موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه : أنّ الاستدلال بها تارة يكون بملاحظتها في حدّ نفسها ومع قطع النظر إلى النصوص الواردة في تفسيرها ، وأُخرى بملاحظتها منضمة إلى تلك النصوص.

فإن كان الأوّل ، فلا يخفى أنّه لم يثبت كون المراد بالزينة مواضعها ، بل الظاهر من الآية الكريمة إرادة نفس ما تتزين به المرأة. ويؤيد ذلك قوله عزّ وجلّ في ذيل الآية (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) فإنّ من الواضح أنّ ضرب الرجل على الأرض لا يوجب العلم بموضع الزينة ، وإنما الذي يوجبه هو العلم بنفس الزينة من الخلخال وغيره ، فإن ضرب الرجل يوجب حركتها وإيجاد الصوت فيعلم بها لا محالة.

ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا : إنّ المراد بالزينة هو مواضعها ، فلا يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة أيضاً. وذلك فلأننا وإن قلنا : إنّ الأمر بالتستر واضح الدلالة على عدم جواز نظر الرجل إلى بدن المرأة ، إلّا أنّه لا يمكن القول بذلك في عكس القضية ، فإنّ جواز الإبداء لا يدل على جواز نظر الرجل إليها إذ لا ملازمة بينهما ، ويكفينا في إثبات ذلك ذهاب جماعة إلى حرمة نظر المرأة إلى الرجل والحال أنّه لا يجب عليه التستر.

فالحاصل أنّ الآية الكريمة على كلا التقديرين لا تدلّ على جواز نظر الرجل إلى وجه المرأة ويديها.

وإن كان الثاني ، فالروايات وإن كانت صريحة في أنّ المراد بالزينة إنما هو مواضعها ، إلّا أنّه لا بدّ من التكلّم في معنى البداء كي يعرف منه معنى الآية الكريمة فنقول :

البداء بمعنى الظهور ، كما في قوله تعالى (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) (١). والإبداء بمعنى الإظهار ، فإذا كان متعلقاً بشي‌ء ولم

يكن متعدياً باللّام يكون في مقابل الستر ، وإذا كان متعلقاً (٢) باللّام كان في مقابل الإخفاء بمعنى الإعلام والإراءة. كما يقال : يجب على الرجل ستر عورته وليس له إظهارها في ما إذا كان يحتمل وجود ناظر محترم

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ٢٢.

(٢) كذا في الطبعة الاولى والصحيح (متعدياً).

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذلك يقال : إنّ بدن المرأة كلّه عورة ، فيراد به ذلك. وأما إذا قيل : أبديت لزيد رأيي أو مالي ، فمعناه أعلمته وأريته.

ومن هنا يظهر معنى الآية الكريمة ، فإنّ قوله عزّ وجلّ أوّلاً (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها) إنما يفيد وجوب ستر البدن الذي هو موضع الزينة وحرمة كشفه ما عدا الوجه واليدين ، لأنهما من الزينة الظاهرة ، فيستفاد منه أنّ حال بدن المرأة حال عورة الرجل لا بدّ من ستره بحيث لا يطلع عليه غيرها ، باستثناء الوجه واليدين فإنهما لا يجب سترهما ، لكنك قد عرفت أنّ ذلك لا يلزم جواز نظر الرجل إليهما.

في حين إنّ قوله عزّ وجلّ ثانياً (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ) ... يفيد حرمة إظهار بدنها وجعل الغير مطلعاً عليه وإراءته مطلقاً ، من دون فرق بين الوجه واليدين وغيرهما ، إلّا لزوجها والمذكورين في الآية الكريمة.

فيتحصّل من جميع ما تقدم : أنّ الآية الكريمة بملاحظة النصوص الواردة في تفسير الزينة تفيد حكمين :

الأوّل : حكم ظهور الزينة في حدّ نفسه ، فتفيد وجوب ستر غير الظاهرة منها دون الظاهرة التي هي الوجه واليدان.

الثاني : حكم إظهار الزينة للغير ، فتفيد حرمته مطلقاً من دون فرق بين الظاهرة والباطنة ، إلّا للمذكورين في الآية الكريمة حيث يجوز لها الإظهار لهم.

وحيث عرفت أنّ حرمة الإظهار ووجوب التستر تلازم حرمة النظر إليها ، فتكون الآية الكريمة أوْلى بالاستدلال بها على عدم الجواز من الاستدلال بها على الجواز.

ثانياً : صحيحة علي بن سويد ، قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها ، فقال : «يا علي ، لا بأس إذا عرف الله من نيتك الصدق ، وإياك والزنا فإنه يمحق البركة ويهلك الدين» (١).

وهذه الصحيحة هي عمدة ما استند إليه الشيخ الأعظم (قدس سره) في القول بالجواز (٢).

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب النكاح المحرم ، ب ١ ح ٣.

(٢) رسالة النكاح ٢٠ : ٥٣ ٥٤.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا أنّه لا بدّ من حمل هذه الصحيحة كما هو ليس ببعيد على اقتضاء عمله لذلك ، وأنّ النظر إليها يكون اتفاقياً ، بمعنى أنّه يقع نظره عليها من دون قصد أو تعمّد.

وبذلك فتكون الصحيحة أجنبية عن محل الكلام ، ولا تدلّ على جواز تعمّد النظر إلى وجه المرأة ، وإلّا فلا بدّ من رد علمها إلى أهلها ، لأنّها دالّة على جواز النظر إليها حتى مع قصده التلذّذ من الأول ، كما يظهر من قوله : (فيعجبني النظر إليها) وهو مما لا يمكن الالتزام به ولم يقل به أحد منّا. على أنها غير مختصة بالوجه واليدين فتشمل الشعر أيضاً وهو مقطوع البطلان.

ومما يؤيد ما ذكرناه من حملها على عدم التعمد والقصد أنّ من البعيد جدّاً أن يفعل علي بن سويد على جلالة قدره وعظم شأنه ذلك قاصداً متلذّذاً ، ثم ينقله بكل صراحة للإمام (عليه السلام).

ثالثاً : صحيحة الفضيل ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذراعين من المرأة ، هما من الزينة التي قال الله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ)؟ قال : «نعم وما دون الخمار من الزينة ، وما دون السوارين» (١).

وحيث إنّ الوجه مما لا يستره الخمار ، والكف فوق السوار لا دونه ، فتدلّ الصحيحة على جواز إبدائهما.

وفيه : ما تقدم من أنّ جواز الإبداء لا يلازم جواز النظر إليه ، فلا تدلّ هذه الصحيحة على جوازه.

على أن الصحيحة في الحرمة أظهر من الجواز ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بـ «ما دون الخمار» هو ما يعمّ الوجه أيضاً لأنّه مما يكون على الرأس ، فيكون الوجه مما هو دونه لا محالة ، ولا مبرر لملاحظة الخمار من أسفله أعني ما يكون على الذقن كي يقال : إنّ ما دونه هو الرقبة خاصة ، بل ما دونه الوجه فما دون.

كما أنّ الظاهر بل الواضح أنّ المراد بـ «ما دون السوارين» هو ما يكون دونهما إلى أطراف الأصابع. وحمل ذلك على الفاصلة اليسيرة بينهما وبين الكفّ ، بحيث يكون

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠٩ ح ١.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الكفّ خارجاً من قوله (عليه السلام) «وما دون السوارين» لا يخلو من تعسف.

إذن فالرواية تدل على أنّ الذراعين وما دونهما إلى أطراف الأصابع والخمار وما دونه مطلقاً من الزينة المحرم إبداؤها ، فلا يبقى وجه للاستدلال بها على جواز النظر إلى الوجه والكفين.

رابعاً : رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها) فهي الثياب ، والكحل ، والخاتم ، وخضاب الكفّ ، والسوار. والزينة ثلاثة : زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة للزوج. فأما زينة الناس فقد ذكرنا. وأما زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها ، والدملج فما دونه ، والخلخال وما سفل منه. وأما زينة الزوج فالجسد كلّه» (١).

وهذه الرواية وإن كانت صريحة في الجواز في القسم الأوّل ، إلّا أنّها ضعيفة سنداً ولا يمكن الاعتماد عليها ، فإنّها مرسلة لأنّ أبا الجارود ممن يروي عن الباقر (عليه السلام) ، فالفصل بينه وبين علي بن إبراهيم كثير جدّاً فلا يمكن أن يروي عنه مباشرة.

خامساً : رواية علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) ، قال : سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحلّ له؟ قال : «الوجه ، والكف ، وموضع السوار» (٢).

واستدل بهذه الرواية صاحب الجواهر (قدس سره) وذكر أنّ سندها معتبر على ما قيل (٣).

وفيه : أنّها ضعيفة سنداً بعبد الله بن الحسن ، إذ لم يرد فيه أي توثيق أو مدح.

على أنّها واردة في المرأة التي يحرم نكاحها ، ومن الواضح أنّها ليست إلّا المحرم فلا يبقى لها ارتباط بمحل كلامنا ، أعني الأجنبية. بل يمكننا استفادة الحرمة منها ، نظراً

__________________

(١) المستدرك ، ج ١٤ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ٨٥ ح ٣.

(٢) قرب الاسناد : ٢٢٧ / ٨٩٠.

(٣) الجواهر ٢٩ : ٧٥.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى تخصيص الجواز بالمحارم ، فمن العجيب من صاحب الجواهر (قدس سره) الاستدلال بها على الجواز.

سادساً : رواية عمرو بن شمر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يريد فاطمة وأنا معه ... إلى أن قال : فدخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ودخلت وإذا وجه فاطمة (عليها السلام) أصفر كأنه بطن جرادة ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «ما لي أرى وجهكِ أصفر؟» قالت : «يا رسول الله الجوع». فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «اللهم مشبع الجوعة ودافع الضيعة ، أشبع فاطمة بنت محمد». قال جابر : فوالله ، لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتى عاد وجهها أحمر فما جاعت بعد ذلك اليوم (١).

ودلالتها على الجواز واضحة ، لأنّها تتضمن فعل المعصوم وإقرار النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، وكل منهما حجة على الجواز.

وفيه : أنّها ضعيفة سنداً ، فإنّ عمرو بن شمر قد ضعّفه النجاشي في موردين ، عند التعرض لترجمته وعند ترجمة جابر بن عبد الله ، وذكر أنّه قد أُضيف في روايات جابر من قبل عدّة ممن يروون عنه ، وخصّ بالذكر عمرو بن شمر (٢) فلا مجال للاعتماد عليها.

على أنّ متنها غير قابل للتصديق ، فإنّ مقام الصديقة الزهراء (عليها السلام) يمنع من ظهورها أمام الرجل الأجنبي بحيث يراها قطعاً ، فإنّ كل امرأة شريفة تأبى ذلك فكيف بسيدة النساء (عليها السلام)؟! ومما يؤيد ما قلنا أنّ مضمون هذه الرواية من أنّها (عليها السلام) ما جاعت بعد ذلك اليوم معجزة عظيمة فكيف لم يروها غير عمرو بن شمر!! سابعاً : رواية مروك بن عبيد ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له : ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً؟ قال : «الوجه

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٢٠ ح ٣.

(٢) رجال النجاشي : ١٢٨ ، ٢٨٧ ترجمة برقم ٣٣٢ ، ٧٦٥.

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والكفان ، والقدمان» (١).

وفيه : أنّها وإن كانت واضحة الدلالة إلّا أنّها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

وبهذا ينتهي الكلام في عمدة ما استدلّ به للقول بجواز النظر إلى وجه الأجنبية ويديها. وقد عرفت عدم تمامية شي‌ء منها ، إلّا أنّ من غير الخفي أنّه لا حاجة في القول بالجواز إلى شي‌ء منها إذا لم تتمّ أدلة القول بالمنع ، لأنّ مقتضى أصالة البراءة هو الجواز ، وعلى هذا فلا بدّ من التكلّم في أدلة المانعين.

وقد استدل للحرمة بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ) ... (٢) على ما تقدم دلالتها ، فإنّ هذه الآية الكريمة تتصدى لبيان حكمين :

حكم الظهور وعدم التستر ، المعبّر عنه بالإبداء في نفسه ، عند احتمال وجود ناظر محترم. وحكم الإظهار للغير ، المعبّر عنه بالإبداء ، عند القطع بوجود ناظر محترم أما عند القطع بعدم وجوده فيجوز الكشف كما في الحمام المنفرد عند الغسل ونحوه.

أفادت الحكم الأوّل وأنّ بدن المرأة ما عدا الوجه والكفين كعورة الرجل يجب ستره في نفسه ولا يتوقف صدق عنوان البدو والإبداء على وجود الناظر ، ولذا جاء في صحيحة زرارة قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : رجل خرج من سفينة عرياناً أو سلب ثيابه ولم يجد شيئاً يصلي فيه ، فقال : «يصلي إيماءً ، وإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها ، وإن كان رجلاً وضع يده على سوأته ، ثم يجلسان فيومئان ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما ، تكون صلاتهما إيماءً برؤوسهما» (٣) ، فإنّه (عليه السلام) عبّر بالبدو في فرض عدم وجود ناظر محترم فيظهر من ذلك أنّ المراد به هو الإبداء في نفسه أي ظهوره.

أفادت الحكم الثاني وهو حرمة إظهار جميع البدن ومن غير استثناء اللّازمة لحرمة

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠٩ ح ٢.

(٢) سورة النور ٢٤ : ٣١.

(٣) الوسائل ، ج ٤ كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلي ، ب ٥٠ ح ٦.

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

النظر إليها لغير المذكورين فيها.

والذي يظهر والله العالم أنّ الروايات الواردة في تفسير هذه الآية الكريمة تؤكد ما ذكرناه من التفصيل في الزينة بين ما يجب سترها في نفسه ، وما يحرم إبداؤها لغير الزوج ، فإنّ بعضها تسأل عن القسم الأوّل وبعضها الآخر تسأل عن القسم الثاني في الآية الكريمة.

فمن الأوّل : معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها) قال : «الخاتم ، والمسكة ، وهي القلب» (١). فهي صريحة في أنّ السؤال عن القسم الأوّل من الآية الكريمة دون القسم الثاني ، فلا تدل إلّا على جواز كشف الوجه واليدين وعدم وجوب سترهما في نفسه وقد عرفت أنّ ذلك لا يلازم جواز النظر إليهما.

ومن الثاني : صحيحة الفضيل المتقدمة حيث ورد السؤال فيها عن الذراعين من المرأة ، هما من الزينة التي قال الله عزّ وجلّ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ)؟ فأجاب (عليه السلام) : «نعم» (٢). فدلّت على حرمة إبدائهما لغير الزوج ومن ذكر في الآية الكريمة.

فبملاحظة هذه النصوص يتضح جلياً أنّ ما تفسره معتبرة أبي بصير غير ما تفسره صحيحة الفضيل ، وأنّهما منضماً إنّما يفيدان أنّ الزينة على قسمين :

قسم منها يجب ستره في نفسه ، وهو ما عدا الوجه والكفين من البدن.

وقسم منها لا يجوز إبداؤه لغير المذكورين في الآية الكريمة مطلقاً ، وهو تمام البدن من دون استثناء.

ولعل صاحب الجواهر (قدس سره) حينما استدل بهذه الصحيحة على جواز النظر إلى الوجه والكفّين (٣) تخيّل أنّها واردة في تفسير القسم الأول من الآية الكريمة ، وغفل عن كونها صريحة في النظر إلى القسم الثاني.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠٩ ح ٤.

(٢) راجع ص ٤٣ ه‍ ١.

(٣) الجواهر ٢٩ : ٧٦.

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : الروايات الدالة على جواز النظر إلى وجه المرأة ويديها إذا أراد تزويجها على نحو القضية الشرطية ، فإنّ مفهومها هو عدم الجواز إذا لم يكن مريداً تزويجها. وحمل النظر في هذه الروايات على المقترن بالتلذّذ ، فلا تدل بمفهومها على عدم جواز النظر المجرد إذا لم يكن قاصداً تزويجها ، بعيد جدّاً ولا موجب له.

وأوضح من هذه الأخبار ما ورد في جواز النظر إلى وجه الذمية ويديها ، معلِّلاً بأنّهنّ لا حرمة لهنّ ، فإنّه كالصريح في أنّ منشأ الجواز إنّما هو عدم وجود حرمة لأعراضهنّ ، فيدل على عدم الجواز إذا كانت المرأة مسلمة وذات حرمة.

الثالث : صحيحة الفضيل المتقدمة في أدلّة القول بالجواز وذلك بالتقريب المتقدم فإنّ ظاهرها هو كون الوجه واليدين من الزينة التي لا يجوز إبداؤها إلّا للزوج ، حيث ألحق (عليه السلام) «ما دون الخمار» و «ما دون السوارين» إلى الذراعين ، فجعل المجموع من مصاديق الآية الكريمة الدالة على حرمة إبداء الزينة ، التي قلنا إنّه بمعنى حرمة إظهارها للغير الملازمة لحرمة النظر إليها على ما عرفت تفصيله.

الرابع : صحيحة محمد بن الحسن الصفار ، قال : كتبت إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم ، هل يجوز له أن يشهد عليها وهي من وراء الستر ويسمع كلامها إذا شهد عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك وهذا كلامها ، أو لا يجوز الشهادة عليها حتى تبرز ويثبتها بعينها؟ فوقع (عليه السلام) : «تتنقب وتظهر للشهود إن شاء الله» (١).

فإنّ أمره (عليه السلام) بالتنقب الذي هو عبارة عن لبس ما يستر مقداراً من فوق الأنف فما دونه عند الشهادة يدلّ بوضوح على عدم جواز النظر إلى وجه المرأة في حدّ نفسه ، وإلّا فلم يكن وجه لأمرها بالتنقب. وحمل الأمر على استحياء المرأة خارجاً مع قطع النظر عن الحكم الشرعي لا وجه له بالمرة ، فإنّ ظاهر الأمر هو بيان التكليف والوظيفة الشرعية ، فحمله على غيره يحتاج إلى القرينة والدليل.

ثم إنّ الأمر بالتنقب وإن دلّ على لزوم ستر الأنف فما دون مطلقاً ، إلّا أنّه لا يدل على جواز كشف ما فوق الأنف مطلقاً ، بل يختص ذلك بالشهادات حيث تقتضي

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ١٩ ح ٥٨.

٤٨

وقيل بالجواز فيهما مرّة ، ولا يجوز تكرار النّظر (١) والأحوط المنع مطلقاً (*).

______________________________________________________

الضرورة للتعرّف على المرأة وذلك يحصل بالنظر إلى عينيها ، ومن هنا حكم من لا يرى جواز النظر إلى المرأة في نفسه بالجواز في مقام الشهادة.

الخامس : الأخبار الدالة على أنّ النظر إلى الأجنبية «سهم من سهام إبليس» وأنّه «زنا العين» وما شاكله (١). لكن الظاهر أنّ هذه الطائفة مما لا يصح الاستدلال بها على حرمة النظر المجرد ، فإنّ التعبير بأنّه «سهم من سهام إبليس» لا ينسجم إلّا مع كون الناظر في مقام الريبة ، فإنه في هذه الحالة قد لا يتمكن الإنسان من السيطرة على نفسه فيقع في الزنا ، وقد يتمكن من كفّ نفسه ومنعها من المحرمات فينجو من ذلك ، وحينئذ يصح تمثيله بالسهم فإنه قد يصيب الهدف وقد يخطئ. وأما إذا لم يكن في مقام الريبة فهو غير مصيب دائماً ، فلا يتلاءم مع تشبيهه بالسهم.

وكذا الحال فيما دل على أنّه زنا العين ، فإنّه ومع غض النظر عن سنده ظاهر في كون الناظر في مقام التلذّذ لا مطلقاً ، كما يظهر ذلك من قوله : «فإنّ لكل عضوٍ زنا وزنا العين النظر». فإنّ من الواضح أنّ زنا العين هو النظر متلذّذاً كما هو الحال في زنا سائر الأعضاء لا النظر المجرّد.

والمتحصل من جميع ما تقدّم : أنّه لا مجال لاستثناء الوجه والكفين من حرمة النظر إلى الأجنبية ، فإنه لا دليل على ذلك بل الدليل على خلافه ، كما عرفت.

(١) اختاره المحقق (قدس سره) في الشرائع (٢) والعلّامة (قدس سره) في القواعد (٣) ولعلّ الوجه في ذلك هو الجمع بين الطائفتين المتقدمتين.

__________________

(*) وإن كان الأظهر جواز نظر المرأة إلى وجه الرّجل ويديه بل رأسه ورقبته وقدميه من غير تلذّذ وريبة ، بل حرمة نظرها إلى سائر بدنه غير العورتين من دون تلذّذ وريبة لا يخلو عن إشكال ، والاحتياط لا يُترك.

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠٤.

(٢) الشرائع ١ : ٣١٧.

(٣) قواعد الأحكام ٢ : ٣.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا أنّه ضعيف جدّاً ، وذلك لأنّ هذا التفصيل وإن ورد في رواية معتبرة ، فقد روى الكاهلي عبد الله بن يحيى الكاهلي الممدوح إنّه قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة ، وكفى بها لصاحبها فتنة» (١). كما روى الصدوق مرسلاً أنه (عليه السلام) قال : «أوّل نظرة لك ، والثانية عليك ولا لك ، والثالثة فيها الهلاك» (٢) ، لكنّها مرسلة فلا يمكن الاعتماد عليها.

وعلى فرض صحة الرواية سنداً فإنّ هذا التفصيل لا يمكن العمل به وذلك :

أوّلاً : إنّ الظاهر من هذه النصوص ، أنّها ليست في مقام الفرق بين النظرة الأُولى والثانية من حيث العدد ، وإنما هي بصدد الفرق بينهما من حيث إنّ الاولى اتفاقية وغير مقصودة بخلاف الثانية ، فتحرم الثانية دون الاولى ، فلا تدلّ حينئذ على جواز النظرة الأُولى حتى ولو كانت مقصودة.

ثانياً : إنّ إطلاق هذه الروايات لو سلم فلا بدّ من تقييده على كل حال ، فإنّها تدل بإطلاقها على جواز النظرة الأُولى متعمداً إلى جميع أعضاء بدن المرأة ، وهو مما لا يقول به أحد.

وحيث يدور أمر تقييدها بين التقييد بالوجه واليدين ، والتقييد بالاختيار وعدمه وكان الثاني بنظر العرف هو الأظهر تعيّن التقييد به. خصوصاً بملاحظة أنّ التفصيل بين النظرة الأُولى والثانية بلحاظ العدد ، بمعنى الالتزام بالجواز في النظرة الأُولى بما هي نظرة اولى حتى ولو كانت اختيارية وعدم الجواز في الثانية بما هي ثانية ، مما لا يقبله العقل السليم.

حيث يرد التشكيك في النظرة الاولى من حيث مدتها وفترة صدقها ، وذلك بمعنى أنّه إلى متى يجوز الاستمرار في النظرة الأُولى؟ وهل يجوز النظر لمدة خمس دقائق مستمراً في حين لا يجوز إعادة النظر ولو لأقل من دقيقة لأنّه من النظرة الثانية؟

ثم ما هي الفترة التي لا بدّ وأن تمضي لتصدق ثانياً النظرة الأُولى؟ وهل إذا نظر إلى

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠٤ ح ٦.

(٢) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠٤ ح ٨.

٥٠

[٣٦٦٤] مسألة ٣٢ : يجوز النظر إلى المحارم التي يحرم عليه نكاحهنّ نسباً (١)

______________________________________________________

المرأة فلا يجوز له النظر إليها ثانياً ما دام حياً لأنه من النظرة الثانية ، أو يكون المعيار في كونها من النظرة الأُولى أو الثانية باليوم الواحد فتعتبر النظرة الواقعة في الثاني النظرة الأُولى أيضاً ، أو أنه بالساعة أو الشهر أو السنة؟

إنّ كل هذه التشكيكات تدلّ بوضوح على أنّه (عليه السلام) ليس في مقام تحديد النظر من حيث العدد ، وإنّما هو في مقام التحديد من حيث الاتفاق والتعمّد ، وإنّ النظرة الاتفاقية معفو عنها ويجب عدم العود إليها.

إذن فلا يصلح ما قيل من أنّ هذا الحكم هو حصيلة الجمع بين الروايات التي استدل بها على الجواز مطلقاً ، والروايات التي دلت على الحرمة كذلك. وحيث قد عرفت عدم صلاحية الطائفة الأُولى لإثبات المدعى ، فتبقى الطائفة الثانية سليمة عن المعارض ، فيتعيّن القول بالحرمة ، ولا أقل من الاحتياط اللزومي.

(١) ويدلّ على الجواز مضافاً إلى السيرة القطعية من زمان الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى عصرنا الحاضر ، حيث لم يعهد تحجب النساء من أولادهن أو آبائهن أو أخوانهن إلى غيرهم من المحارم ـ :

أوّلاً : قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) (١). فهي على ما تقدّم تدل على جواز إبداء زينتهن الذي هو بمعنى إظهار مواضعها للمذكورين فيها ، ومن الواضح أنّ جواز الإبداء بهذا المعنى يلازم جواز النظر إليها. والآية الكريمة وإن لم تتعرض لذكر العم والخال ، إلّا أنّك قد عرفت أنّ حكمهما يظهر من بيان حكم ابن الأخ وابن الأُخت ، لوحدة النسبة ، على ما تقدم بيانه مفصّلاً.

ثانياً : معتبرة السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) ، قال : «لا بأس أن ينظر إلى شعر امه أو أُخته أو ابنته» (٢). فإنّها وإن دلت على جواز النظر إلى

__________________

(١) سورة النور ٢٤ : ٣١.

(٢) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠٤ ح ٧.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

خصوص الشعر ، إلّا أنّه بملاحظة عدم القول بالفصل بينه وبين سائر أعضاء الجسد يثبت الحكم للجميع. ولا أقلّ من أنّها تنفعنا في الجملة.

ثالثاً : الروايات المتضافرة الدالة على جواز تغسيل الرجل المرأة التي يحرم نكاحها عليه وبالعكس إذا لم يحصل المماثل ، وقد تقدم الكلام فيها في مبحث الطهارة. فبملاحظة أنّ لازم التغسيل عادة هو النظر إلى جسدها حتى لو قلنا بوجوب تغسيلها من وراء الثياب كما تدل عليه بعض النصوص تتضح دلالة هذه الأخبار على المدعى.

وكيف كان ، فالحكم مقطوع ولا خلاف فيه ، وإن نُسب إلى العلّامة المنع من ذلك في الجملة (١) وإلى بعض المنع من النظر إلى الثدي حال الرضاع ، فإنه لا وجه للقولين بعد إطلاق الآية الكريمة وظهور الأخبار.

ثم إنّه وإن كان مقتضى هذه الأدلة جواز النظر إلى جميع أعضاء بدن المحارم ما عدا القُبل والدُّبر لأنهما عورة ، إلّا أنّ الظاهر من معتبرة الحسين بن علوان أنّ المراد بالعورة ما بين السرّة والركبة.

فقد روي عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) ، قال : «إذا زوج الرجل أمته فلا ينظرن إلى عورتها ، والعورة ما بين السرّة والركبة» (٢).

فإنّها تدل بوضوح على تحديد العورة ، فلا محيص عن الالتزام بحرمة النظر إلى ما بين السرة والركبة وأنّها العورة في المرأة. وقد تقدّم الكلام في هذا الفرع في مبحث الستر والساتر من الصلاة ، وقد عرفت في محلِّه أنّه لا مجال للمناقشة في سند الرواية فإنّ الحسين بن علوان ممن وثّقه النجاشي (٣).

وعليه فيتحصل من جميع ما تقدم جواز النظر إلى جميع أعضاء بدن المحارم عدا ما بين السرّة والركبة.

__________________

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٢٧٣.

(٢) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٤٤ ح ٧.

(٣) رجال النجاشي : ٥٢ ترجمة برقم ١١٦.

٥٢

أو رضاعاً (١)

______________________________________________________

وأما رواية أبي الجارود في قوله : «وأما زينة المحرم : فموضع القلادة فما فوقها والدملج فما دونه ، والخلخال وما سفل منه» (١).

ورواية علي بن جعفر في قوله عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له ، قال : «الوجه ، والكف ، وموضع السوار» (٢).

فلا تصلحان لتقييد ما ذكرناه ، لأنّهما ضعيفتان سنداً على ما مرّ بيانه فلا يمكن الاعتماد عليهما.

(١) لما دلّ على أنّ «ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع». وعليه فما يجوز النظر إليه من المحرم بالنسب ، يجوز النظر إليه من المحرم بالرضاع.

وما قيل من اختصاص الحكم بالمرضعة وصاحب اللبن والأُصول والفروع والحواشي لهما ، ولا يشمل أب المرتضع لأن دليل التنزيل قاصر عن شموله ، باعتبار أنّ التنزيل إنما هو بالنسبة إلى المرتضع وكل من المرضعة وصاحب اللبن ، وأما أبو المرتضع فلا دخل له في ذلك ، وثبوت حرمة نكاحه لأولاد المرضعة أو صاحب اللبن إنما كان ببركة دليل تعبدي ، أعني ما دل على أنّه لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن وأولاد المرضعة ، فلا يثبت جواز النظر إليه أيضاً.

فهو مشكل جدّاً فإنّه إنما يمكن أن يقال بأنّ حرمة نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن وأولاد المرضعة حكم تعبدي صرف ، فيما لو لم تكن الرواية الدالة عليها معلّلة. أمّا لو كان الحكم معلّلاً كما هو الحال بالنسبة إلى ما نحن فيه ، ب : أن ولدها صارت بمنزلة ولده (٣). فلا مجال لما ذكر ، إذ التعليل يقتضي شمول أب المرتضع بالتنزيل أيضاً.

__________________

(١) راجع ص ٤٤ ه‍ ١.

(٢) راجع ص ٤٤ ه‍ ٢.

(٣) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، ب ١٦ ح ١.

٥٣

أو مصاهرة (١)

______________________________________________________

(١) على تفصيل فيها ، فإنّ المحرمات بالمصاهرة على قسمين :

الأوّل : ما تحرم حرمة مؤقتة قابلة للارتفاع.

الثاني : ما تحرم مؤبداً.

فإن كانت المرأة من القسم الأوّل كأُخت الزوجة والخامسة فلا ينبغي الإشكال في عدم جواز النظر إليها ، فإنّها أجنبية وغير داخلة في عنوان المحارم ، فإنّ الظاهر من هذا العنوان هو إرادة من يحرم نكاحها مؤبداً. أما من ليست كذلك فلا دليل على دخولها في المحارم ، بل الدليل على خلافه ، ففي رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) : إنّها والغريبة سواء (١).

وإن كانت من القسم الثاني ، فتارة تكون الحرمة الأبدية ناشئة من العلقة الزوجية ، وأُخرى تكون ناشئة من غيرها.

فإن كانت من قبيل الأول كأُم الزوجة ، وزوجة الأب ، وزوجة الابن ، وبنت الزوجة المدخول بها فالحكم فيها واضح ، فإنّها من أوضح مصاديق المحرمات بالمصاهرة. وقد دلّت الآية الكريمة على الجواز في بعضها ، إلّا أنّه يمكننا إثبات الحكم للباقيات بعدم القول بالفصل ، فإنّهن جميعاً من المحرمات الأبدية وحرمتهنّ ناشئة من العلقة الزوجية ، فيجوز النظر إليهن جزماً. ومع غضّ النظر عن الآية الكريمة ، يمكننا إثبات الجواز بإطلاق الروايات الواردة في تغسيل المحارم (٢).

وإن كانت من قبيل الثاني كالزنا بذات البعل ، واللعان ، والطلاق تسعاً فالظاهر هو عدم جواز النظر إليها فإنّها أجنبية ، ومطلق الحرمة الأبدية لا يوجب جواز النظر.

وأوضح منها في عدم جواز النظر ما إذا كانت الحرمة تكليفية محضة كاليمين والشرط في ضمن عقد لازم فإنّ أدلّة تغسيل المحارم منصرفة عن مثل هذا التحريم جزماً ، إذ أنّ ظاهرها إرادة من حرم نكاحها بكتاب الله أما غيرها فلا ، ولا يوجد به قائل.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٠ كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٠٧ ح ١.

(٢) الوسائل ، ج ٢ كتاب الطهارة ، أبواب غسل الميت ، ب ٢٠.

٥٤

ما عدا العورة (*) (١) مع عدم تلذّذ وريبة ، وكذا نظرهنّ إليه (٢).

[٣٦٦٥] مسألة ٣٣ : المملوكة كالزوجة بالنسبة إلى السيِّد إذا لم تكن مشركة (**) (٣) أو وثنيّة (٤)

______________________________________________________

(١) وقد عرفت أنّ المراد بها ما بين السرة والركبة.

(٢) بلا خلاف في ذلك.

(٣) المذكور في جميع النسخ (المشركة) ولكن الظاهر أنّه من سهو القلم أو غلط النساخ ، إذ لا معنى لذكرها مع ذكر الوثنية بعد كون المراد بالأخيرة مطلق من يعبد غير الله على ما صرّح به جماعة فالصحيح أن يقال (المشتركة). وعلى كل حال فالحكم في المشتركة واضح ، فإنّ نكاحها يستلزم التصرف في مال الغير ، وهو غير جائز.

(٤) لم يظهر وجه الاشتراط بعدم كونها وثنية ، إذ لم يرد ولا في رواية واحدة ما يدل على ذلك.

نعم ، قد ورد في النصوص عدم جواز نكاحهنّ (١) إلّا أنّه أجنبي عن عدم جواز النظر إليهنّ ، فإنه لا ملازمة بينهما.

نعم ، قد ادعى العلّامة (قدس سره) في القواعد الإجماع على عدم جواز وطء الأَمة الكافرة إذا لم تكن كتابية ، أو ممن له شبهة الكتاب (٢). فيما ادعى المحقق الكركي (قدس سره) إجماع المسلمين على ذلك (٣).

إلّا أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكراه. فإنّ العامة غير مجمعين على الحرمة ، بل ذكر ابن قدامة في المغني أنّ المشهور هو التحريم ، استناداً إلى الملازمة بين حرمة

__________________

(*) وفي حكم العورة ما بين السرّة والرّكبة منهنّ على الأحوط.

(**) لم يظهر وجه الاشتراط بعدم كونها مشركة أو وثنيّة أو مرتدّة ، وكان اللّازم الاشتراط بعدم كونها ذات عدّة أيضاً.

(١) دعائم الإسلام ٢ : ٢٤٩ ح ٩٤٢ و ٩٤٣.

(٢) قواعد الأحكام ٢ : ١٨.

(٣) جامع المقاصد ١٢ : ٣٩١.

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

نكاحها وحرمة وطئها بالملك. ثم نسب الخلاف في ذلك إلى طاوس ، وذكر أنّه ذهب إلى الجواز متمسكاً بالسيرة في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من دون أن يثبت ردع منه (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، فإنّ المسلمين كانوا يأتون بالإماء المشركات من العرب والعجم ويعاملونهن معاملة سائر جواريهم من دون أن يستنكر ذلك أحد (١). وعلى كل فما استدل به في المغني قياس واضح وإن لم يصرّح به ، ولا نقول بحجيته.

وأما عندنا فلم يثبت لنا وجه ما ذكراه (قدس سرهما) ، فإنّ كثيراً من الأصحاب لم يتعرضوا لهذه المسألة ، بل الذي يظهر من جملة منهم هو القول بالجواز.

فقد ذكر صاحب الحدائق ثلاث روايات واردة في جواز شراء المسلم زوجة الرجل من أهل الشرك أو ابنته ويتخذها ، فقال (عليه السلام) : «لا بأس» ، وهذه الروايات هي روايتا عبد الله اللحام ورواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي ، حيث ذكر (قدس سره) أنّ المراد باتخاذها هو وطؤها (٢).

كما عنون صاحب الوسائل (قدس سره) الباب الذي ذكر فيه هذه الروايات بقوله : باب جواز شراء المشركة من المشرك وإن كان أباها أو زوجها ويحل وطؤها وكذا يحل الشراء مما يسبيه المشرك والمخالف والتسري منهما (٣). ومن الواضح أنّ ما يأخذه صاحب الوسائل (قدس سره) في عناوين الأبواب إنّما يمثل فتواه.

فهذه الفتاوى وغيرها إنّما تؤكد أنّ الأمر ليس كما ادعاه العلّامة (قدس سره) ووافقه عليه المحقق الكركي (قدس سره) ، حيث لا إجماع بين الأصحاب على عدم جواز وطء الأَمة المشركة بالملك.

ولعل هذا الإجماع من قبيل الإجماع الذي نقله صاحب الجواهر (قدس سره) عن السيد المرتضى (قدس سره) على حرمة الكافرة مطلقاً ، كتابية كانت أم غيرها ، نكاحاً كان أم ملك يمين (٤). فإنّ من الواضح أنّه لا مستند لهذه الدعوى ، كيف وقد ذهب إلى

__________________

(١) المغني الكبير ٧ : ٥٠٧.

(٢) الحدائق ٢٤ : ٣٠٦.

(٣) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٦٩.

(٤) الجواهر ٣٠ : ٣١.

٥٦

أو مزوّجة (١)

______________________________________________________

جواز التمتع بالكتابية جماعة! أما جواز وطئها بملك اليمين فقد التزم به المشهور.

نعم ، قد يستدل على حرمة وطئها بقوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (١) بدعوى أنّه مطلق يشمل النكاح والوطء بملك اليمين.

وفيه : أنّ المراد من الإمساك بالعصمة هو التزوج خاصة ، إذ لو كان المراد به ما يعم الوطء بالملك لكان لازم الآية الكريمة عدم جواز تملكها أيضاً ، فإنّ الإمساك بالعصمة لا يتحقق بالوطء خارجاً ، وإنما يتوقّف تحقّقه على إدخالها في حبالته ، سواء أكان ذلك بالزوجية أم بالاستملاك ، وهو باطل قطعاً بل على بطلانه ضرورة المسلمين.

ويشهد لما ذكرناه من اختصاصها بالتزوج ملاحظة صدرها ، فإنّها واردة في حل نكاح المؤمنات المهاجرات وحرمة إرجاعهن إلى الكفار ، باعتبار أنّهن لا يحللن لهم ولا هم يحلّون لهن ، فإنّ ملاحظتها تكشف عن أنّ المراد بالأمر في الآية الكريمة هو خصوص النكاح لا ما يعمّ ملك اليمين أيضاً ، ولا مجال للقول بأنّ المراد به هو النكاح والوطء خارجاً ، فإنّه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وهو وإن كان ممكناً إلّا أنّه خلاف الظاهر فيحتاج إلى القرينة وهي مفقودة.

وعليه فيتعيّن كون المراد بالإمساك بالعصمة خصوص النكاح دون الوطء بملك اليمين.

إذن تبقى إطلاقات الآيات الكريمة كقوله تعالى (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) والنصوص المتضافرة لا سيما التي تدل بظاهرها على الحصر كرواية مسعدة ورواية مسمع الآيتين سالمة عن المقيد ، وحيث لا دليل آخر يدل على الحرمة إطلاقاً يتعيّن القول بجوازه ، كما هو واضح.

(١) وتدلّ عليه جملة من الروايات بعضها معتبرة.

كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يزوج مملوكته عبده ، أتقوم عليه كما كانت تقوم فتراه منكشفاً أو يراها على

__________________

(١) سورة الممتحنة ٦٠ : ١٠.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

تلك الحال؟ فكره ذلك (١).

ومعتبرة الحسين بن علوان المتقدمة (٢) فإنّها صريحة في عدم الجواز.

ولا وجه للإيراد على الاولى بأنّ الكراهة لا تدل على التحريم. فإنّه مدفوع بأنّ الكراهة إنّما تستعمل في لسان الأدلّة في المبغوض مطلقاً ، ومقتضى القاعدة فيه عدم الجواز ما لم يرد ما يدل على الترخيص.

نعم ، ما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) من عدم جواز النظر حتى إلى غير العورة (٣) لا يمكن المساعدة عليه ، لعدم الدليل على حرمته.

ثم لا يخفى أنّه كان على الماتن (قدس سره) أن يذكر الأَمة التي في عدّة الغير ، فإنّ حالها حال الأَمة المزوجة خصوصاً إذا كانت العدّة رجعية فإنّها زوجة حقيقة ، فليس لمولاها أن ينظر إلى عورتها فضلاً عن أن ينكحها ، كما تدل عليه :

صحيحة مسمع كردين عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : عشر لا يحلّ نكاحهنّ ولا غشيانهنّ ... وأمتك وقد وطئت حتى تُستبرأ بحيضة» (٤).

وصحيحة مسعدة بن زياد ، قال : «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : يحرم من الإماء عشر .... ولا أمتك وهي في عدّة» (٥).

فإنّهما تدلّان بوضوح على حرمة الأَمة في العدّة ، وحرمتها إنما تعني حرمة نكاحها. وبثبوت هذا الحكم يثبت حرمة النظر إلى عورتها أيضاً ، وذلك لأننا إنما خرجنا عن عمومات حرمة النظر إلى العورة فيها ، لأجل ما دلّ على جواز وطئها وعدم وجوب حفظها للفرج بالنسبة إلى المولى ، فإذا دل الدليل على حرمة نكاحها لم يبق هناك مبرر لرفع اليد عن عمومات وجوب حفظ الفرج وحرمة النظر إليها.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ٤٤ ح ١.

(٢) راجع ص ٥٢ ه‍ ٣.

(٣) الجواهر ٣٠ : ٢٨٤.

(٤) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ١٩ ح ٢.

(٥) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب ١٩ ح ١.

٥٨

أو مكاتبة (١) أو مرتدة (٢).

[٣٦٦٦] مسألة ٣٤ : يجوز النظر إلى الزوجة المعتدّة بوطء الشبهة (٣) وإن

______________________________________________________

(١) بلا خلاف فيها ، فإنّها برزخ بين الأمة والحرة ووسط بينهما ، فلا تكون تحت سلطنة مولاها ، بل يكون حالها حال الأجنبية. وقد دلت على ذلك عدّة روايات نتعرض لذكرها عند التعرض لأحكام العبيد والإماء إن شاء الله.

(٢) والكلام فيها كالكلام في الوثنية ، فإنّه لا دليل على حرمة النظر إليها.

(٣) بلا خلاف فيه فيما إذا كان المراد النظر المجرد عن التلذّذ والشهوة ، إذ لا دليل على حرمته ، بل يشملها عمومات وإطلاقات أدلّة جواز نظر الرجل إلى زوجته.

وأمّا إذا كان المراد به جواز النظر متلذّذاً على ما صرح به (قدس سره) في مبحث العدد من ملحقات العروة بدعوى أنّه ليس فيه اختلاط للمياه ، فهو مشكل جدّاً ، فإن ظاهر الأمر الوارد في الروايات الدالة على لزوم العدّة في وطء الشبهة بمفارقتها وأن لا يقربها حتى تنقضي عدتها ، هو تحريم جميع الاستمتاعات عليه.

فقد ورد في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) : «وتعتدّ من الأخير ، ولا يقربها الأول حتى تنقضي عدّتها» (١). فإنّ ظاهر النهي عن مقاربتها هو لزوم الاجتناب وبقاؤه بعيداً عنها وتركها بتمام معنى الكلمة ، وهو يعني أنّه ليس له الاستمتاع بها بأي نحو كان. وحمل النهي عن المقاربة على النهي عن الجماع خاصة لا وجه له ، إذ كيف يصدق أنّه لم يقاربها وهو ينام معها على فراش واحد! ومما يؤيد ذلك ما في معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «تعتدّ وترجع إلى زوجها الأوّل» (٢). فإنّ العطف وإن كان بالواو إلّا أنّ الظاهر منها أنّ الرجوع إلى الأوّل إنّما يكون بعد العدّة ، فتدل على عدم جواز الاستمتاع منها قبل انقضائها.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٢ كتاب الطلاق ، أبواب العدد ، ب ٣٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ، ج ٢٢ كتاب الطلاق ، أبواب العدد ، ب ٣٧ ح ٥.

٥٩

حرم وطؤها ، وكذا الأَمة كذلك (١) وكذا إلى المطلقة الرجعية (٢) ما دامت في العدّة ولو لم يكن بقصد الرجوع.

______________________________________________________

وأما ما ذكره (قدس سره) من أنّه ليس فيه اختلاط المياه ، فهو عجيب منه ، فإنّه حكمة لا أكثر ، وإلّا فالعدة لا تنحصر بموارد احتمال اختلاط المياه.

(١) والحكم فيها كالحكم في سابقتها.

فإن أُريد بجواز النظر جواز النظر المجرد ، فهو مسلّم ولا خلاف فيه.

وإن أُريد به النظر متلذّذاً ، فالحكم بجوازه أشكل من الحكم في سابقتها ، لصحيحتي مسمع ومسعدة المتقدمتين ، فإنّ مقتضى إطلاق حرمة بعض المذكورات في الصحيحتين قبل الأمة في العدّة كأمه هي أُخت المولى من الرضاعة أو ابنة أُخته والأَمة المزوجة هو عدم جواز النظر إليها مع التلذّذ ، فإنّ من الواضح أنّ المراد بحرمة المذكورات هو حرمة مطلق الاستمتاعات لا خصوص الوطء.

(٢) وتدل عليه مضافاً إلى كونها زوجة حقيقة معتبرة وهيب بن حفص عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المطلقة : «تعتدّ في بيتها وتظهر له زينتها (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١).

فهي وغيرها من النصوص تدلّ على جواز النظر إليها ، لما عرفت من أنّ جواز إراءة الزينة ملازم لجواز النظر إليها ، ولا يتحقق بذلك الرجوع لأنّه أمر قصدي ، فلا يتحقق بمجرد النظر من دون قصد.

وهو فيما إذا كان النظر مجرداً عن التلذّذ ليس محلّاً للكلام بينهم. وأما إذا كان مقروناً به ، فالظاهر أنّه موجب لتحقّق الرجعة قهراً ، ويدلّ عليه مضافاً إلى كونه منافياً لمفهوم الطلاق ، حيث إنّ معناه قطع الصلة عن المرأة وتركها ، فينافيه النظر إليها بشهوة وتلذّذ فضلاً عن مسّها ومجامعتها النصوص الواردة في سقوط خيار المشتري إذا قبّل الجارية المشتراة أو لامسها.

ففي صحيحة علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «الشرط في

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢٢ كتاب الطلاق ، أبواب العدد ، ب ١٥ ح ١.

٦٠