موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

.................................................................................................

______________________________________________________

الضرورة ، كما يشهد له سكنى العوائل المتعددة من الأُسرة الواحدة أو غيرها في دار واحدة ، فإنّ ذلك يستلزم عادة تكلّم النساء مع الرجال الذين ليسوا بمحرم لها من دون أن يرد في ذلك ردع صحيحة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه سأله عن النساء كيف يسلمن إذا دخلن على القوم ، قال : «المرأة تقول : عليكم السلام ، والرجل يقول : السلام عليكم» (١).

فإنّها تدلّ بوضوح على أنّ أصل جواز سلامها على الرجال أمر مفروغ عنه ، وأنّ السؤال إنّما هو عن الكيفية. وإلّا فلو كان صوت المرأة كبدنها عورة ، أو كان إظهار صوتها أمراً محرماً ، لكان على الإمام (عليه السلام) تنبيهه على ذلك وإلفاته إلى عدم الجواز. فتقريره (عليه السلام) للسائل على أصل المشروعية ، وتصدّيه لبيان الكيفية خير دليل على عدم الحرمة.

هذا مضافاً إلى أنّ ظاهر قوله تعالى (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) (٢) أنّ المنهي عنه هو خصوص الخضوع بالقول لا مطلق التكلّم ، وإلّا لكان اللّازم توجيه النهي إليه مباشرة.

وعليه فيتحصل مما تقدّم أنّ القول بالجواز هو المتعيّن ، وذلك لقصور أدلّة الحرمة مضافاً إلى دلالة الآية الكريمة ، وصحيحة عمار ، وقيام السيرة عليه.

ثم إنّ الشهيد الأول (قدس سره) في (اللمعة) لم يتعرض لهذا الفرع في كتاب النكاح ، مع أنّه قد ذكر في كتاب الصلاة منها أنّه : لا جهر على المرأة (٣). وقد علّق عليه الشهيد الثاني (قدس سره) بأنّ الحكم مختصّ بصورة سماع من يحرم استماعه صوتها ، وإلّا فهي مخيّرة بين الجهر والإخفات (٤).

نعم ، قد تعرّض (قدس سره) في كتاب النكاح لعكس هذه المسألة ، فذكر أنّه : يحرم على المرأة أن تسمع صوته إلّا لضرورة (٥) ولم يعلّق عليه الشهيد الثاني (قدس

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٣١ ح ٤.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٢.

(٣) اللمعة الدمشقية ١ : ٢٦٠.

(٤) اللمعة الدمشقية ١ : ٢٦٠.

(٥) اللمعة الدمشقية ٥ : ٩٩.

٨١

ولا ريبة (١) من غير فرق بين الأعمى والبصير ، وإنْ كان الأحوط الترْك في غير مقام الضرورة. ويحرم عليها إسماع الصوت الذي فيه تهييج للسامع بتحسينه وترقيقه ، قال تعالى (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (٢).

______________________________________________________

سره) مع أنّه من غرائب الفتاوى ، حيث لم يقل بذلك أحد بل هو مقطوع البطلان. ومن الغريب عدم انتباه المحشين عليها ، بل ولا من تأخر عنهما من الأعلام عدا صاحب المستند (١) لذلك.

ومن المظنون قوياً والله العالم أنّ ذلك من غلط النساخ أو سهو القلم ، والصحيح بقرينة ما ذكره (قدس سره) في كتاب الصلاة من أنّه : لا جهر على المرأة ، أن تكون العبارة هكذا : يحرم على المرأة أن تسمع صوتها إلّا لضرورة ، بتأنيث الضمير.

(١) وإلّا فيحرم بلا خلاف ، لما عرفت من دلالة الآية الكريمة على حصر الاستمتاعات الجنسية بالزوجة وما ملكت يمينه.

(٢) مصدر الآية الكريمة قوله تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٢).

فهي تدلّ على حرمة إظهار المرأة صوتها للرجل الأجنبي مطلقاً من دون اختصاص لنساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم). والوجه في ذلك أنّ الآية الكريمة وإنْ وجّهت الخطاب إلى نساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلّا أنّها تكفّلت بيان مطلبين :

الأوّل : أفضلية نساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من غيرهنّ إن اتقين.

الثاني : بيان كيفية التقوى وأسبابها.

فأفادت المطلب الأوّل بقوله (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) في حين أفادت المطلب الثاني بتفريع عدّة أُمور بالفاء على ذلك ، منها عدم الخضوع بالقول والقرار في البيوت ، وعدم التبرج ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة.

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٤٧٤.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٢.

٨٢

[٣٦٧٢] مسألة ٤٠ : لا يجوز مصافحة الأجنبية (١). نعم ، لا بأس بها من

______________________________________________________

وحيث أن من الواضح أنّ الذي يختص بنساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو المطلب الأول خاصة ، أما المطلب الثاني فلا اختصاص له بهن بل يشمل مطلق النساء ، كما يشهد له ذكر عدم التبرج وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في ضمنه ، فلا وجه للقول باختصاص الآية الكريمة بتمام جهاتها بنساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بل هي من حيث المطلب الثاني تشمل جميع النساء ، فتدلّ على حرمة خضوع المرأة بالقول الذي هو عبارة عن ترقيق الصوت وتحسينه.

(١) وتدلّ عليه صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : هل يصافح الرجل المرأة ليست بذات

محرم؟ فقال : «لا ، إلّا من وراء الثياب» (١).

وصحيحة سماعة بن مهران ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مصافحة الرجل المرأة ، قال : «لا يحلّ للرجل أن يصافح المرأة إلّا امرأة يحرم عليه أن يتزوجها ، أُخت ، أو بنت ، أو عمة ، أو خالة ، أو بنت أُخت ، أو نحوها. وأما المرأة التي يحلّ له أن يتزوجها فلا يصافحها إلّا من وراء الثوب ، ولا يغمز كفّها» (٢).

ثم إنّ الظاهر عدم اختصاص الحكم بالمصافحة ، بل يحرم مطلق ملامسة المرأة الأجنبية ، وذلك لعدم وجود خصوصية في المصافحة ، وإنما ذكرت في النصوص من جهة كونها هي الفرد الظاهر ومحل الابتلاء في الخارج.

ويؤكد ذلك ما ورد في بيعة النساء للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من أنّه : «دعا بمركنه الذي كان يتوضأ فيه فصبّ فيه ماء ثم غمس فيه يده اليمنى ، فكلما بايع واحدة منهنّ قال : اغمسي يدك ، فتغمس كما غمس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فكان هذا مماسحته إيّاهن» (٣). فإنّها ظاهرة في أنّ الغمس في الماء إنّما كان لأجل عدم ملامستها.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١١٥ ح ١.

(٢) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١١٥ ح ٢.

(٣) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١١٥ ح ٣.

٨٣

وراء الثوب ، كما لا بأس بلمس المحارم (١).

[٣٦٧٣] مسألة ٤١ : يُكره للرّجل ابتداء النساء بالسلام ، ودعاؤهنّ إلى الطّعام (٢) وتتأكّد الكراهة في الشابَّة.

______________________________________________________

هذا مضافاً إلى أنّ ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) من أنّه : إذا حرم النظر حرم اللمس قطعاً (١) قريب جدّاً ، فإنّه مقتضى الأولوية القطعية التي يفهمها العرف.

(١) لدلالة النصوص المتقدمة ، وقيام السيرة القطعية على ذلك.

(٢) وتدل عليه :

أوّلاً : صحيحة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، أنّه قال : «لا تسلّم على المرأة» (٢).

ثانياً : صحيحة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا تبدؤوا النساء بالسلام ، ولا تدعوهن إلى الطعام ، فإن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : النساء عيّ وعورة ، فاستروا عيّهن بالسكوت ، واستروا عوراتهن بالبيوت» (٣).

وهذه الصحيحة وإنْ كانت لا تخلو من اضطراب في التعليل ، حيث لم تعرف المناسبة بين قوله (عليه السلام) «النساء عيّ» أي عاجزة عن التكلّم وبين النهي عن ابتدائهنّ بالسلام ، فإنّ هذا التعليل إنما يتناسب مع النهي عن التحدث معهن لا النهي عن ابتدائهنّ بالسلام ، إلّا أنّها بحسب صدرها تتضمن النهي عن ابتدائهن بالسلام فتكون دليلاً على المدّعَى.

وعلى كل حال فهاتان الصحيحتان بإطلاقهما تدلّان على حرمة ابتداء الرجل المرأة

__________________

(١) رسالة النكاح ٢٠ : ٦٨.

(٢) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٣١ ح ٢.

(٣) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٣١ ح ١.

٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

السلام ، من دون فرق بين ذات المحرم وغيرها. وحيث إنّ الحكم في ذات المحرم مقطوع العدم ، لقيام السيرة القطعية على الجواز ، فلا بدّ من تقييد إطلاقهما من هذه الجهة وتخصيص الحكم بغير ذات المحرم ، فيكون ظاهرهما حرمة ذلك بالنسبة إليهن. ولكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر أيضاً ، لما ورد صريحاً من أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والإمام عليّاً (عليه السلام) كانا يبدآن النساء بالسلام.

ففي صحيحة ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يسلّم على النساء ويرددن عليه ، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسلّم على النساء ، وكان يكره أن يسلّم على الشابّة ، ويقول : أتخوّف أن يعجبني صوتها ، فيدخل عليَّ أكثر مما طلبت من الأجر» (١).

فإنّ هذه الصحيحة تدلّ على أنّ سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) كانت على ابتدائهن بالسلام ، خصوصاً إنّ ملاحظة قوله (عليه السلام) : «فيدخل عليَّ أكثر مما طلبت من الأجر» تكشف عن استحباب ابتدائهن بالسلام وإن ذلك مما فيه الأجر ، كما لا يخفى.

والجواب عن ذلك بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أبٌ للأُمّة جمعاء ، كما يظهر من قوله تعالى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٢) ولذلك حرم التزوّج بهنّ بعده (صلّى الله عليه وآله وسلم) فلا تبقى في الرواية دلالة على جواز ابتداء الأجنبية بالسلام ، إنّما يتمّ في خصوص ما روي من فعله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، فيبقى فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حجة على الجواز بل الاستحباب على ما عرفت.

وعلى هذا فيتحصل مما تقدم أنّ ابتداء المرأة بالسلام كابتداء الرجل به ، أمر مستحب ومرغوب شرعاً من دون تقييد بالمحارم أو غيرها. نعم ، في خصوص السلام على الشابّة إذا خاف الرجل أن يعجبه صوتها يلتزم بالكراهة ، لما تقدّم.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٣١ ح ٣.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦.

٨٥

[٣٦٧٤] مسألة ٤٢ : يكره الجلوس في مجلس المرأة إذا قامت عنه إلّا بعد برده (١).

[٣٦٧٥] مسألة ٤٣ : لا يدخل الولد على أبيه إذا كانت عنده زوجته إلّا بعد الاستئذان (٢)

______________________________________________________

(١) ففي رواية جابر بن يزيد الجعفي في حديث قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول : «وإذا قامت المرأة من مجلسها ، فلا يجوز للرجل أن يجلس فيه حتى يبرد» (١). إلّا أنّها ضعيفة السند بأحمد بن الحسن القطان شيخ الصدوق حيث لم يرد فيه أي توثيق.

نعم ، في معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : إذا جلست المرأة مجلساً فقامت عنه ، فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد» (٢).

وهي وإنْ كانت بحسب ظاهرها دالّة على الحرمة ، إلّا أنّه لا بدّ من رفع اليد عن ظهورها وحملها على الكراهة ، لقيام السيرة القطعية على الجواز. فإنّ الرجال يجلسون مجالس النساء من دون تقيد بكونها من المحارم ، كما يتفق ذلك كثيراً في العوائل المتعددة الساكنة في بيت واحد لا سيما إذا كان يجمعهم نوع من العلقة والارتباط ، فإنّ الرجل يجلس في مكان زوجة أخيه أو أُخت زوجته من دون أن يثبت في ذلك ردع.

على أنّ الحكم بالتحريم لو كان ثابتاً لكان ينبغي أن يكون من أوضح الواضحات لما عرفت من كثرة الابتلاء به ، فكيف ولم ينسب القول به إلى أحد من الأصحاب!

(٢) استدل على ذلك برواية محمد بن علي الحلبي ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل يستأذن على أبيه؟ فقال : «نعم ، قد كنت أستأذن على أبي وليست أُمي عنده ، إنّما هي امرأة أبي توفيت أُمي وأنا غلام ، وقد يكون في خلوتهما ما لا أُحب أن أفجأهما عليه ولا يحبّان ذلك منّي ، والسلام أحسن وأصوب» (٣). إلّا أنّها ضعيفة

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٢٣ ح ١.

(٢) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٤٥ ح ١.

(٣) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١١٩ ح ٢.

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

السند بأبي جميلة الذي يروي عن محمد بن علي الحلبي ، فإنّه ممن عرف بالكذب.

نعم ، في صحيحة أبي أيوب الخراز عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «يستأذن الرجل إذا دخل على أبيه ، ولا يستأذن الأب على الابن» (١).

وهذه الرواية وإن كانت صحيحة سنداً إلّا أنّها غير مقيدة بما إذا كانت عنده زوجته أو كان في ساعات الخلوة ، ومن هنا يفهم أنّ الحكم أخلاقي صرف لحفظ مقام الأُبوة وكرامته ، فإنّ ذلك يقتضي عدم دخول الولد على أبيه من دون استئذان حتى لو لم يكن للأب زوجة ولم يكن في ساعات الخلوة.

وعلى هذا فتكون هذه الصحيحة أجنبية عن محلّ الكلام ، فإنّها غير ناظرة إلى وجود الزوجة عنده وعدمه ، بل تتكفل بيان ما يقتضيه الأدب واحترام الأب ، فتُحمل على الاستحباب لا محالة ، لقيام السيرة القطعية على جواز الدخول على الأب إذا لم تكن زوجته عنده من غير استئذان ، فإنّه لو كان الحكم بالوجوب ثابتاً لظهر وبان.

نعم ، في خصوص ما لو كانت زوجته معه ، أو كان في ساعات الخلوة ، يمكن استفادة لزوم الاستئذان من قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢).

فإنّ هذه الآية الكريمة تدلّ على لزوم الاستئذان عند إرادة الدخول على الرجل إذا كان في ساعات الخلوة مطلقاً ، من دون تخصيص بكون المدخول عليه أباً أو ولداً أو غيرهما. فإنّ ذكر ما ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم ، أمّا هو من جهة كثرة الابتلاء بدخولهم عليه ، وأمّا من جهة التصريح بعموم الحكم لهم كي لا يتوهّم

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١١٩ ح ١.

(٢) سورة النور ٢٤ : ٥٨ ، ٥٩.

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

خروجهم عنه.

فإنّ هذه الساعات ساعات عورة للإنسان ، بمعنى كونها ساعات خلوة له ، فلا بدّ أن يخلى هو ونفسه ويترك بحاله ، سواء كان له زوجة أم لم تكن ، كانت زوجته عنده أم لم تكن. فإنّ المفروض ترك الرجل بحاله في هذه الساعات مطلقاً ، من دون تقييد بكونه أباً أو ولداً ، كما يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ في ذيل الآية (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ).

والحاصل أنّ الاستئذان في هذه الأوقات المعبَّر عنها في الآية الكريمة بالعورة ، وفي الروايات الصحيحة بساعات الخلوة ، واجب مطلقاً من دون خصوصية لكون الرجل أباً وكونه متزوِّجاً فضلاً عن كونها عنده ، فإنّه يجب حتى عند دخول الأب على الابن.

وأمّا في غيرها فإن لم يكن الرجل متزوِّجاً ، أو لم تكن زوجته عنده ، فيستحب الاستئذان للابن خاصة ، حفاظاً على مقام الأُبوة وكرامته.

وإن كان متزوِّجاً وكانت زوجته عنده وجب الاستئذان مطلقاً أيضاً ، وذلك لذيل صحيحة الخراز المتقدمة حيث ورد فيها : «ويستأذن الرجل على ابنته وأُخته إذا كانتا متزوِّجتين» (١).

فإنها بضميمة بعض الروايات المعتبرة التي دلّت على وجوب استئذان الرجل عند إرادة الدخول على المرأة مطلقاً ، والتي لا بدّ من تقييدها بما إذا كانت متزوجة لصحيحة الخراز ، تدل بمفهومها على جواز الدخول على غير المتزوجة.

وحيث إنّ من المقطوع به أنّ مجرّد التزويج لا أثر له ، وإنّما الحكم من أجل أن لا يراها في حالة غير مناسبة ، وإلّا فلا مانع من الدخول على التي زوجها في السفر ، أو التي لم تزف إليه بعد ، ينتج اختصاص الحكم بما إذا علم بوجود زوجها عندها أو احتمل ذلك.

ولما كان هذا الحكم ثابتاً في أب البنت صريحاً ثبت في الأب للولد أيضاً ، ولو من

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٢٠ ح ١ ، وتقدّم صدر الرواية في ص ٨٧ ه‍ ١.

٨٨

ولا بأس بدخول الوالد على ابنه (*) بغير إذنه (١).

[٣٦٧٦] مسألة ٤٤ : يفرّق بين الأطفال في المضاجع (**) إذا بلغوا عشر سنين (٢)

______________________________________________________

جهة عدم جواز دخول الرجل على المرأة إذا علم أو احتمل وجود زوجها عندها إلّا مع الاستئذان.

(١) لصحيحة الخرّاز المتقدِّمة.

(٢) للأمر به في صحيحة عبد الله بن ميمون ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه (عليهم السلام) ، قال : «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : الصبيّ والصبيّ ، والصبيّ والصبيّة ، والصبيّة والصبيّة ، يفرّق بينهم في المضاجع لعشر سنين» (١).

ومقتضى إطلاقها وإنْ كان عدم الفرق بين نومهما عاريين ونومهما مع الملابس ، إلّا أنّه لما ورد في عدّة من الروايات النهي عن نوم رجلين أو امرأتين تحت لحاف واحد بل ورد تعزيرهما على ذلك (٢) ، وقد ذكرنا في باب الحدود من مباني تكملة المنهاج أنّ ذلك يختص بنومهما عاريين كما هو المتعارف عند أهل البادية ولا يشمل نومهما مع الملابس (٣) فإنّه مما لا يحتمل حرمته في الرجلين ولا المرأتين ، بل ولا رجل وامرأة من محارمه ، بل السيرة القطعية قائمة على الجواز خصوصاً عند قلة الغطاء ، وحيث إنّ الحكم في المقامين من وادٍ واحد فلا بدّ من حمل هذه الصحيحة على نوم الطفلين عاريين مجرّدين عن الملابس.

ومن هنا لم يظهر لنا وجه عدم التزام الأصحاب بالوجوب وحملهم الصحيحة على الاستحباب ، بعد التزامهم في تلك المسألة بالوجوب إذا كانوا مجرّدين عن الملابس.

__________________

(*) في إطلاقه وإطلاق ما قبله إشكال بل منع.

(**) يختصّ ذلك بما إذا كانا عاريين.

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٢٨ ح ١.

(٢) راجع الوسائل ، ٢٨ : ١٦٦ ح ٣٤٤٧١.

(٣) مباني تكملة المنهاج ١ : ٢٣٩.

٨٩

وفي رواية : إذا بلغوا ستّ سنين (١).

[٣٦٧٧] مسألة ٤٥ : لا يجوز النظر (*) إلى العضو المبان من الأجنبي ، مثل : اليد ، والأنف ، واللسان ، ونحوها (٢)

______________________________________________________

(١) وقد رواها الصدوق (قدس سره) في الفقيه (١) إلّا أنّه لا بدّ من حملها على الاستحباب ، لضعف سندها بالإرسال.

(٢) واستدل له باستصحاب عدم الجواز الثابت قبل الانفصال ، حيث أنّ الاتصال والانفصال من الحالات الطارئة ، فلا يكون تبدلها مخلّاً بالموضوع ، ولذا جاز استصحاب ملكية الجزء المقطوع من المملوك ، ونجاسة الجزء المبان من الكلب.

وفيه :

أوّلاً : ما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) من تعدّد الموضوع (٢) ، حيث كان موضوع عدم الجواز هو المرأة الأجنبية وهو غير صادق على العضو المبان ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، ويكفينا في عدم جريانه الشك في بقاء الموضوع.

ثانياً : ما تقدم منّا في المباحث الأُصولية من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

وعليه فالحكم على تقدير ثبوته مبني على الاحتياط.

وأما ما استشهد به من نجاسة الأجزاء المبانة من الكلب ، وملكية الأجزاء المقطوعة من المملوك ، فهو غير صحيح ، إذ ليس الحكم فيها من جهة الاستصحاب وإلّا لكان يجري فيه ما تقدم ، وإنّما هو من جهة شمول نفس الدليل الدال على النجاسة أو الملكية لهما ، إذ أن دليل النجاسة إنّما يدل على نجاسة كل جزء من الكلب ، كما أنّ دليل الملكية يدل على ملكية كلّ جزء ، لا أنه يتكفل نجاسة الكلب بما هو وبهذا

__________________

(*) على الأحوط.

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٢٨ ح ٢. الفقيه ٣ : ٢٧٦ / ١٣٠٩.

(٢) رسالة النكاح ٢٠ : ٦٩.

٩٠

لا مثل السن والظفر والشعر ونحوها (١).

[٣٦٧٨] مسألة ٤٦ : يجوز وصل شعر الغير بشعرها (٢) ويجوز لزوجها النظر إليه (٣) على كراهة ،

______________________________________________________

العنوان وملكية المركب من حيث المجموع ، كي يحتاج في إثبات نجاسة الأجزاء المبانة أو ملكيتها إلى الاستصحاب.

(١) لم يظهر وجه الفرق بين الشعر واليد ، فإنّه لا مجال لدعوى انصراف أدلّة عدم الجواز عنه ، وإنْ لم يكن ذلك بعيداً في مثل الظفر والسن.

وعليه فإنْ قلنا بجريان الاستصحاب في مثل اليد وغيرها من الأجزاء المبانة ، كان لازمه عدم جواز النظر إلى الشعر أيضاً ، فإنّ كونه من التوابع لا يمنع من جريانه فيه فإنّ التبعية من الحالات الطارئة وليست من مقومات الموضوع. اللهم إلّا أن يستفاد الجواز فيه من أدلّة جواز وصل الشعر ، وسيأتي الحديث فيه في المسألة القادمة.

(٢) للأصل ، ومعتبرة سعد الإسكاف الآتية.

(٣) لما عرفت من جواز النظر إلى الشعر المبان مطلقاً ، لعدم الدليل على حرمته.

ثم لو قلنا بالحرمة في المسألة السابقة ، فيكفينا في إثبات الجواز هنا معتبرة سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سُئل عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهنّ يصلنه بشعورهنّ ، فقال : «لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها». قال : فقلت : بلغنا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعن الواصلة والموصولة ، فقال : «ليس هناك ، إنّما لعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الواصلة والموصولة التي تزني في شبابها ، فلما كبرت قادت النساء إلى الرجال ، فتلك الواصلة والموصولة» (١).

فإنّها واضحة الدلالة على الجواز ، ولا مجال لحملها على كون القرامل من الصوف إذ لو كان الأمر كذلك لما كان معنى لتطبيق السائل ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من لعن الواصلة والموصولة على المقام ، فإنّه لا معنى للعن الحيوان الذي

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠١ ح ٢.

٩١

بل الأحوط الترك (١).

[٣٦٧٩] مسألة ٤٧ : لا تلازم بين جواز النظر وجواز المسّ (٢). فلو قلنا بجواز النظر إلى الوجه والكفّين من الأجنبية ، لا يجوز مسّها إلّا من وراء الثوب.

______________________________________________________

يؤخذ منه الصوف ، فملاحظة هذه الجهة تدلّنا بوضوح على أنّ القرامل إنّما كانت من شعر النساء دون الصوف وما شاكله.

(١) لرواية ثابت بن سعيد ، قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن النساء تجعل في رؤوسهن القرامل ، قال : «يصلح الصوف وما كان من شعر امرأة لنفسها ، وكره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها ، فإنْ وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضرّها» (١).

ورواية سليمان بن خالد ، قال : قلت له : المرأة تجعل في رأسها القرامل ، قال : «يصلح له الصوف وما كان من شعر المرأة نفسها ، وكره أن يوصل شعر المرأة من شعر غيرها ، فإن وصلت شعرها بصوف أو شعر نفسها فلا بأس به» (٢).

غير أن كلتيهما ضعيفتان سنداً ، فلا تصلحان للاعتماد عليهما وإثبات الكراهة بهما. فإنّ ثابت بن سعيد على ما في رواية الشيخ (٣) ، أو ثابت بن أبي سعيد على ما في رواية الكليني (٤) مجهول لم يرد فيه أيّ توثيق (٥). كما أنّ الثانية مرسلة فلا يمكن الاعتماد عليها.

نعم ، لا بأس بالحكم على نحو الاحتياط الاستحبابي فقط.

(٢) فإنّهما موضوعان مستقلان ولا ارتباط لأحدهما بالآخر ، فإذا ثبت الجواز في أحدهما لم يستلزم ذلك ثبوته للآخر ، كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠١ ح ١.

(٢) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠١ ح ٣.

(٣) لم تفز على رواية الشيخ في التهذيب ، وراجع معجم رجال الحديث ٤ : ٢٩٠.

(٤) الكافي ٥ : ٥٢٠.

(٥) معجم رجال الحديث ٤ : ٢٩٠.

٩٢

[٣٦٨٠] مسألة ٤٨ : إذا توقف العلاج على النظر دون اللّمس ، أو اللّمس دون النظر ، يجب الاقتصار على ما اضطر إليه (١) فلا يجوز الآخر بجوازه.

[٣٦٨١] مسألة ٤٩ : يكره اختلاط النساء بالرجال (٢) إلّا للعجائز ، ولهنّ حضور الجمعة والجماعات (٣).

______________________________________________________

(١) لما تقدم.

(٢) لمعتبرة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يا أهل العراق ، نبئت أنّ نساءكم يدافعن الرجال في الطريق ، أما تستحون»؟ (١).

(٣) الظاهر كون هذه الجملة عطفاً على المستثنى دون المستثنى منه ، ومن هنا كان الأحرى التفريع بالفاء.

وتدلّ عليه معتبرة محمد بن شريح ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن خروج النساء في العيدين ، قال : «لا ، إلّا العجوز عليها منقلاها» يعني الخفين (٢).

وهذه المعتبرة وإن كانت واردة في خصوص العيدين ، إلّا أنّه بإلغاء الخصوصية ودعوى أنهما ذكرا كمثال نظراً لكون الزحام فيهما أكثر ، يمكن التعدي عنهما إلى الجمعة ، بل مطلق الجماعة.

وأما رواية يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن خروج النساء في العيدين والجمعة ، فقال : «لا إلّا امرأة مسنة» (٣). فلا تصلح للاستدلال بها لضعف سندها وإن عبّر عنها في بعض الكلمات بالموثقة ، فإنّ محمد بن علي الذي يرويها عن يونس هو الصيرفي الكوفي ، وهو ضعيف جدّاً (٤).

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٣٢ ح ١.

(٢) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٣٦ ح ١.

(٣) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٣٦ ح ٢.

(٤) راجع معجم رجال الحديث ١٧ : ٣١٩.

٩٣

[٣٦٨٢] مسألة ٥٠ : إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة المحصورة ، وجب الاجتناب عن الجميع (١). وكذا بالنسبة إلى من يجب التستّر عنه ومن لا يجب.

وإن كانت الشبهة غير محصورة أو بدوية ، فإن شكّ في كونه مماثلاً أو لا ، أو شكّ في كونه من المحارم النسبية أو لا ، فالظاهر وجوب الاجتناب (*) ، لأنّ الظاهر من آية (وجوب الغضّ) أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم ، فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم ، لا من باب التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية (٢) بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك.

______________________________________________________

(١) لتنجيز العلم الإجمالي.

(٢) على ما نسب إلى بعض ، بدعوى أنّ العام قبل التخصيص شامل لجميع الأفراد ، فما علم بخروجه منه بعد التخصيص فهو ، وبقي الباقي بما في ذلك الأفراد المشكوكة تحت العام حيث لم يحرز خروجها بالتخصيص. وعليه ففيما نحن فيه حيث ثبت وجوب الاجتناب وحرمة النظر مطلقاً ، ثم خصص ذلك الحكم بعناوين معينة كالزوج والأب وغيرهما من المذكورين في الآية فإذا شكّ في كون فرد من مصاديق هذه العناوين أو لا ثبت له حكم العام ، لظهور العام في شمول الحكم له قبل التخصيص وعدم إحراز كونه من مصاديق المخصص.

وفيه : إنّ ذلك لو تمّ إنّما يتمّ فيما إذا كان التخصيص بدليل منفصل ، أما لو كان التخصيص بدليل متصل فلا يتمّ للعام ظهور في شمول الحكم لجميع الأفراد ، حيث لا ينعقد للعام ظهور إلّا في غير الخاص ، كما هو أوضح من أن يخفى.

وحيث إنّ مقامنا من هذا القبيل فإنّ استثناء هذه العناوين في الآية الكريمة متصل فلا ينعقد ظهور العام في شمول الحكم لجميع الأفراد ، بل الحرمة إنّما تثبت من الأول في غير هذه العناوين المذكورة ، وعليه فلا يحرز كون الفرد المشكوك داخلاً تحت العام من الأول ، ومعه لا يكون مشمولاً للحكم حيث إنّ شمول الحكم له فرع إحراز كونه مصداقاً لذلك الموضوع.

__________________

(*) بل الظاهر عدمه في نظر الرّجل والمرأة إلى من يشكّ في مماثلته.

٩٤

فليس التخصيص في المقام من قبيل التنويع (*) (١) حتى يكون من موارد أصل

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : إنّه لا بدّ في ثبوت الحرمة للفرد من إحراز كونه من غير العناوين المذكورة في الآية الكريمة ، حيث إنّ الحكم إنّما ثبت لمن لم يكن مصداقاً لتلك العناوين ، فإذا لم يحرز ذلك فلا وجه للتمسك بالعام فيه. على أنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية في غير محلّه حتى ولو كان التخصيص بدليل منفصل ، وذلك لما ذكرناه في محلّه من أنّ المخصص المنفصل وإن لم يكن رافعاً لظهور العام في شمول الحكم لجميع الأفراد ، إلّا أنّه إنّما يكشف عن عدم تعلّق الإرادة الواقعية بجميع الأفراد من بادئ الأمر ، وأنّ الحكم من الأوّل كان متعلقاً بحصة خاصة هي غير الخاص. وعليه فكيف يصح التمسك بالعام في الفرد المشكوك والاحتجاج به على المولى؟! وبعبارة اخرى : إنّ المخصص المنفصل وإن كان لا يرفع ظهور العام في شمول الحكم لجميع الأفراد ، إذ الشي‌ء لا ينقلب عما وقع عليه ، لكنه يرفع حجية ظهور العام في الخاص ، ويوجب قصر حجية ظهور العام بغير الخاص. وعليه ففي الفرد المشكوك وإن أحرزنا ظهور شمول العام له ، إلّا أنّه لا طريق إلى إحراز حجية ذلك الظهور ، فإنّها مختصة بغير الخاص وهذا الفرد مشكوك فلا يمكن القول بحجيته فيه.

وبالجملة فلا مجال للالتزام بالحرمة في المقام عن طريق التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، سواء أكان المخصص متصلاً ، أم منفصلاً.

(١) تقدم الكلام في محلّه من المباحث الأُصولية أنّ كل تخصيص يوجب التحصيص والتنويع لا محالة ، سواء في ذلك الأقسام الذاتية كتقسيم المرأة إلى القرشية وغير القرشية ، أو العرضية كبلوغ الماء قدر كر وعدمه.

والوجه فيه ظاهر ، فإنّ الباقي بعد التخصيص كقولنا : كل امرأة تحيض إلى خمسين إلّا القرشية ، وقولنا : إنّ الماء ينجس إلّا إذا بلغ الكر إما أن يثبت له الحكم على نحو الطبيعة المهملة ، أو الطبيعة المطلقة ، أو الطبيعة المقيدة.

__________________

(*) التخصيص يوجب التنويع لا محالة ، إمّا أن المخصص في المقام بما أنّه أمر وجودي فعند الشك يحرز عدمه بالأصل بناءً على ما حقّقناه من جريانه في الأعدام الأزلية.

٩٥

البراءة ، بل من قبيل المقتضي والمانع (١).

______________________________________________________

والأوّل ممتنع ، لامتناع الحكم على الطبيعة المهملة.

والثاني غير معقول ، إذ لازمه ثبوت الحكم الأول للمستثنى منه والمستثنى معاً.

فيتعيّن أن يكون الحكم ثابتاً له على نحو الطبيعة المقيدة بغير الخاص والمستثنى لا محالة ، وهو ليس إلّا التنويع والتحصيص. فإنّ الحكم بالحيض إلى خمسين أو النجاسة يثبت لنوع وحصة من المرأة والماء ، في حين إنّ الحكم بعدم الحيض وعدم الانفعال يثبت لنوع وحصة اخرى من المرأة والماء.

(١) وفيه : أنّ هذه القاعدة غير ثابتة ، إذ لم يدلّ عليها أي دليل من الشارع أو السيرة فلا مجال للتمسك بها ، اللهم إلّا أن يكون مرجعها إلى الاستصحاب ، وتفصيل الكلام في محلّه من الأُصول.

ومما تقدم يتضح أنّه لا مجال لإثبات الحرمة في المقام بما أفاده (قدس سره).

نعم ، ذكر شيخنا الأُستاذ (قدس سره) في مجلس درسه وفي حاشيته على الكتاب وجهاً آخر لإثباتها ، حيث قال : ويدلّ نفس هذا التعليق على إناطة الرخصة والجواز بإحراز ذلك الأمر ، وعدم جواز الاقتحام عند الشكّ فيه ، ويكون من المداليل الالتزامية العرفية.

وحاصله أنّ كل أمر ترخيصي ، سواء أكان تكليفياً كجواز الكشف للمذكورين في الآية ، أم كان وضعياً كعدم انفعال الماء ، إذا كان مشروطاً بأمر وجودي فلا بدّ من إحرازه في ثبوته ، فلو لم يحرز بأن شكّ فيه ثبت فيه الإلزام لما هو المتفاهم العرفي من دليل الترخيص.

إلّا أنّه لا يمكن المساعدة عليه وإن كان (قدس سره) يصرّ عليه كثيراً في مجلس بحثه وذلك لعدم مساعدة الفهم العرفي لما ذكره (قدس سره) ، وذلك لأنّ المتفاهم من دليل الأحكام أنّه لا يتكفل إلّا بيان الحكم الواقعي الذي هو في المقام حرمة كشف المرأة بدنها لغير المذكورين وجوازه لهم وأما ما هي الوظيفة عند الشكّ وعدم إحراز الموضوع فليس للدليل أي تعرض لحكمه ، بل هو ساكت عنه تماماً.

وبعبارة اخرى : إنّ أدلة الأحكام لا تتكفل إلّا بيان ما هي وظيفة المكلف وما هو

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

حكمه واقعاً ، من دون أن يكون لها أي نظر إلى ما هو حكمه ظاهراً عند الشكّ في الحكم الواقعي نتيجة الشكّ في المصداق.

والصحيح في توجيه الحرمة في المقام هو التمسك بأصالة العدم الأزلي ، فيقال : إنه بعد فرض ثبوت العموم وكون الاستثناء استثناءً للأمر الوجودي ، فإذا شكّ في تحقق ذلك العنوان الوجودي وحدوثه استصحب عدمه ، وحكم على ما في الخارج بأنّه غير متصف بذلك الوصف الوجودي.

وتوضيحه : أنّ المرأة حينما تشك في كون من تنظر إليه مماثلاً لها وعدمه ، أو كونه من محارمها النسبية وعدمه ، إنّما تشك في انطباق العنوان الوجودي الخارج بالدليل من عموم حرمة النظر وإبداء الزينة أعني كونه مماثلاً لها ، أو من محارمها النسبية عليه. ومقتضى استصحاب العدم الأزلي هو عدم كون المنظور إليه متصفاً بهذا الوصف ، وعليه فلا يجوز لها النظر إليه ولا إبداء زينتها له ، لأنه بمقتضى الاستصحاب إنسان غير متصف بكونه مماثلاً أو محرماً نسبياً.

وهكذا الحال في جانب الرجل حينما يشكّ في المنظور إليه ، فإنه إنّما يشكّ في حدوث العنوان الوجودي المماثلة والمحرمية الخارج بالدليل من حرمة النظر لهذا المنظور المشكوك فيه ، فيستصحب عدمه ويحكم بالحرمة لا محالة.

هذا ولكن شيخنا الأُستاذ (قدس سره) أصرّ على عدم جواز إجراء الأصل في الأعدام الأزلية ، وملخّص ما أفاده (قدس سره) في هذا المقام هو :

إنّ الاستثناء يوجب تعنون المستثنى منه بعنوان لا محالة ، على ما تقدم توضيحه قريباً منّا حيث قلنا أنّ المستثنى منه يستحيل أن يبقى بعد الاستثناء على إطلاقه ، بل يتقيّد بغير المستثنى قهراً. وعليه فإن كان المستثنى عنواناً وجودياً كقولنا : يحرم النظر إلى المرأة إلّا المحارم كان القيد المأخوذ في المستثنى منه عنواناً عدميا ، فيكون الموضوع للحرمة هو المرأة المتصفة بعدم كونها من محارمه. وكلما كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض كقولنا : إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي‌ء كان العرض نعتاً ووصفاً للموضوع لا محالة ، بحيث يكون الموضوع في المثال المتقدم هو الماء المتصف بالكرية لا الماء وذات الكرية أينما كانت ، فإنه ليس موضوعاً للحكم جزماً.

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وحيث إنّ حال القيد العدمي حال القيد الوجودي ، فكما أن أخذ الثاني في موضوع الحكم إنّما يكون نعتاً ووصفاً للموضوع فكذلك الأول ، فإنّه إذا أُخذ عدم الأمر الوجودي قيداً للموضوع كقولنا : المرأة تحيض إلى خمسين إلّا القرشية كان ذلك نعتاً ووصفاً للموضوع لا محالة ، فيكون المستثنى منه هي المرأة المتصفة بأنها من غير قريش ، في حين يكون المستثنى هي المرأة المتصفة بأنها من قريش.

وعليه ففي مقام الاستصحاب إن أُريد استصحاب العدم الأزلي أعني نفس عدم القرشية المعبّر عنه بالعدم المحمولي ، فهو وإن كان صحيحاً من حيث أنّ لذلك العدم حالة سابقة حيث أنّ المرأة لم تكن كما لم تكن القرشية على نحو القضية السالبة بانتفاء الموضوع ، إلّا أن هذا الاستصحاب لا يجدينا نفعاً ، باعتبار أنّه لا يثبت أنّ هذه المرأة متصفة بأنها ليست من قريش والمعبّر عنه بالعدم النعتي ، لأنّه من الأصل المثبت وهو ليس بحجة عندنا.

وإن أُريد به استصحاب العدم النعتي المأخوذ في موضوع الحكم ، فمن الواضح أنّه ليست له حالة سابقة ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه.

وبعبارة اخرى نقول : إنّ عدم المماثلة أو المحرمية لا يمكن إثباته بالاستصحاب ، لأنّ ما له حالة سابقة وهو العدم المحمولي لا أثر له ، وما له أثر أعني اتصاف الموجود الخارجي بعدم ما أُخذ في الاستثناء المعبّر عنه بالعدم النعتي لا حالة سابقة له كي يستصحب.

وفيه : إنّ ما ذكره (قدس سره) وإن كان صحيحاً فيما إذا علم من الخارج أنّ العدم مأخوذ على نحو النعتية المعبّر عنها بالعدم النعتي لظهور الدليل أو لجهة أُخرى ، فإنه حينئذ لا ينفع استصحاب العدم الأزلي في إثبات اتصافه بذلك. نظير ما لو اجري استصحاب عدم البصر في المشكوك كونه أعمى أو بصيراً ، فإنه لا يثبت كونه أعمى بل لا بدّ من إحراز الوصف المأخوذ في الموضوع لا محالة.

إلّا أن تطبيقه على المقام كسائر موارد الاستثناءات المتصلة أو المنفصلة غير تام ، وذلك لأنّ المعتبر في جانب المستثنى إنّما هو نفس العرض ، والعرض وجوده في نفسه عين وجوده لغيره ، فوجود الكرية في الماء عين اتصاف الماء بالكرية ، فإنّ سنخ

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوده وجود قائم بالغير ، فإذا قيل : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء ، كان الموضوع هو الماء المتصف بالكرية طبعاً.

وعلى هذا قس سائر الموارد ومنها المقام ، فإنّ وجود الأُبوة في شخص عين اتصاف ذلك الشخص بالأُبوة ، فليس هناك إلّا شي‌ء واحد ووجود منفرد.

وهذا الكلام بقدر ما يرتبط بالمستثنى تامّ ولا إشكال فيه. وأما في جانب المستثنى منه فلا يخفى أنّ موضوع الحكم فيه ليس هو الفرد المتصف بعدم الوصف المأخوذ في المستثنى ، فإنّه يحتاج إلى العناية والتكلف ولا يقتضيه الدليل بنفسه ، إذ الاستثناء لا يقتضي إلّا خروج العنوان المذكور المستثنى من الحكم الثابت للمستثنى منه ، وأما اتصاف المستثنى منه بعنوان آخر مضاد للمستثنى فليس فيه أي اقتضاء لذلك.

وعليه فيكون الباقي تحت العام بعد الاستثناء في قولنا : كل امرأة تحيض إلى خمسين إلّا القرشية ، هي المرأة التي لا تكون قرشية على نحو السالبة المحصلة ، بمعنى أنّ موضوع الحكم إنما هي المرأة التي لا تتصف بالقرشية ، لا المرأة المتصفة بأنها ليست قرشية ، وبين العنوانين فرق واضح.

وبعبارة اخرى : إنّ الذي يقتضيه الاستثناء إنّما هو كون الموضوع مقيداً بكونه ليس من المستثنى ، فيكون القيد المأخوذ عدميا لا محالة ، أما كونه مقيداً باتصافه بأنّه غير المستثنى بحيث يكون القيد وجودياً ، فهو بحاجة إلى عناية زائدة ولا يقتضيه الاستثناء بنفسه.

وعليه فحيث لا يعتبر في أخذ العدم قيداً للموضوع كونه على نحو الناعتية ، إذ الذي هو نعت ووجوده في نفسه عين وجوده لغيره إنّما هو وجود العرض لا عدمه فإن العدم أمر باطل وليس له وجود في الخارج كي يكون وجوده لنفسه عين وجوده لغيره ، بل يستحيل أن يكون العدم حقيقة نعتاً ووصفاً لشي‌ء إذ لا وجود له كي يكون كذلك ، وإنّما يؤخذ على نحو من العناية ، بأن يلحظ أمر وجودي ملازم له فيكون ذلك الأمر الوجودي نعتاً ، وإلّا فالعدم غير قابل للناعتية.

فكل امرأة لم تكن متصفة بعنوان القرشية في المثال المتقدم تكون داخلة في الحكم من دون حاجة إلى أخذ قيد أو وصف ، إذ إنّ ثبوت الحكم لها لا يتوقف إلّا

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

على أمرين :

الأوّل : إحراز أصل الذات.

الثاني : عدم اتصافها بالقرشية على نحو السالبة المحصلة.

وحيث إنّ الأوّل محرز في الخارج وجداناً ، والثاني يمكن إحرازه بالأصل ، فيثبت الحكم لها لا محالة ، فإنها قبل أن توجد لم تكن ذاتها ولا اتصافها بالقرشية موجوداً فإذا وجدت ذاتها وشككنا في اتصافها بالقرشية أمكن نفيه بأصالة العدم ، المعبّر عنها باستصحاب عدم الوجود.

والحاصل أنّ موضوع الحكم يحرز عن طريق ضمّ الوجدان إلى الأصل ، فيضم ما هو معلوم بالوجدان إلى ما يعلم بالأصل ، فيثبت الحكم له قهراً ، حيث إنّ الموضوع ليس هو الاتصاف بالعدم وإنّما هو نفس العدم ، وهو قابل للإحراز بالاستصحاب.

وتمام الكلام قد ذكرناه في مبحث اللباس المشكوك وتعليقاتنا على تقريراتنا لبحث شيخنا الأُستاذ (قدّس سرّه) ، فراجع.

ثم إنّ لبعضهم تفصيلاً في جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، بين ما إذا كان الوصف المشكوك ثبوته من أعراض الوجود ووصفاً عرضيا نظير القرشية وغيرها من العناوين النسبية ، وبين ما إذا كان الوصف ذاتياً ومن قبيل مقومات الماهية كإنسانية الإنسان وحجرية الحجر.

حيث أنكر جريان الاستصحاب في الثاني حتى بناء على القول باستصحاب العدم الأزلي ، بدعوى أنّ ثبوت الشي‌ء لنفسه ضروري. فإنّ الإنسان إنسان سواء وجد في الخارج أم لم يوجد ، وعليه فإذا شكّ في كون الموجود خارجاً إنساناً أم غيره فلا معنى لأن يستصحب عدم إنسانيته ، حيث لم تكن لذلك حالة سابقة فإنّ الإنسان لم يكن في زمان موصوفاً بعدم الإنسانية كي يستصحب ، وحيث إنّ الرجولية والأُنوثية من هذا القبيل ، فلا مجال عند الشكّ فيهما لاستصحاب عدمهما.

وفيه : أنّ ذلك من الخلط بين الحمل الأولي الذاتي الذي يكون الملاك فيه الاتحاد في المفهوم ، وبين الحمل الشائع الصناعي الذي يكون ملاكه الاتحاد في الوجود خارجاً.

١٠٠