الكشف والبيان - ج ٦

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٦

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٧

تَصْلى ناراً حامِيَةً) (١).

وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل قال : سأل عبد الله بن الكوّا عليا عن قوله : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) ، قال : «أنتم يا أهل حروراء» (٢) [١٠٣].

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ، أي يظنون أنهم بفعلهم مطيعون محسنون (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ) : بطلت وذهبت (أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) ، قال أبو سعيد الخدري : يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي في العظم عندهم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئا ، فذلك قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

[حدثنا القاضي أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن حبيب إملاء : أبو بكر أحمد بن إسحاق ابن أيّوب عن محمد بن إبراهيم : يحيى بن بكير بن المغيرة عن أبي الزياد عن] (٣) الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة ، اقرءوا : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)» (٤).

[أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشر عن مروان ابن معاوية عن] (٥) المغيرة بن مسلم عن سعيد بن عمرو بن عثمان قال : سمعت عثمان بن عفّان رضي‌الله‌عنه يقول : الربا سبعون بابا أهونهن مثل نكاح الرجل أمه. قال : وأربى الربى عرض أخيك المسلم تشتمه. قال : ويؤتى يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب الذي يشرب الظرف في المجلس فيوزن فلا يعدل جناح بعوضة ، خاب ذلك وخسر ، ثمّ تلا هذه الآية : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) ، يعني سخرية.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) اختلفوا في الفردوس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجنّة مائة درجة ، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض. أعلاها الفردوس ، ومنها تفجر أنهار الجنة ، وفوقها عرش الرحمن فسلوه الفردوس» (٦) [١٠٤].

[وأخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن مسلم بن الحجاج عن نصر بن علي

__________________

(١) سورة الغاشية : ٣ ـ ٤.

(٢) كنز العمال : ٢ / ٤٤٤ ح ٤٤٥٤.

(٣) زيادة عن نسخة أصفهان ، وفي النسخة المعتمدة بدلها : وروى.

(٤) صحيح البخاري : ٥ / ٢٣٦.

(٥) زيادة عن نسخة أصفهان ، وفي النسخة المعتمدة بدلها : وروى.

(٦) جامع البيان للطبري : ١٦ / ٤٧.

٢٠١

وإسحاق بن إبراهيم وأبي غسان ـ واللفظ له ـ قالوا : قال أبو عبد الصمد : قال] (١) عمران الجويني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جنّات الفردوس أربع : جنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضّة أبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه» [١٠٥] (٢).

وقال شهر : خلق الله جنّة الفردوس بيده فهو يفتحها في كل يوم خميس فيقول : ازدادي حسنا وطيبا لأوليائي. وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها. وقال أبو أمامة : الفردوس سرة الجنّة. وقال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقال مجاهد : هو البستان بالرومية. وقال كعب : هو البستان فيه الأعناب. وقال الضحاك : هي الجنّة الملتفة الأشجار. وقيل : هي الروضة المستحسنة. وقيل : هي الأودية التي تنبت ضروبا من النبات ، وجمعها فراديس : وقال أمية :

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومان والبصل (٣)

(خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي يطلبون عنها تحولا إلى غيرها ، وهو مصدر مثل الصعر والعوج. قال مخلد بن الحسين : سمعت بعض أصحاب أنس قال : يقول أولهم دخولا : إنما أدخلني الله أولهم ؛ لأنه ليس أحد أفضل منّي. ويقول آخرهم دخولا : إنما أخّرني الله ، لأنه ليس أحد أعطاه مثل الذي أعطاني.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) الآية ، قال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة ، وفي كتابك : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٤) ثمّ يقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٥) فكيف يكون هذا؟ فأنزل الله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ) أي ماؤه (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) حكمه وعجائبه.

وقرأ أهل الكوفة (قبل أن ينفد) بالياء ؛ لتقدم الفعل ، (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) : عونا وزيادة. وفي مصحف أبي : (ولو جئنا بمثله مدادا) ونظيرها قوله عزوجل (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) (٦) الآية.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) قال ابن عباس : نزلت في جندب بن زهير العامري ، وذلك أنه

__________________

(١) زيادة عن نسخة أصفهان ، وفي النسخة المعتمدة بدلها : وروى.

(٢) سنن الدارمي : ٢ / ٣٣٣.

(٣) جامع البيان للطبري : ١٦ / ٤٦ ، ولسان العرب : ١٢ / ٤٦٠ وفيه : لهم جنة ، بدل : منازلهم.

(٤) سورة البقرة : ٢٦٩.

(٥) سورة الإسراء : ٨٥.

(٦) سورة لقمان : ٢٧.

٢٠٢

قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّي أعمل لله ، فإذا اطّلع عليه سرّني. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى طيّب لا يقبل إلّا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه» (١) [١٠٦] ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال أنس : قال رجل : يا نبي الله ، إنّي أحب الجهاد في سبيل الله ، وأحبّ أن يرى مكاني ، فأنزل الله : (قُلْ) يا محمد : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) : خلق آدمي مثلكم.

قال ابن عباس : علّم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه ، (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) : المصير إليه. وقيل : معناه يأمل رؤية ربّه ، فالرجاء يتضمّن معنيين : الخوف والأمل ، قال الشاعر :

فلا كل ما ترجو من الخير كائن

ولا كل ما ترجو من الشر واقع (٢)

فجمع المعنيين في بيت واحد.

(فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) : خالصا (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، أي ولا يراء. قال شهر ابن حوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت ، فقال : أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله عزوجل ويحب أن يحمد عليه ، ويصوم يبتغي وجه الله عزوجل ويحب أن يحمد ، ويتصدّق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه ، ويحجّ يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه؟ فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله عزوجل يقول : «أنا خير شريك ، فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي منه» [١٠٧].

[أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عبد الله الجوهري عن حامد بن شعيب البجلي عن شريح بن يونس عن إسماعيل بن جعفر قال : أخبرني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا الشرك الأصغر». قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : «الرياء يوم يجازي الله النّاس بأعمالهم» [١٠٨] (٣).

أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد الله بن هاشم عن عبد الرحمن عن] (٤) سفيان عن سلمة قال : سمعت جندبا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سمّع سمّع الله به ، ومن يراء يراء الله به» (٥) [١٠٩].

وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا الشرك الأصغر». قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : «الرياء يوم يجازي الله الناس بأعمالهم» [١١٠] (٦).

__________________

(١) زاد المسير : ٥ / ١٤١ ، وأسباب نزول الآيات : ٢٠٢ وفيهما : ما روئي فيه ، بدل : ما شورك فيه.

(٢) مجمع البيان : ٦ / ٣٩٦.

(٣) الدر المنثور : ٤ / ٢٥٧.

(٤) زيادة عن نسخة أصفهان.

(٥) مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٤٥ ، وفيه : رأيا ، بدل : يراء ، في الموضعين.

(٦) الدر المنثور : ٤ / ٢٥٧.

٢٠٣

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا نزلت هذه الآية : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفيّ ، وإيّاكم وشرك السرائر فإن الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء.

ومن صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك».

قال : فشقّ ذلك على القوم ، فقال رسول الله : «أولا أدلّكم على ما يذهب عنكم صغير الشرك وكبيرة؟». قالوا : بلى يا رسول الله. قال : قولوا : «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم» [١١١] (١).

وقال عمرو بن قيس الكندي : سمعت معاوية بن أبي سفيان على المنبر تلا هذه الآية ، (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) الآية ، فقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن.

وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوحي إليّ أن من قرأ : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ـ الآية ـ رفع له نور ما بين عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة» (٢) [١١٢].

[وأخبرني محمد بن القاسم عن محمد بن زيد قال : أبو يحيى البزاز عن أحمد بن يوسف عن محمد بن العلا عن زياد بن قايد (٣) عن] (٤) سهل بن معاذ عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ، ومن قرأها كلّها كانت له نورا من الأرض إلى السماء» [١١٣] (٥).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥١٣.

(٢) مجمع الزوائد : ١٠ / ١٢٦.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) زيادة عن نسخة أصفهان.

(٥) تفسير القرطبي : ١١ / ٧٢ ، وفي مجمع الزوائد : ٧ / ٥٢ بتفاوت يسير.

٢٠٤

سورة مريم

مريم مكيّة كلّها ، وهي ثمان وتسعون آية ، تسع تسعون حجازي ،

وسبعمائة واثنتان وستّون كلمة ، وثلاثة ألاف وثمانمائة حرف وحرفان

أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة ، قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا : قال أبو إسحاق إبراهيم بن شريك ، عن أحمد بن يونس اليربوعي ، عن سلام بن سليم المدائني ، عن عمرو بن كثير ، عن يزيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر حسنات بعدد من صدّق بزكريّا وكذب به ، ويحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات ، وبعدد من دعا لله ولدا ، وبعدد من لم يدع له ولدا» [١١٤].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

قوله عزوجل (كهيعص) قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، ضدّه شامي وحمزة وخلف ، بكسرهما ، والكسائي ، بفتحهما ، ابن كثير وعاصم ويعقوب ، واختلفوا في معناها.

فقال ابن عباس : هو اسم من أسماء الله عزوجل ، وقيل : إنّه اسم الله الأعظم ، وقال قتادة : هو اسم من اسماء القرآن ، وقيل : هو اسم السورة ، وقال عليّ بن أبي طالب وابن عباس : هو قسم أقسم الله تعالى به ، وقال الكلبي : هو ثناء أثنى الله عزوجل به [على] نفسه.

٢٠٥

أخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد ، قال أبو عبد الله محمد بن زياد القوقسي ، قال أبو عمّار عن جرير ، عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عزوجل (كهيعص) قال : الكاف من كريم ، والهاء من هاد ، والياء من رحيم والعين من عليم وعظيم ، والصاد من صادق ، وقال الكلبي أيضا : معناه : كاف لخلقه ، هاد لعباده ، يده (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، عالم ببريته ، صادق في وعده (ذِكْرُ) رفع بـ (كهيعص) وإن شئت قلت : هذا (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) ، وفيه تقديم وتأخير ، معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته وزكريا في موضع نصب.

وقرأ بعضهم عَبْدُهُ زَكَرِيّا بالرفع على أنّ الفعل له (إِذْ نادى) دعا ربّه في محرابه حيث يقرب القربان نداء خفيّا دعاء سرّا من قومه في جوف الليل ، مخلصا فيه لم يطلع عليه أحد إلّا الله عزوجل قال (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ) ضعف (الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) شمطا ، يقول : شخت وضعفت ، ومن الموت قربت (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) يقول : يا رب عوّدتني الإجابة فيما كنت تجيبني إذا دعوتك ولا تخيّبني.

قوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) قرأ عثمان ويحيى بن يعمر ، (خَفَتِّ) بفتح الخاء والفاء وكسر التاء مشدّدا الْمَوالِي بسكون الياء بمعنى ذهب الموالي وقلّت ، الباقون : (خِفْتُ) بكسر الخاء وضم التاء من الخوف ، الموالي نصبا ، خاف أن يرثه غير الولد ، وقيل : خاف عليهم تبديل دين الله عزوجل وتغيير أحكامه وأن لا يحسنوا الخلافة له على أمّته ، فسأل ربّه ولدا صالحا يأمنه على أمّته ، والموالي بنو العمّ وقيل : الاولي والولي والمولى في كلام العرب واحد ، وقال مجاهد : العصبة ، وقال أبو صالح : الكلالة ، وقال الكلبي : الورثة من ورائي من بعد موتي (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أعطني من عندك (وَلِيًّا) ابنا (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) وقرأ يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وأبو عمرو والكسائي بالجزم فيهما على جواب الدّعاء ، وقرأ الباقون بالرفع على الحال والصفة ، أي وليّا وارثا ، وقرأ ابن عبّاس ويحيى بن يعمر : يرثني ، وأرث من آل يعقوب النبوّة ، يعني يرث النبوّة والعلم ، وقال الحسن : معناه (يَرِثُنِي) مالي (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) النبوّة والحبورة ، وقال الكلبي : هو يعقوب بن ماثان أخو زكريا وليس يعقوب أب يوسف (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي صالحا برا تقيا مرضيّا ، وقال أبو صالح : معناه : اجعله نبيا كما جعلت أباه نبيّا.

أخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا : أخبرنا : مكّي بن عبدان عن أحمد بن الأزهر عن روح بن عبادة عن سعيد عن قتادة عن بشر بن نهيك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) يقول عند ذلك : «رحم الله زكريا ، ما كان عليه من ورثة» (١).

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٦ / ٦١.

٢٠٦

قوله (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) فيه إضمار واختصار ، يعني فاستجاب دعاءه فقال : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) ولد ذكر (اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قال قتادة والكلبي : لم يسمّ أحد قبله يحيى ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس ، وقال سعيد بن جبير وعطاء : لم نجعل له شبيها ، ومثله دليله قوله تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١) أي مثلا وعدلا ، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس ، وتأويل هذا القول أنّه لم يكن له مثل لأنّه لم يهمّ بمعصيته قط وقيل : لم يكن له مثل في أمر النساء لأنه كان (سَيِّداً وَحَصُوراً) وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس : لم تلد العواقر مثله ولدا ، وقيل : إن الله تعالى اشترط القبل لأنه جل ذكره أراد أن يخلق بعده من هو أفضل منه وهو محمّد عليه‌السلام ، وقيل : إنّ الله تعالى لم يرد بهذا القول جميع الفضائل كلّها ليحيى ، وقيل : إنما أراد في بعضها لأن الخليل والكم عليهما‌السلام كانا قبله وكانا أفضل منه.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي وامرأتي عاقر كقوله (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢) أي من هو في المهد صبيّ (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي يبسا ، قال قتادة : نحول العظم يقال : ملك عات إذا كان قاسي القلب غير ليّن ، وقال أبو عبيد : هو كل مبالغ في شر أو كفر فقد عتا وعسا ، وقرأ أبيّ وابن عباس عسيّا ، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي (عِتِيًّا) بكسر العين ومثله (جِثِيًّا) و (صِلِيًّا) وبكيّا والباقون بالضم فيهما وهما لغتان.

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) ، من قبل يحيى ، (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) على حمل امرأتي (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي صحيحا سليما من غير ما بأس ولا خرس ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلّون إذ خرج عليهم زكريّا متغيرا لونه فأنكروه فقالوا له : ما لك يا زكريّا؟ (فَأَوْحى) أي أومى (إِلَيْهِمْ) ، ويقال : كتب في الأرض (أَنْ سَبِّحُوا) وصلّوا لله عزوجل (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) والسبحة الصلاة.

قوله (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) بجدّ (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) يعني الفهم (صَبِيًّا) يعني في حال صباه ، وقال معمّر : جاء صبيان إلى يحيى بن زكريّا فقالوا : اخرج بنا نلعب ، فقال : ما للّعب خلقت ، فأنزل الله عزوجل (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) رحمة من عندنا ، قال الحطيئة لعمر بن الخطّاب :

تحنّن علىّ هداك المليك

فإن لكلّ مقام مقالا (٣)

__________________

(١) سورة مريم : ٦٥.

(٢) سورة مريم : ٢٩.

(٣) لسان العرب : ١١ / ٥٧٣.

٢٠٧

أي ترحم ، ومنه قوله : حنانيك مثل سعديك ، قال طرفة :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشر أهون من بعض (١)

وأصله من حنين الناقة.

أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان عن حريز بن عبد الحميد عن أبي خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : ما أدري ما (حَناناً) إلا أن يكون بعطف رحمة الله عزوجل على عباده وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن هوذة عن عوف بلغني في قوله الله عزوجل (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) قال : الحنان : المحبّة (وَزَكاةً) قال ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله عزوجل والإخلاص.

وقال الضحاك : هي الفعل الزاكي الصالح ، وقال الكلبي : يعني صدقة تصدق والده بها على أبويه ، وقيل : بركة ونماء وزيادة. وقيل : جعلناه طاهرا من الذنوب.

(وَكانَ تَقِيًّا) مسلما مخلصا مطيعا.

أخبرنا سعيد بن محمد وعبد الله بن حامد قالا : أخبرنا علي بن عبدان ، حدّثنا أبو الأزهر ، حدّثنا ابن القطيعي قال : سمعت الحسن قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ما من الناس عبد إلّا قد همّ بخطيئة أو عملها غير يحيى بن زكريا» (٢).

(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) بارا بهما لا يعصيهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) قالا : متكبرا.

قال الحلبي : الجبّار الذي يضرب ويقتل على الغضب.

(عَصِيًّا) شديد العصيان لربّه.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ) قال الحلبي : سلام له منّا حين ولد وحين يموت وحين يبعث حيّا.

أخبرنا أبو محمد الأصفهاني وأبو صالح النيسابوري قالا : أنبأنا أبو حاتم التميمي ، حدثنا أبو الأزهر السّليطيّ ، حدثنا رؤبة ، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن أن يحيى وعيسى عليهما‌السلام التقيا فقال له عيسى : استغفر لي فأنت خير مني ، وقال يحيى : استغفر لي ، أنت خير منّي ، فقال له عيسى : أنت خير مني ، سلّمت على نفسي وسلّم الله عليك.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا

__________________

(١) الصحاح : ٥ / ٢١٠٤.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٢٥٤ ، وكنز العمال : ١١ / ٥٢١.

٢٠٨

رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) القرآن (مَرْيَمَ) وهي ابنة عمران بن ماثان (إِذِ انْتَبَذَتْ).

قال قتادة : انفردت. الكلبي : تنحّت وأصله من النبذة بفتح النون وضمّها وهي الناحبة ، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية (مَكاناً شَرْقِيًّا) يعني مشرقة ، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق ، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء.

قال الحسن : اتّخذت النصارى المشرق قبلة لأنّ مريم انتبذت (مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ) فضربت (مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) قال ابن عباس : سترا ، قال مقاتل : جعلت الجبل بينها وبين قومها ، قال عكرمة : إن مريم كانت تكون في المسجد ما دامت طاهرا ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينا هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبرئيل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سويّ الخلق.

فذلك قوله (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعني جبرئيل عليه‌السلام وقيل : روح عيسى ابن مريم اضافة إليه على التخصيص والتفضيل (فَتَمَثَّلَ) فتصور (لَها بَشَراً) آدميا (سَوِيًّا) لم ينقص منه شيء وإنما أرسله في صورة البشر لتثبت مريم عليها‌السلام وتقدر على استماع كلامه ، ولو نزّله على صورته التي هو عليها لفزعت ونفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ، فلمّا رأته مريم (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) مؤمنا مطيعا.

٢٠٩

قال علي بن أبي طالب : علمت أن التقيّ ذو نهية ، وقيل : كان تقي رجل من أعدل الناس في ذلك الزمان فقالت : إن كنت في الصلاح مثل التقي فـ (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) ، كيف يكون رجل اجنبي وامرأة اجنبية في حجاب واحد؟ قال لها جبرئيل (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ) أي يقول لأهب لك ، وقرأ أبو عمرو ليهب بالياء ولدا (غُلاماً زَكِيًّا) صالحا تقيا (قالَتْ) مريم (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ولم يقربني روح (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) فاجرة وإنما حذفت الهاء منه لأنه مصروف عن وجهه.

(قالَ) جبرئيل (كَذلِكِ) كما قلت يا مريم ولكن (قالَ رَبُّكِ) وقيل هكذا (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) خلق ولد من غير أب (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً) علامة هذه (لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) لمن تبعه على دينه.

(وَكانَ) ذلك (أَمْراً مَقْضِيًّا) معدودا مسطورا في اللوح المحفوظ.

(فَحَمَلَتْهُ) وذلك أن جبرئيل عليه‌السلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبسته ، وقيل : نفخ جبرئيل من بعيد نفخا فوصل الريح إليها فحملت ، فلمّا حملت (فَانْتَبَذَتْ) خرجت وانفردت (مَكاناً قَصِيًّا) بعيدا من أهلها من وراء الجبل ، ويقال أقصى الدار.

قال الكلبي : قيل لابن عمّ لها يقال له يوسف : إن مريم حملت من الزنا لأن يقتلها الملك وكانت قد سميت له فأتاها فاحتملها ، فهرب بها ، فلما كان ببعض الطريق أراد يوسف ابن عمّها قتلها فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فقال له : إنّه من روح القدس فلا تقتلها ، فتركها ، ولم يقتلها فكان معها. واختلفوا في مدّة حملها ووقت وضعها ، فقال بعضهم : كان مقدار حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء ، ومنهم من قال : ثمانية أشهر وكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى ، وقيل : ستّة أشهر ، وقيل : ثلاث ساعات ، وقيل : ساعة واحدة.

قال ابن عباس : ما هو إلّا أن حملت فوضعت ولم يكن بين الحمل والانتباذ إلّا ساعة : لأنّ الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا.

وقال مقاتل بن سليمان : حملته مريم في ساعة وصوّر في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وهي بنت عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى.

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) ألجأها وجاء بها المخاض ، وفي قراءة عبد الله آواها المخاض يعني الحمل ، وقيل : الطلق.

(إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدة الشتاء ولم يكن لها سعف.

وروى هلال بن خبّاب عن أبي عبيد الله قال : كان جذعا يابسا قد جيء به ليبنى به بيت يقال له بيت لحم.

(قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة :

٢١٠

(نَسْياً) بفتح النون ، والباقون بالكسر ، وهما لغتان مثل : الوتر والوتر والحجر والحجر والجسر والجسر ، وهو الشيء المنسي.

قال ابن عباس : يعني شيئا متروكا ، وقال قتادة : شيئا لا يذكر ولا يعرف ، وقال عكرمة والضحاك ومجاهد : حيضة ملقاة.

قال الربيع : هو السقط وقال مقاتل : يعني كالشيء الهالك.

قال عطاء بن أبي مسلم : يعني لم أخلق ، وقال الفرّاء : هو ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها ، وقال أبو عبيد : هو ما نسي وأغفل من شيء حقير. قال الكميت :

أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة

ولست بنسي في معد ولا دخل (١)

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حاجب بن محمد قال : حدّثنا محمد بن حمّاد قال : حدّثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت : لوددت أني إذا مت (كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا).

(فَناداها مِنْ تَحْتِها) قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي : (مِنْ تَحْتِها) بكسر الميم وهو جبرئيل عليه‌السلام ناداها من سفح الجبل ، وقرأ الباقون مَنْ تَحْتُها بفتح الميم وهو عيسى لما خرج من بطنها ناداها : (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال الحسن : يعني عيسى كان والله عبدا سريا أي رفيعا ، وقال سائر المفسّرين : هو النهر الصغير ، وقيل معنى قوله سبحانه (تَحْتَكِ) إنّ الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته بالإمساك أمسك ، كقوله عزوجل فيما أخبر عن فرعون (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (٢) أي من تحت أمري ، قال ابن عباس : فضرب جبرئيل : ويقال عيسى : برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى وحييت النخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت ، وقيل لمريم (وَهُزِّي إِلَيْكِ) أي حرّكي (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) يقول العرب : هزّه وهزّ به كما يقال : خذ الخطام وخذ بالخطام ، وتعلّق بزيد وتعلق زيدا ، وخذ رأسه وخذ برأسه ، وامدد الحبل ، وامدد بالحبل ، والجذع : الغصن ، والجذع : النخلة نفسها.

(تُساقِطْ) قرأ البراء بن عازب ويعقوب وأبو حاتم وحمّاد ونصير : يساقط بالياء ، وقرأ حفص (تُساقِطْ) بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف ، وقرأ الأعمش وحمزة وأبو عبيد : تَسّاقَط بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، فمن أنّث ردّه إلى النخلة ومن ذكّر ردّه ألى الجذع والتشديد على الإدغام

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٩٣.

(٢) سورة الزخرف : ٥١.

٢١١

والتخفيف على الحذف.

(رُطَباً جَنِيًّا) غصنا رطبا ساعة جني.

وقال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض من العسل.

وقال عمرو بن ميمون : ما أدري للمرأة إذا عسر عليها ولدها خير من الرطب لقول الله سبحانه (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا).

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : إنّ من السنّة أن يمضغ التمر ويدلك به فم المولود ، وكذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمضغ التمر ويحنّك به أولاد الصحابة.

(فَكُلِي) يا مريم من الرطب (وَاشْرَبِي) من النهر (وَقَرِّي عَيْناً) وطيبي نفسا (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا ولذلك كان بقراءة ابن مسعود وأنس والصوم في اللغة هو الإمساك عن الطعام والكلام ، وفي الآية اختصار (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) فسألك عن ولدك أو لامك عليه (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) يقال : إنّ الله أمرها أن تقول هذا اشارة ويقال : أمرها أن تقوله نطقا ثم تمسك عن الكلام بعد هذا.

(فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) يقال : كانت تكلّم الملائكة ولا تكلّم الإنس.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) قال الكلبي : احتمل يوسف النّجار مريم وابنها عيسى عليه‌السلام إلى غار فأدخلهما فيه أربعين يوما حتى تعالت من نفاسها ثم جاء بها (فَأَتَتْ) مريم (بِهِ) بعيسى (تَحْمِلُهُ) بعد أربعين يوما ، فكلّمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلمّا دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين.

(قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) فظيعا منكرا عظيما ، قال أبو عبيدة : كل من عجب أو عمل فهو فري ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمر رضي‌الله‌عنه : «فلم أر عبقريا يفري فريه» (١) أي يعمل عمله ، قال الراجز :

قد أطعمتني دقلا حوليا

مسوسا مدودا حجريا (٢)

قد كنت تفرين به الفريا.

أي كنت تكثرين فيه القول وتعظمينه.

(يا أُخْتَ هارُونَ)قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انّما عنوا هارون النبي أخا موسى لأنها كانت من نسله».

__________________

(١) المعجم الكبير : ١٢ / ٢٣٢ ، وزاد المسير : ٥ / ١٥٩ ، ومسند أحمد : ٢ / ٢٨ بتفاوت.

(٢) الصحاح : ٢ / ٤٧١.

٢١٢

وقال قتادة وغيره : كان هارون رجلا صالحا من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى ، ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون الفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل ، وقال المغيرة بن شعبة : قال لي أهل نجران قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ) وقد كان بين موسى وعيسى من السنين ما قد كان ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بالأنبياء والصالحين من قبلهم.

وقال الكلبي : كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أمها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل ، وقيل : إن هارون كان من أفسق بني إسرائيل وأظهرهم فسادا فشبّهوها به ، وعلى هذا القول الأخت هاهنا بمعنى الشبه لا بمعنى النسبة ، والعرب تسمي شبه الشيء أخته وأخاه ، قال الله سبحانه (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) (١) أي شبهها.

(ما كانَ أَبُوكِ) عمران (امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ) حنّة (بَغِيًّا) زانية فمن أين لك هذا الولد؟ (فَأَشارَتْ) مريم إلى عيسى أن كلّموه فـ (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي من هو في المهد وهو حجرها ، وقيل : هو المهد بعينه وقد كان حشوا للكلام ولا معنى له كقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٢) أي أنتم خير أمة وكقوله (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (٣) أي هل أنا ، وكقول الناس إن كنت صديقي فصلني ، قال زهير :

أجرت عليه حرّة أرحبيّة

وقد كان لون الليل مثل الأرندج (٤)

وقال الفرزدق :

فكيف إذا رأيت ديار قومي

وجيران لنا كانوا كرام (٥)

أي وجيران لنا كرام ، قال وهب : فأتاها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى : انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها ، فقال عند ذلك وهو ابن أربعين يوما. وقال مقاتل : هو يوم ولد.

(إِنِّي عَبْدُ اللهِ) فأقرّ على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم تكذيبا للنصارى وإلزاما للحجة عليهم.

قال عمرو بن ميمون : إن مريم لما أتت قومها بعيسى أخذوا لها الحجارة ليرموها فلمّا تكلّم عيسى تركوها ، قالوا : ثم لم يتكلّم عيسى بعد هذا حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان.

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٨.

(٢) سورة آل عمران : ١١٠.

(٣) سورة الإسراء : ٩٣.

(٤) تفسير الطبري : ١٦ / ١٠٠.

(٥) التبيان : ٧ / ١٢٣.

٢١٣

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : خمسة تكلّموا قبل إبان الكلام : شاهد يوسف ، وولد ماشطة بنت فرعون ، وعيسى ، وصاحب جريح ، وولد المرأة التي أحرقت في الأخدود.

فأمّا شاهد يوسف فقد مرّ ذكره ، وأمّا ولد الماشطة ، فأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال : حدّثنا داود بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا الحسن بن موسى قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أسري به مرّت به رائحة طيبة فقال : يا جبرئيل ما هذه الرائحة؟ قال : ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت ابنته : أبي؟ فقالت : لا بل ربّي وربّك وربّ أبيك.

فقالت : أخبر بذلك أبي قالت : نعم ، فأخبرته فدعا بها فقال : من ربّك؟ قالت : ربّي وربّك في السماء ، فأمر فرعون ببقرة من نحاس فأحميت فدعا بها وبولدها فقالت : إن لي إليك حاجة قال : ما هي؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعا فقال : ذلك لك علينا من الحق ، فأمر بأولادها فألقى واحدا واحدا حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيّا مرضعا فقال : اصبري يا أماه فإنّا على الحق ، قال : ثم ألقيت مع ولدها.

وأمّا صاحب جريح فأخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني قال : أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني قال : حدّثنا أحمد بن الخليل قال : حدّثنا يونس بن محمد المؤدّب ، قال : حدّثنا الليث ابن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبرنا عبد الله [بن حامد] (١) قال : أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال : حدّثنا راشد بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا هاشم بن القاسم قال : حدّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ رجلا يقال له جريح كان راهبا يتعبّد في صومعته فأتته أمّه لتسلّم عليه فنادته : يا جريح اطلع إليّ انظر إليك ، فوافقته يصلّي فقال : أمّي وصلاتي لربّي ، أوثر صلاتي لربّي على أمّي ، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته : يا جريح كلّمني فوافقته يصلّي فاختار صلاته ، ثمّ جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت : إنّه أبى أن يكلّمني ، اللهمّ لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة ، قال : ولو دعت عليه أن يفتن لفتن».

قال : وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره ، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاما فقيل لها : ممّن هذا؟ فقالت : من صاحب الصومعة ، فأتوه وهدّموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم ، فلمّا مرّ على حوانيت الزواني خرجن ، فتبسم وعرف أنّه دعاء أمّه ، فقالوا : لم يضحك حين مرّ على الزواني!؟ فلمّا أدخل على ملكهم قال جريح : أين الصبي

__________________

(١) في نسخة أصفهان : داود.

٢١٤

الذي ولدت؟ فأتي به فقال له جريح : من أبوك؟ قال : أبي فلان الراعي ، فابرأ الله سبحانه جريحا وأعظمه الناس (١) ، وقالوا : نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال : لا ولكن أعيدوه كما كان ، ثمّ علاه.

وأمّا ولد صاحبة الأخدود فسنذكرها في موضعها إن شاء الله.

(آتانِيَ الْكِتابَ) يعني يؤتيني الكتاب لفظه ماض ومعناه مستقبل ، وقيل : إنه أخبر عمّا كتب له في اللوح المحفوظ كما سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : متى كتبت نبيا؟ قال : «كتبت نبيا وآدم بين الروح والجسد (٢)».

وقيل : معناه علمني وألهمني التوراة في بطن أمّي.

(وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) معلما للخير (أَيْنَ ما كُنْتُ) وقيل : مباركا على من اتّبع ديني وأمري (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا) أي وجعلني برا (بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا).

أخبرنا شعيب بن محمد البيهقي وعبد الله بن حامد قالا : أخبرنا مكّي بن عبدان ، قال : حدّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدّثنا روح بن عبادة قال : حدّثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا ان امرأة رأت عيسى ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات أذن الله له فيهنّ فقالت : طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أرضعت به ، فقال ابن مريم يجيبها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتّبع ما فيه ولم يكن (جَبَّاراً شَقِيًّا) ، وكان يقول : سلوني فإنّ قلبي ليّن وإنّي صغير في نفسي ، ممّا أعطاه الله سبحانه من التواضع.

(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) يعني هو قول الحق ، وقيل : رفع على التكرير يعني ذلك عيسى ابن مريم وذلك قول الحق ، وقيل : هو نعت لعيسى يعني ذلك عيسى بن مريم كلمة الله ، والحق هو الله سبحانه.

وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب يعني قال قول الحق (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) يشكّون ويقولون غير الحق ، فقالت اليهود : ساحر كذّاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة ، ثمّ كذّبهم فقال : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) أي ما كان من صفته اتّخاذ الولد ، وقيل : اللام منقولة يعني ما كان الله ليتخذ من ولد (سُبْحانَهُ) نزّه نفسه (إِذا قَضى أَمْراً) كان في علمه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللهَ) يعني وقضى أن الله ، وقرأ أهل الكوفة (إِنَّ اللهَ)

__________________

(١) الأحاديث الطوال للطبراني : ١١٠.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٥٩.

٢١٥

بالكسر على الاستيناف (رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا) الذي ذكرت (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) يعني النصارى ، وانّما سمّوا أحزابا لأنّهم تجزأوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النسطورية والملكانيّة والمار يعقوبية.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني يوم القيامة (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) يعني ما أسمعهم وأبصرهم ، على التعجّب ، وذلك أنهم سمعوا يوم القيامة حين لم ينفعهم السمع ، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر.

قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى (أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية.

(يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار وذبح الموت (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) من الدنيا.

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا مكّي بن عبدان قال : حدّثنا (١) عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار فيقال : يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثمّ ينادي المنادي (٢) : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم» ، ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) وأشار بيده في الدنيا (٣).

قال مقاتل : لولا ما قضى الله سبحانه وتعالى من تخليد أهل النار وتعميرهم فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك.

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) أي نميتهم ويبقى الرب عزوجل فيرثهم.

(وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) فنجزيهم بأعمالهم.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣)

__________________

(١) في نسخة أصفهان : عبد الله بن حامد الوراق عن علي بن عبد الله عن.

(٢) في نسخة أصفهان : فيذبح فيقال.

(٣) مسند أحمد : ٣ / ٩ بتفاوت.

٢١٦

يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) مؤمنا موقنا صدوقا (نَبِيًّا) رسولا رفيعا (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) آزر وهو يعبد الأوثان (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) صوتا (وَلا يُبْصِرُ) شيئا (وَلا يُغْنِي عَنْكَ) لا ينفعك ولا يكفيك (شَيْئاً) يعني الأصنام (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) والبيان بعد الموت وأنّ من غيره عذّبه (ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي) على ديني (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) مستويا.

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لا تطعه ، لم تصل ، له ولم تصم وإنّ من أطاع شيئا فقد عبده (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) عاصيا عاتيا ، وكان بمعنى الحال أي هو ، وقيل بمعنى : صار.

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ) أعلم (أَنْ يَمَسَّكَ) يصيبك (عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) لقوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا) (١) وقوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما) (٢) وقيل : معناه إنّي أخاف أن ينزل عليك عذابا في الدنيا (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) قرينا في النار ، فقال له أبوه مجيبا له (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) تارك عبادتهم وزاهد فيهم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) لئن لم تسكت وترجع عن مقالتك (لَأَرْجُمَنَّكَ) قال الضحاك ومقاتل والكلبي : لأشتمنّك ، وقال ابن عباس : لأضربنّك ، وقيل لأظهرنّ أمرك (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال الحسن وقتادة وعطاء : سالما ، وقال ابن عباس : واعتزلني سالم العرض لا يصيبنّك منّي معرّة ، وقال الكلبي : اتركني واجتنبني طويلا فلا تكلّمني ، وقال سعيد بن جبير : دهرا ، وقال مجاهد وعكرمة : حينا ، وأصل الحرف المكث ، ومنه يقال : تملّيت حينا ، والملوان الليل والنهار.

(قالَ) إبراهيم (سَلامٌ عَلَيْكَ) أي سلمت منيّ لا أصيبك بمكروه (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) قال ابن عباس ومقاتل : لطيفا رحيما ، وقيل : بارّا ، وقال مجاهد : عوّده الإجابة ، وقال الكلبي : عالما يستجيب لي إذا دعوته.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٩.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٩.

٢١٧

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني وأعتزل ما تعبدون من دون الله ، قال مقاتل : كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من كوثى فهاجر منها إلى الأرض المقدسة.

(وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) يعني عسى أن يجيبني ولا يخيّبني ، وقيل : معناه عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام.

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) ما تدعون : تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام فذهب مهاجرا (وَهَبْنا لَهُ) بعد الهجرة (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) نعمتنا ، قال الكلبي : المال والولد ، وقيل : النبوّة والكتاب ، بيانه قوله (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) (١).

(وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) يعني ثناء حسنا رفيعا في كلّ أهل الأديان ، وكلّ أهل دين يتولّونهم ويثنون عليهم.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ) مُخْلِصاً يعني غير مرائي ، قال مقاتل (٢) : مسلما موحدا ، وقرأ أهل الكوفة : (مُخْلَصاً) بفتح اللام يعني أخلصناه واخترناه (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَنادَيْناهُ) دعوناه وكلّمناه ليلة الجمعة (مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) يعني يمين موسى ، والطور : جبل بين مصر ومدين (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) يعني رفعناه من سماء إلى سماء ومن حجاب إلى حجاب حتى لم يكن بينه وبينه إلّا حجاب واحد.

وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا مكّي بن عبدان قال : حدّثنا أبو الأزهر قال : حدّثنا أسباط عن عطاء بن السائب عن ميسرة (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قال : قرّبه حتى سمع صريف القلم ، والنجيّ : المناجي كالجليس والنديم.

(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) وذلك حين سأل موسى ربّه عزوجل فقال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) (٣) وحين قال (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) (٤) فأجاب الله دعاءه.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) يعني ابن إبراهيم (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) كان إذا وعد أنجز ، وذلك أنّه وعد رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى يرجع إليه الرجل ، قاله مقاتل ، وقال الكلبي : انتظره حتى حال الحول عليه. (وَكانَ رَسُولاً) إلى قومه (نَبِيًّا) مخبرا عن الله سبحانه.

__________________

(١) سورة الزخرف : ٣٢.

(٢) في نسخة أصفهان : قتادة.

(٣) سورة طه : ٢٩ ـ ٣٠.

(٤) سورة الشعراء : ١٣.

٢١٨

(وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ) يعني قومه وكذلك هو في حرف ابن مسعود (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) صالحا زاكيا.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠))

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) وهو جدّ أبي نوح ، فسمّي إدريس لكثرة درسه الكتب ، واسمه أخنوخ وكان خيّاطا ، وهو أوّل من كتب بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأول من تكلّم في علم النجوم والحساب (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) يعني الجنة.

وقال الضّحاك : رفع إلى السماء السادسة ، وقيل : الرابعة.

أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا : أخبرنا مكي بن عبدان التميمي قال : حدّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدّثنا روح قال : حدّثنا سعيد عن قتادة في قوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : حدّثنا أنس بن مالك بن صعصعة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عرج به إلى السماء قال : «أتيت على إدريس في السماء : الرابعة» (١) ...

وكان سبب رفعه على ما قاله ابن عباس وكعب وغيرهما أنّه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال : يا ربّ أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد؟ اللهمّ خفّف عنه من ثقلها واحمل عنه حرّها ، فلمّا أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وحرّها ما لا يعرف ، فقال : يا ربّ خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال : أما إنّ عبدي إدريس سألني أن اخفّف عنك حملها وحرّها فأجبته ، فقال : يا ربّ اجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه

__________________

(١) مسند أبي يعلى : ٥ / ٢٩٣.

٢١٩

خلّة ، فأذن له حتى أتى إدريس وكان يسأله إدريس فكان ممّا سأله أن قال له : أخبرت أنّك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي فازداد شكرا وعبادة ، فقال الملك : لا يؤخّر الله (نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) قال : قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي ، فقال : نعم أنا مكلّمه لك فما كان يستطيع أن يفعل لأحد من بني آدم فهو فاعله لك ، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ، ثمّ أتى ملك الموت فقال : حاجة لي إليك ، فقال : أفعل كلّ شيء أستطيعه قال : صديق لي من بني آدم تشفّع بي إليك لتؤخّر أجله قال : ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله متى يموت فيقدّم في نفسه ، قال : نعم ، فنظر في ديوانه وأخبر باسمه فقال : إنك كلّمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا ، قال : وكيف؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس ، قال : إنّي أتيتك وتركته هناك ، قال : انطلق فما أراك تجده إلّا وقد مات ، فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء ، فرجع الملك فوجده ميّتا وقال وهب : كان يرفع لإدريس كلّ يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه ، فعجبت منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربّه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم ، وكان إدريس صائما يصوم الدهر ، فلمّا كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس فقال له الليلة الثالثة : إنّي أريد أن أعلم من أنت ، قال : أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي ، قال : فلي إليك حاجة ، قال : وما هي؟ قال : تقبض روحي ، فأوحى الله عزوجل إليه أن اقبض روحه ، فقبض روحه وردّها الله عليه بعد ساعة.

قال له ملك الموت : ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال : لأذوق كرب الموت وغمّته فأكون له أشدّ استعدادا ، ثم قال إدريس له : لي إليك حاجة أخرى ، قال : وما هي؟ قال : ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنّة وإلى النار ، فأذن الله له في رفعه إلى السماوات ، فلمّا قرب من النار قال : حاجة قال : وما تريد؟ قال : تسأل مالكا حتى يفتح لي بابها فأردها ، ففعل ثمّ قال : فكما أريتني النار فأرني الجنّة ، فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنّة ، ثم قال له ملك الموت : اخرج لتعود إلى مقرّك فتعلّق بشجرة وقال : لا أخرج منها ، فبعث الله ملكا حكما بينهما ينظر في قولهما فقال له الملك : ما لك لا تخرج؟ قال : لأن الله تعالى قال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (١) وقد ذقته ، وقال (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٢) وقد وردتها ، وقال (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٣) فلست أخرج ، فأوحى الله سبحانه إلى ملك الموت : دخل الجنة وبأمري يخرج ، فهو حيّ هناك فذلك قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨٥.

(٢) سورة مريم : ٧١.

(٣) سورة الحجر : ٤٨.

٢٢٠