موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

بقي هنا أُمور :

أحدها : هل الحكم يشمل ورثة الوارث ، كما إذا مات الموصى له قبل القبول ومات وارثه أيضاً قبل القبول ، فهل الوصيّة لوارث الوارث ، أوْ لا؟ وجوه (*) الشمول (١) وعدمه لكون الحكم على خلاف القاعدة ، والابتناء على كون مدرك الحكم انتقال حق القبول فتشمل ، وكونه الأخبار فلا.

______________________________________________________

إلّا أن هذا لا يمنع من الحكم بنفوذ الوصيّة وانتقالها إلى الورثة. وذلك لصحيحة محمد بن قيس المتقدِّمة ، فإنها وإن كانت واردة في موت الموصى له في حياة الموصي لكن الظاهر أنه لا خصوصيّة له ، بل المقام أولى في الحكم بالنفوذ من فرض موته في حياة الموصي. إذ الموصى له في الثاني لم يكن قابلاً للملكية ، نظراً لعدم تحقق شرطها أعني موت الموصي ، بخلاف المقام ، فيكون الحكم فيه ثابتاً بالأولوية القطعية.

واحتمال ملكية الميت في المقام المال آناً ما عند قبول الوارث ، بعيد غايته ولا دليل عليه.

والحاصل أن الموصى به ينتقل إلى ملك الورثة في المقام لانتقال الوصيّة إليهم تعبداً ، وكأنهم هم الموصى لهم ابتداءً.

(١) وهو الصحيح.

وذلك أما مع فرض تأخر موت الموصى له عن وفاة الموصي ، والقول بعدم اعتبار القبول في نفوذها ، فالأمر واضح. فإنه لا ينبغي الشك في قيام وارث الوارث مقامه فإنّ الموصى له قد ملك الموصى به بمجرد موت الموصي ، فبموته هو مع فرض عدم رده ينتقل ذلك المال إلى وارثه لا محالة ، وبموت الوارث ينتقل المال إلى وارثه كسائر أمواله ، ولا موجب للقول بعدم قيامه مقامه.

وكذا الحال لو اعتبرنا القبول في نفوذها وقلنا بكشفه ، فإن قبول وارث الوارث يكشف عن ملكية الموصى له للمال حين موت الموصي ، ومن هنا فيملكه هو لانتقال

__________________

(*) أقواها الأوّل ، بل لا وجه لغيره إذا كان موت الموصى له بعد موت الموصي على ما مرّ من عدم اعتبار القبول.

٣٢١

الثاني : إذا قبل بعض الورثة وردّ بعضهم ، فهل تبطل ، أو تصحّ ويرث الرادّ أيضاً مقدار حصته ، أو تصحّ بمقدار حصة القابل فقط ، أو تصحّ وتمامه للقابل ، أو التفصيل بين كون موته قبل موت الموصي فتبطل ، أو بعده فتصح بالنسبة إلى مقدار حصّة القابل؟ وجوه (*) (١).

______________________________________________________

أموال الموصى به بموته إلى وارثه ، وبموته إليه لا محالة.

نعم ، بناءً على القول بناقلية القبول ، لا مجال للحكم بصحّة الوصيّة وقيام الوارث مقام الموصى له فضلاً عن وارث الوارث ، مع قطع النظر عن صحيحة محمّد بن قيس فحكم هذا الفرض حكم ما بعده.

وأمّا مع فرض تقدّم موته على موت الموصي ، فالحكم بالانتقال إلى الوارث وإن كان على خلاف القاعدة ، ولذا تعين الحكم بالبطلان لولا صحيحة محمّد بن قيس ، إلّا أن الظاهر ثبوته في المقام أيضاً. وذلك لتضمن الصحيحة لبيان كبرى كلية ، هي انتقال الوصيّة إلى الوارث في فرض موت الموصى له ، فإن مقتضاها ثبوت وصيتين في المقام :

الاولى : الوصيّة بكون المال للموصى له ، وهذه الوصيّة هي التي أنشأها الموصي.

الثانية : الوصيّة بكون المال لورثة الموصى له ، وهذه الوصيّة إنما هي بجعل من الشارع وتعبّد منه.

وعليه فإذا ثبتت الوصيّة لورثة الموصى له ولو تعبداً ، كان مقتضى هذه الصحيحة ثبوتها لورثته.

وعلى هذا الأساس يظهر عدم الفرق ، بين كون مدرك الحكم هو انتقال حق القبول من الموصى له إلى ورثته ، وبين كونه هو صحيحة محمد بن قيس. ففي كل مورد كان للوارث أن يقبل الوصيّة ، كان ذلك لوارثه أيضاً.

(١) أصحّها التفصيل بين موت الموصى له قبل وفاة الموصي ، وموته بعد وفاته وقبل القبول.

__________________

(*) إذا كان موت الموصي قبل موت الموصى له ، فلا ريب في تعيّن الوجه الثاني على ما مرّ ، وأمّا إذا انعكس الأمر فعلى القول باشتراط تملّك الوارث بعدم ردّه فالمتعيِّن هو الثالث ، وأمّا على ما قوّيناه من أنه لا أثر للرد فيتعيّن الوجه الثاني أيضاً.

٣٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ففي الأوّل فالحكم بالبطلان وإن كان مقتضى القاعدة كما عرفت ، إلّا أن الدليل الخاص صحيحة محمد بن قيس دل على انتقال الوصيّة إلى ورثة الموصي له تعبداً ، وكأنها وصيّة لهم ابتداءً. وحيث إن الوصيّة للمتعدد تقتضي انحلالها إلى وصايا بعددهم ، تكون هذه الوصيّة منحلة لا محالة ، فيكون لكل منهما بنسبته إلى المجموع.

ومن هنا فاحتمال بطلانها من رأس لا وجه له. وكذا احتمال صحتها مع كون جميع الموصى به للقابل ، فإنّ الموصي لم ينشئ ذلك وليست الوصيّة كذلك ، بل له منها بنسبته إلى المجموع خاصّة.

وعليه فيدور الأمر بين الالتزام بصحتها مطلقاً مع إرث الرادّ أيضاً ، أو التفصيل بالالتزام بالصحّة بالنسبة إلى حصة القابل والبطلان بالنسبة إلى حصة الرادّ.

ومنشأ هذا الترديد هو الخلاف في تأثير الرد في المقام ، أعني الوصيّة التعبدية.

فإن قلنا إنه لا أثر لمثل هذا الردّ كما هو الصحيح ، لأن الدليل على تأثيره إنما كان هو الإجماع ، وحيث إنه مفقود في المقام لاختلاف الأقوال فيه كما عرفت ، فلا يكون له أثر. وعليه فتصحّ الوصيّة ، ويأخذ الرادّ حصته منها ، كما يأخذ القابل حصّته.

وإن قلنا إنّ الردّ من الوارث يؤثر أثره ، فلا بدّ من التفصيل في الصحّة بين حصّة القابل وحصّة الراد ، لانحلالها.

وأما في الثاني ، فإن قلنا بعدم اعتبار القبول كما اخترناه ، فلا ينبغي الإشكال في نفوذ الوصيّة مطلقاً ، من دون أن يكون لردّ الرادّ أثر ، إذ المال قد انتقل إليهم بالإرث لا بالوصيّة ، فإنّ الميت الموصى له قد ملكه بمجرد موت الموصي وعدم ردّه للوصيّة.

وإن قلنا باعتبار القبول ، فإن التزمنا بكاشفيته ، فالحكم كذلك أيضاً ، لما عرفت من أن الدليل على اعتباره ليس إلّا الإجماع ، وهو على تقدير تسليمه لا يقتضي إلّا اعتباره في الجملة ، أعني الأعم من قبوله هو وقبول بعض ورثته ، وحيث إنه متحقق لفرض قبول بعض الورثة ، كشف ذلك عن ملكية الموصى له للمال من حين موت الموصي. ومن هنا فيكون انتقاله إليهم بالإرث ، فلا يكون لردّ بعضهم أثر.

٣٢٣

الثالث : هل ينتقل الموصى به بقبول الوارث إلى الميت ثمّ إليه ، أو إليه ابتداء من الموصي؟ (١) وجهان ، أوجههما الثاني (*) (٢).

______________________________________________________

وإن التزمنا بناقليته ، جرى فيه ما تقدّم من الخلاف في تأثير الردّ في المقام وعدمه. فعلى الأوّل تصحّ بالنسبة إلى حصة القابل خاصة دون حصة الراد ، لانحلال الوصيّة. وعلى الثاني تصحّ مطلقاً ، فيأخذ الرادّ كما يأخذ القابل.

(١) يظهر أثر هذا النزاع في أخذ الزوجة من الأرض إذا تعلقت بها الوصيّة على الثاني دون الأوّل ، وخروج ديون الميت ووصاياه من الموصى به على الأوّل دون الثاني.

(٢) بل الصحيح هو التفصيل بين موت الموصى له في حياة الموصي ، وموته بعد وفاته.

ففي الأوّل ينتقل الموصى به إليهم مباشرة ، ومن دون وساطة الموصى له لعدم قابليته للمكية ، حين موت الموصي.

وفي الثاني ينتقل المال إلى الموصى له أوّلاً ، حيث لم يتحقق منه الرد كما هو المفروض ، ومن ثمّ ينتقل إليهم بالإرث ، فحاله في ذلك حال سائر ما تركه الميت.

هذا إذا لم نقل باعتبار القبول ، كما هو الصحيح. وأما بناءً على اعتباره ، فإن قلنا بكونه كاشفاً فالأمر كذلك ، حيث يكشف قبولهم عن ملك الميت له أوّلاً ، وانتقاله بعد ذلك إليهم بالإرث.

واحتمال الكشف عن ملكية الورثة له من حين موت الموصي ، ضعيف ولا وجه له ، فإن الوصيّة إنما كانت للموصى له دون الورثة ، فانتقالها إليهم يحتاج إلى الدليل. وإن قلنا بكونه ناقلاً ، كان مقتضى الدليل انتقال الموصى به إلى الورثة ابتداءً ومن دون نقصان ، لانتقال الوصيّة إليهم تعبداً.

__________________

(*) هذا فيما إذا مات الموصى له قبل الموصي ، وأمّا في عكسه فالمال ينتقل إلى الوارث من الموصى له على ما مرّ.

٣٢٤

وربّما يبنى (١) على كون القبول كاشفاً أو ناقلاً. فعلى الثاني الثاني. وعلى الأوّل الأوّل. وفيه : أنه على الثاني أيضاً يمكن أن يقال بانتقاله إلى الميت آناً ما ثمّ إلى وارثه. بل على الأوّل يمكن أن يقال بكشف قبوله عن الانتقال إليه من حين موت الموصي ، لأنه كأنه هو القابل ، فيكون منتقلاً إليه من الأوّل.

الرابع : هل المدار على الوارث حين موت الموصى له إذا كان قبل موت الموصي ، أو الوارث حين موت الموصي ، أو البناء على كون القبول من الوارث موجباً للانتقال إلى الميت ثمّ إليه ، أو كونه موجباً للانتقال إليه أوّلاً من الموصي فعلى الأوّل الأوّل ، وعلى الثاني الثاني؟ وجوه (*) (٢).

الخامس : إذا اوصي له بأرض فمات قبل القبول ، فهل ترث زوجته منها أوْ لا؟

______________________________________________________

واحتمال تملك الميت للمال على هذا التقدير آناً ما وإن كان ممكناً إلّا أنه لا دليل عليه ، فإن مقتضى الوصيّة ملكية الموصى له للمال حين موت الموصي وهي لم تتحقّق والملكية عند القبول من الوارث لم ينشئها الموصي ولم يدلّ عليها دليل.

(١) ظهر الحال فيه وفيما يأتي مما تقدّم.

(٢) أوجهها الأوّل.

وذلك أما بناءً على انتقال المال إلى الموصى له الميت أوّلاً ، ومن ثمّ انتقاله إليهم فالأمر واضح. فإنه وبعد انتقاله إليه ، ينتقل عند موته إلى ورثته الموجودين في ذلك الزمان لا محالة ، على ما تقتضيه قواعد الإرث.

وأمّا بناءً على انتقاله إليهم مباشرة ، فلظاهر قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد ابن قيس : «الوصيّة لوارث الذي أوصى له» فإنه ظاهر في وارثه حين موته. وحمله على وارثه حين موت الموصي ، تقييد بلا دليل ، ولا وجه للمصير إليه.

ومن هنا فلو كان للموصى له حين موته ابن وأخ ، فمات الابن قبل موت الموصي وترك أولاداً ثمّ مات الموصي ، كانت الوصيّة لأولاد الابن دون عم أبيهم.

__________________

(*) أوجهها الأوّل.

٣٢٥

وجهان مبنيّان على الوجهين في المسألة المتقدِّمة (*) (١). فعلى الانتقال إلى الميت ثمّ إلى الوارث ، لا ترث. وعلى الانتقال إليه أوّلاً لا مانع من الانتقال إليها ، لأنّ المفروض أنها لم تنتقل إليه إرثاً من الزوج ، بل وصيّة من الموصي. كما أنه يبنى على الوجهين إخراج الديون والوصايا من الموصى به بعد قبول الوارث وعدمه (٢).

أمّا إذا كانت بما يكون من الحبوة ، ففي اختصاص الولد الأكبر به ، بناءً على الانتقال إلى الميت أوّلاً ، فمشكل (٣) لانصراف الأدلّة عن مثل هذا.

______________________________________________________

(١) يعني الأمر الثالث. وقد عرفت فيه أن الصحيح هو التفصيل بين موت الموصى له في حياة الموصي ، وموته بعد وفاته. ففي الأوّل ترث منها ، لانتقال الوصيّة إليهم مباشرة. وفي الثاني لا ترث منها ، إلّا على تقدير اعتبار القبول والقول بكونه ناقلاً.

وقد يستشكل فيه بأن الدليل لما دلّ على كونها على نحو الإرث ، كان المستفاد منه حرمان من يحرم من الإرث كلّاً أو بعضاً منها. وحيث إن الزوجة تحرم من الأراضي إرثاً ، فهي تحرم منها وصيّة أيضاً ، لتنزيلها منزلته.

إلّا أنه مدفوع بأنّ الصحيحة لم تتضمّن تنزيل الموصى به منزلة التركة ، وإنما تضمّنت تنزيل الورثة منزلة الموصى له الميت ، وكأنه هم الموصى لهم ابتداءً. وحيث إنّ الزوجة داخلة فيهم بلا خلاف وإن كانت هي لا ترث من الأرض ، ولذا لا إشكال في شمول الوصيّة لها فيما لو أوصى الموصي بالأرض للورثة ابتداءً ، فهي أيضاً ممن جعلت الوصيّة له تعبّداً.

وهذا لا ينافي تقسيمها عليهم على نحو تقسيم الإرث ، فإنها وإن كانت الوصيّة لهم بالتعبّد إلّا أن ظاهر الدليل كونها لهم بما هم ورثة الموصي له ، فينبغي تقسيمها على نحو تقسيم الإرث.

(٢) ظهر الحال فيه مما تقدّم في الأمر الثالث ، فراجع.

(٣) وذلك لاختصاص الحبوة بما أعدّه الميت لنفسه وجعله مختصاً به ، فلا تشمل ما لم يكن كذلك حتى ولو كان مملوكاً له.

__________________

(*) وقد عرفت التفصيل فيها.

٣٢٦

السادس : إذا كان الموصى به ممن ينعتق على الموصى له (١). فإن قلنا بانتقاله

______________________________________________________

هذا كلّه فيما إذا مات الموصى له بعد وفاة الموصي ، وقلنا بعدم اعتبار القبول ، أو اعتبرناه وجعلناه كاشفاً. وأما لو مات في حياة الموصي أو بعده ، مع القول باعتبار القبول ناقلاً ، فلا ينبغي الإشكال في عدم إجراء حكمها عليه ، نظراً لعدم انتقاله إليه بالمرّة.

(١) الكلام في هذه المسألة :

تارة يقع في الموصى به الذي ينعتق على الموصى له خاصة دون وارثه ، كما لو اوصي له بابنه الرق وكان له أولاد أحرار ، فإنه ينعتق عليه خاصة دون أولاده ، حيث لا مانع من ملك الرجل لأخيه.

وأُخرى في الموصى به الذي ينعتق على الوارث أيضاً ، كما لو اوصي له ببنته ، حيث لا يجوز للرجل أن يملك محارمه من النساء.

أمّا المقام الأوّل : فإن كان موت الموصى له في حياة الموصي ، فعلى ما اخترناه من انتقال الوصيّة منه إلى ورثته بالتعبد ، فلا إشكال في عدم انعتاقه إذ لم يدخل ولا آناً ما في ملك الموصى له ، وإنما انتقل من الموصي إليهم مباشرة ، والمفروض قابليتهم لتملّكه وعدم انعتاقه عليهم قهراً.

وعلى ما ذهب إليه بعضهم ، من انتقاله إلى الموصى له آناً ما ومن ثمّ انتقاله إلى الورثة بالإرث ، ينعتق لا محالة ، لانعتاقه بمجرد الدخول في ملك الموصى له ، ومعه فلا يبقى مجال لانتقاله إلى الورثة ، نظراً لعدم شمول ما ترك له. وبذلك يكون من مصاديق الوارث المتجدد بعد الموت ، فيأخذ تمام التركة إذا كان انعتاقه قبل القسمة وكان هو في مرتبة سابقة على الموجودين وإلّا شاركهم فيها ، وإن كان انعتاقه بعد القسمة فلا شي‌ء له.

وإن كان موت الموصى له بعد وفاة الموصي ، فعلى ما اخترناه من كون الوصيّة إيقاعاً محضاً فالأمر واضح. فإنه وبمجرد موت الموصي ينتقل إلى ملك الموصى له آناً ما ، فالحال فيه هو الحال في موت الموصى له قبل موت الموصي طابق النعل بالنعل.

٣٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلنا بانتقاله من الموصي إليهم مباشرة ، فلا ينعتق. وإن قلنا بانتقاله إلى الموصى له أوّلاً ، ومن ثمّ إليهم ، ينعتق بدخوله في ملك الموصى له قهراً.

وإن جعلناه كاشفاً ، كشف قبولهم عن انعتاقه حين موت الموصي ، فيرث معهم إذا كان في طبقتهم ، ويختص بالتركة إذا كان سابقاً عليهم ، بلا فرق في ذلك بين كونه قبل القسمة أو بعدها ، فإنه ليس من مصاديق الوارث المتجدِّد بعد الوفاة إذ المفروض حريته في حياة الموصي له ، غاية الأمر أن الكشف عن ذلك كان بالفعل.

وقد يستشكل فيه فيما إذا كان الموصى به أحق منهم بالإرث ومتقدماً عليهم بحسب الطبقة ، كما إذا كان الموصى به ابن الموصى له وكانت الورثة إخوته ، بأن لازم ذلك كشف قبولهم عن انتقال حق قبول الوصيّة إليه أيضاً واختصاصه به دون غيره ومعه كيف يكون قبولهم كاشفاً عن حريته ، حيث يلزم من كونه وارثاً عدم كونه وارثاً ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

وبعبارة اخرى : إنّ إخوة الموصى له إن كانوا ورثة له ، فكيف ينتقل المال إلى ابنه بعد انعتاقه ، وإن لم يكونوا كذلك فلا أثر لقبولهم أيضاً! وقد يجاب عنه بأن حق القبول إنما هو لوارث الميت عند موته ، دون من تجدد إرثه ولو كشفاً.

وفيه : أنه لا فرق في القبول بين الوارث عند موت الميت والمتجدد ، ولذا لو أعتق العبد قبل قبول إخوته كان حاله حالهم. فإذا كان هذا حال المعتق بعد وفاة الموصي له ، ففي ما نحن فيه يكون ذلك بالأولوية ، حيث إن التجدد في الكشف دون الحرية.

فالصحيح أن يقال : إن ثبوت حق القبول للوارث وكفايته عن قبول الموصى له ، لم يكن بدليل لفظي كي يقال إنه يلزم من وجوده عدمه ، وإنما كان اعتباره في صحّة الوصيّة بناءً على القول به للإجماع ، والمتيقن منه من كان وارثاً من غير جهة القبول وأمّا الوارث من جهة القبول فلا إجماع على اعتبار قبوله.

وبعبارة اخرى : إن القبول حق لمن يكون وارثاً في مرتبة سابقة عن هذا الحق وأمّا من يكون وارثاً بهذا الحق فلا إجماع على اعتبار قبوله.

٣٢٨

إليه أوّلاً بعد قبول الوارث ، فإن قلنا به كشفاً ، وكان موته بعد موت الموصي (*) (١) انعتق عليه ، وشارك الوارث ممن في طبقته ، ويقدم عليهم مع تقدّم طبقته ، فالوارث يقوم مقامه في القبول ، ثمّ يسقط عن الوارثية ، لوجود من هو مقدّم عليه.

وإن كان موته قبل موت الموصي ، أو قلنا بالنقل وأنه حين قبول الوارث ينتقل إليه آناً ما ، فينعتق (٢) لكن لا يرث إلّا إذا كان انعتاقه قبل قسمة الورثة

______________________________________________________

وعليه فبقبولهم ينكشف انعتاقه من حين موت الموصي ، وبه ينتقل جميع المال إليه.

وأمّا المقام الثاني : ففيه ينعتق الموصى به على جميع التقادير. إلّا أن الأثر بين الفروض المتقدِّمة يظهر في إرثه من الموصى له.

فإن كان موت الموصى له قبل موت الموصي ، وقلنا بانتقال الموصى به إلى الورثة مباشرة ، فهو من مصاديق الوارث المتجدد ، فيرث قبل القسمة لا بعدها. وإن قلنا بانتقاله إلى الموصى له أوّلاً ومن ثمّ إليهم ، فهو يكشف عن انعتاقه حين موت الموصي وهو يقتضي إرثه مطلقاً ، سواء قبل القسمة وبعدها.

وإن كان موت الموصى له بعد موت الموصي ، فإن لم نعتبر القبول في الوصيّة ، أو اعتبرناه وجعلناه كاشفاً ، فهو يرث مطلقاً ، لانكشاف حريته حين موت الموصى له. وإن جعلناه ناقلاً ، كان الموصى به من مصاديق الوارث المتجدد بعد الوفاة.

(١) عرفت فيما تقدّم أنه لا حاجة في هذا الفرض إلى قبول الوارث ، إذ الموصى به ينتقل وبمجرد موت الموصي إلى ملك الموصى له ، وعليه فينعتق سواء أقبل الورثة أم لم يقبلوا.

(٢) ظهر الحال فيه مما تقدّم في الفرض الأوّل ، حيث لا مجال للقول بالانعتاق بعد

__________________

(*) لا حاجة في هذا الفرض إلى قبول الوارث على ما مرّ ، فيحكم بانعتاق الموصى به من الأوّل ، وأمّا إذا مات بعد الموصى له فلا وجه للانعتاق أصلاً ، لأنّ الوارث حينئذ يتلقّى الموصى به من الموصي دون الموصى له.

٣٢٩

وذلك لأنه على هذا التقدير انعتق بعد سبق سائر الورثة بالإرث. نعم ، لو انعتق قبل القسمة في صورة تعدد الورثة شاركهم.

وإن قلنا بالانتقال إلى الوارث من الموصي لا من الموصى له (١) فلا ينعتق عليه ، لعدم ملكه ، بل يكون للورثة ، إلّا إذا كان ممن ينعتق عليهم أو على بعضهم فحينئذ ينعتق ، ولكن لا يرث إلّا إذا كان ذلك مع تعدد الورثة وقبل قسمتهم.

السابع : لا فرق في قيام الوارث مقام الموصى له بين التمليكية والعهدية (٢).

[٣٩٠٦] مسألة ٨ : اشتراط القبول على القول به مختصّ بالتمليكية كما عرفت ، فلا يعتبر في العهدية (٣). ويختصّ بما إذا كان لشخص معين أو أشخاص معينين. وأما إذا كان للنوع أو للجهات ، كالوصيّة للفقراء والعلماء أو للمساجد

______________________________________________________

فرض انقلاب الوصيّة إلى الوارث ، وانتقاله من الموصي إليه مباشرة ومن غير وساطة الموصى له.

(١) كما هو الصحيح على ما تقدّم بيانه.

(٢) والوجه فيه إطلاق صحيحة محمّد بن قيس ، فإن السؤال فيها إنما هو عن رجل أوصى لآخر ، وهو كما يشمل الوصيّة التمليكية يشمل الوصيّة العهدية ، فإنه مطلق من حيث تمليك الموصي شيئاً له ، أو أمره للوصي بأن يدفع إليه شيئاً.

ودعوى اختصاصها بالوصيّة التمليكية ، عارية عن القرينة ولا شاهد لها.

ثمّ إن هذه الصحيحة وافية بالمدعى ، ومعه فلا حاجة إلى التمسك برواية محمد بن عمر الباهلي (الساباطي) المتقدِّمة كي يورد عليها بضعف السند. نعم ، لا بأس بجعلها مؤيدة للحكم في المقام ، فإنها واردة في ذلك ودالة عليه بوضوح لولا ضعف سندها.

(٣) بلا خلاف ولا إشكال ، لا من الموصى إليه ولا من الموصى له.

أمّا الأوّل : فلجملة من النصوص الدالّة على عدم اعتبار قبوله صريحاً. نعم ، له حق الردّ بشرط إعلام الموصي به.

وأمّا الثاني : فقد يفرض أن الموصى به أمر غير متوقف على قبوله ، كما لو أوصى

٣٣٠

فلا يعتبر قبولهم (١) أو قبول الحاكم فيها للجهات (٢) وإن احتمل ذلك أو قيل. ودعوى أن الوصيّة لها ليست من الوصيّة التمليكية بل هي عهدية ، وإلّا فلا يصح تمليك النوع أو الجهات ، كما ترى (٣).

وقد عرفت سابقاً قوة عدم اعتبار القبول مطلقاً ، وإنما يكون الرد مانعاً ، وهو أيضاً لا يجري في مثل المذكورات ، فلا تبطل بردّ بعض الفقراء مثلاً ، بل إذا

______________________________________________________

الوصي بدفع ديونه وتفريغ ذمته. ففيه تنفذ الوصيّة ويلزم الوصي القيام بها ، سواء أقبل الموصى له أم لم يقبل.

وقد يفرض توفقه على القبول وعدم تحققه قهراً ، كما لو أوصى بهبة داره له ، أو بيعه له بنصف ثمن مثله. ففيه أيضاً لا يكون عدم قبوله موجباً لبطلان الوصيّة ، فإن القبول إنما يعتبر في صحّة العقد الموصى به لا في صحّة الوصيّة ، وإنما يوجب رفضه جعل الوصيّة متعذر المصرف. وحينئذ فيبقى الموصى به على ملك الميت ، ولا يكون إرثاً لأنه قد أبقاه على ملكه ، غاية الأمر أنه عين له مصرفاً معيناً وهو متعذر ، نظراً لرفض الموصى له ، فيصرف في وجوه البر مع تحري الأقرب فالأقرب إلى الوصيّة.

وهذا بخلاف الوصيّة التمليكية ، بناءً على اعتبار القبول فيها. فإن الموصي قد أخرج الموصى به عن ملكه وملّكه للموصى له ، فإذا رفض الموصى له القبول كشف ذلك عن بطلان الوصيّة. ومن هنا فينتقل الموصى به إلى ملك الورثة ، حيث لم يبقه الموصي على ملكه.

إذن يصح أن يقال وعلى نحو الإطلاق : إن القبول غير معتبر في الوصيّة العهدية سواء في ذلك الموصى إليه والموصى له.

(١) لعدم إمكانه من الكلي والنوع والجهة ، وقبول الأشخاص وإن أمكن إلّا أنه لا يجدي ، باعتبار أن قبولهم ليس قبولاً للكلي.

(٢) لعدم الدليل عليه ، بل مقتضى إطلاقات أدلّتها نفوذها من غير قبول.

(٣) لما تكرر منّا غير مرة ، من أن الملكية ليست من الأعراض الخارجية كي تحتاج إلى معروض خارجي ، وإنما هي من الاعتبارات ، وهي كما يصحّ تعلقها بالكلي يصح أن تكون للكلي ، كما التزموا بذلك في باب الخمس والزكاة والوقف بلا خلاف.

٣٣١

انحصر النوع في ذلك الوقت في شخص فردّ لا تبطل (١).

[٣٩٠٧] مسألة ٩ : الأقوى في تحقّق الوصيّة كفاية كلّ ما دلّ عليها من الألفاظ ، ولا يعتبر فيه لفظ خاصّ (٢) بل يكفي كل فعل دالّ عليها (٣) حتى الإشارة والكتابة ولو في حال الاختيار إذا كانت صريحة في الدلالة بل أو ظاهرة ، فإنّ ظاهر الأفعال معتبر كظاهر الأقوال. فما يظهر من جماعة اختصاص كفاية الإشارة والكتابة بحال الضرورة لا وجه له. بل يكفي وجود مكتوب منه بخطّه ومهره إذا علم كونه إنما كتبه بعنوان الوصيّة (٤).

ويمكن أن يستدلّ عليه بقوله (عليه السلام) : «لا ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت ليلة إلّا ووصيّته تحت رأسه» (٥). بل يدلّ عليه ما رواه الصدوق عن إبراهيم

______________________________________________________

وعليه فإذا لم يكن في قيام الملكية بالكلي أو كونها للكلي محذور ، لوقوعه في الخارج فضلاً عن إمكانه ، أمكن الالتزام به في الوصيّة أيضاً ، بأن يوصي بداره للفقراء أو العلماء أو الزائرين.

(١) لأنه رد من الشخص بخصوصه ، وهو بما هو شخص ليس بموصى له ، فلا أثر لردّه. وبهذا تفترق هذه الوصيّة عن الوصيّة إلى المعيّن.

(٢) على ما تقتضيه إطلاقات أدلّتها.

(٣) لإطلاق أدلّتها أيضاً ، فإنها غير مقيّدة باللفظ ، بل مقتضاها اللزوم وحرمة التبديل بمجرد صدق الوصيّة كيفما تحقّقت.

ودعوى تقييد الإطلاقات بالإجماع على احتياج العقود إلى اللّفظ.

مدفوعة بأنه لو تمّ فهو إنما يختصّ بالعقود اللّازمة ، وأما العقود الجائزة التي منها الوصيّة بناءً على كونها عقداً فلا إجماع على اعتبار اللفظ فيها.

(٤) لصدق الوصيّة عليها ، وعليه فيتعين العمل بها لإطلاقات الأدلّة.

(٥) رواه المفيد في المقنعة باختلاف يسير جدّاً (١). إلّا أنه لا يصلح للاستدلال به

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ١ ح ٧.

٣٣٢

ابن محمّد الهمداني (١) قال : كتبتُ إليه : كتب رجل كتاباً بخطِّه ، ولم يقل لورثته هذه وصيّتي ، ولم يقل إني قد أوصيت ، إلّا أنه كتب كتاباً فيه ما أراد أن يوصي به ، هل يجب على ورثته القيام بما في الكتاب بخطِّه ولم يأمرهم بذلك؟ فكتب : «إن كان

______________________________________________________

فإنه مضافاً إلى ضعف سنده بالإرسال مخدوش دلالة ، إذ لا دلالة فيه على كفاية ما يوجد بخطه وكونه حجة على الورثة بحيث يلزمهم العمل به ، فإنه وارد في الترغيب في الاستعداد للموت وعدم الاتكال على طول الأمل ، وأين هذا من حجية ما يوجد بخطِّه؟!.

(١) رواه الصدوق (قدس سره) بإسناده عن إبراهيم بن محمد الهمداني (١). ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن عمر بن علي ، عن إبراهيم بن محمد الهمداني (٢).

والطريق الثاني ضعيف بعمر بن علي الذي هو عمر بن علي بن عمر بن يزيد حيث لم يرد فيه توثيق ، غير أن أحمد بن محمد بن يحيى قد روى عنه ولم يستثنه ابن الوليد ، إلّا أننا قد ذكرنا في كتابنا معجم رجال الحديث أن ذلك لا ينفع في إثبات الوثاقة للرجل ، فراجع (٣). على أن الرواية بطريقيها ضعيفة بإبراهيم بن محمّد الهمداني نفسه ، فإنه لم تثبت وثاقته رغم كونه من وكلائهم (عليهم السلام) ، لما أوضحناه في مقدّمة كتابنا معجم رجال الحديث من أن الوكالة وحدها لا تكفي في إثبات وثاقة الوكيل.

نعم ، ورد في جملة من النصوص مدح الرجل وتجليله ، إلّا أنها جميعاً ضعيفة السند ، بل وراوي بعضها هو إبراهيم بن محمد الهمداني نفسه ، فلا تصلح للاعتماد عليها لإثبات وثاقة الرجل.

بل وعلى تقدير تماميتها سنداً لا تصلح دليلاً للحكم. وذلك لما تضمنته من حجية

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٤٨ ح ٢ ، الفقيه ٤ : ١٤٦ / ٥٠٧.

(٢) التهذيب ٩ : ٢٤٢ / ٩٣٦.

(٣) معجم رجال الحديث ٩ : ١٨٠ رقم ٦٠٥٤.

٣٣٣

له ولد ينفذون كل شي‌ء يجدون في كتاب أبيهم في وجوه البرّ وغيره».

[٣٩٠٨] مسألة ١٠ : يشترط في الموصي أُمور :

الأوّل : البلوغ ، فلا تصحّ وصيّة غير البالغ (١). نعم ، الأقوى وفاقاً للمشهور صحّة وصيّة البالغ عشراً إذا كان عاقلاً ، في وجوه المعروف للأرحام أو غيرهم (*) (٢) لجملة من الأخبار المعتبرة (٣) خلافاً لابن إدريس ، وتبعه جماعة.

______________________________________________________

هذه الوصيّة لولد الميت خاصة بعد أن كان السؤال عن حجيتها لمطلق الوارث ، ومفهوم ذلك عدم حجيتها لدى غيرهم ، وهذا التفصيل ممّا لم يقل به أحد ولا يمكن الالتزام به ، فلا بدّ من رفع اليد عنها.

إذن فالصحيح في الحكم هو التمسك بإطلاقات أدلة نفوذ الوصيّة ولزومها.

(١) في الجملة إجماعاً.

(٢) في نفوذ وصيّته لغير الأرحام إشكال يأتي عند استعراض النصوص ، فلاحظ.

(٣) منها معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : «إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيّته» (١).

ومعتبرة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : «إذا أتى على الغلام عشر سنين ، فإنه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز» (٢).

ومعتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً ، قال : «إذا بلغ الصبي خمسة أشبار أُكلت ذبيحته ، وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيّته» (٣).

ومعتبرة أبي أيوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الغلام ابن عشر سنين يوصي قال : «إذا أصاب موضع الوصيّة جازت» (٤).

__________________

(*) صحّة وصيّته للغرباء محل إشكال.

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٤٤ ح ٣ ٧.

(٢) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٤٤ ح ٣ ٧.

(٣) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٤٤ ح ٣ ٧.

(٤) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٤٤ ح ٣ ٧.

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ومعتبرة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن وصيّة الغلام ، هل تجوز؟ قال : «إذا كان ابن عشر سنين جازت وصيّته» (١).

إلى غير ذلك من النصوص المعتبرة سنداً والبالغة حدّ الاستفاضة ، الدالّة على نفوذ وصيّة الصبي إذا بلغ عشر سنين صريحاً.

ودعوى منافاتها لما دلّ على اعتبار العقل ، كمعتبرة جميل بن دراج (عن محمّد بن مسلم على ما في التهذيب ـ) عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال : «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيّته وإن لم يحتلم» (٢) حيث إنها جعلت العبرة في نفوذ الوصيّة العقل دون البلوغ عشر سنين.

مدفوعة بأن العقل معتبر لا محالة وعلى كل تقدير ، سواء أوَرد ذكره في النص أم لم يرد ، فإنه معتبر في الموصي البالغ فضلاً عن الصبي الذي لم يبلغ الحلم. ومن هنا فلا يكون ذكره قيداً زائداً ، ومن ثمّ فلا يكون المقام من اختلاف الشرطيتين.

نعم ، هذه الرواية تخالف تلك النصوص من حيث إطلاقها لعدم البلوغ ، فتشمل حتى الذي لم يبلغ عشر سنين ، إلّا أن من الواضح لزوم تقييد إطلاقها بتلك ، على ما تقتضيه قواعد الجمع بين المطلق والمقيد.

هذا ولكن دلّ بعض النصوص على نفوذ وصيّة الصبي إذا بلغ ثمان سنوات. ففي رواية الحسن بن راشد عن العسكري (عليه السلام) ، قال : «إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائز أمره في ماله ، وقد وجب عليه الفرائض والحدود ، وإذا تمّ للجارية سبع سنين فكذلك» (٣). وقد ذهب إليه ابن الجنيد (قدس سره) (٤).

إلّا أن هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها ، وذلك لما اتفقت عليه نسخ الرواية في المصادر على نقلها عن علي بن الحسن بن فضال عن العبدي عن الحسن بن راشد

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٤٤ ح ٣ ٧.

(٢) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوقوف والصدقات ، ب ١٥ ح ٢ ، التهذيب ٩ : ١٨٢ / ٧٣٣.

(٣) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوقوف والصدقات ، ب ١٥ ح ٤.

(٤) انظر فتاوي ابن الجنيد : ٢٣٨ ٢٤٤.

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث إن العبدي مجهول ولا يعلم من هو ، لعدم ورود ذكر له في كتب الرجال على الإطلاق.

نعم ، من المحتمل أن تكون النسخ جميعاً مغلوطة نتيجة للسهو في النسخة الأصلية ، وإن الصحيح هو العبيدي الذي هو محمد بن عيسى بن عبيد ، بقرينة رواية علي بن الحسن بن فضال عنه كثيراً ، وروايته عن الحسن بن راشد كذلك. فالرواية تكون معتبرة ، فإن العبيدي ثقة ، بل قال ابن نوح : (من مثل العبيدي) وإن ناقش فيه ابن الوليد ، إلّا أننا ذكرنا في معجمنا أن الرجل ثقة (١).

لكن ذلك كلّه لا ينفع في التمسك بهذه الرواية والاستدلال بها. وذلك لأنها غير واردة في الوصيّة بخصوصها ، وإنما هي دالّة على جواز أمره مطلقاً ونفوذ جميع تصرفاته عند بلوغه ثماني سنين ، وهي بهذا تخالف جميع النصوص الموافقة للكتاب الدالّة على الحجر عليه ورفع القلم عنه ، وعدم مؤاخذته بشي‌ء من أفعاله أو أقواله ما لم يبلغ. فلا بدّ من طرحها ورفع اليد عنها ، حتى على تقدير تماميتها سنداً.

ثمّ إنّ هذه النصوص لا تنافيها صحيحة أبي بصير المرادي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، أنه قال : «إذا بلغ الغلام عشر سنين وأوصى بثلث ماله في حق جازت وصيّته ، وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيّته» (٢).

حيث تضمّنت التفصيل بين الغلام إذا بلغ عشر سنين فتنفذ وصيّته بقدر ثلثه ، وبين ما إذا بلغ سبع سنين حيث تنفذ في اليسير من ماله ، فإنها غير مخالفة لما تقدّم بقدر مدلول تلك النصوص.

نعم ، هي تضمنت نفوذ وصيّة من بلغ سبع سنين في اليسير من ماله. وهذا إن لم يتم إجماع على خلافه فهو ، وإلّا كما هو الظاهر فلا بدّ من رفع اليد عنها ورد علمها إلى أهله.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٧ : ١١٠ رقم ١١٥٠٨.

(٢) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٤٤ ح ٢.

٣٣٦

الثاني : العقل ، فلا تصحّ وصيّة المجنون (١). نعم ، تصحّ وصيّة الأدواري منه إذا

______________________________________________________

ومنه يظهر الحال في صحيحة محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «إن الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يدرك ، جازت وصيّته لذوي الأرحام ولم تجز للغرباء» (١).

فإن الحال فيها هو الحال في معتبرة أبي بصير المتقدِّمة. فإن تمّ إجماع على عدم التفصيل فلا بدّ من طرحها ، كما يظهر ذلك من ذهاب المشهور إلى عدم الفرق ، وإلّا كما هو الظاهر فلا بدّ من تقييد إطلاق ما دلّ على نفوذ وصيّة الصبي إذا بلغ عشراً.

وبعبارة اخرى نقول : إن النسبة بين صحيحة محمد بن مسلم وبين ما دلّ على نفوذ وصيّة الغلام إذا بلغ عشراً ، إنما هي العموم والخصوص من وجه ، فهما قد يجتمعان وقد يفترقان. فيجتمعان في وصيّة الغلام البالغ عشراً لأرحامه. ويفترقان في موردين : وصيّة البالغ عشراً لغير أرحامه ، ووصيّة من لم يبلغ عشراً لأرحامه. حيث إن مقتضى ما دل على نفوذ وصيّة البالغ عشراً هو صحّة الأوّل وفساد الثاني ، في حين إن مقتضى صحيحة محمّد بن مسلم هو العكس فيهما. وحينئذ فمقتضى القواعد هو التساقط ، والرجوع إلى عموم ما دلّ على حجر الصبي وعدم نفوذ تصرّفاته ما لم يحتلم.

فما أفاده الماتن (قدس سره) وفاقاً للمشهور ، لا يمكن المساعدة عليه ، لأن القدر المتيقن من نفوذ وصيّة الصبي هو ما إذا بلغ عشراً وكانت وصيّته للأرحام. اللهمّ إلّا أن يثبت إجماع على عدم الفرق ، لكنه غير ثابت.

(١) لرفع القلم عنه فلا أثر لتصرفاته ، ولا تثبت له الكتابة في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) (٢). وكذا النصوص الواردة في المقام.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٤٤ ح ١.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٨٠.

٣٣٧

كانت في دور إفاقته (١). وكذا لا تصحّ وصيّة السكران حال سكره (٢). ولا يعتبر استمرار العقل ، فلو أوصى ثمّ جن ، لم تبطل (٣).

______________________________________________________

(١) لتمامية الشرط في حقه.

(٢) إذا بلغ حد فقد العقل وسلب الإدراك والشعور ، فإنّه يلحق حينئذ بالمجنون وإلّا فلا دليل على اعتبار عدمه ، لأن الدليل منحصر في إلحاقه بالمجنون وهو ليس كذلك.

(٣) كما هو مقتضى صريح كلماتهم وحكمهم بصحّة وصيّة المجنون الأدواري في حال إفاقته.

ودعوى أن الوصيّة من العقود الجائزة ، وهي تبطل بالجنون المتأخر ما لم يدلّ دليل على عدمه ، وهو مفقود في المقام.

مدفوعة بأنها من الدعاوي التي لم يقم عليها دليل.

نعم ، هي ثابتة في موردين : أحدهما من العقود ، والآخر ليس منها.

فالأوّل : الوكالة ، حيث إن الوكيل إنما يجوز له التصرّف فيما جاز للموكل التصرّف فيه ، فإذا لم يكن للموكل ذلك للحجر عليه ، لم يكن للوكيل أيضاً. وهذا يعني بطلان الوكالة ، وهل هو على الإطلاق ، أو أنها تعود بعد ارتفاع الجنون؟ فيه كلام يأتي في محلِّه.

والثاني : الإباحة والإذن ، حيث يبطلان بالجنون المتأخر بلا إشكال ، باعتبار أنها شرط معتبر في كل تصرّف حيث لا بدّ من كونها مقارناً له ، وهي لا تصحّ من المجنون. إلّا أنها ليست من العقود.

وكيف كان ، فثبوت هذه القضية في مورد من العقود ، لا يقتضي ثبوتها وعمومها لكل العقود الجائزة. ومن هنا فلا مجال للحكم بالبطلان في المقام عند طرو الجنون للموصي بعد الحكم بصحتها.

٣٣٨

كما أنه لو أُغمي عليه (١) أو سكر لا تبطل وصيّته. فاعتبار العقل إنما هو حال إنشاء الوصيّة.

الثالث : الاختيار (٢).

الرابع : الرّشد ، (*) فلا تصحّ وصيّة السفيه (٣) وإن كانت بالمعروف ، سواء كانت قبل حجر الحاكم أو بعده. وأمّا المفلس فلا مانع من وصيّته وإن كانت بعد

______________________________________________________

(١) يظهر الحال فيه مما تقدّم في الجنون ، بناءً على إلحاقه به لا بالنوم.

(٢) إجماعاً ، ولرفع القلم عن المكره. حيث قد عرفت في بعض الأبحاث السابقة أن ظاهر الرفع ارتفاع كل ما يترتب على العمل من الآثار ، سواء في ذلك الكفارة والحدّ وغيرهما ، فيفرض ذلك الإنشاء كالعدم ولا يترتب عليه أثر. ومن هنا فيكون دليل الرفع حاكماً على ما دلّ على ثبوت شي‌ء وترتبه على ذلك الفعل.

ولا موجب لدعوى اختصاصه بالمؤاخذة خاصة ، فإنها دعوى بلا دليل ، بل يشهد لبطلانها صحيحة البزنطي عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال (عليه السلام) : «لا ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : وضع عن أُمتي ما اكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطأوا» (١).

فإنّ استشهاده (عليه السلام) بنفي الإكراه في المقام ، دليل على عدم اختصاصه بنفي المؤاخذة.

(٣) اختاره العلامة (قدس سره) (٢) وجملة من الأصحاب. وكأنّ الوجه فيه إطلاق ما دلّ على الحجر على السفيه وأنه لا يجوز أمره ، فإنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين ما إذا كانت بالمعروف وعدمه ، وبين ما إذا حكم الحاكم بحجره وعدمه.

__________________

(*) في اعتباره إشكال ، والاحتياط لا يُترك.

(١) الوسائل ، ج ٢٣ كتاب الأيمان ، ب ١٢ ح ١٢.

(٢) انظر مختلف الشيعة ٦ : ٣٦٣ مسألة ١٤١.

٣٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن عن جامع المقاصد أنّ المشهور بين الأصحاب جواز وصيّة السفيه في البر والمعروف (١).

والصحيح أن أدلة الحجر قاصرة الشمول لوصيّة السفيه. أما الآية الكريمة (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٢) فهي ناظرة إلى دفع أموالهم إليهم ليتصرفوا فيها كيف يشاؤون ، فهي منصرفة عن الوصيّة ولا تنظر إليها. ولا يبعد دعوى ذلك في نصوص الحجر أيضاً.

ولعل الوجه فيه أن هذا الجعل (الحجر) إنما هو لمصلحة السفيه ومراعاة حفظ أمواله ، وإلّا فهو مالك له بلا إشكال ، فيختص بتصرفاته فيها حال حياته حيث تكون الأموال مملوكة له ، ولا تشمل بعد مماته لأنها تنتقل عنه إلى غيره لا محالة وبناءً على صحّة وصيّته تنتقل إلى الموصى له في الوصيّة التمليكية ، وتبقى في ملكه في العهدية. ومن هنا لا يكون في الحجر عليه من هذه الجهة أي امتنان عليه ، بل يكون هو خلاف الامتنان في حقه.

ويؤيده معتبرة أبي الحسين الخادم بياع اللؤلؤ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال (حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ). قال : وما أشده؟ قال : «احتلامه». قال : قلت : قد يكون الغلام ابن ثمان عشرة سنة أو أقل أو أكثر ولم يحتلم؟ قال : «إذا بلغ وكتب عليه الشي‌ء جاز أمره ، إلّا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً» (٣).

فإنها ظاهرة في اختصاص الحجر على السفيه بما يكون عليه ، فلا يشمل ما لا يكون كذلك ، والوصيّة منها كما عرفت. ولذا يصح قبوله للوصيّة له بلا خلاف فيه فيما نعلم وإن كان المال لا يدفع إليه.

كما يؤيِّده معتبرة محمّد بن مسلم كما في التهذيب عن أحدهما (عليهما السلام)

__________________

(١) جامع المقاصد ١٠ : ٣٣.

(٢) سورة النساء ٤ : ٦.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الحجر ، ب ٢ ح ٥.

٣٤٠