موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

.................................................................................................

______________________________________________________

أدرك كان له الخيار ، فإن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهر ، إلّا أن يكونا قد أدركا ورضيا». قلت : فإن أدرك أحدهما قبل الآخر؟ قال : «يجوز عليه ذلك إن هو رضي». قلت : فإن كان الرجل الذي أدرك قبل الجارية ورضي النكاح ، ثمّ مات قبل أن تدرك الجارية ، أترثه؟ قال : «نعم ، يعزل ميراثها منه ، حتى تدرك وتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج ، ثمّ يدفع إليها الميراث ونصف المهر» الحديث (١).

فإنها صريحة في الكشف ، إذ لولاه لم يكن مجال للحكم بعزل نصيب البنت حتى تدرك ، لأنه وبمجرد موت أحد الطرفين لا يبقى مجال للحكم بالزوجية ، فإنها من الزوجية بين الحي والميت وهو باطل جزماً.

على أنّ القول بالنقل لا يتمّ في العقود المتقيدة بالزمان كالإجارة ونكاح المتعة ، كما لو آجر الفضولي الدار شهراً أو تزوّج من الأمة شهراً ولم يجز المالك إلّا بعد انقضاء نصفه. فإنه لو كانت الإجازة ناقلة لكانت الملكية أو الزوجية في خصوص النصف الباقي من الشهر ، أي من حين الإجازة إلى انقضاء الشهر ، والحال أن المنشأ إنما هو الملكية والزوجية شهراً كاملاً ، فيرد عليه إن ما أنشأ لم يمض وما امضي لم ينشأ فكيف يمكن الالتزام بصحته.

والحاصل : إنّ النقل وإن كان ممكناً في نفسه ، إلّا أن دليل الإمضاء والنفوذ لا يساعد عليه ، باعتبار أن ظاهره إمضاء ما وقع. ومن هنا فلا بدّ من الالتزام بالكشف ، غير أن الأقوال في الكشف لما كانت مختلفة : فمنهم من يقول بالكشف الحقيقي ، ومنهم من يقول بالكشف الانقلابي ، ومنهم من يقول بالكشف الحكمي ، فلا بدّ من تحقيق الحال لمعرفة الصحيح منها. ومن هنا فنقول :

أمّا الكشف الحقيقي فهو وإن كان ممكناً في نفسه بحيث تكون الإجازة شرطاً متأخّراً ، إلّا أنه لا دليل عليه أيضاً ، فإنّ ظاهر الأدلة إنما هو اعتبار نفس الرضا والإجازة لا اعتبار تعقبهما. وحيث ان من الواضح انهما لم يكونا موجودين حال العقد ولم يكن العقد عن الرضا ، فلا وجه للحكم بالصحّة وإن كان متعقباً بهما ، بل إنّ القول

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٦ كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الأزواج ، ب ١١ ح ١.

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

به على خلاف ظاهر دليل الجواز ، فإنّ ظاهره إنما هو كون الجواز متفرعاً على الرضا لا أنه إذا أجاز العقد انكشف الجواز السابق ، ومن هنا فلا مجال للالتزام بهذا القول.

وأما الكشف الانقلابي ، بمعنى انقلاب العقد بعد الإجازة وثبوت الجواز من السابق ، فهو مضافاً إلى أنه لا دليل عليه غير معقول في نفسه ، لأن الشي‌ء لا ينقلب عما وقع عليه والزمان المعدوم لا يمكن إيجاده ثانياً ، بلا فرق بين الأُمور التكوينية والأُمور الاعتبارية ، فإنه محال فيهما معاً.

ومن هنا فيتعين القول بالكشف الحكمي ، فيحكم بنفوذ العقد من حينه من الآن.

ولتوضيحه نقول : إنّ الشي‌ء قد يكون موجوداً بالوجود الحقيقي الذي لا يختلف باختلاف الأنظار ، وقد يكون موجوداً بالوجود الاعتباري ، كالأحكام الوضعية والتكليفية. والأوّل ينقسم إلى قسمين : فإن الموجود بالوجود الحقيقي قد يكون موجوداً في الخارج كالأعيان ، وقد يكون موجوداً في النفس خاصة كمتعلق العلم فإنه موجود حقيقة غير إنّ وعاء وجوده إنما هو النفس دون الخارج.

والفرق بين الوجود الاعتباري والوجود الذهني هو أن الأوّل موجود في الخارج فإنه يتعلق بما هو موجود في الخارج لكن بالوجود الفرضي. في حين أنّ الثاني لا وجود له في الخارج ، بل ينحصر وجوده في الذهن خاصة ، فإنّ العلم لا يتعلق بما هو في الخارج ، وإنما يتعلق بصورته الحاضرة في الذهن ، كما هو واضح.

وأما الفرق بينهما وبين الوجود الخارجي الحقيقي ، فهو كامن في أن الثاني لا ينفك عن الموجود في الخارج إلّا بالاعتبار ، فإذا كان الوجود موجوداً فالماهية موجودة أيضاً ، كما أنه لو كانت الماهية موجودة كان الوجود موجوداً لا محالة. وهذا بخلاف الوجود الذهني والوجود الاعتباري ، فإنهما من الممكن أن يتعلقا بأمر سابق كموت زيد قبل شهر ، أو بأمر متأخر كطلوع الشمس غداً.

وإن كان التعبير بتعلق الوجود الذهني بالأمر السابق أو اللاحق لا يخلو من مسامحة ، باعتبار أنه إنما يتعلق بالصورة الذهنية وهي موجودة بالفعل ، غاية الأمر أن الصورة صورة لأمر متقدِّم أو متأخِّر ، لكنّه مع ذلك يعبر بما تقدّم ، فيقال إنّ العلم متعلِّق بمتقدِّم أو متأخِّر. وهذا بخلاف الاعتبار ، حيث إنه يتعلّق بالمتقدِّم أو المتأخِّر

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

حقيقة ، فيبيع المالك داره من قبل شهر أو بعد شهر ، من دون أن يكون في تعلقه بهما أي محذور.

نعم ، إنهما غير ممضيين شرعاً ، لعدم جواز التعليق في البيع أو غيره ، غير إنّ ذلك لا يعني عدم صحّة تعلقه بهما.

إذا اتضح ذلك يظهر أنه لا مانع في المقام من تعلق الاعتبار الإجازة بالملكية السابقة من الآن ، فإنه من الاعتبار المتعلِّق بالأمر المتقدم ، وقد عرفت أنه لا مانع منه ، لكن لا على نحو الانقلاب أو الشرط المتأخِّر ، فيحكم بالصحّة حينئذ نظير تعلّقه بالأمر المتأخر ، كما هو الحال في متعلِّق الاعتبار في التدبير والوصيّة ، حيث إن متعلقه إنما هو الحرية والملكية بعد موت المالك.

وبعبارة اخرى : إنّ الأُمور الاعتبارية قوامها باعتبار من بيده الأمر ، وليس لها واقع سوى الجعل والاعتبار وهو أمر خفيف المؤنة ، فيصح تعلقه بأمر متقدِّم أو متأخِّر على حدّ جواز تعلّقه بأمر موجود بالفعل ، وعليه فإذا اعتبر من بيده الأمر ترتّب عليه آثاره لا محالة.

ومن هنا فإذا كان هذا النوع من الاعتبار ممكناً في نفسه ، كان مقتضى أدلّة صحّة العقد الفضولي والأدلة الخاصة هو صحته ، باعتبار أن الإجازة إذا تعلقت بما أُنشئَ سابقاً استند ذلك المنشأ من حين الإجازة إلى المجيز ، بمعنى أن العقد الواقع قبل سنة مثلاً يستند إليه من حين الإجازة ، وبذلك فتشمله أدلة نفوذ العقد ، ويكون مقتضاها الحكم من الآن بصحّة العقد السابق من حينه.

هذا مضافاً إلى دلالة قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة المتقدِّمة : «وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل» وقوله (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن وهب المتقدِّمة أيضاً : «اثبت على نكاحك الأوّل» على ذلك ، باعتبار أن ظاهرهما الحكم بصحّة النكاح الأوّل من الآن.

وممّا يدلّ على أن الملكية ونحوها من الأُمور الاعتبارية ليست من الأعراض الخارجية ولا واقع لها سوى الاعتبار ، أنها تتعلق بالكلي كما هو الحال في موارد بيع الكلي ، مع أنه غير قابل لأن يكون معروضاً لعرض خارجي.

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وتتعلق بالمعدوم كما هو الحال في تعاقب الأيدي ، فإن المالك إذا رجع على أحدهم بعد تلف العين كان له الرجوع على من بعده ، وهكذا إلى أن يستقر الضمان على من تلفت العين عنده ، ومن الواضح أن ذلك ليس إلّا لتملك من رجع عليه المالك للعين التالفة بعد دفع بدلها ، فيكون مالكاً للمعدوم ، ومن هنا يصح له الرجوع على من بعده. بل إن من الممكن إنشاء الملكية للمعدومين وتمليكهم من حين الإنشاء ، كما هو الحال في الوقف الذري والوصيّة بالنسبة إلى البطون المتأخرة وغير الموجودة حين الإنشاء ، فإنّ إنشاء الملكية متحقق من الآن في حين أنّ المالك معدوم.

وبالجملة فليست الملكية عرضاً خارجياً تحتاج في قيامها إلى موضوع خارجي ، بل هي وجود في مقابل الوجودات الخارجية والوجودات الذهنية ، على ما تقدّم بيانه.

إذن فلا محيص بمقتضى ظهورات الأدلة عن الالتزام بما ذكرناه من الكشف الحكمي ، فيقال : إنّ العقد بعد الإجازة يكون صحيحاً من الأوّل ، بمعنى اعتبار المرأة من حين الإجازة زوجة للرجل من حين وقوع العقد.

هذا وقد يورد على ما اخترناه بوجهين :

الأوّل : إنّ العبرة في التضاد لما كانت بزمان المعتبر لا زمان الاعتبار ، لم يعقل أن يكون المبيع في البيع الفضولي ملكاً لمالكه قبل الإجازة وملكاً للمشتري بعدها في زمان واحد وأعني زمان صدور العقد وإن كان الاعتبار في زمانين. وعلى هذا الأساس كان امتناع ثبوت حكمين مختلفين الوجوب والحرمة للخروج من الدار المغصوبة ، فإنه لا يعقل أن يحكم بحرمة ذلك التصرف حال الدخول ثمّ يحكم بوجوبه حين الخروج ، فإن الفعل الواحد لا يتصف بلحاظ زمان واحد إلّا بأحدهما ، وأما اتصافه بهما معاً فهو ممتنع حتى ولو كان زمان الاعتبارين مختلفاً.

وفيه : إنه إنما يتم في الأحكام الشرعية التكليفية ، باعتبار أنها إنما تنشأ من المصالح أو المفاسد الكامنة في متعلقاتها ، فإنه يمتنع أن يكون الشي‌ء الواحد محبوباً ومبغوضاً في زمان واحد حتى وإن اختلف زمان الحكم. ومن هنا حكمنا بعدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة للخروج من الدار المغصوبة ، فإنه لا يمكن أن يكون محبوباً

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ومبغوضاً في آن واحد.

وأما بالنسبة إلى الأحكام الوضعية الاعتبارية فلا يتم ما ذكر ، حيث تكون المصلحة في نفس الاعتبار ، فإنه لا مانع من الاعتبارين إذا اختلف زمانهما. فيعتبر في يوم السبت مثلاً ملكية زيد لشي‌ء معين في يوم الاثنين ، ثمّ يعتبر في يوم الأحد ملكية عمرو لذلك الشي‌ء في يوم الاثنين أيضاً ، من دون أي محذور فيه ما دامت المصلحة قائمة في الاعتبار. بل لو لم يكن هناك تنافٍ في الأثر ، لقلنا بجواز اعتبار ملكية شي‌ء واحد لشخصين على نحو الاستقلال في زمان واحد.

الثاني : إنّ ما ذكر إنما يتمّ في الأحكام المجعولة على نحو القضايا الخارجية ، ولا يتم في الاعتبارات المجعولة بنحو القضايا الحقيقية ، لأن هذه الاعتبارات موجودة بأجمعها في آن واحد هو أوّل الشريعة المقدّسة. وحيث إنّ الاعتبارات الشرعية من هذا القبيل ، فلازم القول بالكشف بالمعنى الذي ذكر أعني اعتبار الملكية للمالك قبل الإجازة واعتبارها للمشتري بعدها من حين صدور العقد هو اجتماع هذين الاعتبارين في زمان واحد هو أوّل الشريعة المقدّسة ، وهو محال.

وفيه : أن الإنشاء في هذه الاعتبارات وإن كان أزلياً وثابتاً مع بدء الشريعة المقدّسة ، إلّا أن فعليتها إنما تكون بعد تحقّق موضوعاتها في الخارج ، إذ قبله لا يتجاوز الاعتبار مرحلة الإنشاء. ومن هنا فحيث إنّ أحد الاعتبارين كانت فعليته قبل الإجازة ، في حين إنّ فعلية الاعتبار الثاني وهو اعتبار الملكية للمشتري إنشائي محض يتوقف بلوغه مرحلة الفعلية على إجازة المالك ، فلا يكون هناك أي تنافٍ بين هذين الاعتبارين.

ثمّ إنّ الكشف الحكمي بالمعنى الذي اخترناه غير الكشف الحكمي الذي ذهب إليه شيخنا الأعظم (قدس سره). والفرق بينهما يكمن في أنه (قدس سره) يرى اتحاد زمان الاعتبار والمعتبر ، بمعنى كونهما معاً بعد الإجازة ، غاية الأمر أنّ الآثار إنما تترتب من حين العقد. في حين إنا نرى اختلاف زمانهما ، فإن الاعتبار إنما يكون حين الإجازة ، وأما المعتبر فهو متقدم عليه وثابت حين العقد. فإنّ ما ذهب إليه (قدس سره) خلاف ظاهر الأدلة ، ولا دليل يساعد عليه.

٢٥

ولا يضرّه النهي ، لأنه متعلق بأمر خارج (*) متّحد (١). والظاهر اشتراط عدم الردّ منه قبل الإجازة (**) ،

______________________________________________________

إذن فما اخترناه هو الصحيح الموافق لظاهر الأدلّة والذوق العرفي.

ويترتّب على هذا أنه لو واقعها العبد فأولدها ثمّ أجاز المولى ، لم يحكم بكون المواقعة زنا ولا يحدّ لذلك ، إذ يفرض من الآن أنّ المواقعة إنما كانت مواقعة للزوجة لا للمرأة الأجنبية وإن كانت في وقتها كذلك لا محالة. ويتفرع على ذلك ترتب جميع آثار الوطء الصحيح من التوارث بينهما وما شاكله عليه.

وكذا الحال فيما لو أجاز المالك العقد الفضولي بعد مضي مدة من وقوعه ، فإنه يحكم من الآن بصحّة العقد السابق وتملك المشتري للمبيع من ذلك الحين. ويتفرع عليه جميع آثار الملكية الصحيحة ، ومنها جواز مطالبة المشتري للمالك بأُجرة مثل المنافع التي استوفاها من العين في الفترة ما بين العقد والإجازة.

فالمتحصِّل من جميع ما تقدّم أن القول بالكشف الحكمي لما كان ممكناً في نفسه وكان يساعد عليه دليل نفوذ العقد وبعض الأدلّة الخاصّة ، تعيّن القول به دون سائر الأقوال ، من النقل أو الكشف الحقيقي أو الانقلابي أو الحكمي بالمعنى الذي ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) لما عرفت من أنها بين ما هو ممتنع في نفسه ، وما لا يساعد عليه الدليل.

(١) لما اختاره (قدس سره) من أن وجوب المقدمة أو حرمتها إنما هو لعنوان المقدمية ، فيكون النهي في المقام متعلقاً بأمر خارج أعني عنوان المقدمية فلا يؤثر شيئاً.

نظير ما التزم به (قدس سره) في باب الوضوء فيما إذا كانت له غايتان إحداهما واجبة والأُخرى مستحبة وكان الوضوء مقدمة لهما ، من ثبوت الحكمين معاً للوضوء

__________________

(*) التعليل ضعيف جدّاً ، والصحيح أن يقال : إنّه على تقدير الحرمة ، فهي في المعاملات لا توجب الفساد.

(**) فيه إشكال بل منع.

٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فيلتزم بكونه واجباً ومستحباً بالفعل ، لأنه من اجتماع الحكمين في عنوانين يتحدان خارجاً وهو (قدس سره) ممن يرى جواز ذلك ، بل يرى جواز اجتماع الأمر والنهي إذا تعلقا بعنوانين وإن كانا منطبقين على شي‌ء واحد في الخارج ، فيحكم بكون الوضوء واجباً بما هو مقدمة للواجب ، ومستحباً بما هو مقدمة للمستحب.

ففي المقام يقال : إنّ العقد بما هو تزويج في نفسه فهو مباح ، وبما هو مقدمة للحرام حيث أتى به بقصد التوصل إلى الحرام فهو حرام ، فيكون متعلق النهي أمراً خارجاً عن التزويج ، فيحكم بصحته لا محالة.

غير أنك لما عرفت في باب الوضوء أنّ الصحيح أن عنوان المقدمية إنما هي من العناوين التعليلية لا من الجهات التقييدية ، كانت هذه المسألة أجنبية بالمرّة عن مسألة اجتماع الأمر والنهي بعنوانين ، إذ البحث المعروف في جواز الاجتماع وعدمه إنما هو فيما إذا تعلق الأمر بعنوان وتعلق النهي بعنوان آخر غيره ، وكان بين العنوانين نسبة العموم والخصوص من وجه ، كما هو الحال في مثال الغصب والصلاة ، ولا يجري فيما نحن فيه ، باعتبار أن مفهوم المقدمة بما هو غير متّصف بأي وصف ، والملازمة بناءً على القول بها إنما هي بين الواجب أو الحرام وما هو مقدمة له بالحمل الشائع فيكون عنوان المقدمية وتوقف الواجب أو الحرام على شي‌ء علة لوجوب ذات ذلك الشي‌ء أو حرمته ، لا علة وجوبه أو حرمته بعنوان المقدمية ، وهذا ما يصطلح عليه بالجهة التعليلية لوجوب ذات المقدمة أو حرمتها.

وعلى هذا فيكون الوضوء بعنوان واحد واجباً ومستحباً لعلتين ، فبما أنه مقدّمة للواجب يكون واجباً ، وبما أنه مقدمة للمستحب يكون مستحباً. وهو غير ممكن حتى عند من يرى جواز اجتماع الأمر والنهي ، فإن القائل به إنما يرى ذلك فيما إذا تعدد العنوان ، وأما إذا اتحد العنوان غاية ما هناك أن سبب الوجوب والحرمة كان متعدِّداً فلا قائل بالجواز على الإطلاق.

وعلى هذا الأساس ذكرنا في مسألة الوضوء أنّ ما أفاده الماتن (قدس سره) من الحكم بالوجوب والاستحباب ، غير تامّ في نفسه ولا يمكن المساعدة عليه.

ومن هنا يظهر الحال في المقام. فإنّ عنوان المقدمية لما كان من الجهات التعليلية

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كان معروض الحرمة على القول بها انما هو ذات المقدّمة أعني التزويج لا محالة وعليه فلا يكون النهي متعلّقاً بأمر خارج عنه.

فما أفاده (قدس سره) ضعيف جدّاً ، ولا مجال للمساعدة عليه.

ثمّ إن لشيخنا المحقق (قدس سره) في المقام كلاماً ، حاصله أن الوجوب أو الحرمة إنما يتعلق بعنوان المقدمة وهو جهة تقييدية ، ولذا يعتبر في اتصاف المقدمة بهما قصد التوصل بها إلى ذي المقدمة.

وقد ذكر (قدس سره) في وجه ذلك أن انقسام الجهة إلى التعليلية والتقييدية إنما يختص بالأحكام الشرعية. فإن الجهة ان كانت في مرحلة سابقة عن الحكم ، وكانت علة لتعلق الحكم بالشي‌ء ، كانت جهة تعليلية. وأما ان كانت في مرحلة متأخرة في الرتبة عن الحكم ، كانت جهة تقييدية.

وأمّا الأحكام العقلية فليست فيها جهات تعليلية مغايرة للجهات التقييدية ، وإنّما الجهات التعليلية فيها هي بعينها جهات تقييدية ، سواء في ذلك الأحكام العقلية النظرية والأحكام العقلية العملية. فإذا أدرك العقل بأن وجود زيد مثلاً وعدم وجوده لا يجتمعان باعتبار أن لازمه اجتماع النقيضين ، فهي جهة تعليلية ، بمعنى أن استحالة اجتماع وجود زيد وعدمه معلول لاستحالة اجتماع النقيضين ، لانطباقه على المورد. وكذا الحال في كل قضية ممتنعة بحكم العقل ، فإن استحالة اجتماع النقيضين أساس لها ، لرجوعها إليها لا محالة. ومن هنا فتكون الجهة التعليلية تقييدية بالضرورة.

وهكذا الأمر في الأحكام العملية. فإن حكم العقل بحسن ضرب اليتيم تأديباً ولمصلحته باعتبار أنه إحسان له وعدل في حقه ، إنما يرجع إلى حكم العقل بحسن العدل والإحسان لانطباقه عليه ، فالجهة التعليلية فيه ترجع إلى الجهة التقييدية ، نظراً لرجوع حكم العقل بحسن الضرب والتأديب إلى حكمه بحسن الإحسان والعدل. وكذا الكلام في حكمه بقبح ضرب اليتيم لا للتأديب لكونه ظلماً ، فإنه إنما يرجع إلى حكمه بقبح الظلم ، فتكون الجهة التعليلية في القضية هي بعينها الجهة التقييدية. وهاتان القضيّتان أعني حسن العدل والإحسان وقبح الظلم هما الأساس لكل

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مورد يحكم العقل بحسن شي‌ء أو قبحه.

إذن فليست في الأحكام العقلية جهات تعليلية تغاير الجهات التقييدية ، وإنما الجهات التعليلية هي بعينها جهات تقييدية ، كما أن الجهات التقييدية هي بعينها جهات تعليلية.

ومن هنا فبما أن وجوب المقدمة إنما هو بحكم العقل ، كان الوجوب ثابتاً لها بما هي مقدمة ، وعليه فلا بدّ من قصد التوصل ، نظراً إلى أن العنوان هو متعلق الوجوب أو الحرمة.

وما أفاده (قدس سره) وإن كان تاماً وصحيحاً في نفسه ، إذ ليست في الأحكام العقلية جهات تعليلية تغاير الجهات التقييدية ، إلّا أن تطبيقه لهذا الكلام على المقام مما لا يمكن المساعدة عليه. والسر في ذلك أن وجوب المقدمة على القول به إنما هو شرعي لا عقلي ، وإنما العقل يدرك الملازمة بين الوجوبين ، بمعنى أنه يدرك استحالة انفكاك وجوب ذي المقدمة شرعاً عن وجوب المقدمة كذلك ، وأما نفس الوجوب فهو شرعي محض.

وبعبارة اخرى : إن العقل إنما يدرك الملازمة واستحالة الانفكاك بين الوجوبين الشرعيين خاصة ، وأما نفس الوجوب فهو شرعي وليس مما يحكم به العقل. ومن هنا فيكون عنوان المقدمية جهة تعليلية للوجوب الشرعي ، بمعنى أن الترتب وتوقف الواجب عليها المعبر عنه بعنوان المقدمة ، علة لإيجاب ذات المقدمة شرعاً.

وعليه فلا يكون هذا من مصاديق ما أفاده (قدس سره) ، من أن الجهات التعليلية هي بعينها جهات تقييدية في الأحكام العقلية.

وكيف كان ، فالصحيح في التعليل أن يقال : إن النهي التكليفي عن المعاملات لا يقتضي فسادها ، إذ لا ملازمة بين حرمة المعاملة وعدم نفوذها ، بل قد تكون محرّمة وفي نفس الحين تكون نافذة ، كما هو الحال في النهي عن البيع وقت النداء فإنّه محرم وصحيح ، باعتبار أن النهي والمبغوضية لا ينافيان الإمضاء لعدم اعتبار القربة فيها كالعبادات ، كي يقال بأن المبغوض لا يصحّ التقرّب به.

٢٩

فلا تنفع الإجازة بعد الرد (١). وهل يشترط في تأثيرها عدم سبق النهي من المولى

______________________________________________________

هذا والذي يهون الخطب أننا لم نلتزم بالحرمة في المقام أصلاً ، وقد عرفت أنه من مصاديق التجرُّؤ وهو غير محرم.

اذن فلا مجال للبحث في حرمة المقدّمة ، سواء أقصد بها التوصّل إلى إمضاء المولى أم قصد ترتيب الأثر عليه ، سواء أذن المولى أم لم يأذن.

(١) على ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب ، بل ادعى الشيخ الأنصاري (قدس سره) الإجماع عليه (١). وقد عللوا ذلك بأنه كرد البائع وعدوله الفاصل بين إيجابه وقبول المشتري ، حيث يمنع من تأثير قبول المشتري بلا كلام.

إلّا أن ما ذكروه لا يخلو من الإشكال ، بل المنع. وذلك فلأن من غير المحتمل أن يكون الإجماع في المقام إجماعاً تعبدياً يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) ، بل من الواضح أن مستنده إنما هو استظهار كون المقام من قبيل رجوع البائع قبل قبول المشتري. وحيث إنّ بين المسألتين بوناً بعيداً ، فلا مجال للالتزام بما ذكروه.

والوجه فيه أنّ الموجب إذا رجع عن إيجابه قبل القبول لم يتحقق مفهوم العقد ، لأنه عبارة عن ضمّ التزام إلى التزام وربط تعهّد بآخر. فإذا فرض ارتفاع التزام البائع بالرجوع أو الموت أو الجنون لم يكن للقبول أثر ، باعتبار أنه ليس هناك التزام آخر يضم هذا الالتزام إليه ويربط بينهما ، فلا يتم مفهوم العقد. وأين هذا من المقام الذي ليس هناك أي التزام من المولى وانتساب للعقد إليه قبل الرد وبعده ، كي يقال إن الردّ قد أبطل أثره ؛ بل الرد وعدمه في المقام سيان حيث لا أثر له بالمرة ، فإن العقد لم يكن منتسباً إليه قبل الرد وكذا الحال بعده ، كما أنه لم يكن قبل الرد التزام من المولى وكذلك الحال بعده.

بل وكذا الحال لو اعتبرنا رضا المشتري بالمعاملة حين الإيجاب أيضاً ، على ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره) ، وإن لم نرتضه في محله. وذلك لأن المفروض أن العقد

__________________

(١) كتاب النكاح (طبع المؤتمر العالمي للشيخ الأنصاري) ٢٠ : ٢٤٦.

٣٠

فيكون النهي السابق كالردّ بعد العقد ، أو لا؟ وجهان. أقواهما الثاني (١).

______________________________________________________

قد وجد في ظرفه واجداً لجميع الشرائط عدا استناده إلى المولى ، فمتى أجاز استند العقد إليه ، وليس هذا قبولاً وإنما هو إسناد للعقد الواقع إليه بعد أن لم يكن كذلك ومن هنا فلا يكون الردّ قاطعاً ومانعاً من لحوق الإجازة من المولى.

والحاصل أنّ ما ذكروه مضافاً إلى أنه لا دليل عليه مخالف لإطلاقات النصوص المتقدِّمة والقاعدة المقتضية لصحّة العقد الفضولي ، إذ ليس في المقام مانع من نفوذ العقد غير عدم إذن المولى ومعصية العبد له ، فإذا أجاز المولى ارتفع هذا المانع وجاز ، لعدم المقتضي للبطلان بعد اقتضاء القاعدة للصحّة.

هذا كلّه مضافاً إلى دلالة صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قضى في وليدة باعها ابن سيِّدها وأبوه غائب فاشتراها رجل فولدت منه غلاماً ثمّ قدم سيِّدها الأوّل فخاصم سيِّدها الأخير فقال : هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني فقال : خذ وليدتك وابنها ، فناشده المشتري ، فقال : خذ ابنه يعني الذي باع الوليدة حتى ينفذ لك ما باعك ، فلما أخذ البيع الابن قال أبوه : أرسل ابني ، فقال : لا أُرسل ابنك حتى ترسل ابني ، فلما رأى ذلك سيِّد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه (١) صريحاً على المدعى ، فإن المخاصمة والمطالبة أظهر أفراد الردّ ، ومع ذلك فقد حكم (عليه السلام) بصحّة العقد بعد الإجازة.

وبالجملة فما ذكروه من مانعية الردّ للإجازة مما لا يمكن المساعدة عليه ، بل الأدلة العامة والخاصة على خلافه ، فالمتعين هو القول بنفوذ العقد عند إجازة المولى ، سواء أصدر منه ردّ قبلها أم لم يصدر.

(١) لإطلاقات الأدلة ، حيث إن مقتضاها نفوذ العقد بالإجازة مطلقاً ، سواء أكان هناك نهي سابق أم لم يكن. وما ذكر من مانعية الرد فهو على تقدير الالتزام به ، إنّما يختص بالإنشاء ولا يشمل مجرد الكراهة النفسانية ، كما هو الحال في الإجازة أيضاً حيث إن مجرّد رضا المولى لا ينفع في الحكم بصحّة العقد واستناده إلى إجازة المولى.

__________________

(١) الوسائل ، ح ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٨٨ ح ١.

٣١

[٣٨٠٣] مسألة ٣ : لو باشر المولى تزويج عبده أو أجبره على التزويج فالمهر إن لم يعيّن في عين يكون في ذمّة المولى (١). ويجوز أن يجعله في ذمّة العبد يتبع به بعد العتق مع رضاه. وهل له ذلك قهراً عليه؟ فيه إشكال (٢) كما إذا استدان على أن يكون الدين في ذمّة العبد من غير رضاه.

وأمّا لو أذن له في التزويج ، فإن عيّن كون المهر في ذمّته ، أو في ذمّة العبد ، أو في عين معيّن ، تعيّن (٣). وإن أطلق ، ففي كونه في ذمّته ، أو في ذمّة العبد مع ضمانه له وتعهده أداءه عنه ، أو كونه في كسب العبد ، وجوه : أقواها الأوّل (٤) لأن الإذن في الشي‌ء إذن في لوازمه ، وكون المهر عليه بعد عدم قدرة العبد على شي‌ء وكونه

______________________________________________________

(١) بلا إشكال ولا خلاف في الحكم بالنسبة إلى الفرض الأوّل. وأما الفرض الثاني فالحكم كما أفاده (قدس سره) ، لما يأتي من أنه في حكم مباشرة المولى للعقد ، إذ ليس له فرض شي‌ء في ذمّة العبد.

(٢) بل منع. فإن غاية ما ثبت بالدليل إنما هو جواز تصرف المولى في عين العبد ومنافعه وأمواله إن كانت ، وأما التصرف في ذمته فلا دليل عليه ، بل هو مقطوع البطلان. كما هو الحال في الاستدانة أو الشراء في ذمّة العبد ، فإنه لو كان جائزاً لأمكن للمولى أن يصبح من أثرى الأثرياء بالاستدانة أو الشراء في ذمّة العبد ، ثم عتق العبد فيتبع به دون المولى ، والحال إنه مما لا ينبغي الشك في بطلانه.

(٣) بلا خلاف أو إشكال فيه.

(٤) وذلك فلأن القول الثاني وإن كان ممكناً إلّا أنه لا دليل عليه. والقول الثالث لا وجه له بالمرة ، فإنّ كسب العبد لما كان من جملة أموال المولى لم تكن خصوصيّة فيه بالذات.

وبعبارة اخرى : إنّ المهر إن كان على المولى ، فلا موجب لتعيّنه في مال خاص من أمواله. وإن لم يكن عليه فلا موجب لأخذه من كسب العبد الذي هو من جملة أمواله ، فإنه لا دليل على خروجه منها.

إذن فيتعيّن القول الأوّل ، الذي عليه القرينة العرفية التي ذكرها الماتن (قدس سره).

٣٢

كلّاً على مولاه (١) من لوازم الإذن في التزويج عرفاً (٢). وكذا الحال في النفقة (٣). ويدلّ عليه أيضاً في المهر رواية عليّ بن أبي حمزة (٤)

______________________________________________________

(١) إن كان (قدس سره) يشير بذلك إلى الآية الكريمة التي تضمنت هذا التعبير فلا يخفى أنها غير واردة في العبد ، وإنما هي واردة في الأبكم.

قال الله تعالى (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١).

بل لم يرد في شي‌ء من النصوص أنّ العبد (كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) ، بل الأمر قد يكون بالعكس من ذلك تماماً ، كما إذا كان العبد كسوباً وكان المولى عاجزاً لا عمل له.

(٢) كما هو أظهر من أن يخفى. وهذه القرينة لا تختص بالمولى والعبد ، وإنما هي قائمة في الإذن لكل من كان عيالا للآذن بالشراء لنفسه كالأب والابن ، فإنّ الظاهر من إذنه هو كون الثمن عليه.

ثمّ لو فرضنا عدم تمامية هذه القرينة ، فالمتعين هو الالتزام بأنّ المهر في ذمّة العبد من دون أن يكون للمولى دخل فيه مطلقاً ، فلا يضمن شيئاً على الإطلاق ، بل يكون إذنه هذا من باب رفع المانع من قبله خاصة. نظير إذن العمة أو الخالة في التزوج في بنت الأخ أو الأُخت ، حيث لا يحتمل أن يكون إذنهما مستلزماً لثبوت المهر عليهما.

وبذلك فيكون الحال في المقام كسائر موارد ضمانات العبد الثابتة نتيجة إتلافه لشي‌ء أو غيره باستثناء القتل وقصاص الجروح حيث إنّ له أحكاماً خاصة فإنّه يتبع به بعد العتق ، من دون أن يكون المولى ملزماً بشي‌ء على الإطلاق على ما تقتضيه القاعدة.

(٣) فإنّ الكلام فيها كالكلام في المهر بلا اختلاف بينهما.

(٤) عن أبي الحسن (عليه السلام) في رجل يزوج مملوكاً له امرأة حرّة على مائة

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ : ٧٦.

٣٣

وفي النفقة موثقة عمّار الساباطي (١).

ولو تزوّج العبد من غير إذن مولاه ثمّ أجاز ، ففي كونه كالإذن السابق في كون المهر على المولى أو بتعهّده ، أو لا ، وجهان. ويمكن الفرق بين ما لو جعل المهر في ذمّته ، فلا دخل له بالمولى (٢)

______________________________________________________

درهم ، ثمّ إنه باعه قبل أن يدخل عليها ، فقال : «يعطيها سيده من ثمنه نصف ما فرض لها ، إنما هو بمنزلة دين له استدانه بأمر سيده» (١).

إلّا أنها ساقطة سنداً ، باعتبار أن علي بن أبي حمزة هذا هو البطائني الكذّاب المعروف.

(١) قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أذن لعبده في تزويج امرأة فتزوجها ، ثمّ إن العبد أبق من مواليه ، فجاءت امرأة العبد تطلب نفقتها من موالي العبد ، فقال : «ليس لها على مولاه نفقة وقد بانت عصمتها منه» الحديث (٢).

وهي واضحة الدلالة على المدعى ، حيث إنّ ظاهرها أنّ نفقة زوجة العبد على مولاه ما لم يأبق فتسقط ، لانتفاء عصمتها.

(٢) لأن الإجازة لما كانت إجازة للعقد السابق بجميع خصوصياته ، وكان مقتضى العقد السابق كون المهر في ذمّة العبد ، كان المهر على العبد لا محالة يتبع به بعد العتق من دون أن يكون للمولى دخل فيه. نظير ما لو أذن المولى قبل العقد في تزوّج العبد على أن يكون المهر في ذمته ، حيث لا يقوم إذنه حينئذ إلّا بدور رفع المانع من قبله كما عرفت.

ولكن مع ذلك فقد قيل بأنّ المهر على المولى ، لأنّ ذمّة العبد بعينها ذمّة المولى. كما قيل بأنّ القرينة الخارجية بأنّ العبد لا يقدر على شي‌ء ، قائمة على تعهده بالمهر عند الإذن.

__________________

(١) الوسائل : ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٧٨ ح ١.

(٢) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٧٣ ح ١.

٣٤

وإن أجاز العقد. أو في مال معين من المولى أو في ذمته ، فيكون كما عين (١) أو أطلق ، فيكون على المولى (٢).

______________________________________________________

إلّا أنه لا يمكن المساعدة عليهما ، وذلك :

أمّا الأوّل : فلأن ما ذكر من أن ذمّة العبد غير مغايرة لذمّة المولى فهو مما لا أساس له ، بل للعبد ذمّة مغايرة لذمّة المولى ، ولذا لو أجاز المولى أن يتزوّج العبد مع كون المهر في ذمته صحّ العقد وكان المهر في ذمّة العبد يتبع به بعد العتق ، بل قد عرفت أن ذمّة العبد تنشغل بالضمانات الناتجة عن الإتلاف بلا خلاف فيه ، كما أنه لو أقرّ بشي‌ء قُبل إقراره وتبع به بعد العتق من دون أن تنشغل ذمّة المولى بشي‌ء. فما ذكر من أنّ العبد لا ذمّة له ، لا يمكن المساعدة عليه ، ولا دليل يعضده.

أمّا الثاني : فلأن القرينة لا تجري في المقام ، لأن الإجازة إنما هي إجازة للعقد السابق بجميع خصوصياته وبكيفيته التي وقع عليها ، وحيث إنه قد اشتمل على كون المهر في ذمّة العبد ، فلا مبرر للقول بتعهد المولى به. على أنه لو فرضنا ثبوت التعهّد فلا ينفع ذلك في إلزام المولى به ، لما يأتي قريباً.

(١) بلا خلاف ولا إشكال ، لما عرفت من أنّ الإجازة إنما تتعلق بالعقد السابق بجميع خصوصياته ، فيتعين ما عينه العبد لا محالة ، ويكون حاله حال الإذن السابق في التزويج مع كون المهر في ذمّة المولى أو عيناً معينة من أمواله.

(٢) للقرينة العرفية التي تقدّمت ، فيكون حال الإجازة اللّاحقة في هذا الفرض حال الإذن السابق في فرض الإطلاق وعدم تعيين شي‌ء بخصوصه.

إلّا أن للمناقشة في هذا مجالاً. وذلك فلأن الذمم لما كانت مختلفة ، ولم يمكن جعل المهر على ذمّة مجهولة ، انصرف عدم التعيين إلى ذمّة العبد نفسه ، لأنه طرف المعاملة والمعاقدة. ومن هنا فحيث إن الإجازة متعلقة بما وقع وإجازة للعقد المتقدم ، وكان ما وقع عبارة عن تزوّج العبد مع كون المهر في ذمته وإن لم يذكر ذلك بالتصريح ، فحال هذه الإجازة حال الإذن السابق في العقد مع التصريح بكون المهر في ذمّة العبد ، ولا تجري القرينة العرفية المتقدِّمة في المقام.

٣٥

ثمّ إنّ المولى إذا أذن ، فتارة يعين مقدار المهر ، وتارة يعمم ، وتارة يطلق. فعلى الأوّلين لا إشكال. وعلى الأخير ينصرف إلى المتعارف (١). وإذا تعدى وقف على

______________________________________________________

على أنّنا لو فرضنا جريانها في المقام ، بل لو فرضنا تصريح المولى عند الإجازة بتعهده بثبوت المهر في ذمته ، فلا يخرج ذلك عن كونه وعداً محضاً لا دليل على إلزامه به ، حيث لا موجب لانتقال المهر من ذمّة العبد إلى ذمّة المولى وفراغ ذمّة العبد به.

اللهمّ إلّا أن يضمنه المولى عند الإجازة بالضمان الشرعي ، فإن الحق حينئذٍ ينتقل إلى ذمّة المولى بلا إشكال.

نعم ، في فرض عدم الضمان لو قامت القرينة على أن إقدام العبد على هذا التزويج إقدام على أن يكون المهر في ذمّة المولى كما لو علمت المرأة بأنّ العاقد عبد لا يملك شيئاً فلا بأس بالقول بأن المهر عند الإجازة يكون في ذمّة المولى للقرينة المتقدِّمة حيث إن الإذن فيه إذن في كون المهر في ذمته ، وبهذه القرينة يرفع اليد عن انصراف الإطلاق إلى كون المهر في ذمّة العبد.

(١) خارجاً بالنسبة إلى تزويج العبد من المرأة التي تناسبه.

والوجه في ذلك بعد ما ذكرنا في باب الإطلاق أن المطلق شامل للفرد النادر أيضاً على حد شموله للفرد الشائع هو ما ذكرناه في باب الوكالة والاستعارة ، من أن الملاك الأصلي والواقعي إنما هو الرضا الباطني للموكل والمعير والآذن دون اللّفظ فإنه إنما يعتبر لكشفه عن الرضا الباطني لا غير. فبهذا اللحاظ لا بدّ من الاقتصار على الفرد المتعارف ، لأن الإذن لا يكشف إلّا عن الرضا الباطني بالتصرف المتعارف كاللبس فيما يلبس والمطالعة في الكتاب ، ولا يكشف عن غير المتعارف كفرش ما يلبس أو سد فرجة الحائط بالكتاب ، أو البيع بأقل من ثمن المثل أو الشراء بأكثر منه.

ومن هنا فالإذن في المقام ينصرف إلى الفرد المتعارف دون غيره ، لعدم كاشفية اللّفظ عن الرضا الباطني بغيره.

٣٦

إجازته (١). وقيل : يكون الزائد في ذمته يتبع به بعد العتق (٢).

وكذا الحال بالنسبة إلى شخص الزوجة ، فإنه إن لم يعين ينصرف إلى اللائق بحال العبد من حيث الشرف والضعة. فإن تعدى وقف على إجازته (٣).

______________________________________________________

(١) لأن ما وقع لم يأذن فيه ، وما أذن فيه لم يقع ، لكونه مقيداً بالمعين أو المتعارف.

(٢) وفيه : أنه لا موجب للتفكيك بين ما أذن المالك فيه والزائد ، لما عرفت من أن ما أذن فيه لم يقع ، وما وقع لم يأذن فيه. فالصحيح هو القول بالتوقف على الإجازة.

(٣) كل ذلك لما تقدّم من أن ما وقع لم يأذن فيه المولى ، وما أذن فيه لم يقع.

ثمّ إن في المقام فرعين يرتبطان بمسألة المهر لم يتعرض إليهما الماتن (قدس سره) ولا بأس بالتعرض إليهما.

الأوّل : لو أطلق المولى الإذن فتزوج العبد من دون مهر ، كان مهر المثل عند الدخول بها على المولى دون العبد ، لما تقدّم من أن إذنه في التزويج التزام منه بالمهر للقرينة العرفية ، فإنها قائمة على كون المهر عليه عند إذنه في التزويج وإن كان ثبوته بالدخول بها.

الثاني : لو تزوّج العبد بإذن المولى ، وبعد الدخول بها ظهر فساده لكون المرأة ذات بعل أو ذات عدة أو غير ذلك مع عدم علمها بالحال حين العقد كان مهر المثل على المولى ، لأنه بإذنه في التزويج قد التزم بالمهر ، فإذا ظهر بطلان العقد ثبت في ذمته مهر المثل بدلاً من المسمّى.

وأما لو تزوّج العبد من غير إذن المولى ، ودخل بها ثمّ ظهر الفساد :

فإن كانت المرأة عالمة بالحال فلا تستحق شيئاً ، لأنها بغية «ولا مهر لبغي». ففي معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : أيّما امرأة حرّة زوّجت نفسها عبداً بغير إذن مواليه ، فقد أباحت نفسها ولا صداق لها» (١). وهي وإن كانت مطلقة إلّا أنه لا بدّ من تقييدها بصورة علم المرأة

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٢٤ ح ٣.

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لقوله (عليه السلام) : «فقد أباحت نفسها» فإنها خير قرينة على اختصاصها بصورة العلم.

وإن كانت المرأة جاهلة بالحال كما لو تخيلت حريته ، أو أخبرها العبد بذلك فصدقته استحقت المهر في ذمّة العبد يتبع به بعد العتق ، لكونه حين العبودية غير قابل لأداء المهر باعتبار أنه وما في يده لمولاه ، من دون أن يكون للمولى دخل فيه لعدم إذنه في ذلك.

ثمّ هل المهر الثابت في ذمّة العبد هو المسمى في العقد ، أم مهر المثل؟

ذكر الفقهاء في أبواب متفرقة من الفقه كالبيع والإجارة ونحوهما ، أن فساد العقد يوجب الانتقال إلى ثمن المثل إن كانت المعاملة بيعاً ، وأُجرة المثل إن كانت إجارة أو ما شاكلها ، باعتبار أن المشتري أو المستأجر إنما أقدم على قبض العين أو المنفعة بالضمان لا مجاناً ، فإذا لم يسلم المسمّى لعدم إمضاء العقد من قبل الشارع ، ثبت عليه المثل إذ لا يذهب مال المسلم هدراً ، وعلى هذا الأساس ذكروا أن «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

غير أنا قد ذكرنا في محله أن ما ذكر لا يمكن المساعدة عليه بإطلاقه ، بل لا بدّ من التفصيل في المقام. وذلك لأن بطلان العقد قد يكون من جهة عدم أهلية من سلطه على المال لذلك ، كما هو الحال في بيع الغاصب ، أو الوكيل مع اشتباهه في متعلّق الوكالة ، نظير ما لو وكله شخص في بيع داره فباع الوكيل دكانه خطأً. ففيه ينتقل إلى ثمن المثل بلا خلاف ، لما ذكروه من أن المشتري لم يقدم على قبض المال مجاناً ، وإنما أقدم على قبضه مع كون ضمانه عليه ، فإذا لم يسلم المسمى ينتقل إلى ثمن المثل لا محالة ، حيث لا يذهب مال المسلم هدراً.

وأُخرى يكون البطلان من جهة إيقاع من له السلطنة على المال العقد فاسداً ، بلا فرق بين كونه عالماً بذلك أو جاهلاً. ففيه قد يفرض أن المسمّى أكثر من ثمن المثل وقد يفرض تساويهما ، وقد يفرض زيادة ثمن المثل عن المسمّى.

ففي الأوّل لا يجب على المشتري دفع المسمّى بلا إشكال ، باعتبار أن ما أوجبه لم

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يمض شرعاً فذمته غير مشغولة به ، لكنه حيث أتلف مال الغير مع الضمان ، فلا بدّ من أن يخرج عن عهدته إذ لا يذهب مال المسلم هدراً ، وتعيّن عليه دفع ثمن المثل لا محالة. وكذا الحال في الفرض الثاني.

وأما الفرض الثالث فلا وجه لما ذكره أكثر الفقهاء بإطلاق كلامهم من الانتهاء إلى ثمن المثل.

والوجه فيه أن المالك لما أقدم على إلغاء احترام ماله بالنسبة إلى الزائد وسلط المشتري على تلفه بالمقدار المعين ، كان مفوتاً لاحترام ماله فلا يجب على المشتري الزائد. ولا يجري في المقام ما ذكر من أن مال المسلم لا يذهب هدراً ، لأنه إنما يختص بما إذا لم يكن المالك ملغياً لاحترام ماله. فيتعين حينئذٍ دفع المسمى خاصة ، ومن المطمأنِّ به قوياً أن السيرة العقلائية قائمة على ذلك.

وهذا الكلام بعينه يجري في المقام. فإنّ الحرّة إذا أقدمت على التزوج بمهر دون مهر أمثالها ، فلا مقتضي للانتهاء إلى مهر المثل عند ظهور فساد العقد ، لأنها هي التي ألغت احترام ما تستحقه من المهر بالنسبة إلى الزائد.

وهذا الحكم مضافاً إلى كونه على طبق القاعدة يدل عليه صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سألته عن رجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها ثمّ أطلع على ذلك مولاه ، قال : «ذاك لمولاه ، إن شاء فرَّق بينهما ، وإن شاء أجاز نكاحهما. فإن فرَّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ، إلّا أن يكون اعتدى فأصدقها صداقاً كثيراً» الحديث (١).

فإنها واضحة الدلالة على ثبوت المهر المسمى عند ظهور البطلان ما لم يكن العبد معتدياً فيه ، ومن الواضح أن فرض عدم الاعتداء كما يشمل تساوي المهرين يشمل كون مهر المسمّى أقلّ من مهر المثل.

والماتن (قدس سره) قد تعرّض لهذا الفرع في المسألة الثالثة عشرة من هذا الفصل ، لكن الأولى تقديمه إلى المقام لشدة المناسبة.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٢٤ ح ٢.

٣٩

[٣٨٠٤] مسألة ٤ : مهر الأمة المزوَّجة للمولى (١) سواء كان هو المباشر ، أو هي بإذنه ، أو بإجازته. ونفقتها على الزوج (٢) إلّا إذا منعها مولاه عن التمكين

______________________________________________________

(١) لأنّ المهر وإن لم يكن عوضاً في النكاح ولذا يصحّ من دونه إلّا أنه شبيه به ، لأنّ اعتباره إنما هو من جهة تمكن الزوج من الانتفاع بالمرأة والاستمتاع بها المعبّر عنه بملكيّة البضع. ومن هنا فحيث إن هذه المنافع مملوكة للمولى بلا إشكال ، بتبع ملكيته للأمة نفسها ، كان عوضه له لا محالة.

ومما يؤكِّد ذلك معتبرة أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) في رجل زوّج مملوكة له من رجل حر على أربعمائة درهم ، فعجل له مائتي درهم وأخّر عنه مائتي درهم فدخل بها زوجها ، ثمّ إن سيدها باعها بعد من رجل ، لمن تكون المائتان المؤخّرة على الزّوج؟ قال : «إن كان الزوج دخل بها وهي معه ولم يطلب السيد منه بقية المهر حتى باعها ، فلا شي‌ء له عليه ولا لغيره» (١).

فإنها من حيث السند معتبرة ، لأن سعدان بن مسلم المذكور في سندها وإن لم يرد فيه توثيق في كتب الرجال ، إلّا أنه مذكور في أسناد كامل الزيارات وتفسير علي بن إبراهيم (٢). ومن حيث الدلالة واضحة بل صريحة في أن المهر للمولى.

نعم ، إنها تضمنت سقوط المؤجل من المهر بالدخول بها ، وهي مسألة خلافية لاختلاف الأخبار فيها ، حيث دلّت جملة منها على السقوط ، في حين دلّت جملة أُخرى منها على عدمه. إلّا أنها خارجة عن محل كلامنا ، وسيأتي الحديث عنها في محلها إن شاء الله.

(٢) بلا إشكال فيه ، على ما يستفاد من قوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) (٣) وجملة من النصوص المعتبرة. فإذا وجبت على الزوج وضعاً كانت المرأة غنية باعتبار كونها مالكة لها في ذمّته ، فلا يجب على المولى الإنفاق عليها ، لأن وجوبها

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٨٧ ح ١.

(٢) معجم رجال الحديث ٩ : ١٠٤.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٣٣.

٤٠