع ، قال الله : (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١) يقال : سجدت النخلة إذا حالت ، وسجد البعير وأسجد إذا جعل للركوب ، ومثله قال في هذه الآية على هذا التأويل.

قتادة والضحاك : أمّا اليمين فأول النهار وأمّا الشمال فآخر النهار ، تسجد الضلال لله غدوة إلى أن تفيء الظلال ثمّ تسجد أيضا إلى الليل.

وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله.

وقال عبد الله بن عمر : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر وليس من شيء إلّا وهو يسبح لله تعالى تلك الساعة» ثمّ قرأ (يَتَفَيَّؤُا) الآية (٢).

الكلبي : الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك ، ولذلك إذا غابت وإذا طلعت كان قدامك ، فإذا ارتفعت كان عن يمينك وإذا كان بعد ذلك كان خلفك ، فإذا كان قبل أن تغيب الشمس كان على يسارك فهذا تفيؤه أي تضلله هاهنا وهاهنا ، وهو سجوده.

وأمّا الوجه في توحيد اليمين وجمع الشمال ، فهو أنّ من شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن يبقى واحدة ويلقى الأخرى ، واكتفي بالملقي على الملقى بقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) (٣) كقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٤).

وقال بعضهم : اليمين راجع إلى قوله : (ما خَلَقَ اللهُ) ولفظة من أحد ، (وَالشَّمائِلِ) راجعة إلى المعنى وقيل : هذا في الكلام كثير.

قال الشاعر :

بفي الشامتين الصخر إن كان هدني

رزية شبلي مخدر في الضراغم (٥)

__________________

(١) سورة الحجرات : ٩.

(٢) تفسير الثعالبي : ٣ / ٤٢٦.

(٣) سورة البقرة : ٧.

(٤) سورة البقرة : ٢٥٧.

(٥) تفسير الطبري : ١٤ / ١٥٤.

٢٠