الكشف والبيان - ج ٤

أبي محمّد بن عاشور

الكشف والبيان - ج ٤

المؤلف:

أبي محمّد بن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

قال الجعفي :

راحوا بصائرهم على أكتافهم

وبصيرتي يعدو بها عتد وآي (١)

تعدّوا عداوي وأصلها ظهور الشيء وقيامه واستحكامه حتّى يبصر الإنسان فيهتدي إليها وينتفع بها ، ومنه قيل : [ما لي في الأمر] (٢) من بصيرة (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) قال عبد الله بن مسعود : كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان فجاء القرآن : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) يعني في الصلاة وقال أبو هريرة : كانوا يتكلّمون في الصلاة فأتت هذه الآية وأمروا بالإنصات.

وقال الزهري : نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما قرأ شيئا قرأه ، فنزلت هذه الآية.

وروى داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال : صلّى ابن مسعود فسمع ناسا يقرءون مع الإمام فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفقهوا ، أما آن لكم أن تعقلوا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) كما أمركم الله (٣).

وروى الحريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال : رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدّثان والقارئ يقرأ فقلت : ألا تستمعان إلى الذكر وتستوحيان الموعود ، قال : فنظرا إلي ثمّ أقبلا على حديثهما ، قال : فأعدت الثانية فنظرا لي فقالا : إنّما ذلك في الصلاة : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).

وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة (٤).

وقال الكلبي : وكانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حتّى يسمعون ذكر الجنّة والنار فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال قتادة : كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم في أول ما فرضت عليهم ، وكان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله عزوجل هذه الآية (٥).

__________________

(١) الصحاح : ٢ / ٥٩٢ ، وتفسير القرطبي : ٧ / ٣٥٣ وفيه بدل راحوا : جاءوا ، وفي تفسير الطبري (٧ / ٣٩٧) : حملوا.

(٢) بياض في المخطوط ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) راجع تفسير الدر المنثور : ٣ / ١٥٦.

(٤) راجع تفسير الطبري : ٩ / ٢١٧ ، ونصب الراية : ٢ / ٢١.

(٥) أسباب النزول للواحدي : ١٥٤.

٣٢١

وقال ابن عباس : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في الصلاة المكتومة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية.

وقال سعيد بن المسيب : كان المشركون يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى فيقول بعضهم لبعض بمكّة : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) فأنزل الله جوابا لهم (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ).

قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، وزيد بن أسلم ، والقاسم بن يسار ، وشهر بن حوشب : هذا في الخطبة أمر بالإنصات للإمام يوم الجمعة.

قال عبد الله بن المبارك : والدليل على حكم هذه الآية في [الجمعة] إنّك لا ترى خطيبا على المنبر يوم الجمعة يخطب ، فأراد أن يقرأ في الخطبة آية من القرآن إلّا قرأ هذه الآية قبل [فواة] قراءة القرآن.

قال الحسن : هذا في الصلاة المكتوبة وعند الذكر. وقال مجاهد وعطاء : وجب الإنصات في اثنين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلّي وعند الإمام وهو يخطب.

وقال عمر بن عبد العزيز : الإنصات لقول كل واعظ والإنصات الإصغاء والمراعاة.

قال الشاعر :

قال الإمام عليكم أمر سيّدكم

فلم نخالف وأنصتنا كما قالا (١)

وقال سعيد بن جبير : هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام (٢).

قال الزجاج : ويجوز أن يكون معنى قوله (فَاسْتَمِعُوا) و (أَنْصِتُوا) اعملوا بما فيه لا تجاوزوه ، لأن معنى قول القائل : سمع الله : أجاب الله دعاءك.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) قال ابن عباس : يعني بالذكر القراءة في الصلاة (تَضَرُّعاً) جهرا (وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ) دون رفع القول في خفض وسكوت يسمع من خلفك.

وقال أهل المعاني : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) اتعظ بالقرآن وآمن بآياته (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) بالطاعة في ما يأمرك (تَضَرُّعاً) تواضعا وتخشّعا (وَخِيفَةً) خوفا من عقابه ، فإذا قرأت دعوت بالله أي (دُونَ الْجَهْرِ) : خفاء لا جهار (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٥٤.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٥٥.

(٣) تفسير الطبري : ٩ / ٢٢١.

٣٢٢

وقال مجاهد وابن جريج : أمر أن يذكروه في الصدور. ويؤمر بالتضرع في الدعاء والاستكانة.

ويكره رفع الصوت [والبداء] بالدعاء وأمّا قوله (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) فإنه يعني بالبكر والعشيات ، واحد الآصال أصيل ، مثل أيمان ويمين ، وقال أهل اللغة : هو ما بين العصر إلى المغرب (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة والمراد هو عند قربهم من الفضل والرحمة لا من حيث المكان والمعاقبة.

وقال الحسين بن الفضل : قد يعبد الله غير الملائكة في المعنى من عند ربّك جاءهم التوفيق والعصمة (لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا يتكبرون ولا يتعظمون (عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) وينزهونه ويذكرونه ويقولون سبحان الله (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) يصلّون.

مغيرة عن إبراهيم : إن شاء ركع وإن شاء سجد.

٣٢٣

سورة الأنفال

مدنيّة ، وهي خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفا ،

وألف ومائتان وإحدى وثلاثون كلمة

زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه برىء من النفاق وأعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيام حياته في الدنيا» [٢١٢] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّ‌سُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَ‌سُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ‌ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَ‌بِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَ‌زَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَ‌جَاتٌ عِندَ رَ‌بِّهِمْ وَمَغْفِرَ‌ةٌ وَرِ‌زْقٌ كَرِ‌يمٌ (٤)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية قال ابن عباس : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم بدر : «من أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا ، ومن قتل قتيلا فله كذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا» [٢١٣] ، فلمّا التقوا سارع إليه الشبّان والفتيان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات ، فلمّا فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم الأشياخ : كنّا ردءا لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا ، ولا تذهبوا [بالغنائم دوننا].

وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال : يا رسول الله إنّك وعدت من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا وإنّا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين ، فقام سعد بن معاذ فقال : والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو لكن كرهنا أن يعرّي مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك ، فأعرض عنهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٤ / ٤٢٢.

٣٢٤

ثمّ عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعيد بمثل كلامه وقال : يا رسول الله إنّ الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعط هؤلاء التي ذكرت لا يبق لأصحابك كثير شيء فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية. فقسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم بالسويّة (١).

وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسّمه بين المسلمين عن سواء على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلاح ذات البين.

وقال سعد بن أبي وقاص : نزلت في هذه الآية ذلك أنّه لمّا كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميّة وأخذت سيفه وكان يسمّى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ليس هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلّا الله عزوجل من قتل أخي وأخذ بيدي قلت : عسى أن يعطي من لم يبل بلائي فما جاوزت إلّا قليلا حتّى جاءني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أنزل الله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) فخفت أن يكون قد نزل فيّ شيء ، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا سعد إنّك سألتني السيف وليس لي وإنّه قد صار (٢) ليّ فاذهب فخذه فهو لك» [٢١٤] (٣).

وقال أبو [أميّة] مالك بن ربيعة : أصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يدعى المرزبان فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمنع شيئا يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاه إيّاه.

وقال ابن جريج : نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا فاختلفوا فكانوا أثلاثا فنزلت هذه الآية وملّكها الله رسوله يقسّمها كما أراه الله.

عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس [قال :] كانت المغانم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو ملكا فهو غلول فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها فأنزل الله عزوجل (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ الْأَنْفالِ) أي حكم الأنفال وعلمها وقسمها.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٩٦ وأسباب النزول للواحدي ، ونصب الراية : ٤ / ٢٩٧.

(٢) في تفسير ابن كثير : وهب لي.

(٣) تفسير الطبري : ٩ / ٢٣٠ ، وتفسير ابن كثير : ٢ / ٢٩٥.

٣٢٥

وقيل : معناه يسألونك من الأنفال (عن) بمعنى (من).

وقيل : «من» صلة أي يسألونك الأنفال. وهكذا قرأ ابن مسعود بحذف (عن) وهو قول الضحاك وعكرمة.

والأنفال الغنائم واحدها نفل. قال لبيد :

إن تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي والعجل (١)

وأصله الزيادة يقال : نفلتك وأنفلتك أي : زدتّك.

واختلفوا في معناها : فقال أكثر المفسّرين : معنى الآية يسألونك عن غنائم بدر لمن هي.

وقال عليّ بن صالح بن حيي : هي أنفال السرايا (٢).

وقال عطاء : فأنشد من المشركين إلى المسلمين بغير قبال من عبد أو أمة أو سلاح فهو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع به ما يشاء.

وقال ابن عباس : هي ما يسقط من المتاع بعد ما يقسم من الغنائم فهي نفل لله ولرسوله.

وقال مجاهد : هي الخمس وذلك أنّ المهاجرين سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس وقالوا : لم يرفع منّا هذا الخمس ، لم يخرج منّا فقال الله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يقسّمانها كما شاءا أو ينفلان فيها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا.

واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة : فقال مجاهد وعكرمة والسدي : هي منسوخة نسخها قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (٣) الآية.

وكانت الغنائم يومئذ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة فنسخها الله بالخمس.

وقال عبد الرحمن بن أيد : هي ثابتة وليست منسوخة وإنّما معنى ذلك (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ). وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة. (وَالرَّسُولِ) يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها ثمّ أنزل حكم الغنائم بعد أربعين آية فإنّ لله خمسه ولكم أربعة أخماس.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذا الخمس مردود على فقرائكم» [٢١٥] (٤) ، وكذلك يقول في تنفيل

__________________

(١) لسان العرب : ١١ / ٦٧٠.

(٢) تفسير الطبري : ٩ / ٢٢٥.

(٣) سورة الأنفال : ٤١.

(٤) مسند أحمد : ٢ / ١٨٤.

٣٢٦

الأيام بعض القوم واقتفائه إياه ليلا ، وعلى هذه يفرق بين الأنفال والغنائم بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) وذلك حين اختلفوا في الغنيمة أمرهم بالطاعة والجماعة ونهاهم عن المفارقة والمخالفة.

قال قتادة وابن جريج : كان نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفّار إذا قتله وكان ينفل على قدر عنائه وبلائه حتّى إذا كان يوم بدر ملأ الناس أيديهم غنائم ، فقال أهل الضعف : ذهب أهل القوّة بالغنائم فنزلت (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) ليرد أهل القوّة على أهل الضعف فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد بعضهم على بعض فأمرهم الله بالطاعة فيها فقال (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) واختلفوا في تأنيث ذات البين فقال أهل البصرة أضاف ذات البين وجعله ذات لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم المؤنث وبعضها يذكر نحو الدار والحائط أنّث الدار وذكّر الحائط.

وقال أهل الكوفة : إنّما أراد بقوله (ذاتَ بَيْنِكُمْ) الحال التي للبين فكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء.

قالوا : ولم يضعوا مذكّرا لمؤنّث ولا مؤنّثا لمذكّر إلّا لمعنى به وقوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) الآية يقول الله تعالى ليس المؤمنون من الذي يخالف الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فرقّت به قلوبهم وهكذا هو في مصحف عبد الله.

وقال السدي : هو الرجل يريد أن يهتم بمعصية فينزع عنه (وَإِذا تُلِيَتْ) قرئت (عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) وقال ابن عباس : تصديقا ، وقال الضحاك : يقينا. وقال الربيع بن أنس : خشية. وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادة ونقصان ، قيل : فما زيادته؟

قال : إذا ذكرنا الله وجدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وقصّرنا وغفلنا فذلك نقصان.

وقال عدي بن عدي : كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سننا وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، [قال عمر بن عبد العزيز : فإن أعش فسأبينها لكم ، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص] (٢).

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي يفوّضون إليه أمورهم ويتّقون به فلا يرجون غيره ولا يخافون سواه والتوكل الفعل من الوكول (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي حقّوا حقا يعني يقينا صدقا. وقال ابن عباس : يقول برأوا من الكفر. وقال مقاتل : (حَقًّا) لا شك في إيمانهم كشك المنافقين (٣).

__________________

(١) انظر : جامع البيان للطبري : ٩ / ٢٣٦.

(٢) مستدرك عن تفسير القرطبي : ٨ / ٢٩٨.

(٣) زاد المسير : ٣ / ٢١٧.

٣٢٧

وقال قتادة : استحقّوا الإيمان بحق فأحقّه الله لهم. وقال ابن عباس : من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقّا.

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي ، قال : أخبرنا عليّ بن محمد بن عمير قال : إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا هشام بن عبيد الله قال : حدّثنا عبيد [الله هشام] بن حاتم عن عمرو بن [درّ] عن إبراهيم قال : إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقّا ، فليقل : إنّي مؤمن حقّا فإن كان صادقا فإنّ الله لا يعذّب على الصدق ولكن يثيب عليه.

فإن كان كاذبا فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له : إنّي مؤمن حقّا. وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال : أمؤمن أنت؟

فقال : الإيمان إيمانان فإنّ كنت تسأل عن الإيمان (بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) والجنّة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى قوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فوالله ما أدري أمنهم أنا أم لا.

وقال علقمة : كنّا في سفر فلقينا قوما فقلنا : من القوم؟ فقالوا : نحن (الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ، فلم ندر ما نجيبهم حتّى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال : فما رددتم عليهم؟ قلنا : لم نرد عليهم شيئا.

قال : أفلا قلتم أمن أهل الجنّة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنّة.

وقال سفيان الثوري : من زعم أنّه مؤمن حقّا أمن عند الله ثمّ [وجد] أنّه في الجنّة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف ، ووقف بعضهم على قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ).

وقال : تم الكلام هاهنا.

ثمّ قال : (حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ) فجعل قوله (حَقًّا) تأكيدا لقوله (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقال مجاهد : أعمال رفيعة. وقال عطاء : يعني درجات الجنّة يرقونها بأعمالهم.

هشام بن عروة : يعني ما أعدّ لهم في الجنّة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش.

وقال ابن محيريز : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) سبعون درجة كلّ درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عاما (وَمَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي حسن [وعظيم وهو] الجنّة.

كَمَا أَخْرَ‌جَكَ رَ‌بُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِ‌يقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِ‌هُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُ‌ونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ‌ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِ‌يدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ‌ الْكَافِرِ‌ينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِ‌هَ الْمُجْرِ‌مُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَ‌بَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي

٣٢٨

مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْ‌دِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَ‌ىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ‌ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَ‌كُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِ‌جْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْ‌بِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَ‌بُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا الرُّ‌عْبَ فَاضْرِ‌بُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِ‌بُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَ‌سُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَ‌سُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣) ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِ‌ينَ عَذَابَ النَّارِ‌ (١٤)

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله : (كَما) ، فإما الذي شبه (١) بإخراج الله نبيّه من بيته (بِالْحَقِ) قال عكرمة : معنى ذلك (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فإن ذلك خير لكم كما كان إخراج الله تعالى محمد من بيته بالحق خيرا لكم وإن كرهه فريق منكم.

وقال مجاهد : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) يا محمد (مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) على كره فريق من المؤمنين كذلك يكرهون القتال ويجادلونك فيه ، أي أنّهم يكرهون القتال ويجادلونك فيه كما فعلوا ببدر.

وقال بعضهم : أمر الله تعالى رسوله عليه‌السلام أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون.

وقيل : معناه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا : أخرجت العير ولم تعلمنا قتالا [فنسخطه].

وقيل : معناه (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ).

وقال بعضهم : الكاف بمعنى (على) تقديره : أمض على الذي أخرجك ربّك.

قال ابن حيّان : عن الكلبي وقال أبو عبيدة : هي بمعنى القسم مجازها : الذي أخرجك من بيتك بالحق. وقيل : الكاف بمعنى (إذ) تقديره : وإذا أخرجك ربّك من بيتك بالمدينة إلى بدر بالحق (٢).

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) لطلب المشركين (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) أي في القتال وذلك

أن المؤمنين لمّا أيقنوا [الشوكة] والحرب يوم بدر وعرفوا أنّه القتال كرهوا ذلك وقالوا : يا رسول الله إنّه لم تعلمنا إنّا نلقي العدو فنستعد لقتالهم وإنّما خرجنا للعير فذلك جدالهم من بعد ما تبين لهم إنّك لا تصنع إلّا ما أمر الله به.

__________________

(١) وتكون الكاف للتشبيه راجع تفسير القرطبي : ٧ / ٣٦٨.

(٢) راجع زاد المسير لابن الجوزي : ٣ / ٢١٨.

٣٢٩

وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يجادلونه في الحق (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) [يعني] من يدعون للإسلام لكراهتهم إيّاه.

(وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) الآية. قال ابن عباس وابن الزبير وابن يسار والسدي : أغار كرز بن جابر القرشي على سرح المدينة حتّى بلغ الصفراء فبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فركب في أثره فسبقه كرز فرجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقام سنة وكان أبو سفيان أقبل من الشام في عير لقريش فيها عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري في أربعين راكبا من كبار قريش وفيها تجارة عظيمة. وهي اللطيمة. حتّى إذا كان قريبا من بدر بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلّة الجنود فقال : «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله عزوجل ينفلكموها» [٢١٦] فخرجوا لا يريدون إلّا أبا سفيان والركب لا يرونها إلّا غنيمة لهم وخفّ بعضهم وثقل بعض.

وذلك أنّهم كانوا لم يظنّوا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقي حربا فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم وأصحابه.

فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن خثعم فأتى مكّة فقال : إنّ محمدا وأصحابه قد عرضوا لعيركم فـ (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) ، فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلّا هدمنا داره واستبحناه ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه حتّى بلغ واديا يقال له : وفران ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله عليه‌السلام حتّى إذا كانوا بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بهم وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى ابن الأريقط فأتاه بخبر القوم ، وسبقت العير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل جبرئيل فقال : إن الله وعدكم (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) إمّا العير وإمّا قريش ، وكان العير أحب إليهم فاستشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال وأحسن وقام عمر وقال وأحسن ، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله ونحن معك والله ما نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (١) ، ولكن اذهب (أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) إنّا معكم مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتّى نبلغه.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا ودعا له بخير ، ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشيروا عليّ أيّها الناس» [٢١٧].

وإنّما يريد الأنصار ، وذلك أنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنّا براء من ذمامك

__________________

(١) سورة المائدة : ٢٤.

٣٣٠

حتّى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا فنمنعك ممّا نمنع عنه أبناءنا ونساءنا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليها نصرته إلّا على من داهمه بالمدينة من عدّوه فإن ليس عليهم أن يسيّرهم إلى عدوّهم من بلادهم ، فلمّا قال ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له سعد بن معاذ : والله كأنّك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أجل».

قال : فقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله ما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضت لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن يلقانا بنا عدوّنا غدا إنّا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء لعل الله عزوجل يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ، ففرح بذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونشّطه قول سعد ثمّ قال : سيروا على بركة الله وابشروا فإنّ الله قد وعدكم إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم (١) وذلك قوله (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) أي الفريقين أحدهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير (وَتَوَدُّونَ) تريدون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) يعني العير التي ليس فيها قتال والشوكة الشدة والقوة وأصلها من الشوك (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي يحققه ويعلنه (بِكَلِماتِهِ) بأمره إيّاكم بقتال الكفّار (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) فيستأصلهم (لِيُحِقَّ الْحَقَ) الإسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) الكفر.

وقيل : الحق القرآن والباطل الشيطان (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي تستجيرون به من عدوّكم وتسألونه النصر عليهم ، قال عمر ابن الخطاب. رضي‌الله‌عنه : لمّا كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كثرة المشركين وقلّة المسلمين دخل العرش هو وأبو بكر واستقبل القبلة وجعل يدعو ويقول : اللهمّ أنجز لي ما وعدتني اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤه وأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبيه ثمّ التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفا مناشدتك ربّك فإن الله سينجز لك ما وعدك (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي) أي بأنّي. وقرأ عيسى : إِنِّي بكسر الألف وقال إنّي (مُمِدُّكُمْ) وزائدكم ومرسل إليكم مددا (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) قرأ أهل المدينة : مُرْدَفِينَ بفتح الدال والباقون بكسره ، لغتان متتابعين بعضهم في أثر بعض يقال : اردفه وردفته بمعنى تبعته قال الشاعر :

إذا الجوزاء أردفت الثريّا

ظننت بآل فاطمة الظنونا (٢)

__________________

(١) بطوله متفرقا في تفسير الطبري : ٩ / ١٤٥. ٢٤٨ ، ودلائل البيهقي : ٣ / ١١٠.

(٢) تاج العروس : ٦ / ١١٥ ، وتفسير الطبري : ٩ / ٢٤٥.

٣٣١

أراد ردفت جاءت بعدها ، لأن الجوزاء تطلع بعد الثريا ومن فتح فعلى المفعول ، أي أردف الله المسلمين وجاءهم به فأمدّهم الله بالملائكة ونزل جبرئيل في خمسمائة ملك مجنبة على الميمنة فيها أبو بكر ـ رضي‌الله‌عنه ـ ونزل ميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ وهم في صورة الرجال عليهم ثياب بيض ، وعمائم بيض أرخوا ما بين أكتافهم ، فقاتلت الملائكة يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ولا يوم حنين ولا تقاتل أبدا إنّما يكونون حددا أو مددا.

وقال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خرّ مستلقيا ، فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدّث بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «صدقت ذلك من مدد السماء» فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين [٢١٨].

قال مجاهد : ما مدّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر الله تعالى غير الألف من الملائكة (مُرْدِفِينَ) التي ذكر الله في الأنفال وأمّا الثلاثة والخمسة فكانت بشرى (وَما جَعَلَهُ اللهُ) يعني الإمداد.

الفراء : يعني الأرداف.

(إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً) قرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو : يَغْشيكم بفتح الياء النعاسُ رفع على أن الفعل له واحتجّوا بقوله في سورة آل عمران (أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) (١) فجعل الفعل له.

وقرأ أهل المدينة يُغْشِيكُمُ بضم الياء مخففة على أن الفعل الله عزوجل ليكون موافقا لقوله ((وَيُنَزِّلُ) و (لِيُطَهِّرَكُمْ)) واحتجّوا بقوله تعالى (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) (٢).

وقرأ عروة بن الزبير والحسن وأبو رجاء وعكرمة والجحدري وعيسى وأهل الكوفة : (يُغَشِّيكُمُ) بضمّ الياء مشدّدا.

فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم : لقوله (فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٣) والنعاس النوم تخفيف. وقال أبو عبيدة : هو ابتداء القوم : (أَمَنَةً) بفتح الميم قراءة العامّة ، وقرأ أبو حياة وابن محيصن : أَمْنَةً بسكون الميم وهو مصدر قولك : أمنت من كذا أمنا وأمنة وأمانة وكلّها بمعنى واحد فلذلك نصب.

قال عبد الله بن مسعود : النعاس في القتال أمنة من الله عزوجل وفي الصلاة من الشيطان

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٤.

(٢) سورة يونس : ٢٧.

(٣) سورة النجم : ٥٤.

٣٣٢

(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) وذلك أن المسلمين نزلوا كثيبا أخضر ببدر يسوخ فيه الأقدم وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء بدر العظمى وغلبوهم عليه وأصبح المسلمون بعضهم محدّثين وبعضهم مجنبين وأصابهم الظمأ ووسوس لهم الشيطان فقال تزعمون أن فيكم نبي الله وأنّكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلّون مجنبين ومحدثين فكيف ترجون أن يظفركم عليهم.

قال : فأرسل الله عزوجل مطرا سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضّأوا وسقوا الركاب وملؤوا الأسقية وأطفى الغبار ولبّد الأرض حتّى ثبّت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم فذلك قوله (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من الأحداث والجنابة.

وقرأ سعيد بن المسيب : لِيُطْهِرَكُمْ بطاء ساكنة من أطهره الله (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسوسة الشيطان.

وقرأ ابن محيصن : رجزُ بضم الراء. وقرأ أبو العالية : رجس بالسين والعرب تعاقب بين السين والزاء فيقول بزق وبسق.

والسراط والزراط والأسد والأزد (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) اليقين والصبر (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) حتّى لا يسرح في الرمل بتلبيد الأرض.

وقيل : بالصبر وقوّة القلب (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) للذين أمدّ بهم المؤمنين (أَنِّي مَعَكُمْ) بالعون والنصر (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي نوّروا قلوبهم وصحّحوا عزائمهم وثباتهم في الجهاد ، فقيل : إنّ ذلك المثبت بحضورهم الحرب معهم.

وقيل : معونتهم إياهم في قتال عدوهم ، وقال أبو روق : هو أن الملك كان يشبّه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي الرجل من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : إنّي قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون والله لئن حملوا علينا [لنكشفنّ].

فتحدّث بذلك المسلمون بعضهم بعضا فيقوّي أنفسهم ويزدادون جرأة ، قال ابن إسحاق والمبرد : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي ووازروهم (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) ثمّ علّمهم كيف الضرب والقتل فقال (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) قال بعضهم : هذا الأمر متّصل بقوله : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا).

وقال آخرون : هو أمر من الله عزوجل للمؤمنين واختلفوا في قوله (فَوْقَ الْأَعْناقِ) فقال عطيّة والضحاك : معناه : فاضربوا الأعناق لقوله (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) (١).

__________________

(١) سورة محمد : ٤.

٣٣٣

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنّما بعثت لضرب الرقاب وشدّ الوثاق» [٢١٩].

وقال بعضهم : معناه : فاضربوا على الأعناق ، (فَوْقَ) بمعنى على. وقال عكرمة : معناه فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق. وقال ابن عباس : معناه واضربوا فوق الأعناق أي على الأعناق ، نظيره قوله (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) (١) أي اثنتين فما فوقهما.

(وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) قال عطيّة : يعني كل مفصل.

وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك : يعني الأطراف والبنان جمع بنانه ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين واشتقاقه من أبن بالمقام إذا قام به (٢).

قال الشاعر :

ألا ليتني قطعت منه بنانه

ولاقيته في البيت يقظان حاذرا (٣)

وقال يمان بن رئاب : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) يعني الصناديد (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) يعني السفلة ، والصحيح : القول الأوّل. قال أبو داود المازني وكان شهد بدرا : اتّبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يديّ قبل أن يصل سيفي فعرفت أنّه قتله غيري.

وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : لقد رأيت يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.

وقال ابن عباس : حدثني رجل عن بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي حتّى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الواقعة على من يكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب.

قال : فبينما نحن في الجبل إذ دنت منّا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل. فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم (٤) قال فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه فمات أمّا أنا فكدت أهلك ثمّ تماسكت.

وقال عكرمة : قال أبو رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلّف

__________________

(١) سورة النساء : ١١.

(٢) راجع تفسير القرطبي : ٢ / ٣٠٥.

(٣) البيت لعباس بن مرداس كما في اللسان : ١٣ / ٥٩.

(٤) هو اسم فرس جبرائيل.

٣٣٤

عن بدر فقد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، وكذلك صنعوا لم يتخلّف رجل إلّا بعث مكانه رجلا فلمّا جاء الخبر عمّا أصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوّة وحزما فكان رجلا ضعيفا قال : وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم فوالله إنّي لجالس فيها أنحت الأقداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاء من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتّى جلس على طنب الحجرة وكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم ، فقال أبو لهب : هلم إلي يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ، قال : لا شيء والله كأن الآن لقينا فمنحناهم أكتافا يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وأيم الله مع تلك ما لمّت الناس :

لقينا رجالا بيضا على خيل [معلّق] بين السماء والأرض [ما تليق] شيئا ولا يقوم لها شيء.

قال أبو رافع : فرفعت طرف الحجرة بيدي ثمّ قلت : تلك الملائكة ، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فناورته فاحملني فضرب بي الأرض ، ثمّ برك عليّ فضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل الى عمود من عمد البيت فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة وقالت : تستضعفه أن غاب عنه سيّده ، فقام مولّيا ذليلا فوالله ما عاش إلّا سبع ليال حتّى رماه الله بالعدسة (١) فقتله.

ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفناه حتّى أنتن في بيته ، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتّقي الناس الطاعون حتّى قال لهما رجل من قريش : ويحكما ألا تستحيان أنّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغسّلانه فقالا : إنّا نخشى هذه القرحة ، قال : فانطلقا فإنّا معكما فما غسلوه إلّا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسّونه ثمّ حملوه فدفنوه بأعلى مكّة إلى جدار وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه (٢).

وروي مقسّم عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي اليسر : يا أبا اليسر كيف أسرت العباس؟

فقال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم (٣).

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) خالفوا الله (وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ

__________________

(١) العدسة : حبة تشبه العدسة تخرج على الجسد من جنس الطاعون تقتل غالبا.

(٢) مستدرك الصحيحين : ٣ / ٣٢٢ ، ومجمع الزوائد : ٦ / ٨٩.

(٣) جامع البيان للطبري : ٤ / ١٠٣.

٣٣٥

الْعِقابِ) أي هذا العقاب الذي أعجلته لكم أيّها الكفّار (فَذُوقُوهُ) عاجلا (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) في المعاد (عَذابَ النَّارِ) وفي فتح (أن) وجهان من الإعراب أحدهما الرفع والأخر النصب : فأمّا الرفع فعلى تقدير ذلكم تقديره : ذلكم فذوقوه ، وذلك أن للكافرين عذاب النار.

وأمّا النصب فعلى وجهين : أحدهما : بمعنى فعل مضمر : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) وأعلموا وأيقنوا (أَنَّ لِلْكافِرِينَ).

والآخر بمعنى : وما للكافرين فلما حذف الياء نصب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي [مخفقين] متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني والتقارب.

قال الأعشى :

لمن الضغائن سيرهن زحيف

عرم السفين إذا تقاذف مقذف

والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم : قوم عدل ورضى (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) يقول : فلا تولّوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ولكن اثبتوا لهم (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) ظهره وقرأ الحسن ساكنة (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي متعطّفا مستطردا لقتال عدوّه بطلب عورة له تمكنه إصابتها فيكرّ عليه (١).

(أَوْ مُتَحَيِّزاً) منضمّا صابرا (إِلى فِئَةٍ) جماعة من المؤمنين يفيئون به بسهم الى القتال (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) واختلف العلماء في حكم قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعا.

فقال أبو سعيد الخدري : إنّما كان ذلك يوم بدر خاصة لم يكن لهم أن ينحازوا ولو

__________________

(١) تفسير الطبري : ٩ / ٢٦٥.

٣٣٦

انحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذ في الأرض مسلم غيرهم ولا للمسلمين فيه غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمّا بعد ذلك فإنّ المسلمين بعضهم فئة لبعض ممثّلة ، قاله الحسن والضحاك وقتادة.

قال يزيد ابن أبي حبيب : أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النار.

فقال (مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية. فلمّا كان يوم أحد بعد ذلك قال : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) (١) ثمّ كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين. فقال : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ... ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) (٢). وقال عطاء بن أبي رباح : هذه الآية منسوخة بقوله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) (٣) الآية فليس لقوم أن يفروا من مثليهم فنسخت تلك الآية إلّا هذه العدّة.

وقال الكلبي : من قبل اليوم مقبلا أو مدبرا فهو شهيد ولكن سبق المقبل المدبر الى الجنة.

وروي جرير عن منصور عن إبراهيم قال : انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة الى عمر.

فقال : يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنا فئتك (٤).

وقال محمد بن سيرين : لمّا قتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ فقال لو أنحاز إليّ فكنت له فئة [فأنا فئة] كل مسلم (٥).

عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر قال : كنّا في مصيل بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخاض الناس خيضة فانهزمنا وكنّا نفر ، قلنا نهرب في الأرض حياء ممّا صنعنا فدخلنا البيوت.

ثمّ قلنا : يا رسول الله نحن الفارون. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل أنتم الكرارون وإنّا فئة المسلمين» [٢٢٠] (٦).

وقال بعضهم : بل حكمنا عام في كل من ولى عن العدو وفيهم من روى ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض أهله : «[إياك والفرار] من الزحف فإن هلكوا فاثبتوا فما [...] (٧) إلّا على ارتكاب الكبائر وإلّا الشرك بالله والفرار من الزحف لأن الله تعالى يقول (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ).» الآية.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) الآية فقال أهل التفسير والمغازي لمّا ورد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٥.

(٢) سورة التوبة : ٢٥. ٢٧.

(٣) سورة الأنفال : ٦٦.

(٤) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٨٣.

(٥) المصدر السابق.

(٦) بدائع الصنائع : ٧ / ٩٩ ، والبداية والنهاية : ٤ / ٢٨٣.

(٧) كلام غير مقروء ولم نجده في المصادر.

٣٣٧

بدرا قال : «هذه مصارع القوم إن شاء الله» ، فلمّا طلعوا عليه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهمّ إنّي أسألك ما وعدتني فأتاه جبرئيل وقال : خذ حفنة من تراب فارمهم بها» [٢٢١].

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا التقى الجمعان لعلّي رضي‌الله‌عنه : «أعطني قبضة من حصا الوادي» فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به في وجوه القوم وقال : «شاهت الوجوه».

فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة (١).

وقال حكيم بن حزام : لمّا كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنّه صوت حصاة وقعت في طست ورمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الرمية فانهزمنا.

وقال قتادة وابن زيد : ذكر له أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم.

وقال : «شاهت الوجوه» فانهزموا [٢٢٢] (٢).

الزهري عن سعيد بن المسيب قال : نزلت هذه الآية في قتل أبي بن كعب الجمحي. وذلك أنّه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم حائل وهو يفتّه فقال : يا محمد الله يحيي هذا وهو رميم؟

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يحيه الله ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي ، فلمّا افتدي قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لي فرسا أعلفها كل يوم [فرق] ذرة لكي أقتلك عليها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله ، فلمّا كان يوم أحد أقبل أبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استاخروا» [٢٢٣] ، فاستأخروا فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحربة في يده فرمى بها أبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعا من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون : لا بأس ، فقال أبي : والله لو كانت الناس لقتلهم ، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله ، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه ففي ذلك أنزل الله هذه الآية (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) الآية (٣).

وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن [جبير] أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر دعا بقوس

__________________

(١) تفسير الطبري : ٩ / ٢٧٠. ٢٧١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الطبقات الكبرى : ٢ / ٤٦.

٣٣٨

فأتي بقوس طويلة فقال : جيئوني بغيرها ، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) فهذا سبب نزول الآية (١).

فأمّا معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف. وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة من الله تعالى الإنشاء والإيجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة ، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة.

وقيل : إنّما أضافها إلى نفسه لئلّا يعجب القوم.

قال مجاهد : قال هذا : قتلت ، وقال هذا : قتلت ، فأنزل الله هذه الآية.

وقال الحسن : أراد فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره.

قال (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي [قتل] يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها.

وقال ابن إسحاق : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتّى هزمهم.

وقال أبو عبيده : تقول العرب : رمى الله لك ، أي نصرك. قال الأعمش : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي وفّقك وسدّد رميتك (٢).

(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب.

وقال ابن إسحاق : ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم (ذلِكُمْ) يعني : ذكرت من القتل والرمي والأجل الحسن (وَأَنَّ

__________________

(١) أسباب النزول : ١٥٦ ، وتفسير ابن كثير : ٢ / ٣٠٨.

(٢) أقول هذا حاصل من الآية ، إنما الآية تريد أن تنزل ضربة الرسول الأعظم منزلة ضربة الباري عزوجل ، ففي عين أن الرسول هو الرامي الله تعالى هو الرامي ، وهو في قوة الحديث القدسي المشهور : «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل [والعبادات] حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» راجع غوالي اللئالي : ٤ / ١٠٣ ح ١٥٢ ، وكنز العمال : ١ / ٢٢٩ ح ١١٥٥.

٣٣٩

اللهَ) أي : وأعلموا أن الله ، وفي فتح (أن) من الوجوه ما في قوله تعالى (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [وقد بيناه هناك] (١).

(مُوهِنُ) مضعف (كَيْدِ الْكافِرِينَ) قرأ الحجازي والشامي والبصري : مُوَهِّنٌ بالتشديد والتنوين (كَيْدَ) نصبا وقرأ أكثر أهل الكوفة (مُوهِنٌ) بالتخفيف والتنوين (كَيْدَ) نصبا واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.

وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن و [الأعمش] وحفص : (مُوهِنُ كَيْدِ) ، مخفّفة مضافة بالجر فمن نوّن معناه : وهن ، ومن خفّف وأضاف قصر الخفّة كقوله (مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) (٢) و (كاشِفُوا الْعَذابِ) (٣) ووهن وأوهن لغتان صحيحتان فصيحتان (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وذلك أنّ أبا جهل قال يوم بدر : اللهمّ أينا كان أفجر وأقطع للرحم وآتانا بما لا نعرف فانصرنا عليه ، فاستجاب الله دعاءه وجاء بالفتح وضربه ابنا عفراء : عوف ومسعود ، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود (٤).

وقال السدي والكلبي : كان المشركون حين خرجوا الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكّة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهمّ انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية.

وقال عكرمة : قال المشركون اللهمّ لا نعرف ما جاء به محمد فأفتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله تعالى (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.

وقال أبي بن كعب وعطاء الخراساني : هذا خطاب أصحاب رسول الله قال الله للمسلمين : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي تستنصروا الله وتسألوه الفتح (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي بالنصرة.

وقال خبّاب بن الأرت : شكونا الى رسول الله عليه‌السلام فقلنا : لا تستنصر لنا ، فاحمر وجهه وقال : «كان الرجل قبلكم يؤخذ ويحفر له في الأرض ، ثمّ يجاء بالمنشار فيقطع بنصفين ما يصرفه عن دينه شيء ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه عن دينه ، وليتمنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ولا يخشى إلّا الله عزوجل والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون» [٢٢٤] (٥).

__________________

(١) عبارة المخطوط غير مقروء والظاهر ما أثبتناه ، وهو موافق لما في تفسير الطبري الحرف بالحرف : ٩ / ٢٧٣.

(٢) سورة القمر : ٢٧.

(٣) سورة الدخان : ١٥.

(٤) تفسير الطبري : ٩ / ٢٧٤.

(٥) مسند أحمد : ٥ / ١٠٩ ، والمعجم الكبير : ٤ / ٦٣.

٣٤٠