موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

وأمّا نفقة الأقارب فلا يجوز ضمانها بالنسبة إلى ما مضى ، لعدم كونها دَيناً على من كانت عليه (١). إلّا إذا أذن للقريب أن يستقرض وينفق على نفسه (٢) أو أذن له الحاكم في ذلك (٣) إذ حينئذٍ يكون دَيْناً عليه. وأمّا بالنسبة إلى ما سيأتي فمن ضمان ما لم يجب. مضافاً إلى أنّ وجوب الإنفاق حكم تكليفيّ ولا تكون النفقة في ذمّته. ولكن مع ذلك لا يخلو عن إشكال (*) (٤).

[٣٦٠٣] مسألة ٣٦ : الأقوى جواز ضمان مال الكتابة ، سواء كانت مشروطة أو مطلقة ، لأنه دَين في ذمّة العبد (٥) وإن لم يكن مستقراً ، لإمكان تعجيز نفسه.

______________________________________________________

ذمّة الزوج به ، فهو من التعليق الباطل.

وكيف كان ، فمجرد وجود المقتضي للدَّين لا يصحّ ضمانه ، ما لم يكن هو ثابتاً بالفعل في الذمّة.

وهذا قد تقدّم الكلام فيه في الشرط الثامن من شروط الضمان ، عند احتماله (قدس سره) للصحّة في موارد وجود المقتضي خاصّة ، فراجع.

(١) على ما تقدّم بيانه في أوّل المسألة.

(٢) حيث يثبت الدَّين عليه بالاستقراض عن أمره ، فيصحّ ضمانه من هذه الجهة لا من باب كون نفقة الأقارب قابلة للضمان.

(٣) لكونه وليّ الممتنع كما عرفت ، فيثبت الدَّين عليه ويصحّ ضمانه بهذا الملاك ، وإلّا فأصل وجوب الإنفاق لا يخرج عن كونه وجوباً تكليفياً محضاً.

(٤) إلّا أنه ضعيف وموهون جدّاً ، فإنّ وجوب الإنفاق عليهم ليس وجوباً تمليكياً ، على أنه على تقدير تسليمه من ضمان ما لم يجب.

(٥) فيصحّ نقله إلى ذمّة غيره بالضمان ، وبذلك ينعتق العبد ، لأنه أداء نظير إبراء المولى له.

__________________

(*) لا ينبغي الإشكال في بطلان الضمان.

٤٦١

والقول بعدم الجواز مطلقاً (١) أو في خصوص المشروطة (٢) معلّلاً بأنه ليس بلازم ولا يؤول إلى اللّزوم ، ضعيف كتعليله (٣). وربّما يعلَّل بأنّ لازم ضمانه لزومه ، مع أنه بالنسبة إلى المضمون عنه غير لازم ، فيكون في الفرع لازماً مع أنه في الأصل غير لازم. وهو أيضاً كما ترى (٤).

______________________________________________________

(١) على ما نسبه المحقِّق (قدس سره) في الشرائع إلى الشيخ (قدس سره) في المبسوط (١).

(٢) على ما نسبه الشهيد (قدس سره) في المسالك إليه (٢).

(٣) أمّا التعليل ففيه : منعه صغرى وكبرى. فإنّ المكاتبة بقسميها لازمة من الطرفين ، فيجب على العبد الكسب ولا يجوز له تعجيز نفسه.

نعم ، لو عجز انتقاماً أو عصى فعجّز نفسه رجع رقّاً كما كان ، إلّا أنه أجنبي عن القول بجوازه له ابتداءً ، كما هو واضح.

على أنه لا دليل على اعتبار اللزوم في الدَّين الثابت بالفعل ، بل يصحّ ضمان الدَّين الجائز قطعاً ، كما هو الحال في موارد ضمان البيع الخياري كبيع الحيوان وبيع الخيار.

وأمّا التعليل الثاني ، فغاية ما يقال في تقريبه : أنّ الضمان وإن كان يصحّ في العقد الجائز ، إلّا أنه إنما يختصّ بما يؤول إلى اللزوم ، نظير بيع الخيار ونحوه مما يرتجى لزومه في زمان ، فلا يصحّ فيما لا يرتجى لزومه أصلاً ، كالمكاتبة المشروطة بناءً على جوازها فإنها لا تؤول إلى اللزوم أبداً ، فإنها ما لم يؤدّ الدَّين جائزة وعند أدائه ينعتق العبد وينتفي الموضوع من أساسه.

إلّا أنه لا يرجع إلى محصّل ولا دليل عليه بالمرّة ، بل مقتضى عمومات الضمان بعد ثبوت أصل الدَّين صحّته.

(٤) إذ قد عرفت أنّ الصحيح لزوم الأصل أيضاً ، وعلى تقدير تسليم جوازه فلا دليل على اعتبار عدم زيادة الفرع على الأصل ، بل الثابت خلافه ، فإنه يصحّ ضمان

__________________

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١٢٦.

(٢) مسالك الافهام ٤ : ١٩٠.

٤٦٢

[٣٦٠٤] مسألة ٣٧ : اختلفوا في جواز ضمان مال الجعالة قبل الإتيان بالعمل وكذا مال السبق والرِّماية ، فقيل بعدم الجواز ، لعدم ثبوته في الذمّة قبل العمل.

والأقوى وفاقاً لجماعة الجواز (*) (١) لا لدعوى ثبوته في الذمّة من الأوّل وسقوطه إذا لم يعمل ، ولا لثبوته من الأوّل بشرط مجي‌ء العمل في المستقبل ، إذ الظاهر أنّ الثبوت إنما هو بالعمل ، بل لقوله تعالى (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (**) (٢)

______________________________________________________

الموسر لدين المعسر ويجوز مطالبته به جزماً ، وإن لم يكن يجوز مطالبة المضمون عنه به لإعساره.

والحاصل أنّ كلّ حكم تابع لموضوعه سعة وضيقاً ، وليس عدم زيادة الفرع على أصله قاعدة ثابتة يجوز التعويل عليها في تخصيص عمومات الأحكام وإطلاقاتها.

بل ذكر في الجواهر أنّ الصحّة هنا أولى منها في العقود الجائزة كبيع الخيار ونحوه حيث لا مجال فيما نحن فيه لإعمال الخيار بعد الضمان ، نظير انعتاق العبد به مباشرة ، وإعمال الخيار فرع عبوديته. بخلاف الحال في العقود الجائزة ، حيث يجوز له اعمال خياره حتى بعد الضمان ، فيرتفع العقد ويبطل الضمان.

(١) بل الأقوى هو التفصيل بين الجعالة من جهة والسبق والرماية من جهة أُخرى ، على ما سيأتي تفصيله.

(٢) وفيه : إنّ الآية الكريمة أجنبية عن محل الكلام. إذ الكلام إنما هو في الضمان بالمعنى المصطلح ، أعني نقل المال الثابت في ذمّة شخص إلى ذمّة غيره ، والمستلزم لتغاير الضامن والمضمون عنه الجاعل في الفرض. في حين إن ظاهر الآية الكريمة اتحاد الضامن والجاعل ، ومن هنا فلا بدّ من حمل الضمان فيها على تأكيد الجعل والتزامه به ، فتكون خارجة عن المعنى المبحوث عنه ، كما هو واضح.

ثمّ لو تنزلنا وسلمنا دلالتها على المدّعى في الضمان ، فالتعدي عن موردها إلى غيره

__________________

(*) فيه إشكال ، والاحتياط لا يترك.

(**) سورة يوسف ١٢ : ٧٢.

٤٦٣

ولكفاية المقتضي للثبوت في صحّة الضمان (١) ومنع اعتبار الثبوت الفعلي كما أشرنا إليه سابقاً.

[٣٦٠٥] مسألة ٣٨ : اختلفوا في جواز ضمان الأعيان المضمونة كالغصب والمقبوض بالعقد الفاسد ونحوهما على قولين ، ذهب إلى كلّ منهما جماعة.

______________________________________________________

مما يكون مشابهاً له ، لا يخرج عن حدّ القياس الباطل.

(١) تقدّم الكلام فيه غير مرّة ، وقد عرفت أنه مما لا يمكن المساعدة عليه. فإنه وبعد الاعتراف بعدم اشتغال ذمّة الجاعل والعاقد بشي‌ء بالفعل ، كيف يمكن الالتزام بصحّة الضمان بالمعنى المصطلح ، أعني نقل الدَّين من ذمّة إلى غيرها ، فإنه ليس إلّا من السالبة بانتفاء الموضوع.

ودعوى عدم الدليل على بطلان ضمان ما لم يجب ، حيث لم يرد فيه نص ، ولم يثبت عليه الإجماع ، على ما سيأتي منه (قدس سره) في المسألة الآتية.

واضحة الاندفاع ، فإنّ بطلانه الضمان من القضايا التي قياساتها معها ، ولا حاجة في إثباته إلى النص أو التمسك بالإجماع. فإنه وبعد تسليم أنّ الضمان نقل للدَّين من ذمّة إلى أُخرى ، والاعتراف بعدم ثبوت شي‌ء في ذمّة الجاعل والعاقد بالفعل ، فلا موضوع له بالمرّة كي يكون إثبات بطلانه محتاجاً إلى النص أو الإجماع.

نعم ، بناءً على عدم اشتراط التنجيز في الضمان ، لا بأس بالالتزام بصحّة ضمانها على وجه التعليق ، إلّا أنه واضح الفساد كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالصحيح هو التفصيل بين ضمان مال الجعالة وضمان مال السبق والرماية ، والالتزام في الأوّل بالصحّة وفي الثاني بالبطلان.

وذلك لرجوع ضمان مال الجعالة قبل العمل إلى أمر الضامن للعامل بالعمل المحترم لا مجاناً ، بل مع الأُجرة المسماة الجعل لكن على تقدير عدم وصول حقّه إليه من الجاعل المضمون عنه.

وهذا ليس من الضمان المصطلح ، كي يرد عليه بأنه من ضمان ما لم يجب ، نظراً لفراغ ذمّة المضمون عنه بالفعل. وإنما هو من التعهد بالجعل في طول تعهد الجاعل به

٤٦٤

والأقوى الجواز (*) (١) سواء كان المراد ضمانها بمعنى التزام ردّها عيناً ومثلها أو

______________________________________________________

فإنّ أمره به يوجب الضمان ، إلّا أنّ التزامه به إنما هو عند عدم وصول حقّ المجعول له بعد العمل إليه ، ولا بأس بالالتزام بصحّته ، لبناء العقلاء وشمول عمومات الأمر بالوفاء بالعقود له.

إلّا أنّ هذا إنما يختص بضمان مال الجعالة بالمعنى الذي ذكرناه ، حيث إنه من العقود المتعارفة التي عليها بناء العقلاء. ولا يتمّ في مال السبق والرماية ، فإنهما وبحدّ ذاتهما من أظهر مصاديق القمار ، أكل المال بالباطل كما هو ظاهر ، وإنما صحّا بالدليل الخاص لبعض الاعتبارات الملزمة.

ومن هنا يجب الاقتصار في الحكم على مقدار دلالة الدليل عليه خاصّة ، والحكم فيما زاد عنه بالبطلان.

وحيث إن دليل صحّتهما إنما تضمن صحّتهما بالقياس إلى طرفي العقد ، صحّ أكل أحدهما لمال الآخر وإن كان بحسب القاعدة الأوّلية هو البطلان ، ويبقى الأجنبي الضامن الذي لا يعود العقد بالنفع عليه على كلّ تقدير ولا يرتبط به في شي‌ء على القاعدة المقتضية للبطلان.

والحاصل أنّ ثبوت الضمان بالأمر فرع صحّة العمل المأمور به وإباحته. وحيث لا دليل عليها بالقياس إليه ، وإن كان صحيحاً بالقياس إلى طرفي العقد ، يتعين الرجوع إلى قاعدته الأوّلية المقتضية للبطلان ، من حيث كون العمل قماراً ، وأكل المال بإزائه أكلاً للمال بالباطل.

(١) بل الأقوى هو التفصيل ، فإنّ المنشأ من قبل الضامن

__________________

(*) الظاهر فيه التفصيل. فإنّ المنشأ إذا كان هو التعهّد الفعلي للعين المضمونة ليترتب عليه وجوب ردّها مع بقائها ودفع البدل عند تلفها ، فلا بأس به للعمومات ، ولا سيما أنه متعارف في الخارج. وإذا كان اشتغال الذمّة بالبدل فعلاً على تقدير تلفها واشتغال ذمّة الضامن الأوّل به متأخراً فهو واضح الفساد ، بل صحّته غير معقولة. وإذا كان اشتغال الذمّة بعد اشتغال ذمّة الضامن الأوّل به على نحو الواجب المشروط ، فصحته مبتنية على عدم اعتبار التنجيز. وبذلك يظهر الحال في ضمان الأعيان غير المضمونة.

٤٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تارة يكون هو الضمان المصطلح ، أعني التزامه لصاحب المال باشتغال ذمّته من الآن بالبدل ، فيما إذا تلفت العين بعد ذلك واشتغلت ذمّة المضمون عنه الغاصب أو القابض بالعقد الفاسد به.

وأُخرى يكون اشتغال ذمّته به على نحو الواجب المشروط ، أعني إنشاء الضمان المتأخر والمعلّق على التلف من الآن.

وثالثة يكون بمعنى كون المال في عهدته ، وكونه هو المسئول عن ردّه ما دام موجوداً ، وردّ بدله مثلاً أو قيمة عند تلفه. كما هو الحال في الغاصب نفسه ، فإنّ ضمانه ليس بمعنى وجوب ردّ بدله عليه بالفعل ، إذ العين ما دامت موجودة لا وجه لاشتغال ذمّته بالبدل ، بل هو بمعنى كونه مسؤولاً عن العين وكون العين في عهدته ، بحيث يجب عليه ردّها ما دامت موجودة وردّ بدلها عند تلفها.

والأوّل : باطل جزماً ، لكونه من ضمان ما لم يجب. وقد عرفت في المسألة السابقة أنّ بطلانه لا يحتاج إلى دليل خاصّ من نص أو إجماع ، فإنه من القضايا التي قياساتها معها. إذ لو لم تكن ذمّة المضمون عنه مشغولة بشي‌ء بالفعل ، كما هو مفروض الكلام فأيّ شي‌ء هو ينتقل بالضمان من ذمّته إلى ذمّة غيره؟

والثاني : وإن كان ممكناً في نفسه ، إلّا أنه محكوم بالبطلان قطعاً ، للإجماع على اشتراط التنجيز في الضمان وعدم صحّة التعليق فيه.

والثالث : وإن كان خارجاً عن الضمان بالمعنى المصطلح المبحوث عنه في المقام ، إذ لم تشتغل ذمّة أحد بالمال كي ينتقل إلى ذمّة غيره ، إلّا أنه لا مانع من الالتزام بصحّته لعمومات الأمر بالوفاء بالعقود ، بل وجريان السيرة العقلائية عليه خارجاً.

وعليه فيحكم على هذا النحو من الضمان بالصحّة واللزوم ، ومقتضاه ثبوت حقّ المطالبة للمضمون له من الضامن بالعين ما دامت موجودة وبالبدل إذا تلفت.

ثمّ إنّ هذا الضمان ليس من الضمان على مذهب العامة ، فإنه ليس من ضمّ ذمّة إلى ذمّة أُخرى ، إذ لا اشتغال للذمّة الاولى فضلاً عن الثانية كي تضمّ إليها. وإنما هو من

٤٦٦

قيمتها على فرض التلف أو كان المراد ضمانها بمعنى التزام مثلها أو قيمتها إذا تلفت ، وذلك لعموم قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «الزعيم غارم» (*) (١)

______________________________________________________

ضمّ ضمان إلى ضمان آخر وإن اختلف سببهما ، فضمان الغاصب والقابض بالعقد الفاسد فعليّ ، في حين إنّ ضمان الضامن عقديّ. وهو ضمّ ضمان إلى ضمان لا محذور فيه بالمرّة ، بل هو ثابت بالإجماع في غير مورد من الفقه ، كالأيادي المتعاقبة على المغصوب أو المقبوض بالعقد الفاسد.

والذي يتحصل مما ذكرناه أنّ الحقّ في المقام هو التفصيل ، بين إرادة الضمان بالمعنى المبحوث عنه ، وبين إرادة التعهد وتحمل المسئولية. فإنّ الأوّل باطل ، لدورانه بين ضمان ما لم يجب الباطل على القاعدة ، والتعليق الموجب للبطلان في حدّ نفسه. والثاني محكوم بالصحّة ، للعمومات والسيرة.

(١) وفيه : إنّ الرواية نبوية لم تثبت من طرقنا ، بل في معتبرة الحسين بن خالد قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : جعلت فداك ، قول الناس : الضامن غارم ، قال : فقال : «ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال» (١) تكذيبه.

على أنّ مدلول النبوية بحسب تفسير المعتبرة لها أجنبي عن محل الكلام ، فإنّ ظاهرها أنّ الناس كانوا يتخيلون استقرار الخسارة في الضمان على الضامن نفسه فأنكر ذلك الإمام (عليه السلام) وحكم باستقرارها على المضمون عنه ، وأين هذا عن محلّ الكلام؟

على أننا لو تنزّلنا عن جميع ذلك ، فلا دلالة للنبوية على موارد صحّة الضمان أو عدمها ، فإنها لو صحّت إنما تدلّ على استقرار الغرم على الضامن عند صحّة الضمان وتحقّقه ، ولا تتكفل بيان صحّة الضمان في الأعيان الخارجية المضمونة.

__________________

(*) مستدرك الوسائل ١٣ : ٤٣٥ كتاب الضمان ب ١ ح ١ ، فقه الرضا (عليه السلام) ص ٣٤.

(١) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ١ ح ١.

٤٦٧

والعمومات العامّة (١) مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

ودعوى أنه على التقدير الأوّل يكون من ضمان العين بمعنى الالتزام بردّها مع أنّ الضمان نقل الحقّ من ذمّة إلى أُخرى. وأيضاً لا إشكال في أنّ الغاصب أيضاً مكلّف بالردّ ، فيكون من ضمّ ذمّة إلى أُخرى ، وليس من مذهبنا. وعلى الثاني يكون من ضمان ما لم يجب ، كما أنّه على الأوّل أيضاً كذلك بالنسبة إلى ردّ المثل أو القيمة عند التلف.

مدفوعة بأنه لا مانع منه بعد شمول العمومات ، غاية الأمر أنه ليس من الضمان المصطلح. وكونه من ضمان ما لم يجب ، لا يضرّ بعد ثبوت المقتضي (٢) ولا دليل على عدم صحة ضمان ما لم يجب من نصّ أو إجماع (٣) وإن اشتهر بين الألسن. بل في جملة من الموارد حكموا بصحّته ، وفي جملة منها اختلفوا فيه ، فلا إجماع.

وأمّا ضمان الأعيان غير المضمونة كمالِ المضاربة والرهن والوديعة قبل تحقّق

______________________________________________________

وعلى هذا فهي نظير قولنا : مشتري الحيوان بالخيار إلى ثلاثة أيام ، حيث لا يدلّ إلّا على ثبوت الخيار عند صحّة البيع ، وأمّا تعيين موارد الصحّة وإنه هل يحكم بصحّة البيع عند الشكّ فيه لجهة من الجهات ، فهو أجنبي عنه بالمرّة.

(١) يظهر الحال فيها مما ذكرناه من التفصيل. فإنّ التمسّك بها لإثبات صحّة الضمان إنما يصحّ بناءً على إرادة المعنى الذي ذكرناه من الضمان ، وإلّا فهو بالمعنى الأوّل غير معقول وبالثاني باطل جزماً ، ومعه فلا مجال للتمسّك بالعمومات.

(٢) تقدّم الكلام فيه غير مرّة. وقد عرفت أنّ ثبوت المقتضي لا يصحِّح الضمان بعد أن كان عبارة عن نقل الدَّين من ذمّة إلى أُخرى ، فإنه ما لم يكن الدَّين ثابتاً لا يعقل نقله إلى ذمّة أُخرى.

(٣) ظهر الحال فيه في المسألة السابقة. فإنّ بطلانه من الوضوح إلى حدّ لا يحتاج إلى الدليل ، فإنه أمر غير معقول في نفسه ، إذ النقل من ذمّة إلى غيرها متوقّف على الثبوت في الأُولى ، وإلّا فلا مجال لتصوّر الضمان كي يحكم بصحّته.

٤٦٨

سبب ضمانها من تعدٍّ أو تفريط فلا خلاف بينهم في عدم صحّته. والأقوى بمقتضى العمومات صحّته أيضاً (١).

[٣٦٠٦] مسألة ٣٩ : يجوز عندهم بلا خلاف بينهم ضمان درك الثمن للمشتري إذا ظهر كون المبيع مستحقّاً للغير ، أو ظهر بطلان البيع لفقد شرط من شروط صحّته إذا كان ذلك بعد قبض الثمن كما قيّد به الأكثر ، أو مطلقاً كما أطلق آخر ، وهو الأقوى (٢). قيل : وهذا مستثنى (*)

______________________________________________________

(١) بل الأقوى هو التفصيل المتقدم في الأعيان المضمونة ، فيقال بالصحّة فيما إذا كان المراد من ضمانها تحمّل مسؤوليتها والتعهد بها.

والحاصل أنه لا فرق في الحكم بالصحّة أو الفساد بين يد الضامن وغيرها. فإن كان هو بمعنى اشتغال ذمّة الضامن بالبدل بالفعلي أو عند تلف العين ، حكمنا ببطلانه في الموردين ، لعدم صحّة ضمان ما لم يجب والضمان التعليقي. وإن كان بمعنى تحمّل المسئولية خاصّة ، قلنا بصحّته ، لبناء العقلاء ، وشمول أدلّة لزوم الوفاء بالعقد له.

وعليه فيكون الضامن مسؤولاً عن ردّ العين إن أمكن ، والبدل مثلاً أو قيمة عند تلفها.

(٢) لما عرفته في المسألة السابقة من كون صحّة هذا الضمان بالمعنى الذي ذكرناه على القاعدة ، وعدم توقّفه على وجود ضامن سابق للمال.

بل لا يبعد دعوى كون الحكم بصحّة الضمان قبل القبض أولى منه بعده. فإنّ ضمانه قبل القبض يستلزم وبالطبع أمره للمضمون له البائع أو المشتري بالإقباض ، إذ أنّ ضمانه لعهدة الثمن أو المثمن ليس إلّا أمر مالكه بدفعه إلى صاحبه ، مع التزامه وتعهده الضامن بتدارك ما بإزائه عند ظهور كونه مستحقاً للغير.

وهذا بخلاف الضمان بعد القبض ، فإنه لما لم يكن الإقباض عن أمره ، يكون الحكم بصحّة تعهده أخفى منه في الأوّل.

__________________

(*) الاستثناء لم يثبت ، بل الحال فيه هو الحال في ضمان بقية الأعيان الخارجية ، وبذلك يظهر حال بقية المسألة.

٤٦٩

من عدم ضمان الأعيان (١).

هذا وأمّا لو كان البيع صحيحاً ، وحصل الفسخ بالخيار أو التقايل أو تلف المبيع قبل القبض ، فعلى المشهور لم يلزم الضامن فيرجع على البائع ، لعدم ثبوت الحق وقت الضمان (٢) فيكون من ضمان ما لم يجب. بل لو صرّح بالضمان إذا حصل

______________________________________________________

(١) وفيه : أنّ الضمان إن كان بالمعنى المصطلح ، فهو غير قابل للحكم بصحّته مطلقاً ، لدورانه بين ضمان ما لم يجب الذي عرفت عدم معقوليته ، والضمان المعلّق الذي عرفت بطلانه بالإجماع ، بلا فرق فيه بين المقام وغيره.

وإن كان بالمعنى الذي ذكرناه ، فصحّته ، على القاعدة مطلقاً أيضاً ، ولا وجه لجعل هذا الفرد مستثنى مما سبق.

والحاصل أنه لا وجه للاستثناء في المقام على التقديرين. فإنه إن صحّ ضمان الأعيان الخارجية بحمله على المعنى الذي ذكرناه ، فالصحّة هنا على القاعدة أيضاً ، وإلّا فالضمان في المقام أيضاً محكوم بالبطلان ، إذ لا يختلف فيما لا يعقل أو المجمع على بطلانه بين المقام وغيره.

(٢) إذ الثمن قد انتقل من ملك المشتري إلى ملك البائع جزماً ، كما انتقل المثمن من ملك البائع إلى ملك المشتري قطعاً ، فانقطعت علاقة كلّ منهما عما كان يملكه قبل العقد وأصبح ملكاً لصاحبه ظاهراً وواقعاً ، غاية الأمر أنه يمكن أن يعود إلى ملكه ثانياً بالفسخ في حينه. ومعه فلا معنى لضمانه ، لأنه بمعنى اشتغال ذمّته به بالفعل غير معقول ، وبمعنى اشتغال ذمّته به في ظرف الفسخ من التعليق الباطل ، بلا فرق فيه بين إقباضه للثمن وعدمه.

نعم ، لو كان البيع وإقباض الثمن والمثمن عن أمر الضامن ، ملتزماً بتدارك ما يترتّب عليه من الضرر والمفسدة عند تحقق الفسخ ورجوع كلّ من المالين إلى مالكه الأوّل ، لم يبعد الحكم بصحّته في المقام. فإنه لما كان الإقباض عن أمره ، كانت الإضرار المتوجّهة إلى البائع أو المشتري المضمون له متوجهة إلى الآمر الضامن فإنه داخل فيما جرت عليه السيرة العقلائية ومشمول لعمومات الوفاء بالعقود.

٤٧٠

الفسخ ، لم يصحّ بمقتضى التعليل المذكور.

نعم ، في الفسخ بالعيب السابق أو اللّاحق اختلفوا في أنه هل يدخل في العهدة ويصحّ الضمان أوْ لا؟ فالمشهور على العدم (١). وعن بعضهم دخوله ، ولازمه الصحّة مع التصريح (٢) بالأولى. والأقوى في الجميع الدخول مع الإطلاق والصحّة مع التصريح ودعوى أنه من ضمان ما لم يجب ، مدفوعة بكفاية وجود السبب (٣).

هذا بالنسبة إلى ضمان عهدة الثمن إذا حصل الفسخ. وأمّا بالنسبة إلى مطالبة الأرش ، فقال بعض من منع من ذلك بجوازها ، لأنّ الاستحقاق له ثابت عند العقد (٤) فلا يكون من ضمان ما لم يجب. وقد عرفت أنّ الأقوى صحّة الأوّل

______________________________________________________

(١) لدورانه بين التعليق وضمان ما لم يجب الباطلين.

اللهمّ إلّا أن يراد به الضمان بالمعنى الذي ذكرناه ، فيحكم بصحّته لما تقدّم.

(٢) قد ظهر الحال فيه مما سبق.

(٣) لكنك قد عرفت ضعفه وعدم معقوليته مما ذكرناه في المسائل السابقة.

(٤) وفيه : أنه لا ينبغي الشك في بطلان هذا الضمان ، حتى بناءً على القول بصحّته في الأعيان الخارجية ، كما هو المختار.

والوجه فيه ما عرفته في ضمن المسائل السابقة ، من أنّ الضمان إنما يصحّ في موردين لا ثالث لهما.

الأوّل : ضمان الدَّين الثابت في الذمّة بالفعل ، فإنه القدر المتيقّن من صحّة الضمان وهو الضمان بالمعنى المصطلح الذي عليه تسالم الأصحاب.

الثاني : ضمان الأعيان الشخصية بالمعنى الذي ذكرناه.

الفرق بينهما يكمن في كون الأوّل متضمناً لاشتغال ذمّة الضامن بالدَّين بالفعل ، في حين إنّ الثاني لا يعني إلّا كون العين في عهدته ومسؤوليتها عليه.

وكيف كان ، فحيث لا دليل على صحّة الضمان في غير هذين الموردين ، أعني ما

٤٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

كان ديناً ثابتاً بالفعل أو عيناً خارجياً ، فلا وجه للحكم بالصحّة في ضمان الأرش فإنه خارج عنهما معاً.

وذلك لما ذكرناه في مباحث خيار العيب مفصّلاً وتطرّقنا إليه في كتاب الإجارة أيضاً ، من أنّ ثبوت الأرش في موارد العيب ليس حكماً على القاعدة ويقتضيه نفس العقد ، فإنّ وصف الصحّة لا يقابل بالمال بتاتاً ، فليس المبيع مركباً من أصل المثمن ووصف الصحّة ، كي يقال باقتضاء القاعدة لبقاء ما قابلة على ملك المشتري ، نظراً لتخلّف هذا الجزء وبطلان العقد بالنسبة إليه ، بل الثمن واقع بتمامه بإزاء أصل المبيع فقط ، وإنما هو وصف الصحّة يوجب زيادة مقداره لا غير. ولذا لا يحكم عند تخلّفه ببطلان العقد بالنسبة إليه.

والحال أنّ المبيع لو كان مركّباً منه ومن ذات السلعة ، للزم القول ببطلان العقد بالنسبة إليه ، ووجوب إرجاع البائع لما قابلة من الثمن بعينه إلى المشتري ، سواء طالب بذلك أم لم يطالب ، وهو باطل جزماً ولا يقول به أحد من الأصحاب. فإنه يجوز دفع الأرش من غير الثمن حتى مع وجود عينه ، كما لا يجب على ورثة البائع لو مات قبل ظهور العيب إخراج الأرش من تركته.

بل الأرش إنما ثبت بالنصوص الخاصّة على خلاف القاعدة في البيع خاصّة.

وعليه فإن أمكن بعد الفسخ ردّ العين بنفسها سالمة فهو. وإن لم يمكن لمانع عقلي أو شرعي انتقل الأمر إلى مطالبته بالأرش ، فإن طالبه به لزم البائع دفعه من أي مال شاء حتى مع وجود عين الثمن ، وإن لم يطالبه فلا شي‌ء عليه ، وليس بمشغول الذمّة له بشي‌ء.

وعليه ففي المقام ، حيث لا يكون متعلّق الضمان ديناً فعلياً ثابتاً في ذمّة البائع عند الضمان ولا عيناً خارجياً ، فلا محيص عن رجوع ضمانه إلى ضمان ما لم يجب الغير المعقول لامتناع انتقال المعدوم إلى ذمّة الغير ، أو الضمان على نحو الواجب المشروط الباطل إجماعاً لاعتبار التنجيز فيه.

والحاصل أنّ المتعين في المقام هو الحكم بالبطلان ، وإن قلنا بصحّة ضمان الأعيان الخارجية بالتقريب المتقدِّم فإنّ الأرش خارج عنه ، وعن الدَّين الثابت بالفعل في

٤٧٢

أيضاً ، وأنّ تحقّق السبب حال العقد كافٍ (١). مع إمكان دعوى أنّ الأرش أيضاً لا يثبت إلّا بعد اختياره ومطالبته (٢) فالصحّة فيه (*) أيضاً (٣) من جهة كفاية تحقّق السبب. ومما ذكرنا ظهر حال ضمان درك المبيع للبائع (٤).

[٣٦٠٧] مسألة ٤٠ : إذا ضمن عهدة الثمن فظهر بعض المبيع مستحقّاً فالأقوى اختصاص ضمان الضامن بذلك البعض (٥). وفي البعض الآخر يتخيّر المشتري بين الإمضاء والفسخ ، لتبعيض الصفقة ، فيرجع على البائع بما قابلة. وعن الشيخ جواز الرجوع على الضامن بالجميع ، ولا وجه له (٦).

______________________________________________________

ذمّة المضمون عنه.

(١) لكنّك قد عرفت عدم معقوليته وامتناعه.

(٢) بل هو المتعين ، على ما عرفت توضيحه فيما تقدّم.

(٣) وقد عرفت إشكاله ، وأنّ الأقوى بل المتعين هو الحكم بالبطلان.

(٤) فإنّ حاله حال ضمان درك الثمن للمشتري حرفاً بحرف ، فيبطل ضمانه بالمعنى المصطلح ، ويصحّ على القاعدة بالمعنى الذي ذكرناه.

(٥) إذ إنّ ضمان الكلّ ينحلّ إلى ضمان كلّ جزء جزء ، وحيث قد ظهر استحقاق البعض خاصّة تمّ الضمان فيه دون الباقي.

(٦) إذ المفروض ضمانه لخصوص درك الثمن ، لا الثمن بجميع عوارضه وطوارئه. ومن هنا فيختصّ الضمان بالنصف الذي ظهر مستحقاً للغير ، لشمول ضمان درك الثمن له. ولا يعمّ النصف الآخر ، الذي رجع إلى البائع بفسخ المشتري للعقد بخيار تبعّض الصفقة ، فإنه خارج عن ضمان درك درك الثمن.

نعم ، لو كان الضامن ضامناً للثمن بجميع عوارضه وطوارئه ، بحيث كان ضمانه عاما للفسخ بالخيار في المقام أيضاً ، صحّ القول بجواز الرجوع عليه بالجميع ، إلّا أنه

__________________

(*) لا وجه للصحة لفرض أنّ الذمّة غير مشغولة بالأرش إلّا بعد المطالبة ، وعليه فلا يصحّ ضمانه لأنه من ضمان ما لم يجب.

٤٧٣

[٣٦٠٨] مسألة ٤١ : الأقوى (١) وفاقاً للشهيدين (*) صحّة ضمان

______________________________________________________

خارج عن محل الكلام ، أعني ضمان درك الثمن خاصّة.

(١) بل الأقوى ما ذهب إليه المشهور.

والوجه فيه ما عرفته في المسائل السابقة ، من عدم معقوليته إذا أُنشئ على نحو الفعلية ، بأن أنشأ الضامن اشتغال ذمّته بالفعل بما ستشتغل به ذمة البائع بعد ذلك ، فإنّ المعدوم غير قابل للانتقال إلى ذمّة الغير وثبوته فيها ، وبطلانه من القضايا التي قياساتها معها.

نعم ، لو أُنشئ على نحو الواجب المشروط والضمان المتأخر ، فهو وإن كان معقولاً في حدّ ذاته إلّا أنه باطل بلا خلاف ، للتعليق المجمع على بطلانه.

ثمّ بناءً على ما اخترناه من بطلان الضمان على البائع ، فهل يصحّ ضمانه لا من قبل البائع ، بأن يتعهد الآمر تحمّل الخسارة بنفسه ومن غير رجوع على البائع بها؟

الأقوى فيه البطلان ، حيث لم يثبت بناء من العقلاء على الضمان الأمري فيما يرجع إلى المأمور به وحده ، فإنّ الغرس والبناء وما شاكلهما من المضمون له فيما يعتقده أرضه ، عمل متمحض له ولا يرتبط بغيره في شي‌ء.

ومن هنا فإنّ الأمر به أمر بما يرجع إليه ويخصه ، نظير أمره بالتجارة لنفسه مع التعهد بتحمّل الخسارة عنه ، ولم يثبت فيه بناء من العقلاء على الضمان.

والحاصل أنّ الضمان عن البائع محكوم بالفساد ، لدورانه بين أمر معقول ، وأمر قام الإجماع على بطلانه. والضمان عن نفسه من جهة أمره بفعل ربّما يترتب عليه الضرر غير ثابت.

ثمّ إنّ الكلام في هذه المسألة إنما يتمّ في فرض كون البائع غارّاً للمشتري ، والقول بثبوت قاعدة الغرور. وأمّا لو لم يكن البائع غارّاً له بأن كان معتقداً لملكيّته للأرض أو قلنا بعدم ثبوت قاعدة الغرور على نحو الكليّة كما هو المختار ، فلا ضمان على البائع

__________________

(*) فيه إشكال ، والاحتياط لا يترك.

٤٧٤

ما يحدثه المشتري من بناء أو غرس في الأرض المشتراة إذا ظهر كونها مستحقّة للغير وقلع البناء والغرس ، فيضمن الأرش ، وهو تفاوت ما بين المقلوع والثابت عن البائع. خلافاً للمشهور ، لأنه من ضمان ما لم يجب. وقد عرفت كفاية السبب.

هذا ولو ضمنه البائع ، قيل لا يصحّ أيضاً كالأجنبي ، وثبوته بحكم الشرع لا يقتضي صحّة عقد الضمان المشروط بتحقّق الحقّ حال الضمان.

وقيل بالصحّة (١) لأنه لازم بنفس العقد فلا مانع من ضمانه ، لما مرّ من كفاية تحقق السبب. فيكون حينئذٍ للضمان سببان : نفس العقد ، والضمان بعقده.

وتظهر الثمرة فيما إذا أسقط المشتري عنه حقّ الضمان الثابت بالعقد ، فإنه يبقى الضمان العقديّ ، كما إذا كان لشخص خياران بسببين فأسقط أحدهما. وقد يورد عليه بأنه لا معنى لضمان شخص عن نفسه ، والمقام من هذا القبيل. ويمكن أن يقال (١) : لا مانع منه مع تعدّد الجهة (٢). هذا كلّه إذا كان بعنوان عقد الضمان ، وأمّا

______________________________________________________

بلا خلاف ولا إشكال فيه. فإنّ المشتري يتحمّل حينئذ الخسارة بنفسه ، لكونه هو الذي أوقع نفسه في الضرر ، بالتصرف في الأرض معتقداً ملكيّته لها.

(١) إلّا أنه لا يمكن توجيهه بوجه. فإنّ الضمان لما كان نقل ما في ذمّة إلى غيرها كان ذلك متوقّفاً على تعدد الذمم لا محالة ، وحيث إنه مفقود في المقام ، فتصوّره غير معقول ، فإنه من أين ينتقل الدَّين وإلى أين؟! نعم ، تعدد أسباب الضمان الواحد أمر معقول في حدّ ذاته ، إلّا أنه غير ممكن في خصوص المقام ، لعدم معقولية ضمان المدين لنفسه عن نفسه ، كما هو الحال في سائر موارد الدَّين.

(٢) إلّا أنك قد عرفت عدم معقوليته ، فإنّ تعدد الجهة لا يوجب تغاير الذمّتين ونقل الدَّين من إحداهما إلى الأُخرى.

__________________

(*) لكنه بعيد ، بل لا وجه له أصلاً.

٤٧٥

إذا اشترط فلا بأس به ، ويكون مؤكّداً لما هو (*) لازم العقد (١).

[٣٦٠٩] مسألة ٤٢ : لو قال عند خوف غرق السفينة : القِ متاعك في البحر وعليّ ضمانه ، صحّ بلا خلاف بينهم ، بل الظاهر الإجماع عليه (٢) وهو الدليل عندهم. وأمّا إذا لم يكن لخوف الغرق ، بل لمصلحة أُخرى من خفّة السفينة أو نحوها ، فلا يصحّ عندهم. ومقتضى العمومات صحّته (**) أيضاً (٣).

______________________________________________________

(١) وفيه : إنّ الشرط إن كان على نحو شرط النتيجة ، بمعنى اشتغال ذمّة الضامن بالفعل بما تشتغل به ذمّة البائع في وقته ، فهو باطل لعدم معقوليته ، على ما عرفت.

وإن كان على نحو شرط الفعل ، بمعنى اشتراط المشتري على البائع أداء مقدار الخسارة ، فهو وإن كان صحيحاً إلّا أنه غير مؤكّد لما هو لازم العقد ، فإنّ الثابت بالشرط هو التكليف المحض ، في حين إنّ الثابت بنفس العقد هو الوضع واشتغال الذمّة.

والحاصل : إنّ الأمر في المقام يدور بين عدم الصحّة وعدم التأكيد ، فإمّا لا صحّة وإمّا لا تأكيد ، فالجمع بينهما مما لا يمكن المساعدة عليه.

(٢) بل الظاهر اتفاق المسلمين عليه ، حيث لم يظهر الخلاف فيه إلّا من أبي ثور خاصّة.

(٣) بل الظاهر أنه لا حاجة للتمسّك بالعمومات كي يورد عليه بالمناقشة في صدق العقد على هذا الضمان ، باعتبار أنه ليس فيه إلّا أمر من الآمر وعمل من المأمور وهما لا يشكّلان العقد ، كما هو الحال في جميع موارد الأمر بشي‌ء وامتثال المأمور له.

فإنّ السيرة العقلائية القطعية مستقرّة على الضمان في موارد الأمر بإعطاء أو إتلاف الأموال المحترمة لغرض عقلائي يخرجه عن كونه فعل حرام ، إذا لم يكن لكلامه ظهور

__________________

(*) هذا الشرط إن كان بعنوان شرط النتيجة فهو غير صحيح ، وإن كان بعنوان شرط الفعل فهو وإن كان صحيحاً إلّا أنه لا يكون مؤكداً.

(**) بل السيرة القطعية العقلائية قائمة على الصحة.

٤٧٦

تتمّة

[في صور التنازع]

قد علم من تضاعيف المسائل المتقدّمة الاتفاقية أو الخلافية : أنّ ما ذكروه في أوّل الفصل من تعريف الضمان ، وأنه نقل الحقّ الثابت من ذمّة إلى أُخرى ، وأنه لا يصحّ في غير الدَّين ، ولا في غير الثابت حين الضمان ، لا وجه له ، وأنه أعمّ من ذلك حسب ما فصل (١) (*).

______________________________________________________

في المجانية أو يقصد المالك به التبرع ، كما هو الحال في الأمر بالأعمال المحترمة حرفاً بحرف ، إذ لا فرق فيه بين الأمر بالعمل وإعطاء مال أو إتلافه ، فإنّ كلا من ذلك موجب للضمان عند امتثال الأمر من قبل المأمور ببناء العقلاء والسيرة القطعية ، ما لم يكن هناك ظهور لكلام الآمر لقرينة أو انصراف أو غيرهما في المجانية ، أو يقصد العامل أو المالك التبرّع به.

وما ذكرناه لا يختصّ بمورد السفينة ، بل يجري حرفياً في جميع موارد الأمر بالإتلاف لغرض عقلائي ، فإنه موجب للضمان جزماً مع قطع النظر عن متعلّقه.

ومن هنا يظهر عدم اختصاص الحكم بالضمان بصورة تصريح الآمر بضمانه له ، فإنه ثابت في فرض اقتصاره على الأمر بإلقاء المتاع أيضاً ، إذ الأمر على النحو الذي ذكرناه كافٍ بوحدة لإثبات الضمان.

[في صور التنازع]

(١) حيث قد عرفت التفصيل بين الضمان المصطلح وغيره ، واعتبار ما ذكره

__________________

(*) قد مرّ التفصيل.

٤٧٧

[٣٦١٠] مسألة ١ : لو اختلف المضمون له والمضمون عنه في أصل الضمان (١) فادعى أنه ضمنه ضامن وأنكره المضمون له ، فالقول قوله (٢). وكذا لو ادّعى أنه ضمن تمام ديونه وأنكره المضمون له ، لأصالة بقاء ما كان عليه (٣).

ولو اختلفا في إعسار الضامن حين العقد ويساره (٤) فادّعى المضمون له إعساره ، فالقول قول المضمون عنه (*) (٥).

______________________________________________________

(قدس سره) في الأوّل دون الثاني ، فإنه يصحّ في الأعيان الخارجية ، وموارد عدم ثبوت الحقّ حين الضمان مما قامت السيرة العقلائية عليه ، كدرك الثمن أو المثمن.

(١) لا يخفى ما في التعبير ب : اختلاف المضمون له والمضمون عنه في أصل الضمان من المسامحة إذ مع إنكار الأوّل من أساسه كيف يصحّ التعبير عنه بالمضمون له. وحقّ العبارة أن يقال : لو اختلف الدائن والمدين في أصل الضمان.

(٢) بلا إشكال فيه ولا خلاف. فإنه لا بدّ للمدين من إثبات براءة ذمّته من الدَّين وإلّا فهو ملزم بالخروج عن عهدته.

(٣) خرجنا عنها بالنسبة إلى ما يعترف به المضمون له القدر المتيقن لفراغ ذمّته منه جزماً ، ولا بدّ له بالنسبة إلى الزائد ما يدّعيه هو من إثبات البراءة ، وإلّا فهو ملزم بالخروج من عهدته ، كما عرفت.

(٤) بناءً على ما ذهب إليه المشهور ، من ثبوت الخيار للمضمون له عند ظهور إعساره حين العقد. وأمّا بناءً على ما اخترناه من عدم الدليل على الخيار حينئذ ، فلا أثر لهذا الاختلاف بالمرّة ، فإنّ المضمون عنه بري‌ء الذمّة من الدَّين السابق على التقديرين اليسار والإعسار والضامن هو الملزم به.

(٥) الكلام في هذا الفرع : تارة يفرض مع سبق يسار الضامن ، وأُخرى مع سبق إعساره ، وثالثة مع تضادّ الأمرين ، بأن يعلم بيساره في بعض شهر الضمان وإعساره في بعضه الآخر ، مع الجهل بالمتقدّم والمتأخر.

__________________

(*) هذا فيما إذا لم يثبت إعساره سابقاً.

٤٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أمّا الصورة الأُولى : فالأمر كما أفاده (قدس سره) من تقديم قول المضمون عنه كما هو واضح. فإنّ دعوى المضمون له للإعسار مقدّمة لإثبات الخيار محتاجة إلى الدليل ، وإلّا فمقتضى الاستصحاب هو إثبات اليسار حين الضمان.

أمّا الصورة الثانية : فالظاهر تقديم قول المضمون له ، وإلزام المضمون عنه بإثبات اليسار ، فإنّ استصحاب العسر إلى زمان الضمان ، يثبت موضوع الخيار للمضمون له.

والحاصل أنّ الأصل في هذه الصورة يقتضي الجواز ، فيكون الإثبات على مدعي اللزوم لا محالة.

ومن هنا فلا يمكن المساعدة على إطلاق كلام الماتن (قدس سره) من تقديم قول المضمون عنه ، الشامل لهذه الصورة أيضاً.

ولعلّ هذه خارجة عن محط نظره وغير مرادة له (قدس سره).

وأمّا الصورة الثالثة : فلا مجال فيها للتمسّك باستصحاب العسر واليسر معاً ، سواء لما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من عدم وجود المقتضي لعدم اتصال زمان اليقين بزمان الشك (١) أو لما اخترناه من وجود المانع. فإنّ النتيجة في المقام واحدة وإن اختلف المبنيان في غيره ، على ما حققناه مفصّلاً في المباحث الأُصولية.

وعليه فهل يقدّم قول المضمون له ، أو المضمون عنه ، أو يكون المقام من التداعي؟

ظاهر إطلاق كلامه (قدس سره) هو الثاني ، وعلى المضمون له الإثبات.

وقد أورد عليه في بعض الكلمات ، بأنه لا موجب لجعل المضمون له مدعياً وإلزامه بالإثبات ، والمضمون عنه منكراً وقبول قوله ، بعد أن كان قول كلّ منهما مخالفاً للأصل.

لكنّ الظاهر أنّ ما ذكره الماتن (قدس سره) هو الصحيح.

والوجه فيه ما ذكرناه في مباحث القضاء ، من أنّ الروايات الواردة في أبواب القضاء وحلّ الخصومات لم تتعرض على كثرتها لتحديد المدّعى والمنكر على

__________________

(١) كفاية الأُصول.

٤٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الإطلاق. وهل المدّعى من خالف قوله الأصل أو الظاهر ، والمنكر من وافق قوله للأصل أو الظاهر ، أم لا؟ وإنما ذلك مذكور في كلمات الأصحاب (قدس الله أسرارهم) خاصّة. وهو إن كان صحيحاً بحسب الغالب ، إلّا أنه لا دليل على ثبوته على نحو الكبرى الكلّية.

ومن هنا فلا محيص عن الرجوع إلى العرف لتحديد المفهومين ، ومن الواضح أنّ مقتضاه كون من يطالب غيره بشي‌ء ويلزمه به ويكون مطالباً لدى العقلاء بالإثبات مدعياً ، وخصمه الذي لا يطالب بشي‌ء منكراً.

نعم ، يستثني من ذلك ما إذا اعترف الخصم بأصل الحقّ وادّعى وفاءه ، كما إذا اعترف بالاستقراض مدعياً أداءه وفراغ ذمّته. فإنه حينئذ وإن كان الدائن هو المطالب غيره بالمال والملزم له به ، إلّا أنه يعتبر منكراً وعلى خصمه إثبات الأداء وذلك لاعترافه بأصل الدَّين ، فإنه يوجب انقلاب المدّعى لولا الاعتراف منكراً والمنكر لولاه مدعياً.

والحاصل أنه لا أثر لموافقة الأصل أو الظاهر أو مخالفته لهما في تحديد المدّعى والمنكر ، إذ لا دليل على شي‌ء مما ذكره الأصحاب في كلماتهم في المقام ، وإنما العبرة بما ذكرناه من الرجوع إلى العرف وتحديد المدّعى والمنكر على ضوء الفهم العرفي.

وعليه ففي المقام وإن كان قول كلّ منهما مخالفاً للأصل الموضوعي ، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من كون المضمون له هو المدعي ، باعتبار أنه الذي يطالب خصمه المضمون عنه بالمال نتيجة للفسخ بالخيار ، بعد اعترافه ببراءة ذمّته وفراغها منه بالضمان ويكون هو الملزم بالإثبات لدى العقلاء.

وبعبارة اخرى : إنّ اشتغال ذمّة المضمون عنه ثانياً نتيجة للفسخ من قبل المضمون له بالمال ورجوع الدَّين إليها من ذمّة الضامن ، لما كان محتاجاً لدى العقلاء إلى الإثبات ، كان المضمون له هو المدعي لا محالة ، فإن أمكنه الإثبات فهو ، وإلّا فالقول قول المضمون عنه.

إذن فالصحيح أنّ المقام من موارد المدعي والمنكر ، لاختصاص المطالبة والإلزام بأحد الطرفين دون الآخر ، وليس من موارد التداعي كما توهّمه بعضهم.

٤٨٠