موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

[٣٩٠٠] مسألة ٢ : بناءً على اعتبار القبول في الوصيّة ، يصحّ إيقاعه بعد وفاة الموصي بلا إشكال (١) وقبل وفاته على الأقوى (٢).

ولا وجه لما عن جماعة من عدم صحته حال الحياة ، لأنها تمليك بعد الموت فالقبول قبله كالقبول قبل الوصيّة ، فلا محل له ، ولأنه كاشف أو ناقل ، وهما معاً منتفيان حال الحياة. إذ نمنع عدم المحل له ، إذ الإنشاء المعلق على الموت قد حصل

______________________________________________________

ويؤكِّده ما ورد في موت الموصى له قبل بلوغه خبر الوصيّة من دفع الموصى به لورثته ، فإنه وإن أمكن أن يكون حكماً تعبّدياً ، إلّا أن الظاهر منها أن الدفع إليهم إنما هو باعتبار ملكهم له وكونهم ورثته ، فيكون مؤكداً لعدم الحاجة إلى القبول في حصول الملك.

(١) وبه تلزم الوصيّة لإطلاقات أدلّتها ، ولو التزمنا بتقييدها بالقبول من الموصى له ، فإنّ القبول بعد الموت هو المتيقن كفايته في تحقق الملكية.

(٢) وهو المشهور والمعروف بينهم ، ويدلّنا عليه أمران :

الأوّل : إطلاقات أدلة نفوذ الوصيّة. فإن مقتضاها وكما عرفت نفوذ الوصيّة مطلقاً ومن غير اعتبار القبول ، غاية الأمر أننا خرجنا عنها للأصل أو الملازمة أو قاعدة السلطنة واعتبرنا في نفوذها القبول ، إلّا أن هذا لا يقتضي إلّا اعتبار طبيعي القبول ، وأما خصوصيّة كونه بعد الموت فهي تحتاج إلى الدليل وهو مفقود. وحينئذ فالمتبع هو الإطلاق.

الثاني : إطلاقات وعمومات أدلة نفوذ العقود. فإننا وإن ناقشنا في جزئية القبول بعد الوفاة وتحقّق العقد به ، إلّا أنه لا إشكال في تحقّقه به إذا كان في حياة الموصي وذلك لانضمام التزامه بالتزامه ، كما لا يخفى. وحينئذ فلا يبقى مانع من شمول أدلّة نفوذ العقد له ، حتى ولو فرضنا عدم وجود دليل على نفوذ الوصيّة بالخصوص.

نعم ، قد يرد عليه أنه موجب للتعليق ، وهو يضرّ بصحّة العقد.

إلّا أنه مدفوع بأنه لا دليل على اعتبار التنجيز إلّا الإجماع ، ومن الواضح البديهي أنه لا يشمل الوصيّة ، لتقومها بالتعليق.

٣٠١

فيمكن القبول المطابق له (١). والكشف والنقل إنما يكونان بعد تحقّق المعلق عليه فهما في القبول بعد الموت لا مطلقاً (٢).

______________________________________________________

(١) وبعبارة أُخرى نقول : إن الإنشاء على جميع المباني فيه فعلي وغير معلق على شي‌ء ، وإنما التعليق في متعلقه أعني الملكية فإنه المعلق على الوفاة.

وعليه فإذا تعلق به القبول كان معلقاً عليها لا محالة ، فما تعلق به إنشاء الموجب تعلق به قبول القابل أيضاً ، من دون أي اختلاف بينهما.

وعلى هذا الأساس ذكرنا في مبحث اعتبار التنجيز ، أنه لولا الإجماع على اعتباره لقلنا بجواز التعليق في العقود مطلقاً ، وحيث عرفت أن هذا الإجماع لا يشمل المقام فلا يبقى محذور في الحكم بصحتها.

(٢) ثمّ إن هناك إشكالاً آخر لم يتعرض إليه الماتن (قدس سره) ، وهو ما ذكره بعضهم من أنه لا خلاف بين الأصحاب في عدم تأثير الرد قبل الموت ، نظراً لعدم تحقق شي‌ء يكون الرد رافعاً له ، حيث إن الملكية إنما تكون بعد الموت لا قبله. وإذا كان الرد غير مؤثر كان القبول كذلك ، للملازمة بين تأثيرهما.

وفيه : أن معنى تأثير الرد في حياة الموصي. إنما هو عدم إيجابه لإلغاء إنشاء الموصي وإسقاطه ، بحيث لا يكون قابلاً للقبول بعده ، وهو ثابت في القبول أيضاً ، فإنه لا يلزم العقد بحيث لا يكون له الرد بعده مع حياة الموصي. فالملازمة بينهما بهذا المعنى ثابتة ولا تقبل الإنكار ، إلّا أنها لا تنفع في إثبات المدعى ، إذ لا ملازمة بين عدم تأثير الرد بالمعنى الذي ذكرناه وعدم كفاية القبول وإن استمر إلى حين الموت ، فهي محض دعوى ولا دليل عليها.

بل إن ما ذكرناه هو مقتضى الجمع بين الأدلة ، وذلك لما عرفت من أن أدلة نفوذ الوصيّة غير مقيدة بشي‌ء. وإنما التزمنا باعتبار القبول على القول به للأصل أو الملازمة أو قاعدة السلطنة ، وبمانعية الرد للإجماع ، وإلّا لقلنا بكونها من الإيقاعات المحضة ، من غير اعتبار القبول أو مانعية الرد.

وعليه فأما بالنسبة إلى مانعية الرد ، فالذي ثبت بالإجماع هو مانعية خصوص

٣٠٢

[٣٩٠١] مسألة ٣ : تتضيق الواجبات الموسعة بظهور أمارات الموت (١) مثل

______________________________________________________

الرد بعد الموت ، وأما الرد في حياته فالمشهور على عدم مانعيته ، بل قيل إنه لا خلاف فيه. ومن هنا فلا يكون مثل هذا الرد مانعاً عن الإيجاب وموجباً لإلغائه.

وأما بالنسبة إلى القبول ، فلأنا لو سلمنا اعتباره فدليله لا يقتضي إلّا اعتبار القبول في الجملة ، وأما اعتبار كونه بعد الموت فلا دليل عليه.

ثمّ إن الملازمة بالمعنى الذي ذكرناه ، أعني إذا كان الرد غير مبطل للإيجاب فالقبول غير ملزم للعقد ، إنما تختص بالمقام باعتبار أن الملكية غير حاصلة والعقد جائز ، ولا تثبت في غيره كموارد العقد الفضولي. إذ قد عرفت في محله أن رد من بيده الأمر للعقد لا يمنع من لحوق القبول ، في حين إن إجازته موجبة للزوم العقد ونفوذه.

بل الحكم كذلك في سائر العقود. فلو تحقق الإيجاب من البائع ، ورده المشتري ثم قبله قبل فوات الموالاة ، صحّ البيع. وهكذا الحال في غير البيع من العقود.

ثمّ إن الاستدلال بالملازمة إنما هو مبني على ما ذهب إليه المشهور ، من عدم تأثير الرد في حال حياة الموصي ، فلا يتم بناءً على ما سيجي‌ء من الماتن (قدس سره) في المسألة الرابعة من مانعية الردّ حال الحياة كما نعيته بعده ، لأن مقتضاه كون القبول نافذاً أيضاً.

إلّا أن الصحيح على ما سيأتي هو ما ذهب إليه المشهور.

(١) مقتضى ما سيأتي من الدليل على هذا الحكم ، عدم اختصاصه بفرض ظهور أمارات الموت ، أو حصول الظن به ، بل يكفي فيه مجرد احتماله. فما ذكره (قدس سره) لا خصوصيّة فيه ، ولا دليل على حجيته بالخصوص.

نعم ، قد يستدل له بالإجماع القولي والعملي على جواز التأخير ، مع عدم الظن بالضيق.

إلّا أنه مدفوع بأن الإجماع القولي لم يثبت جزماً ، وكذلك الإجماع العملي ، إذ لم يثبت لدينا تأخير الصالحين من المتشرعة والذين يهمّهم أمر دينهم لأعمالهم حتى مع احتمالهم للفوت.

٣٠٣

قضاء الصلوات ، والصيام ، والنذور المطلقة ، والكفارات ، ونحوها. فيجب (١) المبادرة إلى إتيانها مع الإمكان. ومع عدمه يجب الوصيّة بها ، سواء فات لعذر أو لا لعذر ، لوجوب تفريغ الذمّة بما أمكن في حال الحياة ، وإن لم يجز فيها النيابة فبعد الموت تجري فيها ، ويجب التفريغ بها بالإيصاء.

وكذا يجب ردّ أعيان أموال الناس التي كانت عنده (٢) كالوديعة والعارية ومال المضاربة ونحوها ، ومع عدم الإمكان يجب الوصيّة بها.

______________________________________________________

(١) لحكم العقل بوجوب تفريغ الذمّة يقيناً بعد اشتغالها كذلك. أما مباشرة مع التمكّن ، أو بالنيابة في موارد جوازها ، أو الوصيّة فيما إذا لم يتمكّن من التفريغ حال الحياة. فإنّ العقل بعد الالتفات إلى احتمال طرو ما يمنع من امتثال أمر المولى الثابت في الذمّة ، من موت أو نوم مستغرق للوقت أو غيرهما ، لا يحكم بالتخيير بالنسبة إلى الأفراد الطولية للواجب ، وحينئذ فيلزم المكلف الإتيان به فوراً ، حيث لا عذر له في التأخير.

والحاصل أنه إذا تيقّن المكلف أو اطمأن بتمكنه من امتثال الأمر في الأفراد الطولية المتأخرة ، أو قام الدليل على جواز التأخير فهو ، وإلّا فمجرّد احتمال العجز عنه يكفي في لزوم الإتيان به فوراً ، تحصيلاً للفراغ اليقيني. فإنّ حكم العقل بالتخيير بين الأفراد الطولية وجواز التأخير واختيار الفرد المتأخر ، يختص بما إذا أحرز التمكن من ذلك ليكون محرزاً للتمكن من تفريغ الذمّة يقيناً ، ومع عدم الإحراز المزبور واحتمال طرو المانع ، تسقط تلك الأفراد عن الطرفية ، للتخيير العقلي المذكور.

(٢) ما أفاده (قدس سره) لا يمكن المساعدة على إطلاقه ، وذلك لأن عنوان الأمانة إنما يقتضي لزوم حفظها. وعليه فإذا كانت العين محفوطة على التقديرين حياته وموته وعلم الأمين بعدم خيانة ورثته وأدائهم للأمانات إلى أربابها ، فلا وجه للالتزام بوجوب الرد.

نعم ، يتمّ ما ذكره (قدس سره) في عكسه ، أي فيما إذا لم يعلم بعدم خيانة ورثته ففي مثله يلزمه الإيصال إلى المال ، لاقتضاء لزوم حفظ الأمانة ذلك ، بلا فرق بين الأمانة

٣٠٤

وكذا يجب أداء ديون الناس الحالّة (١). ومع عدم الإمكان ، أو مع كونها مؤجلة ، يجب الوصيّة بها (٢) إلّا إذا كانت معلومة ، أو موثقة بالإسناد المعتبرة.

وكذا إذا كان عليه زكاة أو خمس أو نحو ذلك ، فإنه يجب عليه أداؤها أو الوصيّة بها.

ولا فرق فيما ذكر بين ما لو كانت له تركة أو لا ، إذا احتمل وجود متبرِّع أو أداءها من بيت المال.

[٣٩٠٢] مسألة ٤ : ردّ الموصى له للوصيّة مبطل لها (٣) إذا كان قبل حصول الملكية (*) ، وإذا كان بعد حصولها لا يكون مبطلاً لها.

______________________________________________________

الشرعية والأمانة المالكية.

(١) لم يظهر لنا وجه ذلك. فإنه إن كان مطالباً بها من قبل المالك فعلاً وجب عليه أداؤها ، سواء أظهرت عنده أمارات الموت أم لم تظهر ، كان مطمئناً بالبقاء أم لم يكن لحرمة حبس حق الغير عنه ، بل هو من الكبائر ، وإلّا فلا وجه لوجوب أدائها.

وما قيل من أن بقاءها حينئذ عنده وعدم دفعها إلى أربابها ، تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، أو حبس للحق عن مالكه ، وكلاهما حرام بل يعدّان من الكبائر.

مدفوع بأن التصرف يتوقّف على تقليب المال ، فلا يشمل البقاء في الذمّة ، فإنه باق على حاله ولا يعدّ تصرّفاً. كما أن البقاء إذا كان مستنداً إلى عدم مطالبة المالك ، لم يعتبر حبساً للحق عن مالكه.

بل يمكن دعوى قيام السيرة القطعية عليه ، فإنه لا يبادر المديون إلى أدائها ما لم يطالبه المالك ، كما هو الحال في مهور الزوجات.

(٢) لتوقف أدائها فيما بعد عليها ، فتجب من جهة لزوم تفريغ الذمّة.

(٣) على تفصيل ستعرفه في التعليقات القادمة.

__________________

(*) المعروف بينهم أنّ رد الوصيّة حال حياة الموصي لا يبطلها ، وهو الصحيح ، وقد عرفت حاله بعد الموت وقبل القبول [في التعليقة المتقدِّمة] ، وأمّا الرد في سائر العقود فالظاهر أنه لا يبطلها ، فلو قبل بعده صحّت ، بل الأمر كذلك في العقد الفضولي أيضاً إن لم يقم إجماع على خلافه.

٣٠٥

فعلى هذا إذا كان الردّ منه بعد الموت وقبل القبول ، أو بعد القبول الواقع حال حياة الموصي مع كون الردّ أيضاً كذلك ، يكون مبطلاً لها (١) لعدم حصول الملكية بعد.

وإذا كان بعد الموت وبعد القبول لا يكون مبطلاً ، سواء كان القبول بعد الموت أيضاً أو قبله ، وسواء كان قبل القبض أو بعده ، بناءً على الأقوى من عدم اشتراط القبض في صحتها ، لعدم الدليل على اعتباره (٢) وذلك لحصول الملكية حينئذ له ، فلا تزول بالرد. ولا دليل على كون الوصيّة جائزة بعد تماميتها بالنسبة إلى الموصى له ، كما أنها جائزة بالنسبة إلى الموصي ، حيث إنه يجوز له الرجوع في وصيّته ، كما سيأتي.

وظاهر كلمات العلماء حيث حكموا ببطلانها بالردّ عدم صحّة القبول بعده ، لأنه عندهم مبطل للإيجاب الصادر من الموصي. كما أن الأمر كذلك في سائر العقود

______________________________________________________

(١) وهو إنّما يتمّ بالنسبة إلى الصورة الأُولى خاصة حيث إن الإجماع بقسميه قائم على مانعيّته ، دون الصورة الثانية حيث لا إجماع على مانعيته فيها ، بل الشهرة التي تكاد تبلغ الإجماع إذ لم ينسب الخلاف إلّا إلى شاذ على عدمها ، وحينئذ فمقتضى إطلاقات أدلة نفوذ الوصيّة صحتها في هذه الصورة.

(٢) ومقتضى إطلاقات أدلّة نفوذها صحّتها ، سواء أقبض الموصى له للموصى به أم لم يقبض ، فإنها تامّة وسالمة عن المعارض.

ولو تنزلنا ووافقنا الشيخ الأعظم (قدس سره) في عدم تمامية الإطلاق بالنسبة إلى اعتبار القبول ، وقلنا بجريان استصحاب عدم الملكية قبله ، فلا نسلم به في غيره كالقبض ، فإن الإطلاقات بالنسبة إليه تامة ومحكمة. ومن هنا فلا مجال للتمسك بالأصل.

وأمّا قياس الوصيّة بالهبة والوقف ، حيث يعتبر في صحّتهما القبض مع أنهما تنجيزيان والوصيّة تعليقية ، فقياس مع الفارق ، فإنها إيقاع محض ، ولا موجب لرفع اليد عن إطلاقاتها من غير مقيد.

٣٠٦

حيث إن الردّ بعد الإيجاب يبطله وإن رجع وقبل بلا تأخير. وكما في إجازة الفضولي ، حيث إنها لا تصحّ بعد الردّ. لكن لا يخلو عن إشكال إذا كان الموصي باقياً على إيجابه. بل في سائر العقود أيضاً مشكل (١) إن لم يكن إجماع ، خصوصاً في الفضولي ، حيث إنّ مقتضى بعض الأخبار صحّتها ولو بعد الردّ. ودعوى عدم صدق المعاهدة عرفاً إذا كان القبول بعد الردّ ، ممنوعة.

______________________________________________________

(١) ما ذكره (قدس سره) وإن كان صحيحاً بالنسبة إلى سائر العقود ، لما تقدّم من عدم الدليل على إبطال ردّ الطرف الثاني لإيجاب الطرف الأوّل ، بل يصدق العقد والمعاهدة عليه فيما إذا كان الموجب باقياً على التزامه ، وحينئذ فلا مانع من التمسك بإطلاقات وعمومات أدلّة الصحّة والنفوذ.

وكذلك الحال في العقد الفضولي ، حيث إن الرد فيه لا يكون مانعاً من الإجازة بعده ، بل ربّما يستفاد ذلك من صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «قضى في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه غائب ، فاشتراها رجل فولدت منه غلاماً ، ثمّ قدم سيدها الأوّل فخاصم سيدها الأخير فقال : هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني ، فقال : خذ وليدتك وابنها ، فناشده المشتري ، فقال : خذ ابنه يعني الذي باع الوليدة حتى ينفذ لك ما باعك ، فلما أخذ البيع الابن قال أبوه : أرسل ابني ، فقال : لا أُرسل ابنك حتى ترسل ابني ، فلما رأى ذلك سيد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه» (١).

إلّا أن قياس الوصيّة عليها قياس مع الفارق ، لأن أدلتها ظاهرة في كونها إيقاعاً كما عرفت ، وعليه فلا حاجة إلى القبول ولا أثر للرد بل بها يحصل الملك القهري ، ولذا ورد في الأخبار أنه لو مات قبل بلوغه الخبر دفع الموصى به إلى ورثته ، وإنما خرجنا عن ذلك في خصوص الرد للإجماع على مانعيته بعد الموت.

ومن هنا فإن لم يتمّ هذا الإجماع فعدم مانعية الرد واضح ، وإلّا كما هو الصحيح ـ

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٨٨ ح ١.

٣٠٧

ثمّ إنهم ذكروا أنه لو كان القبول بعد الردّ الواقع حال الحياة صحّ. وهو أيضاً مشكل (١) على ما ذكروه من كونه مبطلاً للإيجاب ، إذ لا فرق حينئذ بين ما كان في حال الحياة أو بعد الموت. إلّا إذا قلنا : إن الردّ والقبول لا أثر لهما حال الحياة وإن محلّهما إنما هو بعد الموت ، وهو محل منع (٢).

______________________________________________________

فلا وجه للحكم بصحّة الوصيّة بعد القبول ، بل يتعين الحكم ببطلانها ، نظراً لارتفاع التزام الموصي عند القبول ، فإن الميت لا التزام له.

وبعبارة اخرى : إن الموصي إنما أنشأ الملكية بعد الموت والتزم به إلى حين وفاته وأمّا بعد وفاته فلا التزام له لعدم قابلية الميت له. وحينئذ فإن التزمنا بثبوت الملكية قهراً ، سواء أقبل الموصى له أم لم يقبل لإطلاقات الأدلة فلا أثر للردّ أصلاً. وإن خرجنا عنها وقلنا باعتبار عدم الردّ للإجماع ، فالردّ يبطل ذلك الالتزام ، وحين القبول يحتاج إلى التزام جديد ، وهو ممتنع نظراً لموته.

فالصحيح في المقام هو التفصيل بين الوصيّة وغيرها. ففي غيرها يحكم بصحته مع بقاء الموجب على التزامه ، وبطلانه مع عدمه. وفيها بالبطلان ، بناءً على القول بمانعية الرد ، كما هو الصحيح.

(١) لا وجه للاستشكال فيه ، بعد ما عرفت من أن مقتضى إطلاقات أدلّة الوصيّة نفوذها مطلقاً ، من دون اعتبار للقبول أو تأثير الرد ، وإنما خرجنا عنها في خصوص الرد المتأخر عن الوفاة للإجماع. وحيث لا دليل على مانعية الرد حال الحياة ، إذ لا إجماع عليها بل الشهرة على خلافها ، فلا مانع من التمسك بإطلاقات أدلة نفوذ الوصيّة ، ومقتضاها الحكم بصحتها.

ولا يقاس ما نحن فيه بغيره من العقود ، فإنها مؤلفة من الإيجاب والقبول ، فيمكن أن يقال وإن لم نرتضه ـ : إن الردّ يقطع اتصال القبول بالإيجاب ويمنع منه. وأما ما نحن فيه فقد عرفت أنه إيقاع ولا يحتاج إلى القبول ، فلا وجه للقول بمنع الرد للاتصال بينهما.

(٢) في القبول خاصة على ما تقدّم بيانه في المسألة الثانية دون الرد ، حيث قد

٣٠٨

[٣٩٠٣] مسألة ٥ : لو أوصى له بشيئين بإيجاب واحد ، فقبل الموصى له أحدهما دون الآخر ، صحّ فيما قبل ، وبطل فيما ردّ (١). وكذا لو أوصى له بشي‌ء فقبل بعضه مشاعاً أو مفروزاً وردّ بعضه الآخر. وإن لم نقل بصحّة مثل ذلك في البيع ونحوه. بدعوى عدم التطابق حينئذ بين الإيجاب والقبول ، لأن مقتضى القاعدة الصحّة في البيع أيضاً إن لم يكن إجماع. ودعوى عدم التطابق ممنوعة.

______________________________________________________

عرفت فيما تقدّم اختصاص دليل المانعية أعني الإجماع بالرد المتأخر عن الوفاة وأما ما يكون في حياة الموصي فلا أثر له ، لعدم الدليل عليه.

(١) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

الأوّل : في غير الوصيّة من العقود.

الثاني : في الوصيّة.

أما المقام الأوّل : فقد ذكر الأصحاب أنّ الحكم فيه البطلان ، لاعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول ، وإلّا لم يحصل معنى العقد ولم يتحقق مفهومه ، فإنه وكما عرفت عبارة عن ضم التزام بالتزام وربط تعهد بتعهد.

إلّا أنه إنما يتم فيما لو لوحظ الاثنان بما هما واحد ، كمصراعي الباب والحذاء والجورب مما لهما وحدة عرفية ، حيث يكون بيع كل منهما مشروطاً بقبول المشتري لبيع الآخر. فإذا قبل المشتري شراء أحدهما دون الآخر حكم ببطلانه ، لأن ما أنشأه البائع أعني البيع المشروط لم يقبله المشتري ، وما قبله المشتري أعني البيع غير المشروط لم ينشئه البائع. فلم يرد الالتزامان على شي‌ء واحد ، ولم يتحقق انضمام أحدهما إلى الآخر ، وهذا هو معنى عدم التطابق بين الإيجاب والقبول.

وأمّا إذا لم يكونا كذلك ، بأن كان المقصود تمليك كل منهما مستقلا وبثمن معين ، إلّا أنه قد جمع بينهما في مقام الإبراز خاصة ، فلا مانع من الحكم بصحّة ما قبله ، وذلك لصدق المعاقدة والمعاهدة عليه إذ المفروض عدم ارتباط أحدهما بالآخر ، فإنهما بيعان مستقلّان من غير اشتراط أحدهما بقبول الآخر. ومن هنا فقبول كلّ منهما يكون مطابقاً لإيجابه لا محالة ، وبه يتحقّق مفهوم العقد ، فتشمله أدلّة الصحّة.

٣٠٩

نعم ، لو علم من حال الموصي إرادته تمليك المجموع من حيث المجموع ، لم يصحّ التبعيض (*) (١).

______________________________________________________

والحاصل أن العبرة في صحّة العقد في المقام إنما هو بالتطابق بين الإيجاب والقبول فإذا تحقق حكم بصحته وإن بطل الآخر ، لعدم الارتباط بينهما ، وإلّا فيحكم ببطلانه.

وأمّا المقام الثاني : فإن كانت الوصيّة من قبيل القسم الثاني من العقود ، بأن كان مقصود الموصي تمليك الموصى له كلّاً من الأمرين مستقلا ومن غير تقييد بالآخر وإنما جمع بينهما في الإبراز خاصّة ، فلا ينبغي الإشكال في صحّتها بالنسبة إلى ما قبله بناءً على اعتبار القبول ، أو ما لم يرده بناءً على ما اخترناه ، وبطلانها بالنسبة إلى ما ردّه ، نظراً لكونها في حكم الوصيتين.

وإن كانت من قبيل القسم الأوّل ، بأن كان تمليك كل منهما بشرط قبول الموصى له للآخر بوصف المعية ، فالظاهر هو الحكم بصحّة ما قبله أيضاً.

ولا تقاس الوصيّة بالبيع وغيره من العقود حيث يعتبر فيه التطابق بين الإيجاب والقبول ، فإنّها ليست من العقود ، سواء اعتبرنا القبول أم لم نعتبره. أما على الثاني فواضح ، لأنها إيقاع محض. وأمّا على الأوّل فلما عرفت من أنه لا معنى لاعتباره إلّا كونه شرطاً ، كاشفاً أو ناقلاً وعليه فليس هو ركناً وطرفاً للعقد ، كي يعتبر التطابق بينه وبين الإيجاب.

نعم ، غاية ما يحصل عند ردّ الموصى له بعض الموصى به هو تخلّف الشرط وحينئذ فيثبت للموصي الخيار ، وحيث إنه ميت ينتقل إلى ورثته ، لأنه حق فيدخل فيما تركه.

والحاصل أن قياس الوصيّة التي هي من الإيقاع على سائر العقود في اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول ، قياس مع الفارق ، والفرق بينهما واضح.

(١) قد عرفت الحال فيه مما تقدّم. فإنّ المجموع من حيث هو مجموع لا يصحّ

__________________

(*) بل صحّ فيه أيضاً ، فإنّ تمليك المجموع من حيث إنّه مجموع لا محصل له ، إلّا أن يكون قبول الوصيّة في كل جزء أو عدم ردّها على القول بالاعتبار شرطاً في الوصيّة بالجزء الآخر ، وعليه فلا يترتّب على التخلّف إلّا الخيار دون البطلان.

٣١٠

[٣٩٠٤] مسألة ٦ : لا يجوز للورثة التصرف في العين الموصى بها ، قبل أن يختار الموصى له أحد الأمرين من القبول أو الردّ (١). وليس لهم إجباره على اختيار أحدهما معجّلاً (٢) إلّا إذا كان تأخيره موجباً للضرر عليهم ، فيجبره الحاكم

______________________________________________________

تمليكه ، فإنه أمر انتزاعي لا وجود له في الخارج ، فالمراد به هو تمليك أحدهما بشرط معيّته للآخر. ومقتضى تخلفه برد الموصى له لأحدهما ، هو ثبوت الخيار للموصي ، لا بطلان الوصيّة من رأس.

(١) لعدم كونها ملكاً لهم بالفعل ، فإنها بعد موت الموصي إما ملك للموصى له وإما ملك للموصي. فإنها ملك للموصى له على تقدير عدم الرد أو القبول بناءً على الكشف ، وملك للميت على تقدير الرد أو القبول بناءً على النقل.

وكيف كان ، فليس للورثة التصرف فيها. أما على التقدير الأوّل واضح. وأما على التقدير الثاني فلتأخر الإرث عن الوصيّة ، كما دلّت عليه الآية الكريمة صريحاً.

ومن هنا يظهر ما في القول بجوازه ، ظاهراً لاستصحاب عدم القبول المترتب عليه جواز التصرف بناءً على الكشف ، أو واقعاً بناءً على كون القبول ناقلاً. فإن المال فعلاً ليس لهم ولم ينتقل إليهم ، وإنما هو باقٍ على ملك الميت ، لتأخر الإرث عن الوصيّة.

والحاصل أنه ما لم يتحقق الرد من الموصى له لم ينتقل المال إليهم ، ولا يجوز لهم التصرف فيه لا ظاهراً ولا واقعاً. فإن الوصيّة وإن لم تنفذ بعد ، لعدم تحقق شرطها وهو القبول أو عدم الرد ، إلّا أنه يصدق على المال الموصى به أنه مال وصيّة ، فتشمله الآية المباركة. أما بقاؤه على ملك الميت ، فلأنه لما لم ينتقل إلى الموصى له لعدم نفوذ الوصيّة بعد ، ولا إلى الورثة لاستثناء مال الوصيّة عن حكم الإرث ، ولم يمكن بقاء المال بلا مالك ، فلا محيص عن كونه باقياً على ملك الميت ، ولا مانع من الالتزام به كما هو الحال في ملكه للثلث بالوصيّة.

(٢) لعدم كونها ملكاً لهم.

٣١١

حينئذ على اختيار أحدهما (*) (١).

[٣٩٠٥] مسألة ٧ : إذا مات الموصى له قبل القبول أو الرد ، فالمشهور قيام وارثه مقامه في ذلك (٢). فله القبول إذا لم يرجع الموصي عن وصيّته ، من غير فرق بين كون موته في حياة الموصي أو بعد موته ، وبين علم الموصي بموته وعدمه.

وقيل بالبطلان بموته قبل القبول.

وقيل بالتفصيل بين ما إذا علم أن غرض الموصي خصوص الموصى له فتبطل وبين غيره فلورثته.

______________________________________________________

(١) وفيه : أنه بعد فرض عدم انتقال المال إليهم لتأخر الإرث عن الوصيّة ، لا يمكن تصور الضرر في حقهم حتى ولو طالت المدة ما طالت.

نعم ، بتأخير الرد يفوت عليهم الانتفاع بها ، إلّا أنه لا دليل على لزوم إيجاد سبب الانتفاع لهم.

(٢) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

الأوّل : في موت الموصى له في حياة الموصي.

الثاني : في موته بعد وفاة الموصي.

أمّا المقام الأوّل : فلا ينبغي الشك في كون مقتضى القاعدة فيه البطلان ، لأن المنشأ من قبل الموصي إنما هو ملكية الموصى له بعد موته الموصي وهذا غير قابل للتحقق في الخارج ، نظراً لسقوط الموصى له بموته عن قابليته للملك.

لكن ومع ذلك ذهب المشهور إلى الصحّة وانتقال الوصيّة إلى الورثة.

واستدل عليه بوجوه :

الوجه الأوّل : أن القبول حق للموصى له ، فينتقل بموته إلى ورثته.

__________________

(*) لا وجه له ولو قلنا باعتبار القبول في صحّة الوصيّة ، إذ لا ضرر على الورثة في التأخير غاية الأمر أنه يفوت عليهم الانتفاع على تقدير تأخير الرد.

٣١٢

والقول الأوّل وإن كان على خلاف القاعدة مطلقاً بناءً على اعتبار القبول في صحّتها لأن المفروض أن الإيجاب مختص بالموصى له. وكون قبول الوارث بمنزلة قبوله ممنوع. كما أن دعوى انتقال حق القبول إلى الوارث أيضاً محل منع صغرى وكبرى ، لمنع كونه حقاً ، ومنع كون كل حق منتقلاً إلى الوارث حتى مثل ما نحن فيه من الحق الخاص به ، الذي لا يصدق كونه من تركته.

وعلى ما قوينا من عدم اعتبار القبول فيها ، بل كون الرد مانعا أيضاً ، يكون الحكم على خلاف القاعدة في خصوص صورة موته قبل موت الموصى له ، لعدم ملكيته في حياة الموصي.

______________________________________________________

ويرده ما ذكره الماتن (قدس سره) من منعه صغرى وكبرى. إذ ليس كل ما يجوز للإنسان أن يفعله يعدّ من الحقوق ، بل حال القبول هنا حال سائر الأُمور السائغة له وكالقبول في سائر المعاملات. فإن الحق عبارة عن حكم تكليفي محض أو وضعي محض يتعلق دائماً بفعل الإنسان نفسه قابل للإسقاط ، فكل حكم تكليفي أو وضعي قابل للإسقاط فهو حق بالمعنى المصطلح وكل حكم كذلك لا يقبل الإسقاط وليس أمره بيد المكلف فهو حكم بالمعنى الذي يقابل الحق.

بيان ذلك : أن الملكية التي هي في قبال الحكم التكليفي قد تتعلّق بالأعيان الخارجية ، أو في الذمّة ، وقد تتعلق بالمنافع ، سواء أكانت من قبيل الأعمال الخارجية أم كانت قائمة بعين خارجي كسكنى الدار وركوب الدابة. ولا تتعلق بفعل الإنسان نفسه ، فإنه ليس من الملكية بالمعنى المصطلح ، وإن كان منها بمعنى السلطنة.

وأما الحقوق فهي تتعلق دائماً بفعل من له الحق نفسه ، وقد يكون من عليه الحق معيّناً كحق الشفعة والخيار ، وقد لا يكون كذلك كحق التحجير ، حيث إن من عليه الحق إنما هو جميع البشر. ولكن على كلا التقديرين ، لا يكون الحق إلّا حكماً متعلقاً بفعل نفس من له الحق.

والفرق بينه وبين سائر الأحكام ، أن من له الحق له إسقاطه إذا شاء ، وهو بخلاف سائر الأحكام ، وإلّا فليس هناك أي فرق بينهما.

٣١٣

لكن الأقوى مع ذلك هو إطلاق الصحّة كما هو المشهور ، وذلك لصحيحة محمّد بن قيس الصريحة في ذلك ، حتى في صورة موته في حياة الموصي ، المؤيّدة

______________________________________________________

والذي يدلنا على ذلك أنا لا نرى أي فرق بين جواز قتل القاتل عمداً قصاصاً وجواز قتل الكافر الحربي ، وكذا جواز الفسخ في البيع الخياري وجواز الفسخ في الهبة لغير الرحم ، ومثله اللزوم الحقي كالبيع واللزوم الحكمي كالنكاح.

فإنه لا فرق بين هذه الأحكام من أي جهة من الجهات كانت ، سوى أن الأوّل منها قابل للإسقاط ، سواء بالعفو ، أو إسقاط الخيارات ، أو الإقالة. بخلاف الثاني حيث إن أمره ليس بيد المكلف وليس له إسقاطه ، اتفق مع الطرف الآخر أم لم يتّفق فإنّ النكاح مثلاً لا يرتفع بتواطؤ الزوجين عليه بل لا بدّ من الطلاق ، أو سائر الأسباب الموجبة لرفعه.

والحاصل أن الحق ليس شيئاً وراء الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي وإنما هو هو بعينه ، غاية الأمر أنه متعلق بفعل الإنسان نفسه وقابل للإسقاط من قبله وليس هو مرتبة ضعيفة من الملكية.

فإن قلت : إن الحكم الشرعي كيف يمكن انتقاله إلى الورثة بالإرث.

قلت : إن ذلك لا يختص بما ذكرناه بل يجري على جميع التقادير في الحق ، فإنه بأي معنى كان حتى ولو بمعنى الملكية يختلف عن سائر الأموال في الإرث. فإن الإرث في غيره إنما يكون في المال لا في الملكية التي هي أمر اعتباري ، إذ الذي ينتقل إلى الورثة بعد الديون والوصايا إنما هو أموال الميت بما فيها المنافع والأعمال المملوكة له والتي يعبر عنها في الاصطلاح بـ «ما ترك» حيث يوجد للورثة ملكية جديدة بعد زوال ملكية الميت عنها.

وهذا بخلاف الحق ، فإنه وبعد أن لم يكن من الأعيان الخارجية أو المنافع ، حيث إنه ليس من الموجودات التكوينية من الجواهر أو الأعراض ، وإنما هو محض اعتبار شرعي أو عقلائي على جميع معانيه ، يكون المنتقل إليهم نفس المعتبر بهذا الاعتبار لا محالة.

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل أن الحق يغاير غيره في الإرث. فإن المنتقل إلى الورثة في غيره إنما هو نفس المال الذي تتعلق به الملكية ، وأما نفس الملكية فهي لا تقبل الانتقال. في حين إن المنتقل فيه إنما هو نفس الحق ، والمعتبر بالاعتبار الشرعي أو العقلائي.

ومما تقدّم يتضح ما أفاده الماتن (قدس سره) من منع كون قبول الوصيّة حقّا ، لأنها ليست إلّا إنشاء لملكية الموصى له بعد وفاة الموصي ، وقبول ذلك على تقدير القول باعتباره كالقبول في سائر العقود ، بل كسائر الأفعال المباحة كالقيام والجلوس ، محكوم بالجواز الحكمي ولا يكون من الحقوق في شي‌ء.

ومع غض النظر عن ذلك ، فإن ثبوت الحق إما أن يكون بجعل من الشارع كحق الشفعة والتحجير ، وإما أن يكون بجعل من المكلف وإمضاء الشارع له كالخيار في العقود. والحق المدعى في المقام ليس من أحدهما ، فإن الذي أنشأه الموصي ليس إلّا الملكية بعد الموت ، والذي أمضاه الشارع هو الملكية بعد الموت أيضاً. نعم ، اعتبر القبول في نفوذ الوصيّة بناءً على القول به ، للإجماع. ولا شي‌ء من ذلك يقتضي كونه حقّا له.

ثمّ إنا إذا تنزلنا وبنينا على أنه حق للموصي ، فإن مثل هذا الحق غير قابل للانتقال إلى الورثة. وكبرى قابلية كل حق للانتقال إلى الوارث ممنوعة ، فإن منه ما يقوم بذي الحق نفسه ، فلا يقبل الانتقال إلى غيره. والقبول من هذا القبيل ، فإن الوارث لا يمكنه القبول لنفسه ، لأن الموصي لم ينشئ ذلك ، ولا يمكنه القبول للموصى له ، لأنه غير قابل للملكية.

الوجه الثاني : ما ذكره بعضهم من أن مقتضى إطلاقات الوصيّة نفوذها ، سواء أتعقّبها القبول أم لم يتعقّبها ، إلّا أننا قد خرجنا عنها بالإجماع على اعتبار القبول وحيث إن الإجماع دليل لبي فلا بدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن منه ، وهو القبول في الجملة والأعم من قبول الموصى له هو وقبول ورثته ، فيحكم عند تحقّقها بصحّتها لا محالة.

وفيه : أنه إنما يتم على تقدير كون موت الموصى له بعد موت الموصي وقبل قبوله والقول بكون القبول كاشفاً. فيقال حينئذ : إن قبول الوارث كافٍ ، لأن الإجماع إنما

٣١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

قام على اعتبار القبول في الجملة.

وأما لو كان موته في حياة الموصي كما هو مفروض الكلام ، فلا معنى لقيام ورثته مقامه ، بعد أن لم يكن هو قابلاً للملكية نتيجة للموت.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان موته بعد موت الموصي ، لكن قلنا بكون القبول ناقلاً فإنّه لا أثر له من الورثة ، إذ المنشأ إنما هو ملكية الموصى له بعد الموت ، وهو غير قابل لها بالفعل.

الوجه الثالث : صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب ، فتوفي الموصى له الذي أوصى له قبل الموصي ، قال : الوصيّة لوارث الذي أوصى له ، قال : ومن أوصى لأحد شاهداً كان أو غائباً ، فتوفي الموصى له قبل الموصي ، فالوصيّة لوارث الذي أوصى له ، إلّا أن يرجع في وصيّته قبل موته» (١). فإنها صحيحة سنداً وصريحة دلالة.

ودعوى أن اشتراك محمد بن قيس بين الثقة والضعيف ، يمنع من الحكم بصحتها والأخذ بها.

مدفوعة بأن الذي يروي قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أبي جعفر (عليه السلام) ويروي عنه عاصم بن حميد ، إنما هو الثقة ، على ما حقق في محله من الرجال (٢).

ويؤيدها أوّلاً : صحيحة العباس بن عامر ، قال : سألته عن رجل أوصي له بوصيّة ، فمات قبل أن يقبضها ولم يترك عقباً؟ قال : «أطلب له وارثاً أو مولى فادفعها إليه». قلت : فإن لم أعلم له ولياً؟ قال : «اجهد على أن تقدر له على ولي ، فإن لم تجد وعلم الله منك الجدّ فتصدق بها» (٣).

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٣٠ ح ١.

(٢) معجم رجال الحديث ٩ : ١٨٠ رقم ٦٠٥٤.

(٣) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٣٠ ح ٢.

٣١٦

بخبر الساباطي وصحيح المثنى. ولا يعارضها صحيحتا محمد بن مسلم ومنصور ابن حازم بعد إعراض المشهور عنهما ، وإمكان حملها على بعض المحامل منها التقيّة ، لأن المعروف بينهم عدم الصحّة.

______________________________________________________

ووجه جعلها مؤيدة التردد في المراد بالقبض. فإن المراد به إن كان هو القبض الخارجي فقط ، فالرواية أجنبية عن محل الكلام ، فإن الظاهر حينئذ أن الموصى له كان له أن يقبض ولكنه مات قبل قبضه ، وعليه فحياة الموصى له وموت الموصي مفروغ عنهما. وأما إن كان المراد به هو القبول ، كما هو ليس ببعيد من جهة أن القبول غالباً ما يكون به ، فهي بترك الاستفصال وعدم السؤال عن أن موت الموصى له كان بعد موت الموصي أو قبله ، تدلّ على المدعى.

وأمّا المناقشة في سندها من جهة أن المذكور في الكافي وإن كان رواية العباس بن عامر عن الإمام (عليه السلام) بلا واسطة (١) إلّا انها لم تثبت. فإن الصدوق والشيخ روياها عن العباس بن عامر ، عن المثنى ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (٢) وحيث إن المثنى هذا مجهول ، فلا مجال للحكم بصحّتها.

مدفوعة بأن الظاهر أن المثنى هذا هو عبد السلام ، كما صرح به في تفسير العيّاشي (٣) وهو ثقة.

على أنه لو تمّ التردّد ، فهو مردّد بين المثنى بن عبد السلام ، والمثنى بن الوليد وكلاهما ثقة على ما ذكره الكشي عن مشايخه (٤).

ثانياً : رواية محمد بن عمر الباهلي (الساباطي) ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل أوصى إليّ وأمرني أن اعطي عماً له في كل سنة شيئاً ، فمات العم؟

فكتب : «أعط ورثته» (٥). فإنها بترك الاستفصال ، تدلّ على عموم الحكم لصورة

__________________

(١) الكافي ٧ : ١٣.

(٢) التهذيب ٩ : ٢٣١ / ٩٠٥ ، الاستبصار ٤ : ١٣٨ / ٥١٧ ، الفقيه ٤ : ١٥٦ / ٥٤٢.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٧٧ / ١٧١.

(٤) رجال الكشي : ٣٣٨ رقم ٦٢٣.

(٥) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٣٠ ح ٣.

٣١٧

نعم ، يمكن دعوى انصراف الصحيحة عمّا إذا علم كون غرض الموصي خصوص شخص الموصى له على وجه التقييد. بل ربّما يقال : إنّ محل الخلاف غير هذه الصورة. لكن الانصراف ممنوع ، وعلى فرضه يختص الإشكال بما إذا كان موته قبل موت الموصي ، وإلّا فبناءً على عدم اعتبار القبول بموت الموصي صار مالكاً بعد فرض عدم ردّه ، فينتقل إلى ورثته.

______________________________________________________

موت الموصى له قبل الموصي أيضاً.

ووجه جعلها مؤيدة أنها ضعيفة سنداً ، لأن محمد بن عمر الباهلي لا وجود له في الرجال ، ومحمد بن عمر الساباطي لم يوثق.

على أن موردها هي الوصيّة العهدية ، ومحل الكلام هي الوصيّة التمليكية.

فالعمدة في الاستدلال هي صحيحة محمد بن قيس الدالة على المدعى صريحاً.

إلّا أن بإزائها صحيحتين :

أُولاهما : صحيحة محمّد بن مسلم وأبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سئل عن رجل أوصى لرجل فمات الموصى له قبل الموصي قال : «ليس بشي‌ء» (١).

ثانيتهما : صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن رجل أوصى لرجل بوصيّة إن حدث به حدث ، فمات الموصى له قبل الموصي؟ قال : «ليس بشي‌ء» (٢).

ومعارضة هاتين الصحيحتين لصحيحة محمد بن قيس ، مبنية على رجوع الضمير في قوله (عليه السلام) : «ليس بشي‌ء» إلى الإيصاء ، إذ لو كان الضمير راجعاً إلى الموت كما يقتضيه قربه إليه ، كانت هاتان الصحيحتان موافقتين لصحيحة محمّد بن قيس.

وكيف كان ، فمع فرض التعارض بينها لا ينبغي الشك في تقديم صحيحة محمد بن قيس ، نظراً لمخالفتها لمذهب العامة.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٣٠ ح ٤.

(٢) الوسائل ، ج ١٩ كتاب الوصايا ، ب ٣٠ ح ٥.

٣١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إذن فهي المعتمد في مقام الفتوى ، على ما عليه المشهور.

وأما الجمع بين هذه النصوص بحمل صحيحة محمد بن قيس على فرض عدم تقييد الوصيّة ، وحمل المعارض لها على فرض التقييد ، فيلتزم بصحتها وانتقال الموصى به إلى ورثة الموصي له في الأوّل ، والبطلان في الثاني.

فمدفوع بان المراد من تقييد الوصيّة بالموصى له إن كان تعلق غرضه به شخصاً ، في قبال تعلق غرضه بكون الموصى به من جملة أموال الموصى له يتصرف به هو في حياته وينتقل إلى ورثته بعد وفاته ، فهو وإن كان أمراً ممكناً إلّا أنه لا أثر له في مقام الإنشاء فإن العبرة في الحكم بالصحّة والفساد ليست بغرض المنشئ وداعيه إلى الإنشاء ، وإنما هي بما ينشئ.

مع أن حمل صحيحة محمّد بن قيس على الفرض الثاني مما لا شاهد له ، بل هو بعيد ومناف للإطلاق ، بل خلاف الظاهر ، وحمل على الفرد النادر من الوصايا ، حيث إن الغالب منها هو الفرض الأوّل ، أعني وجود خصوصيّة للموصى له.

وإن كان المراد أن نظر الموصي في مقام إنشاء الوصيّة قد يكون إلى شخص الموصى له ، وقد يكون إليه هو على تقدير حياته وإلى ورثته على تقدير وفاته فالوصيّة قد تكون مقيدة بشخص معين وقد تكون جامعة بينه وبين غيره ، فهو وإن كان ممكناً أيضاً إلّا أن صحّتها حينئذ على القاعدة ولا تحتاج إلى النص ، إذ الوارث موصى له حقيقة ، فحمل الصحيحة عليها حمل بعيد ولا شاهد فيها عليه ، بل الظاهر منها كون الوصيّة لشخص الميت بنفسه.

وإن كان المراد أن الموصي تارة يقيد الوصيّة بحياة الموصي له وأُخرى يطلق ، فإذا كانت الوصيّة من قبيل الأوّل حكم ببطلانها عند موت الموصى له ، لانتفاء المقيد بانتفاء قيده ، فهو وإن كان أقرب الوجوه المذكورة في التقييد ، بل يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) أن البطلان في هذه الصورة ليس محلا للكلام بينهم (١) إلّا أنه أيضاً لا يمكن المساعدة عليه ، نظراً لعدم الشاهد في صحيحتي محمد بن مسلم ومنصور بن حازم على تقييدهما بذلك.

__________________

(١) الجواهر ٢٨ : ٢٥٧ ٢٥٨.

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

على أن هذا التقييد لا أثر له. فإن الوصيّة مقيدة بذلك في مقام الثبوت ، سواء أقيدها الموصي في مقام الإثبات أم لم يقيدها ، فإن الميت غير قابل للتمليك ابتداءً فالحياة مأخوذة في الموضوع على نحو مفروض الوجود. ومن هنا فلا يكون للتقييد أثر.

والحاصل أن مقتضى القاعدة وإن كان هو البطلان في فرض موت الموصى له في حياة الموصي ، إلّا أنه لا بدّ من الخروج عنها لصحيحة محمد بن قيس ، الدالة على النفوذ وانتقال المال إلى ورثته صريحاً.

ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين فرض التقييد وعدمه.

وأمّا المقام الثاني : فإن قلنا بأن الوصيّة إيقاع ولا تحتاج إلى القبول كما هو الصحيح ، غاية الأمر أنه يعتبر في نفوذها عدم الرد ، فالأمر واضح. فإن الموصى به ينتقل بمجرّد موت الموصي إلى ملك الموصى له لفرض عدم الرد ، وبموته ينتقل إلى ملك ورثته لا محالة ، فحاله في ذلك حال سائر أمواله ، فلا يعتبر قبولهم جزماً.

نعم ، يبقى الكلام في تأثير ردهم ، وهل أنه كردّ الموصى له يوجب بطلانها أم لا؟

فيه خلاف. والظاهر هو الثاني ، وذلك لإطلاقات أدلة نفوذ الوصيّة ، فإن مقتضاها نفوذها مطلقاً ، سواء أتحقق ردّ أم لم يتحقق ، غاية الأمر أننا خرجنا عنها للإجماع على مانعية الرد ، وحيث إنه دليل لبي فلا بدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقن وهو ردّ الموصى له نفسه ، فيبقى تأثير رد الورثة بلا دليل. على أن الورثة إنما يتلقون المال من أبيهم بعنوان الإرث ، ولا يتلقونها من الموصي بعنوان الوصيّة. ومن هنا فلا يكون لردهم أي أثر.

وإن قلنا باعتبار القبول ، فإن اعتبرناه كاشفاً ، فالأمر كما تقدّم ، إذ المتيقن من الإجماع الدالّ على اعتبار القبول اعتباره في الجملة ، أعني الأعم من قبول الموصى له هو وقبول ورثته ، فإذا قبل الورثة كشف ذلك عن ملكية الموصى له للموصى به من حين موت الموصي ، وحينئذ فينتقل إلى ملكهم كسائر أمواله.

وإن اعتبرناه ناقلاً ، أشكل الحكم بصحّة الوصيّة من هذه الجهة ، فإن ما أنشأه الموصي غير قابل للتحقق في الخارج ، وما تعلق به القبول لم ينشئه الموصي.

٣٢٠