موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

بنحو اشتغال ذمّته للمحتال وبراءة ذمّة المحيل بمجرد الحوالة ، بخلاف ما إذا وكله (١) فإنّ ذمّة المحيل مشغولة إلى حين الأداء. وبين أن يحوله عليه من غير نظر إلى الحقّ الذي له عليه على نحو الحوالة على البري‌ء ، فيعتبر رضاه ، لأنّ شغل ذمّته بغير رضاه على خلاف القاعدة (٢).

وقد يعلّل باختلاف الناس في الاقتضاء فلا بدّ من رضاه. ولا يخفى ضعفه كيف وإلّا لزم عدم جواز بيع دينه على غيره مع أنه لا إشكال فيه (٣).

الرابع : أن يكون المال المحال به ثابتاً في ذمّة المحيل ، سواء كان مستقراً أو متزلزلاً (٤). فلا تصحّ في غير الثابت ، سواء وجد سببه كمال الجعالة قبل العمل

______________________________________________________

سهو قلمه الشريف ، إذ المحال عليه بعد تمامية الحوالة إنما يفي الدَّين عن نفسه ، لاشتغال ذمّته به للمحتال بعد براءة ذمّة المحيل بالحوالة. وهو لا ينسجم مع كونه وكيلاً فيه فإنّ الوكيل إنما يؤدّي عن غيره ، في حين إنّ المحال عليه إنما يفي عن نفسه ، كما هو واضح.

على أنه لو كان وكيلاً للزم اعتبار رضاه مطلقاً حتى بناءً على مختاره (قدس سره) من كون الوكالة من الإيقاعات ، وهذا يتنافى مع تصريحه (قدس سره) بعدم اعتبار رضاه في هذه الصورة.

(١) إذا كان المراد من هذه الصورة الأُولى التوكيل في الأداء ، فلا ينبغي الإشكال في عدم فراغ ذمّة المحال عليه من الدَّين ، إلّا أنه خارج عن محل الكلام ، فإنّ الحوالة باب والوكالة باب آخر ، ولا يجوز الخلط بينهما.

(٢) لكنّك قد عرفت الإشكال فيه ، وأنّ الانطباق حينئذ قهري.

(٣) مضافاً إلى ما ذكرناه من لزوم تخصيص الاعتبار بفرض صعوبة المحتال في الاقتضاء.

(٤) لتوقف صدق الحوالة ونقل الدَّين من ذمّة إلى أُخرى عليه ، إذ المعدوم لا يقبل الانتقال إلى وعاء آخر.

٥٠١

ومال السبق والرماية قبل حصول السبق ، أو لم يوجد سببه أيضاً كالحوالة بما يستقرضه.

هذا هو المشهور ، ولكن لا يبعد (*) كفاية حصول السبب كما ذكرنا في الضمان (١).

______________________________________________________

(١) وقد تقدّم الإشكال عليه هناك مفصلاً ، حيث قد عرفت أنّ بطلان ضمان ما لم يجب من القضايا التي قياساتها معها. إذ الضمان الفعلي ، بمعنى اشتغال ذمّة الضامن قبل اشتغال ذمّة المضمون عنه ، أمر غير معقول ، فإن المعدوم لا يعقل انتقاله إلى ذمّة الغير وانقلابه موجوداً ، فما لا ثبوت له في ذمّة المضمون عنه لا يمكن نقله إلى ذمّة الضامن ليثبت فيها بالفعل.

والضمان على نحو الواجب المشروط ، بمعنى إنشاء انتقال المال من ذمّته إلى ذمّة الضامن في ظرفه وبعد ثبوته ، وإن كان أمراً معقولاً في حدّ ذاته إلّا أنه باطل ، لعدم تعارفه بين العقلاء. مضافاً إلى عدم شمول أدلّة الصحّة له ، نظراً لظهورها في ترتب الأثر على العقد بالفعل ومن حين الإنشاء ، فلا تشمل العقود المقتضية لترتب الأثر عليها بعد مرور فترة من وقوعها ، إلّا ما خرج بالدليل كالوصية.

وهذا الذي تقدّم في الضمان يجري بعينه وحرفياً في الحوالة أيضاً. فإنّ الحوالة الفعلية ، بمعنى انتقال الدَّين بالفعل من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، أمر غير معقول لاستحالة انتقال المعدوم. والحوالة على نحو الواجب المشروط وإن كان أمراً معقولاً إلّا أنها محكومة بالبطلان ، لعدم شمول أدلّة الصحّة لها.

إذن فما ذكره (قدس سره) من كفاية حصول السبب للدَّين في صحّة الحوالة قبل ثبوته في الذمّة ، بعيد غايته ولا يمكن المساعدة عليه بوجه.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور من اعتبار ثبوته بالفعل في صحّتها ، من غير فرق بين كونه مستقرّاً أو متزلزلاً.

__________________

(*) فيه إشكال بل منع ، وكذا فيما بعده.

٥٠٢

بل لا يبعد الصحّة (١) فيما إذا قال : (أقرضني كذا وخذ عوضه من زيد) فرضي ورضي زيد أيضاً ، لصدق الحوالة ، وشمول العمومات ، فتفرغ ذمّة المحيل وتشتغل ذمّة المحال بعد العمل وبعد الإقراض.

الخامس : أن يكون المال المحال به معلوماً جنساً وقدراً للمحيل والمحتال ، فلا تصحّ الحوالة بالمجهول على المشهور ، للغرر.

ويمكن أن يقال بصحّته إذا كان آئلاً إلى العلم (٢) كما إذا كان ثابتاً في دفتره ، على حدّ ما مرّ في الضمان من صحّته مع الجهل بالدَّين. بل لا يبعد الجواز مع عدم أوّله إلى العلم بعد إمكان الأخذ بالقدر المتيقّن (٣). بل وكذا لو قال : (كل ما شهدت به البينة وثبت خذه من فلان) (٤).

نعم ، لو كان مبهماً كما إذا قال : (أحد الدَّينين اللّذَين لك عليَّ خذه من فلان) بطل (٥). وكذا لو قال : (خذ شيئاً من دَينك من فلان). هذا ولو أحال الدّينين على

______________________________________________________

(١) بل هي بعيدة غاية البعد ، لما عرفته في سابقه. فإنه من أظهر مصاديق ضمان ما لم يجب ، المحكوم بعدم المعقولية على تقدير ، والبطلان على تقدير آخر.

(٢) إذ لا دليل على اعتبار نفي الغرر مطلقاً وفي جميع الموارد ، فإنّ الثابت اعتباره في خصوص البيع ، وقد ألحق به الأصحاب الإجارة وما شاكلها من العقود.

على أنه لا غرر في المقام. فإنّ الحوالة ليست إلّا تبديلاً لمكان الدَّين ونقله من ذمّة المحيل على واقعة إلى ذمّة المحال عليه ، وهو لا يستلزم خطراً على أحد طرفي العقد فإنّ المحتال سيأخذ ما كان له بحسب الواقع على المحيل ، وينقص ذلك من دين المحيل على المحال عليه.

(٣) لما تقدّم.

(٤) لما تقدّم أيضاً.

(٥) إذ المردد والمبهم مما لا واقع له حتى في علم الله تبارك وتعالى ، وما هو كذلك لا يقبل النقل من ذمّته إلى ذمّة غيره ، إذ الثابت في الذمّة أمر معيّن غير مردّد.

٥٠٣

نحو الواجب التخييري أمكن الحكم بصحّته (١) لعدم الإبهام (*) فيه حينئذٍ.

السادس : تساوي المالين أي المحال به والمحال عليه جنساً ونوعاً ووصفاً على ما ذكره جماعة ، خلافاً لآخرين.

وهذا العنوان وإن كان عامّاً إلّا أنّ مرادهم بقرينة التعليل بقولهم : تفصّياً من التسلّط على المحال عليه بما لم تشتغل ذمّته به ، إذ لا يجب عليه أن يدفع إلّا مثل ما عليه فيما كانت الحوالة على مشغول الذمّة بغير ما هو مشغول الذمّة به ، كأن يحيل من له عليه دراهم على من له عليه دنانير ، بأن يدفع بدل الدنانير دراهم.

______________________________________________________

(١) فيما إذا تساوى الدينان كماً وكيفاً. كما لو كان المحيل مديناً لزيد بعشرة دنانير عن ثمن مبيع اشتراه منه ، وبعشرة اخرى عن دين استقرضه منه ، فأحاله على عمرو بعشرة دنانير خاصّة ، فإنها محكومة بالصحّة جزماً ، حيث لا خصوصية في الدَّين من حيث سببه وأنه بسبب القرض أو الشراء ، فتكون الحوالة متعلقة بالجامع قهراً.

وبعبارة اخرى : إنّ الحوالة في هذا الفرض متعلقة بالمعين دون المردد ، فإنها إحالة للمحتال على المحال عليه بنصف ماله عليه المحيل.

وأمّا إذا اختلف الدَّينان ، فالفرض عين فرض الدَّين مبهماً ومجهولاً وليس هو شيئاً آخر في قباله ، فإنه مبهم ومردد ولا واقع له حتى في علم الله عزّ وجلّ ، ومعه فلا وجه للحكم بصحّتها.

والحاصل أنّ استثناء الحوالة على نحو الواجب التخييري مع الحكم ببطلان الحوالة بالدَّين المبهم ، في غير محله ولا يمكن المساعدة عليه. فإنها مع تساوي الدَّينين خارجة تخصصاً لكونها حوالة بالمعين وإن جهل سببه ، ومع عدم التساوي عين الحوالة بالمجهول بحسب الواقع.

__________________

(*) هذا إنما يتمّ فيما إذا تساوى الدَّينان كمّاً وكيفاً ، وإلّا فهو عين الفرض الذي حكم فيه بالبطلان.

٥٠٤

فلا يشمل ما إذا أحال من له عليه الدراهم على البري‌ء بأن يدفع الدنانير (١) أو على مشغول الذمّة بالدنانير بأن يدفع الدراهم (٢). ولعلّه لأنه وفاء بغير الجنس برضا الدّائن. فمحلّ الخلاف ما إذا أحال على من عليه جنس بغير ذلك الجنس.

والوجه في عدم الصحّة ما أُشير إليه من أنه لا يجب عليه أن يدفع إلّا مثل ما عليه ، وأيضاً الحكم على خلاف القاعدة. ولا إطلاق في خصوص الباب ، ولا سيرة كاشفة ، والعمومات منصرفة إلى العقود المتعارفة.

ووجه الصحّة أنّ غاية ما يكون أنه مثل الوفاء بغير الجنس ، ولا بأس به (*) وهذا هو الأقوى (٣).

ثمّ لا يخفى أنّ الإشكال إنما هو فيما إذا قال : (أعط مما لي عليك من الدنانير دراهم) بأن أحال عليه بالدراهم من الدنانير التي عليه. وأمّا إذا أحال عليه

______________________________________________________

(١) فإنها محكومة بالصحّة قطعاً بعد رضا كلّ من المحتال والمحال عليه بها ، فإنها ترجع إلى مبادلة بين الدّائن المحتال والمدين المحيل أوّلاً بتبديل ما في ذمّته للمحال بالجنس الجديد ، ثمّ إحالته به على المحال عليه البري‌ء ، فيحكم بصحّتها لعدم شمول دليل المنع لها ، إذ لا منافاة فيها لسلطنة المحتال أو المحال عليه بالمرّة ، كما هو واضح.

(٢) فترجع إلى المعاوضة بين المحيل والمحال عليه ، بتبديل ما للأوّل على الثاني بالجنس الجديد الذي للمحتال على المحيل أوّلاً ، ثمّ إحالة المحتال بذلك عليه ، فتكون الحوالة بالجنس الذي له عليه لا محالة.

(٣) فيما إذا رضي المحال عليه بها ، إذ أنها ترجع حينئذ إلى معاملة معاوضية بين المحيل والمحال عليه ، بتبديل ماله عليه بالجنس الجديد ثمّ إحالة المحتال عليه. وهي محكومة بالصحّة جزماً ، إلّا أنها ليست من الوفاء بغير الجنس كما ذكره (قدس سره). فإنّه وبعد ثبوت الجنس الجديد بالمعاملة الجديدة في ذمّة المحال عليه بدلاً عن الذي

__________________

(*) غاية الأمر أنه يعتبر حينئذ رضا المحال عليه.

٥٠٥

بالدراهم من غير نظر إلى ما عليه من الدنانير ، فلا ينبغي الإشكال فيه ، إذ هو نظير إحالة من له الدراهم على البري‌ء بأن يدفع الدنانير. وحينئذٍ فتفرغ ذمّة المحيل من الدراهم ، وتشتغل ذمّة المحال عليه بها ، وتبقى ذمّة المحال عليه مشغولة بالدنانير ، وتشتغل ذمّة المحيل له بالدراهم ، فيتحاسبان بعد ذلك.

ولعلّ الخلاف أيضاً مختصّ بالصورة الاولى ، لا ما يشمل هذه الصورة أيضاً (١). وعلى هذا فيختصّ الخلاف بصورة واحدة ، وهي ما إذا كانت الحوالة على مشغول الذمّة بأن يدفع من طرف ما عليه من الحقّ بغير جنسه ، كأن يدفع من الدنانير التي عليه دراهم.

[٣٦١٦] مسألة ١ : لا فرق في المال المحال به بين أن يكون عيناً في الذمّة ، أو منفعة ، أو عملاً لا يعتبر فيه المباشرة (٢) ولو مثل الصلاة والصوم والحج والزيارة والقراءة (٣)

______________________________________________________

كان ثابتاً عليه ، تكون الحوالة به حوالة بالجنس لا محالة.

وأمّا لو لم يرض المحال عليه بها ، فلا مقتضى للحكم بصحّتها ، إذ لا موجب لالتزام المدين بغير ما هو مشغول الذمّة به.

إذن فالصحيح هو التفصيل ، بين رضا المحال عليه بها فتصحّ ، وعدمه فيحكم ببطلانها.

(١) فإنها معاملة مستقلة عن الدَّين الثابت في ذمّة المحال عليه ، فتكون من قبيل الحوالة على البري‌ء تصحّ مع رضا المحال عليه بها.

(٢) للقواعد العامّة المقتضية للصحّة ، مضافاً إلى إطلاق جملة من نصوص الباب حيث لم يرد في شي‌ء منها تقييد المحال به بكونه عيناً في الذمّة. فإنّ الأجير لما كان مديناً بالعمل أو المنفعة للمستأجر ، كان له نقله إلى ذمّة الغير بالحوالة وجعل ذمّة الغير هي مشغولة به.

(٣) فإنّ جميع ذلك وإن لم يكن مذكوراً في النصوص ، إلّا أنه يكفينا في الحكم

٥٠٦

سواء أكانت على البري‌ء أو على مشغول الذمّة بمثلها (١). وأيضاً لا فرق بين أن يكون مثلياً كالطعام ، أو قيمياً كالعبد والثوب (٢). والقول بعدم الصحّة في القيمي للجهالة ، ضعيف ، والجهالة مرتفعة بالوصف الرافع لها (٣).

[٣٦١٧] مسألة ٢ : إذا تحققت الحوالة برئت ذمّة المحيل (٤) وإن لم يبرئه المحتال (٥).

______________________________________________________

بصحّتها كونها على القاعدة فتشملها العمومات.

(١) غاية الأمر اعتبار رضا المحال عليه في الأوّل ، كما عرفت.

(٢) لما تقدّم من العمومات ، واقتضاء بعض الأدلّة الخاصّة له.

(٣) إذ لا ملازمة بين الجهالة في القيميات وبين الإبهام الموجب للبطلان ، فإنه يمكن رفع الإبهام بتعيين المحال به القيمي بالأوصاف. ولو لا ذلك لما أمكن تصحيح بيعه أيضاً ، فإنّ ما لا تعيّن له في الواقع لا يقبل جعله عوضاً أو معوضاً ونقله إلى الغير ، وإنّما صحّ ذلك لارتفاع الإبهام بذكر المواصفات المميزة له عن غيره.

ومن هنا فإذا صحّ بيعه واشتغلت ذمّة البائع به ، صحّ نقله إلى ذمّة الغير بالحوالة لنفس الملاك ، فيكون المحال عليه كأنه هو البائع في اشتغال ذمّته به للمحتال.

نعم ، لو كانت الجهالة موجبة للإبهام المطلق ، بحيث لا يكون للمحال به تعيين حتى في الواقع وعلم الله تبارك وتعالى ، تعيّن الحكم ببطلانها لا محالة ، لعدم شمول أدلّة الإمضاء له ، وعدم معقولية الحكم باشتغال الذمّة بما لا تعيّن له في الواقع.

(٤) لأنّ مقتضاها نقل الدَّين عن ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، كما عرفت في معنى الحوالة ، وهو يعني فراغ ذمّة المحيل منه واشتغال ذمّة المحال عليه به. ومعه فإثبات اشتغال الذمّة للمحيل ثانياً بعد فراغها من الدَّين يحتاج إلى الدليل ، لعدم السلطنة للمحتال عليه ، وهو مفقود.

(٥) إذ لا حاجة إليه بعد تحقق البراءة من دونه ، فاعتباره لا يرجع إلّا إلى تحصيل الحاصل.

٥٠٧

والقول بالتوقّف على إبرائه ، ضعيف (١). والخبر (٢) الدالّ على تقييد عدم الرجوع على المحيل بالإبراء من المحتال ، المراد منه القبول ، لا اعتبارها بعده أيضاً. وتشتغل ذمّة المحال عليه للمحتال فينتقل الدَّين إلى ذمّته ، وتبرأ ذمّة المحال عليه للمحيل إن كانت الحوالة بالمثل بقدر المال المحال به ، وتشتغل ذمّة المحيل للمحال عليه إن كانت على بري‌ء أو كانت بغير المثل ، ويتحاسبان بعد ذلك.

______________________________________________________

(١) لما تقدّم.

(٢) وهي معتبرة زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) في الرجل يحيل الرجل بمال كان له على رجل آخر فيقول له الذي احتال : برئت مما لي عليك ، فقال : «إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله» (١).

وهي معتبرة سنداً وواضحة دلالة ، إلّا أنها معارضة بما دلّ على عدم الاعتبار.

ففي صحيحة أبي أيوب أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحيل الرجل بالمال ، أيرجع عليه؟ قال : «لا يرجع عليه أبداً إلّا أن يكون قد أفلس قبل ذلك» (٢).

ونحوها صحيحة منصور بن حازم (٣).

وفي رواية عقبة بن جعفر عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال : سألته عن الرجل يحيل الرجل بالمال على الصيرفي ثمّ يتغير حال الصيرفي ، أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضي؟ قال : «لا» (٤).

والعمدة في المعارضة هي الصحيحتان الأُوليان وإلّا فالرواية الأخيرة لا تعدو كونها مؤيدة لضعف سندها حيث دلّتا على انحصار حق الرجوع على المحيل بفرض الإفلاس كما يظهر ذلك من قوله (عليه السلام) : «أبداً» فتتعارضان مع معتبرة زرارة

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ١١ ح ٢.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ١١ ح ١.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ١١ ح ٣.

(٤) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ١١ ح ٤.

٥٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الدالّة صريحاً على جواز الرجوع قبل الإبراء. وعندئذٍ يكون التقدّم معهما ، لرجحانهما عليهما بموافقتهما للكتاب العزيز ، حيث إنّ مقتضى عمومات الوفاء بالعقود الحكم باللّزوم وعدم جواز رجوع المحتال على المحيل ثانياً.

على أننا لو غضضنا عن صحيحتي أبي أيوب ومنصور بن حازم ، لم يكن مجال للعمل بمعتبرة زرارة في حدّ نفسها والقول باعتبار الإبراء في تحقق براءة ذمّة المحيل فإنّ هذه المعتبرة متضمنة لما لا يمكن الالتزام به ، ولا بدّ من ردّ علمها إلى أهله.

وذلك فلأن الحوالة : إمّا أن تكون في نفسها وقبل الإبراء من المحتال صحيحة وموجبة لنقل ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، وإمّا أن تكون فاسدة غير مؤثرة في النقل والانتقال.

فعلى الأوّل ، فاعتبار الإبراء من تحصيل الحاصل ، لتحقق البراءة بحسب الفرض قبله ، فإنّ الدَّين إذا انتقل عن ذمّة المحيل برئت ذمّته لا محالة وإلّا لما كان الدَّين منتقلاً.

وعلى الثاني ، فالإبراء وإن كان موجباً لبراءة ذمّة المحيل حينئذ كما هو واضح لعدم تحققها قبله ، إلّا أن معه لا وجه لرجوع المحتال على المحال عليه ، نظراً لعدم انتقال المال إلى ذمّته وعدم اشتغالها به له.

فالجمع بين الحكمين جواز رجوع المحتال عليه بموجب الحوالة واعتبار إبرائه في براءة ذمّة المحيل جمع بين المتنافيين ولا يمكن المساعدة عليه.

وبعبارة اخرى : إنّ الإبراء الذي هو بمعنى إسقاط المحتال للدَّين الثابت في ذمّة المحيل إمّا أن يكون بعوض وبإزاء اشتغال ذمّة المحال عليه به ، وإما أن يكون مجاناً.

فعلى الأوّل ، فهو عين القبول وليس شيئاً في قباله ، فإنّ قبول المحتال للحوالة إنما يعني موافقته على ما أنشأه المحيل من براءة ذمّته واشتغال ذمّة المحال عليه. ومما يساعد على إرادة هذا المعنى من الإبراء ، أنه لم تذكر في الرواية قبولاً للمحتال بغير هذا العنوان الإبراء.

وعلى الثاني ، فإن كانت الحوالة هذه محكومة بالصحّة وانتقال ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، فلا موضوع للإبراء المجاني ، لعدم اشتغال ذمّة المحيل حينئذٍ بشي‌ء.

٥٠٩

[٣٦١٨] مسألة ٣ : لا يجب على المحتال قبول الحوالة وإن كانت على مليّ (١).

[٣٦١٩] مسألة ٤ : الحوالة لازمة (٢) فلا يجوز فسخها بالنسبة إلى كلّ من الثلاثة. نعم ، لو كانت على معسر مع جهل المحتال بإعساره ، يجوز له الفسخ والرجوع على المحيل (٣). والمراد من الإعسار أن لا يكون له ما يوفي دينه زائداً

______________________________________________________

وإن لم تكن كذلك فالإبراء وإن كان صحيحاً وفي محله ، إلّا أنه لا وجه لرجوع المحتال على المحال عليه لأخذ المال منه ، إذ المفروض عدم انتقال المال إلى ذمّته وعدم اشتغالها بشي‌ء له.

ومن هنا فإمّا أن يقال بسقوط المعتبرة ، أو تحمل على بعض المحامل وإن كان بعيداً.

ثمّ إنّ العبرة في رجوع المحتال على المحيل إنما هو بإفلاس المحال عليه حين الحوالة وهذا وإن لم يذكر في صحيحتي أبي أيوب ومنصور بن حازم بل إنّ ظاهرهما قد يوهم كون العبرة بإفلاس المحيل نفسه ، إلّا أنه لا محيص عن الحمل عليه لقيام القرينة على كون المراد ما ذكرناه وفهمه الأصحاب ، إذ لا دخل لإفلاس المحيل حين الحوالة في جواز الرجوع عليه بل الأمر على العكس تماماً ، فإنّ القول بعدم جواز الرجوع عليه حينئذٍ أولى منه فيه إذا كان غنياً.

(١) بلا خلاف فيه. والوجه فيه واضح ، إذ الحوالة معاملة معاوضية تقتضي تبديل مال المحتال الثابت في ذمّة المحيل بمال غيره في ذمّة المحال عليه ، فإنّ المحتال إنما يرفع اليد عن ماله الأوّل بإزاء اشتغال ذمّة المحال عليه بمثله.

ومن هنا فلا يلزم بقبولها ، فإنه غير مجبور على إجراء المعاملة على ماله كما هو الحال في سائر المعاوضات.

(٢) على ما تقتضيه أصالة اللزوم وعمومات صحّة العقد ذاته ، مضافاً إلى بعض النصوص المتقدّمة ، حيث حكم (عليه السلام) بعدم جواز رجوع المحتال على المحيل بعد تمامية الحوالة.

(٣) على ما دلّت عليه صحيحتا أبي أيوب ومنصور بن حازم المتقدمتان ، حيث

٥١٠

على مستثنيات الدَّين ، وهو المراد من الفقر في كلام بعضهم ، ولا يعتبر فيه كونه محجوراً (١). والمناط الإعسار واليسار حال الحوالة وتماميّتها (٢). ولا يعتبر الفور في جواز الفسخ (٣). ومع إمكان الاقتراض والبناء عليه يسقط الخيار

______________________________________________________

قيّد (عليه السلام) الحكم بعدم جواز رجوع المحتال على المحيل ثانياً بعدم ظهور الإفلاس قبل ذلك.

(١) لإطلاقات الأدلّة ، حيث إنّ مقتضاها كون العبرة في الحكم بنفس الإفلاس مع قطع النظر عن الحجر عليه لذلك وعدمه.

(٢) لإطلاقات وعمومات أدلّة اللّزوم ، بل وتقييده (عليه السلام) للإفلاس في المعتبرتين السابقتين بقبل الحوالة ، فإننا وإن لم نرتض ثبوت المفهوم للوصف إلّا أننا ذكرنا في محلِّه أنّ أخذ الوصف في الحكم يدلّ على عدم ثبوته للطبيعي ، وإلّا لكان ذكره لغواً محضاً.

وتؤيده رواية عقبة بن جعفر المتقدمة الصريحة في عدم جواز الرجوع في فرض تغير الحال بعد الحوالة.

إلّا أنها ضعيفة السند بعقبة بن جعفر ، لكونه مجهول الحال ، ولم ترد له في مجموع الكتب الأربعة ولا رواية واحدة غير هذه.

(٣) خلافاً لما ذهب إليه بعض ، بدعوى الاقتصار على القدر المتيقن في رفع اليد عن إطلاقات وعمومات لزوم الوفاء بالعقود من الكتاب والسنة.

فإنّ هذا لو تمّ ولنا فيه كلام طويل ذكرناه في مباحث الخيارات فهو إنما يتمّ فيما لو لم يكن لدليل الخيار إطلاق ، وإلّا تقدّم إطلاق دليل الخيار على عمومات اللّزوم وإطلاقاته قطعاً.

وحيث إنّ المقام من قبيل الثاني ، فإنّ دليل الخيار فيه ، أعني قوله (عليه السلام) : «إلّا أن يكون قد أفلس قبل ذلك» مطلق وغير مقيد بزمان معين ، فلا وجه للرجوع إلى أدلّة اللزوم والقول بفورية الخيار.

٥١١

للانصراف ، على إشكال (*) (١). وكذا مع وجود المتبرِّع.

[٣٦٢٠] مسألة ٥ : الأقوى جواز الحوالة على البري‌ء (٢) ولا يكون داخلاً في الضمان (٣).

______________________________________________________

(١) قوي جدّاً. ووجهه ظاهر ، فإنّ الانصراف إنما يوجب رفع اليد عن الحكم في غير المنصرف إليه ، فيما إذا كان الكلام مجملاً أوْ له ظهور عرفي في المنصرف إليه ، وإلّا بأن كان الكلام مطلقاً وغير ظاهر في المنصرف إليه فالتمسّك بالانصراف لا يعدو الاستحسان العقلي المحض.

وحيث إنّ الإطلاق في المقام ثابت ، فإنّ مقتضى قوله (عليه السلام) : إلّا إذا كان قد أفلس قبل ذلك ، كون إفلاس المحال عليه حين الحوالة موجباً لتخير المحتال سواء تمكّن بعد ذلك أم لا ، فالتمسّك بالانصراف للحكم بعد ثبوت الخيار عند التمكّن من الأداء بوجه بعد الإفلاس حين العقد ، من التمسّك بالاستحسان لا الانصراف.

(٢) وتقتضيه مضافاً إلى كونها من المعاملات المتعارفة بين العقلاء خارجاً ولا سيما بين الأقرباء ، حيث يحيل الابن دائنه على أبيه أو أخيه ، ولم يرد ردع عنها من الشارع المقدّس إطلاقات وعمومات أدلّة الصحّة ، فإنها عقد من العقود يقتضي تبديل ما في ذمّة المحيل بما في ذمّة المحال عليه.

بل ويمكن دعوى شمول النصوص الواردة في الباب لها أيضاً ، حيث لم يرد في جملة منها ذكر كون المحال عليه مديناً للمحيل.

نعم ، يعتبر في صحّتها رضا المحال عليه جزماً ، لعدم سلطنة المحيل على إشغال ذمّته ، كما تقدّم.

(٣) وإن توهمه المحقق (قدس سره) في الشرائع (١). وذلك لافتراقهما في طرفي العقد

__________________

(*) أظهره عدم السقوط.

(١) الشرائع ٢ : ١٢٩.

٥١٢

[٣٦٢١] مسألة ٦ : يجوز اشتراط خيار الفسخ لكلّ من الثلاثة (١).

[٣٦٢٢] مسألة ٧ : يجوز الدور في الحوالة (٢). وكذا يجوز الترامي (٣) بتعدّد المحال عليه واتحاد المحتال (٤) أو بتعدّد المحتال واتحاد المحال عليه (٥).

______________________________________________________

فإنّ الضمان عقد بين الدّائن والأجنبي المضمون له والمضمون عنه في حين أنّ الحوالة عقد بين الدّائن والمدين المحيل والمحتال وليس المحال عليه طرفاً فيه وإن اعتبر رضاه في بعض الصّور.

وتظهر الثمرة في جملة من الموارد ، منها ما لو كان المحيل فاقداً لأهلية العقد كما لو كان صغيراً أو مجنوناً ، فإنها تبطل على مختارنا حيث تعتبر في المحيل أهليته للعقد ، في حين تصحّ على مختار المحقق (قدس سره) حيث لا تعتبر في المضمون عنه أهليته له.

(١) بلا خلاف فيه. فإنّ عقد الحوالة وإن كان لازماً على ما تقتضيه أصالة اللزوم في العقود إلّا ما خرج بالدليل ، إلّا أنّ اللزوم فيه حقّي لا حكمي كما هو الحال في النكاح ، حيث ثبت عدم ارتفاعه إلّا بالطلاق أو الموت أو الفسخ بأحد موجباته الخاصّة.

ومن هنا فلما كان للمتعاقدين رفع اليد عنها بعد ثبوتها كان لهما اشتراط ذلك في ضمن العقد ، وإذا جاز ذلك جاز جعله لغيرهما أيضاً ، فإنّ الحقّ لا يعدوهما ولهما التصرف على ضوء ما يتفقان عليه.

(٢) لإطلاقات أدلّتها ، فإنها غير قاصرة الشمول لحوالة المحال عليه المال ثانياً على المحيل ، ولا خصوصية فيها للحوالة الأُولى أو غيرها.

(٣) بلا إشكال فيه ، لما تقدّم.

(٤) بأن يحيل المحال عليه الأوّل المحتال على غيره ، ويحيله ذلك الغير على غيره أيضاً وهكذا ، حيث يبقى المحتال هو المحتال الأوّل ، ويكون التعدد في المحال عليه خاصّة.

(٥) بأن يحيل المحتال غيره على المحال عليه ، ويحيل ذلك الغير المحتال الثاني غيره عليه وهكذا ، فيكون التعدّد في المحتال دون المحال عليه.

٥١٣

[٣٦٢٣] مسألة ٨ : لو تبرّع أجنبي عن المحال عليه برئت ذمّته (١). وكذا لو ضمن عنه ضامن (٢) برضا المحتال (٣). وكذا لو تبرّع المحيل عنه (٤).

[٣٦٢٤] مسألة ٩ : لو أحال عليه فقبل وأدّى ثمّ طالب المحيل بما أدّاه ، فادعى أنه كان له عليه مال وأنكر المحال عليه ، فالقول قوله مع عدم البيِّنة (٥) فيحلف على براءته ويطالب عوض ما أدّاه ، لأصالة البراءة (٦) من شغل ذمّته للمحيل.

ودعوى أنّ الأصل أيضاً عدم اشتغال ذمّة المحيل بهذا الأداء.

مدفوعة بأنّ الشكّ في حصول اشتغال ذمّته وعدمه ، مسبب عن الشكّ في اشتغال ذمّة المحال عليه وعدمه (٧)

______________________________________________________

(١) لما ثبت بالضرورة القطعية من جواز أداء دين الغير من غير توقف على رضاه.

(٢) لعموم أدلّة الضمان له.

(٣) لما تقدّم في كتاب الضمان من اعتبار رضا المضمون له.

(٤) لما تقدّم من جواز أداء دين الغير ، فإنه لا خصوصية لكون المؤدّي هو المحيل أو غيره.

(٥) على ما تقتضيه قواعد القضاء.

(٦) بل لاستصحاب عدم شغل ذمّته ، فإنه أصل موضوعي حاكم على أصالة البراءة قطعاً. فإنّ المحال عليه لم يكن في زمان مشغول الذمّة للمحيل جزماً ، فإذا شككنا في اشتغال ذمّته له بعد ذلك ، كان مقتضى الاستصحاب الحكم بعدم اشتغالها ، وبه يتحقق موضوع الضمان ، أعني أداءه لما لم يكن بثابت في ذمّته بأمر من المحيل.

(٧) إذ لو كان المحال عليه مشغول الذمّة للمحيل لكانت ذمّة المحيل بريئة قطعاً لحصول التهاتر بين ما في الذمّتين قهراً. وهذا بخلاف ما لو كانت ذمّته بريئة له ، فإنّ أداء الحوالة من قبل المحال عليه موجب لاشتغال ذمّة المحيل بمثله له.

٥١٤

وبعد جريان أصالة براءة ذمّته (*) (١) يرتفع الشكّ.

هذا على المختار من صحّة الحوالة على البري‌ء. وأمّا على القول بعدم صحّتها فيقدم قول المحيل ، لأنّ مرجع الخلاف إلى صحّة الحوالة وعدمها ، ومع اعتراف المحال عليه بالحوالة يقدّم قول مدّعي الصحّة وهو المحيل.

ودعوى أنّ تقديم قول مدعي الصحّة إنما هو إذا كان النزاع بين المتعاقدين وهما في الحوالة المحيل والمحتال ، وأمّا المحال عليه فليس طرفاً وإن اعتبر رضاه في صحّتها.

مدفوعة أوّلاً : بمنع عدم كونه طرفاً ، فإنّ الحوالة مركّبة من إيجاب وقبولين (**) (١).

وثانياً : يكفي اعتبار رضاه في الصحّة (٢) في جعل اعترافه بتحقّق المعاملة حجّة عليه بالحمل على الصحّة.

نعم ، لو لم يعترف بالحوالة ، بل ادّعى أنه أذن له في أداء دَينه ، يقدّم قوله لأصالة البراءة من شغل ذمّته (٣) فبإذنه في أداء دينه له مطالبة عوضه ، ولم

______________________________________________________

(١) بل الاستصحاب عدم شغل ذمّته ، فيثبت موضوع الضمان ، أعني أداءه لما لم يكن بثابت في ذمّته بأمر من المحيل.

(١) وفيه : إنه منافٍ لما ذكره (قدس سره) في الشرط الأوّل صريحاً من كون الحوالة إيقاعاً لا عقداً.

(٢) وهو منافٍ أيضاً لما تقدّم في الشرط الثالث من عدم اعتبار رضا المحال عليه في صحّة الحوالة ، باعتبار كونه أجنبياً عن المال بالمرّة ، وإنما أمره بيد مالكه المحيل فله نقله كيفما شاء بالحوالة أو البيع أو غيرهما من الأسباب.

(٣) أقول : لا يخفى أنه بناءً على جريان أصالة الصحّة في أمثال المقام ، فكما أنه

__________________

(*) الصحيح التمسك في المقام باستصحاب عدم اشتغال ذمّته ، فإنه يحرز الموضوع دون أصالة البراءة.

(**) مرّ أنّها ليست كذلك.

٥١٥

يتحقّق هنا حوالة بالنسبة إليه حتى تحمل على الصحّة ، وإن تحقّق بالنسبة إلى المحيل والمحتال لاعترافهما بها.

______________________________________________________

لا فرق بين كون دعوى الفساد من أحد المتعاقدين أو الأجنبي ، فإنه يحمل العقد على الصحيح ويترتب عليه أثره حتى مع عدم وجود الدعوى خارجاً بالمرّة كما لو شكّ الأجنبي في صحّته رأساً ، لا فرق بين اعتراف المحال عليه بالحوالة وعدمه ، إذ العبرة في جريانها إنما هي بثبوت العقد لا اعتراف الخصم به.

وعليه فلو ثبتت الحوالة في مورد النزاع بالوجدان أو البينة الشرعية ، جرت أصالة الصحّة بناءً على تسليم جريانها في أمثال المقام ، سواء اعترف المحال عليه بالحوالة أم لم يعترف.

إلّا أنّ الذي يهوّن الخطب أنّ أصالة الصحّة غير جارية في أمثال المقام أصلاً. وذلك لما ذكرناه في مبحث أصالة الصحّة من المباحث الأُصولية ، أنها لما لم تكن ثابتة بدليل لفظي وإنما الدليل عليها هي السيرة العقلائية القطعية المتصلة بزمان المعصوم (عليه السلام) من غير ردع ، حيث جرت عادتهم على الحكم بصحّة العقد المشكوك صحّته نظير قاعدة الفراغ الجارية في عمل الشخص نفسه ، فإنهما متحدتان من حيث المدلول تماماً وإنما الفارق بينهما اختصاص الاولى بعمل الغير والثانية بعمل الشخص نفسه ، كان اللازم الاقتصار فيها على القدر المتيقن ، وهو خصوص فرض الشكّ في صحّة العمل المستكمل لجميع الأركان والمقومات ، من جهة الشكّ في توفّر بعض الشروط أو مزاحمة بعض الموانع الشرعية.

فإنّ هذا الفرض هو المورد المتيقن من بناء العقلاء على الصحّة فيه ، وإلّا فلو كان الشكّ في صحّة العمل ناشئاً من الشكّ في تحقق أركان العقد ومقوّماته ، فلم يثبت من العقلاء بناء على التمسّك بهذا الأصل فيه ، كما لو باع زيد دار عمرو بادعاء الوكالة عنه ، فإنه لا يمكن الحكم بصحّته تمسّكاً بالأصل ، للشكّ في سلطنته على البيع ، بل لا بدّ له من إثبات الوكالة والسلطنة على هذا التصرّف في الحكم بالصحّة. نعم ، لو كانت الدار تحت يده بحيث كان ذا يد بالنسبة إليها ، حكمنا بصحّة بيعه باعتبار حجّية قول ذي اليد.

٥١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا الحال لو ادعى أحد المتعاقدين كون الثمن مما لا مالية له شرعاً كالخمر ، فإنه لا يمكن إثبات صحّة العقد وإلزام مدعي البطلان بما يقوله الآخر لأصالة الصحّة لأنها لا تجري في موارد الشكّ في تحقق أركان العقد وما يتوقف عليه عنوانه.

وحيث إنّ مقامنا من هذا القبيل ، باعتبار أنّ الشكّ في صحّة الحوالة إنما هو من جهة الشكّ في سلطنة المحيل لإحالة الدَّين على غيره ، فلا يمكن التمسّك بأصالة الصحّة والحكم ببراءة ذمّة المحيل واشتغال ذمّة المحال عليه له.

والحاصل أنّ اشتغال ذمّة الغير المحال عليه لما كان من قوام الحوالة ، بناءً على عدم صحّة الحوالة على البري‌ء ، فلا يمكن التمسّك في مورد الشكّ فيه بأصالة الصحّة لإثبات صحّة العقد واشتغال ذمّة الغير بالمال.

ثمّ إنّ هذا كلّه لا يعني المخالفة في أصل الحكم ، فإنّ ما ذكره الماتن (قدس سره) من أخذ المحال عليه باعترافه صحيح ولا غبار عليه ، إلّا أنّ ذلك لا لما أفاده من التمسّك بأصالة الصحّة ، فإنك قد عرفت عدم جريانها في أمثال المقام ، بل لحجّية الظهورات اللفظية في مداليلها الالتزامية ، فإنّ الاعتراف بالحوالة لما كان مدلولاً لفظياً كان حجّة في لازمه ، أعني اشتغال ذمّته بالمال للمحيل.

وتوضيحه : أنا قد ذكرنا في مبحث الأُصول المثبتة من الاستصحاب ، أنّ المشهور بين الأصحاب وإن كان هو التفصيل في حجّية اللوازم بين الأمارات والأُصول بالالتزام في الأُولى بالحجيّة دون الثانية ، إلّا أنه مما لا يمكن المساعدة عليه وإثباته بدليل ، إذ إنّ حال الأمارات حال الأُصول في اقتصار حدود التعبّد الشرعي بالنسبة إلى ثبوت نفس الموضوع دون لوازمه. ولذا لا يصحّ الاعتماد في دخول الوقت على تجاوز الشمس عن الجهة التي يظنّ كونها القبلة عند الجهل بها ، والحال أن الظنّ حجّة شرعية بالنسبة إليه بالقياس إلى تحديد نفس القبلة جزماً.

وبعبارة اخرى : إنّ الأمارة كالأصل لا يترتب عليها إلّا إثبات الموضوع الذي قامت عليه وجرت فيه ، وبذلك تثبت الصغرى لكبرى الحكم الثابت لذلك العنوان. فلو شككنا في خمرية مائع وقامت الأمارة على خمريته أو تمسّكنا لإثباتها باستصحاب الحالة السابقة ، تثبت بذلك الصغرى لكبرى : «وكلّ خمر حرام» خاصّة

٥١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن غير تعرّض لشي‌ء من اللوازم على كلا التقديرين.

نعم ، يستثني من ذلك ما لو كانت الأمارة من قبيل الإخبار سواء في ذلك اللفظ وغيره كالبيّنة وقول ذي اليد ، بل مطلق الثقة على القول بحجّيته ، فإنه يلتزم فيها بثبوت اللوازم وحجّيتها بلا إشكال فيه.

وذلك لما ذكرناه في محلِّه من عدم اختصاص دليل حجّية البيّنة أو قول ذي اليد أو مطلق الثقة بالدلالات المطابقية ، فإنه كما يشمل المداليل المطابقية يشمل المداليل الالتزامية أيضاً. فإذا أخبرت البيّنة عن جهة القبلة مثلاً ، كان ذلك بعينه إخباراً عن دخول الوقت عند تجاوز الشمس عن تلك الجهة ، إذ الإخبار عن الملزوم إخبار عن اللازم قهراً ولا محالة.

ومن هنا فلو اعترف المحال عليه بالحوالة كان ذلك اعترافاً منه باشتغال ذمّته للمحيل لا محالة ، إذ الظاهر الاعتراف بالحوالة الواقعية لا الصورية المحضة كما هو الحال في سائر موارد الاعتراف والمفروض أنها لا تصحّ إلّا عن مشغول الذمّة للمحيل.

لكن إثبات المدّعى بهذا الطريق إنما يتم في الجملة لا مطلقاً ، فإنه إنما يصحّ فيما إذا كان المخبر ملتفتاً إلى الملازمة ، فإنه حينئذ يصحّ أن يقال إنّ إخباره عن الملزوم إخبار عن اللازم بعينه.

وأمّا إذا لم يكن المخبر ملتفتاً إلى الملازمة أو كان معتقداً لعدمها ، لم يصح دعوى كون إخباره عن الملزوم إخباراً عن اللازم ، فإن الإخبار من الأُمور القصدية فلا يتحقّق مع الغفلة وعدم الالتفات إليه.

ومما يدلّ على ما ذكرناه مضافاً إلى وضوحه في نفسه اتفاقهم على عدم الحكم على منكر ضروري من ضروريات الدين بالكفر إذا لم يكن المنكر عالماً بكونه من الضروريات وأنّ إنكاره يستلزم تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، فضلاً عما لو كان معتقداً لعدمه.

إذن فتقديم قول المحيل في المقام وإلزام المحال عليه باعترافه ، إنما يتمّ فيما إذا كان

٥١٨

[٣٦٢٥] مسألة ١٠ : قد يستفاد من عنوان المسألة السابقة حيث قالوا : (لو أحال عليه فقبل وادّى) فجعلوا محلّ الخلاف ما إذا كان النزاع بعد الأداء ، أنّ حال الحوالة حال الضمان في عدم جواز مطالبة العوض إلّا بعد الأداء ، فقبله وإنْ حصل الوفاء بالنسبة إلى المحيل والمحتال ، لكن ذمّة المحيل لا تشتغل للمحال عليه البري‌ء إلّا بعد الأداء.

والأقوى حصول الشغل بالنسبة إلى المحيل (*) بمجرّد قبول المحال عليه (١) إذ

______________________________________________________

المحال عليه ملتفتاً إلى الملازمة بين الحوالة واشتغال ذمّته بالمال ، وإلّا فلا وجه لجعل اعترافه بها اعترافاً باشتغال ذمّته.

وكيف كان ، فالصحيح في وجه حجية المثبتات في باب الألفاظ خاصّة ، هو التمسّك بحجّية الظهورات في الدلالات الالتزامية على حدّ حجّيتها في الدلالات المطابقية للسيرة العقلائية القطعية. فلو أخبرت البينة عن شرب زيد من الماء المعين مع عدم التفاتها إلى كفره أو اعتقادها إسلامه ، كفى ذلك الإخبار في حكمنا بنجاسة ذلك الماء لعلمنا بكفره ، إذ البينة حجّة في المدلول الالتزامي على حدّ حجّيتها في المدلول المطابقي.

وعلى هذا الأساس فيدخل المقام تحت حجّية الظهورات اللفظية الثابتة ببناء العقلاء في المداليل المطابقية والالتزامية لا حجّية الأخبار.

وتفصيل الكلام في مبحث الأصل المثبت من المباحث الأُصولية ، فراجع.

(١) بل الأقوى ما ذهب إليه المشهور من توقف الشغل على الأداء.

وتفصيل الكلام في المقام : إنّ الحوالة قد تكون على مشغول الذمّة بمثل ما أُحيل عليه ، وقد تكون على البري‌ء.

ففي الأوّل : لا إشكال ولا خلاف في اشتغال ذمّة المحال عليه للمحال ، وانتقال

__________________

(*) بل الأقوى أنّ ذمة المحيل لا تشتغل للمحال عليه إلّا بعد الأداء ، إذ به يتحقق استيفاؤه لماله بأمره ، وعليه يترتب أنّ حال الحوالة حال الضمان في بقية الجهات المذكورة في المتن.

٥١٩

كما يحصل به الوفاء بالنسبة إلى دَين المحيل بمجرّده ، فكذا في حصوله بالنسبة إلى

______________________________________________________

الدّين من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه بمجرّد الحوالة ، كما لا إشكال في براءة ذمّة المحال عليه للمحيل بمجردها ، فلا يكون له الرجوع بالمال عليه ، لانتقال ما كان له في ذمّته إلى ملكيّه المحال.

وبعبارة اخرى : إنّ الدَّين لما كان ديناً واحداً غير متعدد ، لم يمكن فرض المحال عليه مديناً للمحيل والمحال معاً ، بل هو مدين لأحدهما خاصّة على النحو الذي ذكرناه ، أعني للمحيل قبل الحوالة ، وللمحال بعدها.

وفي الثاني : فإن رفض المحال عليه الحوالة أو قبلها ولكن قلنا بفساد الحوالة على البري‌ء ، فلا ينبغي الإشكال في عدم اشتغال ذمّة المحال عليه للمحال وعدم اشتغال ذمّة المحيل له المحال عليه.

وإن قلنا بصحتها على البري‌ء كما هو الصحيح وقبل المحال عليه الحوالة ، فلا إشكال في اشتغال ذمّة المحال عليه للمحال بمجرد قبوله للحوالة ، فيجوز له الرجوع عليه ومطالبته بها.

وإنما الكلام في اشتغال ذمّة المحيل حينئذٍ للمحال عليه ، وجواز رجوعه عليه بمجرد الحوالة وقبل الأداء.

فالمشهور العدم ، إلّا أنّ الماتن (قدس سره) قد اختار جواز الرجوع عليه ، بدعوى أنّ اشتغال ذمّة المحال عليه للمحال لا يكون مجاناً ، بل لا بدّ وأن يقابله اشتغال ذمّة المحيل له.

لكنّ الصحيح ما ذهب إليه المشهور. فإنّ اشتغال الذمّة يحتاج إلى الدليل ، ومجرد لزوم المجانية في اشتغال ذمّة المحال عليه للمحال ، لا يصلح دليلاً لإثبات اشتغال ذمّة المحيل للمحال عليه ، بعد أن لم يكن يترتب عليه أيّ ضرر أو نقص مالي بالنسبة إليه المحال عليه قبل الأداء في الخارج ، إذ الضرر إنما يترتب على أدائه للمال ، حيث يستلزم ذلك نقصاً في ماله مستنداً إلى أمر المحيل ، فيصحّ له الرجوع عليه لكونه من

٥٢٠