موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

فعلى الأوّل ، الضامن من رضي المضمون له بضمانه (١). ولو أطلق الرضا بهما كان الضامن هو السابق. ويحتمل قوياً (٢) كونه كما إذا ضمنا دفعة (*) خصوصاً بناءً على اعتبار القبول من المضمون له ، فإن الأثر حاصل بالقبول نقلاً لا كشفاً.

وعلى الثاني ، إن رضي بأحدهما دون الآخر فهو الضامن (٣). وإن رضي بهما معاً ، ففي بطلانه كما عن المختلف وجامع المقاصد واختاره صاحب الجواهر ، أو التقسيط بينهما بالنصف أو بينهم بالثلث إن كانوا ثلاثة وهكذا ، أو ضمان كلّ

______________________________________________________

ينبغي الإشكال في صحّته ، لرجوعه إلى ضمان بعض الدَّين من قبل كلّ منهما ، وهو صحيح جزماً. فيتعين تقسيط المال عليهم بالنسبة ، وعدم جواز رجوع المضمون له على أحدهم بتمامه.

(١) لاعتبار رضاه في تحقق الضمان جزماً ، وإن لم نقل باعتبار قبوله.

(٢) بل هو المتعيّن. فإنّ الضمان إنما يتمّ برضاه أو قبوله ، فقبله لا ضمان وعند تحققه يكون نسبته إليهما على حدّ سواء ، فيجري فيه ما يجي‌ء في ضمانهما دفعة.

والحاصل أنّ حال هذه الإجازة حال إجازة المالك للعقدين الفضوليّين الواقعين على ماله على التعاقب ، حيث يحكم ببطلانهما معاً ومن غير أن يكون لسبق إيجاب أحدهما على الآخر أثر ، فإنّ الأثر إنما هو لسبق العقد على غيره لا سبق إيجابه على إيجاب غيره ، من غير فرق في ذلك بين القول بالنقل كما هو الصحيح في المقام ، أو الكشف كما هو الصحيح في باب الإجازة بناءً على ما اخترناه من الكشف الحكمي فإنّ الحكم إنما يكون من الآن.

نعم ، بناءً على القول بالكشف الحقيقي وجعل القبول معرفاً محضاً ، يمكن القول بصحّة السابق خاصّة ، إلّا أنه احتمال غير وارد على ما عرفته في محلّه.

(٣) لتمامية الضمان بالنسبة إليه دون صاحبه.

__________________

(*) هذا هو المتعيّن.

٤٤١

منهما فللمضمون له مطالبة من شاء كما في تعاقب الأيدي ، وجوه (*) أقواها الأخير (١).

______________________________________________________

(١) بل الأوّل.

إذ الثاني لا وجه له بالمرّة. فإنّ الضمان إنما تعلق بتمام المال ، فلا وجه للحكم بصحّة كلّ منهما في مقدار والبطلان في مقدار آخر ، فإنه ليس إلّا التفكيك في مدلول كلّ عقد بلا مبرر.

وأمّا الأخير ، فهو وإن كان معقولاً في حدّ نفسه وممكناً بحسب مقام الثبوت ، فإنه وكما يمكن تصوّره في الأحكام التكليفية الواجب الكفائي يمكن تصوّره في الأحكام الوضعية أيضاً ، إلّا أنّ الكلام في الدليل عليه في مقام الإثبات ، فإنه لا دليل عليه بالمرّة.

وقياسه على ضمان الأعيان والمنافع باطل. فإنّ متعلق الضمان في باب تعاقب الأيدي لما كان هو العين ، كانت مسؤوليتها وبفضل عموم «على اليد» على من يأخذها وتصل إليه ، فهي في عهدة كلّ من يأخذها ويكون مسؤولاً عنها ، على ما ذكرناه في معنى ضمان الأعيان. ومن هنا فإن أمكن ردّها وجب ، وإلّا تعيّن ردّ بدلها مثلاً أو قيمة.

ونسبة هذا المعنى إلى جميع الأيادي سواء ، فإنه وبمقتضى عموم «على اليد» ثابت على الأخير على حدّ ثبوته على الأوّل ، فإذا أدّى أحدهم بدلها ملك العين التالفة بالسيرة العقلائية.

ومن هنا يكون له الرجوع على من تأخّر عنه دون من تقدّم عليه ، لأنها انتقلت منه إليه ، فلا معنى لرجوعه عليه ببدلها أيضاً.

وأين هذا من ضمان ما في الذمّة ، حيث لا دليل على انتقال المال الواحد إلى ذمّتين

__________________

(*) هذا إذا لم يكن ضمان المتعدد من ضمان المجموع ، وإلّا فلا ينبغي الشك في لزوم التقسيط ، وأما إذا كان بنحو ضمان المتعدد استقلالاً فهو باطل على الأظهر.

٤٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

معاً ، بحيث يكون ماله الواحد ثابتاً في كلّ من الذمّتين أو الذمم على نحو الاستقلال بأن يكون له الرجوع إليهما معاً ، ومطالبة كلّ واحد منهما بتمام ماله في عرض مطالبته للآخر.

وبعبارة أُخرى : لا دليل على تضاعف دين المضمون له وثبوته في كلّ من الذمّتين بل إنّ ثبوته في كلّ منهما ملازم لبراءة ذمّة الآخر.

وأمّا ثبوته في ذمّتهما على نحو البدل ، نظير الواجب الكفائي ، فلم يدلّ على صحّته دليل ، فإنّ الضمان على البدل كالوجوب على البدل ، إنما يتصوّر على نحوين لا ثالث لهما ، على ما ذكرناه مفصلاً في مبحث الواجب الكفائي من المباحث الأُصولية.

الأوّل : أن يكون المخاطب والمكلف به هو الجامع. فإنّ الواجب لما كان من الأُمور الاعتبارية ، صحّ توجيهه إلى الجامع كما يصحّ تعلقه به ، كما هو الحال في موارد الواجبات التخييرية.

الثاني : أن يكون الخطاب متوجهاً إلى كلّ واحد منهما على نحو الواجب المشروط بحيث يكون كلّ واحد منهما مخاطباً به على تقدير عدم إتيان الغير به ، فيرجع الوجوب الكفائي إلى الوجوب المشروط.

وهذان المعنيان كما يمكن تصوّرهما في الأحكام التكليفية ، يمكن تصوّرهما في الأحكام الوضعية أيضاً. فيكون المخاطب بالضمان هو الجامع ، أو كلّ منهما على تقدير عدم أداء الآخر.

إلّا أنّ الكلام في إثباته بالدليل ، والظاهر عدم إمكان إثبات شي‌ء منهما.

أمّا الأوّل ، فواضح. فإنّ الضمان إنما صدر من كلّ منهما بشخصه ، فلا وجه لإثباته للجامع. فالذي صدر منه الضمان الفرد لم نقل بضمانه على الفرض ، والذي نقول بضمانه لم يصدر منه ضمان ، فلا وجه للالتزام به.

وأمّا الثاني ، فالأمر فيه كسابقه. فإنّ المنشأ من قبل كلّ من الضامنين ، إنما هو الضمان المطلق دون المقيد بعدم أداء غيره ، فحمله عليه إمضاء لما لم ينشِئْهُ. نظير ما ذكرناه في كتاب الإجارة ، فيما إذا آجر من يجب الحجّ عليه نفسه للحجّ نيابة عن

٤٤٣

وعليه إذا أبرأ المضمون له واحداً منهما برئ دون الآخر (١) إلّا إذا علم إرادته إبراء أصل الدَّين ، لا خصوص ذمّة ذلك الواحد.

[٣٥٩٤] مسألة ٢٧ : إذا كان له على رجلين مال ، فضمن كلّ منهما ما على الآخر بإذنه ، فإن رضي المضمون له بهما صحّ (٢). وحينئذٍ فإن كان الدَّينان متماثلين جنساً وقدراً ، تحوّل ما على كلّ منهما إلى ذمّة الآخر. ويظهر الثمر في الإعسار

______________________________________________________

غيره ، حيث حكمنا فيه ببطلان الإجارة ، باعتبار أنه وإن أمكن تصوّر ذلك صحيحاً على نحو الترتب إلّا أنه خلاف ما أنشأه المنشئ ، فيكون من مصاديق ما أُنشئ لم يُمضَ شرعاً وما يمكن إمضاؤه لم يُنشأ.

على أننا لو فرضنا التصريح بالثاني ، أعني الضمان على تقدير عدم أداء الآخر ، لم ينفع ذلك لاستلزامه التعليق المبطل للعقود.

إذن فلا دليل على صحّة الضمان البدلي بجميع تقاديره. فإنّ غاية أدلّة الضمان إثبات صحّة انتقال الدَّين من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، وأمّا انتقاله من ذمّته إلى ذمّة ما ومن غير تعيين فلم يدلّ على صحّته دليل.

والحاصل أنّ القول بانتقال الدَّين الواحد إلى الذمّتين معاً وجمعاً غير ممكن ، وإليهما على البدل وإن كان ممكناً إلّا أنه لا دليل عليه.

ومن هنا فيتعيّن القول الأوّل والحكم بالبطلان فيهما معاً ، كما ذهب إليه غير واحد من الأصحاب.

(١) وهو يناقض ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الثالثة ، من الحكم ببراءة الذمّتين على تقدير القول بأن الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة.

وكيف كان ، فبراءة الذمّتين معاً بإبراء إحداهما هو الصحيح ، لما عرفته في تلك المسألة من رجوع الإبراء إلى إسقاط الدَّين ورفع اليد عنه أساساً ، لا خصوص الضمّ فقط ، فراجع.

(٢) لتمامية الضمان في كلّ من الجانبين.

٤٤٤

واليسار (١) وفي كون أحدهما عليه رهن دون الآخر ، بناءً على افتكاك الرهن بالضمان. وإن كانا مختلفين قدراً أو جنساً ، أو تعجيلاً وتأجيلاً ، أو في مقدار الأجل ، فالثمر ظاهر.

وإن رضي المضمون له بأحدهما دون الآخر ، كان الجميع عليه (٢). وحينئذٍ فإن أدَّى الجميع رجع على الآخر بما أدّى ، حيث إنّ المفروض كونه مأذوناً منه. وإن أدَّى البعض ، فإن قصد كونه مما عليه أصلاً ، أو مما عليه ضماناً ، فهو المتبع (٣) ويقبل قوله إن ادّعى ذلك (٤). وإن أطلق ولم يقصد أحدهما ، فالظاهر التقسيط (*). ويحتمل القرعة. ويحتمل كونه مخيَّراً في التعيين بعد ذلك. والأظهر الأوّل (٥).

______________________________________________________

(١) بناءً على ما ذهب إليه المشهور واختاره هو (قدس سره) ، من ثبوت الخيار للمضمون له عند ظهور إعسار الضامن حين الضمان. فإنه وعلى هذا التقدير ، لو ظهر إعسار أحد الضامنين ، كان للمضمون له فسخ ضمانه خاصّة ، وبذلك يثبت المال بتمامه في ذمّة صاحبه. إلّا أنك قد عرفت في محله عدم تمامية هذا القول.

(٢) أمّا دين نفسه ، فلعدم صحّة ضمانه من قبل صاحبه ، نظراً لعدم قبول المضمون له به. وأمّا دين صاحبه ، فلصحّة ضمانه له.

(٣) فإنّ المال ماله والولاية فيه له ، فله أن يعيّن أيّ الدينين شاء.

(٤) للسيرة العقلائية القطعية على قبول قول من له الولاية على شي‌ء فيه والمعروفة اختصاراً في كلماتهم بقاعدة : «من ملك شيئاً ملك الإقرار به».

نعم ، لو كذّبه المضمون عنه ، انتهى الأمر إلى الترافع لا محالة.

(٥) بل هناك احتمال رابع هو أظهر الكلّ. وحاصله احتسابه عما في ذمّته بالأصالة

__________________

(*) بل الظاهر أنّه يقع وفاءً لما في ذمّته أصلاً ، فلا يجوز له الرجوع على المضمون عنه ما لم يقصد وفاء ما وجب عليه من قبله. والوجه في ذلك أنّ الرجوع عليه من آثار أداء ما ثبت في ذمّته من قبله ، فما لم يقصد بخصوصه لا يترتب أثره ، وبذلك يظهر حال نظائر المسألة.

٤٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

خاصّة ، وعدم رجوعه بشي‌ء منه على المضمون عنه.

والوجه فيه إنّ اشتغال الذمّة بواجبين متماثلين ، سواء في ذلك الواجبات التكليفية والوضعية ، يكون على أنحاء :

فقد يفرض عدم وجود الخصوصية لهما معاً ، بأن يكون المطلوب من المكلف هو فردان من الطبيعي ، من غير تقييد بهذا أو ذاك ، أو تمايز بينهما. نظير من فاته يومان من رمضان ، أو صلاتان متماثلتان من يومين ، أو كان عليه دينان لشخص واحد بأن يكون قد استقرض منه مرتين. حيث لا مائز بين الواجبين في هذه الموارد بحسب الواقع وعلم الله ، بل الواجب عليه هو فردان من طبيعي ذلك الواجب ، من غير تحديد بأحدهما دون الآخر.

وقد يفرض وجود الخصوصية لأحدهما دون الآخر ، كما لو كان عليه صيام يومين ، يوم عمّا فاته في السنة السابقة ، ويوم عمّا فاته من السنة التي هو فيها. حيث إنّ الأوّل لا خصوصية له ، في حين إنّ من خصوصية الثاني وجوب الفدية عند عدم الإتيان به إلى رمضان القادم. وكذا الحال في دينين بإزاء أحدهما رهانة ، حيث يكون من خصوصية ما بإزائه رهانة افتكاك الرهانة بأدائه ، في حين لا خصوصية في أداء صاحبه.

وقد يفرض وجود الخصوصية لهما معاً ، بأن يكون المطلوب منه هو الفردين الممتازين أحدهما عن الآخر ، كما لو كان عليه صيام يومين ، يوم عن الكفارة والآخر قضاء ، أو كان كلّ منهما نيابة عن شخص معين.

وعليه فإذا أتى المكلّف بأحد الواجبين الثابتين في ذمّته ، من غير تعيين له وقصد إليه بحسب الواقع.

فإن كان من قبيل الأوّل ، سقط الواحد لا بعينه وبقي الآخر لا بعينه ، إذ لا خصوصية تميز أحدهما عن صاحبه ، والجامع قابل للانطباق على كلّ منهما ، فيسقط أحدهما لا محالة ويبقى الآخر. فلو كان قد صام يوماً من اليومين أو أدّى أحد الدَّينين ، سقط يوماً وبقيت ذمّته مشغولة بيوم آخر ، وكذا الدَّين.

٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان من قبيل الثاني ، تعيّن الاحتساب عما لا خصوصية فيه وبقاء الذمّة مشغولة بذي الخصوصية ، نظراً إلى أنّ الاحتساب من الأوّل لا يحتاج إلّا إلى قصد أصل الطبيعي وهو حاصل ، بخلاف الثاني حيث يحتاج الاحتساب عنه إلى قصد الخصوصية وهو مفقود.

وبعبارة اخرى : إنّ الاحتساب عن ذي الخصوصية لا يكون إلّا مع قصده بعينه فإنه من الأُمور القصدية ، وما لم يقصد لم يسقط أمره ولم يتحقق امتثاله. بخلاف صاحبه ، حيث لا يتوقف احتسابه عنه على قصد زائد عن قصد أصل الطبيعي.

فالجامع ينطبق على ما لا خصوصية فيه من الواجبين قهراً ، لكفاية القصد إلى أصل الطبيعي فيه. ولا ينطبق على ما فيه الخصوصية ، لعدم قصدها.

وإن كان من قبيل الثالث ، اختلف الحال فيه بالنظر إلى ما يقبل التقسيط وما لا يقبله.

ففي الأوّل يتعين التقسيط ، كما لو ضمن لشخص دينين له على رجلين فأدّى مقداراً منه ، فإنه يحسب منهما لا محالة وإن لم يكن قد قصد إحدى الخصوصيتين حين الأداء ، فإنّ دفعه عما في ذمّته من قصد المجموع قهراً ، لأنه لم يدفعه تبرّعاً ومجّاناً. فليس هذا في الحقيقة من عدم قصد الخصوصية ، بل هو من قصد الخصوصيتين معاً فيحسب عليهما لا محالة.

وفي الثاني يتعين الحكم بالبطلان ، لعدم إمكان الاحتساب عليهما بالنسبة ، وبطلان الترجيح بلا مرجح. كما لو كان عليه صوم يومين عن شخصين ، فصام يوماً واحداً من غير تعيين للمنوب عنه ، فإنه لا محيص عن الحكم ببطلانه ، لعدم قابليته للتقسيط بينهما.

إذا عرفت ذلك كلّه ، فحيث إنّ ما نحن فيه أداء الضامن المديون لبعض المجموع من غير تعيين من قبيل القسم الثاني أعني وجود الخصوصية في أحدهما خاصّة باعتبار أنّ ثبوت الرجوع على المضمون عنه من خصوصيات الأداء عنه ، تعيّن الحكم فيه بالاحتساب عن نفسه وجعله بتمامه وفاءً عن دينه ، لعدم احتياجه إلّا إلى أصل قصد الطبيعي. بخلاف الأداء عن الغير ، حيث يتوقف على قصد الخصوصية.

٤٤٧

وكذا الحال في نظائر المسألة (١). كما إذا كان عليه دَين وعليه رهن ودَين آخر لا رهن عليه فأدّى مقدار أحدهما ، أو كان أحدهما من باب القرض والآخر ثمن المبيع ، وهكذا. فإنّ الظاهر في الجميع التقسيط.

وكذا الحال إذا أبرأ المضمون له مقدار أحد الدَّينين ، مع عدم قصد كونه من مال الضمان أو من الدَّين الأصلي. ويقبل قوله إذا ادّعى التعيين في القصد (٢) لأنه لا يعلم إلّا من قبله.

[٣٥٩٥] مسألة ٢٨ : لا يشترط علم الضامن حين الضمان بثبوت الدَّين على المضمون عنه (٣). كما لا يشترط العلم بمقداره (٤) فلو ادعى رجل على آخر دَيناً فقال : عليّ ما عليه ، صحّ. وحينئذٍ فإن ثبت بالبيّنة يجب عليه أداؤه ، سواء كانت

______________________________________________________

والحاصل أنّ الجامع منطبق على دينه الأصلي انطباقاً قهرياً ، فيكون ما أدّاه وفاءً عنه ، وتبقى ذمّته مشغولة بالدَّين الضماني ، لأنّ انطباقه عليه يحتاج إلى القصد ، وهو مفقود.

ومن هنا يظهر أنه لا وجه في المقام للقول بالتقسيط أو القرعة أو الرجوع في التعيين إليه ، لانتفاء موضوعها بعد تعين الاحتساب عليه قهراً.

(١) ظهر الحال فيها مما تقدّم ، فإنّ ما ذكرناه من القاعدة سيالة فيها أجمع.

(٢) بالسيرة العقلائية القطعية ، على ما تقدّم.

(٣) على ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب. وقد نسب الخلاف فيه إلى بعض ، بدعوى استلزامه الغرر المنفي.

إلّا أنك قد عرفت في المسألة الاولى من هذا الكتاب ، الإشكال منّا في عموم دليل القاعدة لغير البيع وفي صدق الغرر في المقام ، فراجع.

هذا مضافاً إلى رجوع الشكّ في المقدار إلى الشكّ في أصل الوجود بالنسبة إلى الزائد ، فإذا صحّ الضمان في الأوّل صحّ في الثاني أيضاً ، ولا وجه للتفكيك بينهما.

(٤) لعمومات أدلّة الضمان ، على ما تقدّم بيانه في المسألة الاولى من الكتاب.

٤٤٨

سابقة أو لاحقة (١). وكذا إن ثبت بالإقرار السابق على الضمان ، أو باليمين المردودة (٢) كذلك (٣).

وأمّا إذا أقرّ المضمون عنه بعد الضمان ، أو ثبت باليمين المردودة ، فلا يكون حجّة على الضامن إذا أنكره (٤) ويلزم عنه بأدائه في الظاهر (٥).

ولو اختلف الضامن والمضمون له في ثبوت الدَّين أو في مقداره ، فأقرّ الضامن أو ردّ اليمين على المضمون له فحلف ، ليس له الرجوع على المضمون عنه إذا كان

______________________________________________________

(١) لعدم اختصاص حجية البيّنة بما يكون قبل الضمان.

(٢) من المضمون عنه المنكر ، على المضمون له المدّعى.

(٣) أي قبل الضمان.

(٤) أمّا الأوّل ، فلاختصاص حجّيته بالمقر دون غيره ، فما يكون عليه يلزم بإقراره ، وأمّا ما يكون له أو على غيره فلا أثر لإقراره. وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إنّ إقراره إنما هو في حقّ الغير ، فلا وجه للقول بنفوذه.

وأمّا الثاني ، فلاختصاص أثره وحجّيته بمن ردّ اليمين على الحالف ، فهو الملزم بمقتضى اليمين دون غيره.

(٥) أي يلزم المضمون عنه أداء المال إلى المضمون له عن الضامن ظاهراً.

وقد أورد عليه في بعض الكلمات بما حاصله نفي المقتضي لهذا اللزوم ، باعتبار أنّ إقراره هذا كالعدم ، للقطع بفراغ ذمّته وعدم اشتغالها بشي‌ء ، لأنه إن كان كاذباً في إقراره فالأمر واضح فإنه بري‌ء الذمّة قبل الضمان وبعده ، وإن كان صادقاً فقد برئت ذمّته بانتقال ما فيها إلى ذمّة الضامن بحكم الضمان. ومن هنا فمطالبة المضمون له بالمال وأخذه منه ، ليس إلّا من أخذ ما يعلم بعدم استحقاقه له.

وفيه : إنه يمكن تقريب ما أفاده الماتن (قدس سره) بأحد وجهين :

الأوّل : إنّ إقراره لما كان حجة في ثبوت الدَّين عليه أوّلاً لزمه أداؤه ، نظراً إلى ان الضمان وإن اقتضى نقله إلى ذمّة الضامن ، إلّا أنه لما لم يكن إثبات الدَّين في حال سابق

٤٤٩

منكراً (١) وإن كان أصل الضمان بإذنه. ولا بدّ في البيّنة المثبتة للدَّين أن تشهد بثبوته حين الضمان. فلو شهدت بالدَّين اللّاحق أو أطلقت ولم يعلم سبقه على

______________________________________________________

على الضمان بدليل معتبر ، ومن ثمّ لم يكن الضامن ملزماً بأدائه ، كان لازم سقوطه من المضمون عنه أيضاً ذهاب مال المسلم هدراً ، وهو أمر لا يمكن المصير إليه فإنّ ماله كدمه لا يذهب هدراً.

ومن هنا فلا بدّ للمضمون عنه المعترف بثبوت الدَّين عليه أوّلاً الخروج عن عهدته ، وحيث لم يكن بدفعه عن نفسه مباشرة لاعتراف المضمون له ببراءة ذمّته فلا بدّ له من دفعه وفاءً عن الضامن ، حيث به يصل المال إلى صاحبه.

الثاني : الالتزام بفساد الضمان ، فيبقى الدَّين على حاله ثابتاً في ذمّة المدين الأوّل ومن هنا فيجب عليه الأداء وفاءً.

وذلك لا لأجل توقف صحّة الضمان على العلم بالدَّين فإنه أمر غير صحيح ، بل لإناطة صحّة الضمان بثبوت الدَّين شرعاً كإناطتها بثبوته الواقعي وهو غير قادح لكونه تعليقاً على ما يتقوّم به فإنه ليس إلّا أخذه في العهدة ، وهو إنما يكون فيما إذا ثبت وجوده شرعاً ، فما لم يثبت ذلك لم يكن المعلّق عليه الضمان حاصلاً فيحكم بفساده.

وهذا الاحتمال وإن كان هو الأوجه ، إلّا أنّ من غير الخفي كون الأوّل هو الأوفق بعبارته (قدس سره).

(١) لعدم نفوذ إقرار الضامن أو يمينه المردودة على خصمه في المضمون عنه.

ثمّ إنّ اختلاف الضامن والمضمون له في أصل ثبوت الدَّين وإنكار المضمون عنه لذلك بعد ثبوته بإقرار الضامن أو اليمين المردودة ، مع فرض كون الضمان بأمر المضمون عنه ، إنما يتصور في موارد الإذن في الضمان على نحو كلّي ، بأن يقول المضمون عنه للضامن : (اضمن عني ديوني). فإنه حينئذ يمكن فرض إنكار المضمون عنه لدين معين مع كون أصل الضمان عن إذنه ، وإلّا فلو كان الإذن شخصياً بأن أذن له في ضمان الدَّين المعين لم يكن لهذا البحث مجال ، إذ لا يمكن الجمع بين الاعتراف بأصل الدَّين

٤٥٠

الضمان أو لحوقه لم يجب على الضامن أداؤه (١).

[٣٥٩٦] مسألة ٢٩ : لو قال الضامن : عليّ ما تشهد به البيّنة ، وجب عليه أداء ما شهدت بثبوته حين التكلم بهذا الكلام ، لأنها طريق إلى الواقع وكاشف عن كون الدَّين ثابتاً حينه.

فما في (الشرائع) من الحكم بعدم الصحّة لا وجه له ، ولا للتعليل الذي ذكره بقوله : لأنه لا يعلم ثبوته في الذمّة (٢). إلّا أن يكون مراده في صورة إطلاق البيّنة المحتمل للثبوت بعد الضمان (٣).

وأمّا ما في الجواهر ، من أنّ مراده بيان عدم صحّة ضمان ما يثبت بالبينة من حيث كونه كذلك (٤) لأنه من ضمان ما لم يجب ، حيث لم يجعل العنوان ضمان ما في ذمّته لتكون البيّنة طريقاً (٥) بل جعل العنوان ما يثبت بها ، والفرض وقوعه قبل

______________________________________________________

الناشئ من إذنه في ضمانه شخصياً مع إنكاره لأصله.

والحاصل أن إذنه المضمون عنه في ضمان الدَّين المعيّن الشخصي اعتراف منه به وبثبوته عليه ، ومعه فلا مجال لإنكاره له بعد ذلك.

(١) إذ لا بدّ في جواز الرجوع عليه وإلزامه بما ضمنه ، من ثبوت الدَّين في ذمّة المضمون عنه شرعاً حال الضمان ، لينتقل به منها إلى ذمّة الضامن.

(٢) حيث قد عرفت في المسألة السابقة ، عدم اعتبار علم الضامن بثبوت الدَّين حين الضمان ، فلا بأس في الضمان على تقدير الثبوت. ولا يقدح التعليق فيه ، لكونه تعليقاً على الموضوع والعنصر المقوِّم للمفهوم.

(٣) بمعنى إنشاء الضمان المتأخر من الآن ، فإنه باطل جزماً. إلّا أنه احتمال بعيد جدّاً عن ظاهر عبارته (قدس سره) وخارج عن محل الكلام.

(٤) بمعنى تعلّق الضمان بالدَّين المقيد بقيام البيّنة عليه ، فإنه من ضمان ما لم يجب باعتبار أنه غير موجود حين الضمان ، وإنما يحدث عند قيام البيّنة عليه.

(٥) أي لم يجعل المضمون هو الدَّين الواقعي على إطلاقه مع جعل البينة كاشفة له

٤٥١

ثبوته بها. فهو كما ترى لا وجه له (١).

[٣٥٩٧] مسألة ٣٠ : يجوز الدَّور في الضمان (٢) بأن يضمن عن الضامن

______________________________________________________

كي يقال إنه كان ثابتاً وموجوداً حين الضمان. وإنما جعل المضمون هو الدَّين المقيّد بقيام البينة عليه ، وهو لا يعقل وجوده قبل قيام البينة عليه.

(١) أمّا أوّلاً : فلعدم انطباق ما ذكره (قدس سره) على ما علل به المحقق (قدس سره) الفساد في الشرائع ، فإنه (قدس سره) إنما علله بعدم العلم باشتغال ذمّة المضمون عنه بالدَّين (١). في حين إنّ مقتضى كلام صاحب الجواهر (قدس سره) كون اشتغال ذمّة المضمون عنه بالدَّين حين الضمان معلوم العدم ، لأنه مقيّد بقيام البيِّنة وهو غير موجود حين الضمان.

وبعبارة اخرى : إنّ تعليل صاحب الجواهر (قدس سره) البطلان بكونه من ضمان ما لم يجب (٢) ، أجنبي عن عبارة المحقق (قدس سره) ، فلا مجال لحملها عليه.

وثانياً : إنّ تعليل البطلان بكونه من ضمان ما لم يجب ، غير صحيح في نفسه ، ومع قطع النظر عن انطباقه على عبارة المحقق (قدس سره) وعدمه. وذلك لعدم قابلية الدَّين الثابت في الذمّة للتقييد بقيام البينة عليه وعدمه ، فإنّ الدَّين الثابت في الذمّة فرد واحد للدَّين قد تقوم عليه البيّنة وقد لا تقوم ، وليس أحدهما مغايراً للآخر ، كي يقال بأن ما قامت عليه البيّنة لم يكن موجوداً حين الضمان ، وما كان موجوداً حينه لم يتعلّق به الضمان.

وبعبارة اخرى : إنّ قيام البيّنة على الدَّين لا يجعل الفرد الواحد فردين مختلفين ومتغايرين ، بل هو فرد واحد يشتمل على الوصف تارة ويفقده اخرى.

فيكون هذا الضمان من ضمان الدَّين على تقدير ثبوته ، فيحكم بصحّته ، لكونه من التعليق على أمر مقوم له ، ولا وجه لأن يقال بأنه غير موجود حين الضمان.

(٢) إذ لا فرق في صحّة الضمان بحسب أدلّته بين دين وآخر ، سواء أكان ذلك من

__________________

(١) الشرائع ٢ : ١٢٥.

(٢) الجواهر ٢٦ : ١٣٣.

٤٥٢

ضامن آخر ، ويضمن عنه المضمون عنه الأصيل. وما عن (المبسوط) من عدم صحّته لاستلزامه صيرورة الفرع أصلاً وبالعكس (١) ولعدم الفائدة لرجوع الدَّين كما كان.

مدفوع بأنّ الأوّل غير صالح للمانعية (٢) بل الثاني أيضاً كذلك (٣). مع أنّ الفائدة تظهر في الإعسار واليسار (٤) وفي الحلول والتأجيل ، والإذن وعدمه. وكذا

______________________________________________________

جهة الشراء أو القرض أو الإتلاف أو الضمان أو غيرها من الأسباب ، فإنّ أدلّة الضمان شاملة للكلّ على حدّ سواء.

(١) فإنّ المدين الأوّل الأصل ينقلب فرعاً في الضمان الثاني ، حيث يتلقى الدَّين من الضامن الأوّل. في حين إنّ الفرع في الأوّل الضامن يصبح أصلاً ، لانتقال الدَّين منه إلى الضامن الجديد المضمون عنه الأوّل.

(٢) فإنه كلام صوري لا محصّل له. فإنّ انقلاب الفرع أصلاً وبالعكس لا يتصوّر في معاملة واحدة ، فإنهما من المتضادّين ، وهما لا يجتمعان في شخص واحد في آن واحد وبالقياس إلى معاملة واحدة. وتصوّرهما في معاملتين وإن كان أمراً ممكناً ، بأن يكون الأصل في المعاملة الأُولى فرعاً في الثانية ، إلّا أنه لا محذور فيه بالمرّة. فيجوز لمن باع داره من زيد ثمّ باعه زيد من عمرو أن يشتريه منه إجماعاً ، والحال أنه موجب لاتصافه بالبائع والمشتري بلحاظ معاملتين.

(٣) فإنه كيف يمكن نفي الفائدة في الثاني ، مع استلزامه لاشتغال ذمّة المضمون عنه الأوّل بالدَّين بعد أن كانت بريئة منه! فإنّ ما يملكه المضمون له ينتقل إلى ذمّته ويكون هو الملزم به.

فهو نظير ما لو اشترى داره ثانياً ، أو وهبه الموهوب له العين الموهوبة ، وهل يصحّ أن يقال ببطلانهما لعدم الفائدة فيهما؟!

(٤) بناءً على ما اختاره الماتن (قدس سره) وفاقاً للمشهور ، من ثبوت الخيار للمضمون له عند ظهور إعسار الضامن حين العقد.

وأما بناءً على ما اخترناه من عدم ثبوت الخيار ، فلا مجال لهذه الثمرة.

٤٥٣

يجوز التسلسل بلا إشكال (١).

[٣٥٩٨] مسألة ٣١ : إذا كان المديون فقيراً يجوز أن يضمن عنه بالوفاء ، من طرف الخُمس أو الزّكاة أو المظالم أو نحوها من الوجوه التي تنطبق عليه (٢) إذا كانت ذمّته مشغولة بها فعلاً ، بل وإن لم تشتغل فعلاً ، على إشكال (*).

______________________________________________________

(١) لما تقدّم في الدور بعينه. فإنّ مقتضى أدلّة الضمان صحّة ضمان كلّ دين ، مع قطع النظر عن منشَإِه وسببه.

(٢) وفيه ما لا يخفى. لأنه (قدس سره) إن أراد به كون الضمان على ما في ذمّته من الحقوق الشرعية ، بأن يكون الشخص بري‌ء الذمّة ويكون المال هو المدين والمتعهد به ، فقد عرفت فساده في كتاب الزكاة ، عند ما جوّز الماتن (قدس سره) الاقتراض للزكاة للصرف في الأُمور الخيرية اللازمة ، فتكون هي المدينة ويؤدّي دَينها بعد ذلك مما يحصل منها.

حيث ذكرنا أنه مما لا يمكن تصوّره وتعقله ، فإنّ الدَّين والمدين أمران متغايران لا يمكن اتحادهما. فمعنى الاستدانة لها كونها هي المدينة والمكلّفة بالأداء ، بحيث يجب عليها الوفاء مما تملكه ، ومن الواضح أنّ هذا لا ينسجم مع كون الأداء من نفسها.

وبعبارة اخرى : إنّ الحكم باشتغال الحقوق الشرعية بالدَّين ، لا يتلاءم مع الحكم بكون الأداء منها. فإنّ مقتضى الأوّل كون الأداء من غيرها ، في حين إنّ مقتضى الثاني كونها غير مدينة هي بنفسها ، إذ لا يعقل اتحاد الدَّين والمدين.

وعلى هذا الأساس كان التزامنا في تلك المسألة بلابدّيّة استدانة الحاكم لنفسه لكن لا بما هو هو وإنما بما هو حاكم وولي ، وصرفه في الأُمور اللّازمة ، ومن ثمّ تأدية دينه هذا من الزكاة.

ومن هنا فلا يكون هو بما هو هو مشغول الذمّة بشي‌ء ، ولذا لا يخرج شي‌ء من ذلك من تركته ، بل يكون المقام والمنصب هو المتعهد بالدَّين.

__________________

(*) لا يبعد عدم الجواز فيه ، بل وفي سابقه.

٤٥٤

[٣٥٩٩] مسألة ٣٢ : إذا كان الدَّين الذي على المديون زكاة أو خمساً ، جاز أن يضمن عنه ضامن للحاكم الشرعي (١)

______________________________________________________

على أننا لو تعقّلنا الاستدانة للزكاة وقلنا بكونها أمراً ممكناً ، فلا دليل على ثبوت الولاية لغير الحاكم في ذلك. وعليه فلا مجال لما ذكره (قدس سره) من جوازه لمن عليه الحقّ ، فإنّ غاية دليله ثبوت الولاية له في إخراجها وأدائها خاصّة ، وأمّا جعلها هي المدينة بحيث يكون الضمان في عهدتها ، فلا دليل على ثبوت الولاية له فيه.

وتفصيل الكلام قد تقدّم في محله من مباحث الزكاة ، فراجع.

وإن أراد به كون المكلف هو المتعهد بالدَّين ، بحيث يجعل نفسه هو مشغول الذمّة به ، لكن على أن يؤديه من الزكاة.

ففيه : إنه لا يجوز له بالمرّة ، فإنها إنما تصرف في أداء دين الغارم الفقير ، فلا موجب لأداء دينه منها مع كونه غنياً موسراً ، وإن كان المضمون عنه فقيراً ، فإنّ الدَّين بالفعل دينه لا دين المضمون عنه.

وبالجملة فما أفاده (قدس سره) من جواز الضمان عن الفقير بالوفاء من الحقوق الشرعية ، مما لا أساس له ولا يمكن المساعدة عليه.

(١) إذ لا يعتبر في المضمون له كونه مالكاً للمال ، بل يكفي فيه كون أمره بيده بحيث يكون نقله منوطاً برضاه ، سواء أكان مالكاً أو وكيلاً أو ولياً. وحيث إنّ الحاكم الشرعي وليّ على الحقوق الشرعية ، كفى قبوله في صحّة الضمان ونقل الدَّين من ذمّة إلى أُخرى.

إلّا أنّ هذا الذي أفاده (قدس سره) لا يتمّ على إطلاقه إلّا في بعض الموارد. فإنه إذا لم يكن الحقّ الثابت في ذمّة المدين أمراً عباديا متوقّفاً على قصد القربة كما هو الحال في الكفارات والمظالم تمّ ما ذكره (قدس سره) على إطلاقه ، حيث يصحّ ضمان الغير له برضا الحاكم الشرعي مطلقاً.

وأمّا إذا كان الحقّ أمراً عباديا متوقّفاً على قصد القربة كالزكاة والخمس فلا

٤٥٥

بل ولآحاد الفقراء ، على إشكال (*) (١).

[٣٦٠٠] مسألة ٣٣ : إذا ضمن في مرض موته ، فإن كان بإذن المضمون عنه

______________________________________________________

يتمّ ما ذكره (قدس سره) على إطلاقه ، بل لا بدّ من التفصيل فيه بين الضمان التبرعي والإذني ، والحكم بالبطلان في الأوّل والصحّة في الثاني.

وذلك لما ذكرناه في مبحثي الخمس والزكاة ، من أنّ أداء دين الغير وإن لم يكن يتوقّف على رضا المدين ، فيصحّ أداء الغير ويكون مسقطاً له ، لعدم الدليل على اعتبار كون المؤدّي هو المدين. إلّا أنّ هذا الكلام لا يتمّ في الخمس والزكاة وما يشبههما من الحقوق الشرعية ، باعتبار كونهما من الأُمور العبادية ، فلا بدّ في أدائهما من استناد الفعل إلى من وجب عليه الحقّ مع قصده للقربة ، ومن هنا فلا يصحّ التبرع بهما من الغير.

نعم ، تعتبر فيهما المباشرة. فيجوز الإعطاء مع التسبيب والتوكيل ، فيأمر به قاصداً فيه القربة ، كي يحصل المقومان معاً ، الاستناد إليه مع قصد القربة.

وعليه ففيما نحن فيه حيث يكون الدَّين أمراً عباديا ، لا يصحّ الضمان التبرعي ، ولا يكون دفعه الضامن للمال مسقطاً للواجب في ذمّة المديون ، إذ لا يكفي فيه مجرّد الأداء الخارجي ، بل المعتبر هو الأداء المقرون بالاستناد إليه مع قصد القربة ، وهو أمر غير متحقق.

نعم ، لو أمر بالضمان قاصداً القربة به ، صحّ وبرئت ذمّته بأداء الضامن ، لاستناد الفعل إليه.

والحاصل أنّ الصحيح هو التفصيل في المقام ، بين الديون الشرعية غير العبادية فيصحّ ضمانها بإذن الحاكم الشرعي مطلقاً ، والديون الشرعية العبادية حيث يصحّ الإذني منه دون التبرعي.

(١) واضح ، حيث لم يظهر لجوازه وجه أصلاً. فإنّ آحاد الفقراء أجانب عن المال

__________________

(*) لا وجه لجوازه.

٤٥٦

فلا إشكال في خروجه من الأصل ، لأنه ليس من التبرعات ، بل هو نظير القرض والبيع بثمن المثل نسيئة (١). وإن لم يكن بإذنه ، فالأقوى خروجه من الأصل كسائر المنجزات (٢). نعم ، على القول بالثلث يخرج منه.

[٣٦٠١] مسألة ٣٤ : إذا كان ما على المديون يعتبر فيه مباشرته لا يصحّ ضمانه (٣). كما إذا كان عليه خياطة ثوب مباشرة ، وكما إذا اشترط أداء الدَّين من مال معين للمديون (٤).

______________________________________________________

بالمرّة ، وليس لهم وكالة أو ولاية عليه فضلاً عن أن يكونوا مالكين له ، ولذا لا تجب إجابتهم عند طلبهم له. ومعه فكيف يمكن الحكم بصحّة الضمان وانتقال المال من ذمّة المدين إلى ذمّة غيره! بلا فرق في ذلك بين الديون العبادية وغيرها.

(١) وغيرهما من التصرفات المنجزة غير المبنيّة على التسامح والنقيصة ، حيث تخرج من الأصل جزماً ، لكونه مالكاً له وله التصرّف فيه كيف شاء.

(٢) على ما حققناه مفصَّلاً في محله.

(٣) فإنه يعتبر في الضمان قابلية انتقال الدَّين الثابت في ذمّة المديون إلى ذمّة أُخرى ، إذ بدونها لا يتحقق مفهوم الضمان بالمعنى المبحوث عنه في المقام. وحيث إنّ العمل المقيد بالمباشرة غير قابل للانتقال إلى ذمّة أُخرى وصدوره من غير من اشترطت المباشرة عليه ، باعتبار أنّ العمل القائم بشخص الأجير مغاير للعمل الصادر من غيره ، فلا يصحّ ضمانه.

وبعبارة اخرى : إنّ الذي يقبل الانتقال من ذمّة المدين إلى ذمّة أُخرى وهو طبيعي العمل ، غير ثابت في ذمّة المدين كي ينقل إلى ذمّة غيره بالضمان. وما هو ثابت في ذمّة المدين وهو العمل المقيد بالمباشرة ، غير قابل للانتقال إلى ذمّة الغير وصدوره منه.

(٤) فإنه غير قابل للانتقال إلى ذمّة الغير ، إذ لا يعقل اشتغال ذمّة شخص بالأداء من مال غيره ، فإنّ اشتغال ذمّة المكلف إنما يقتضي كون الأداء من ماله ، فاعتبار الأداء من غيره منافٍ لاشتغال ذمّته به.

٤٥٧

وكذا لا يجوز ضمان الكلي في المعين (١) كما إذا باع صاعاً من صبرة معينة ، فإنه لا يجوز الضمان عنه والأداء من غيرها مع بقاء تلك الصبرة موجودة.

[٣٦٠٢] مسألة ٣٥ : يجوز ضمان النفقة الماضية للزوجة ، لأنها دَين على الزوج (٢). وكذا نفقة اليوم الحاضر لها إذا كانت ممكنة في صبيحته ، لوجوبها عليه

______________________________________________________

نعم ، لو رجع قبول المضمون له للضمان إلى إسقاط شرطه ، بحيث وافق على انتقال أصل الدَّين إلى ذمّة الضامن مجرداً عن الشرط ، فلا بأس بالالتزام بصحّته.

والحاصل أنّ ضمان الدَّين المقيد بكون أدائه من مال معين للمديون ، إنما لا يصحّ فيما إذا أصرّ المضمون له صاحب الشرط على بقاء شرطه وعدم رفع اليد عنه فإنه حينئذٍ يحكم ببطلانه ، لعدم قابليته للانتقال إلى ذمّة الغير. وأمّا إذا وافق على إسقاط شرطه وانتقال الدَّين مجرّداً عنه ، فلا مانع من الالتزام بصحّته ، وإن كان أصل الدَّين مقيداً بالأداء من مال معين.

(١) فإنّ المبيع عين خارجية وإن كانت كليّة من حيث جواز تطبيق البائع له على أي جزء من الصبرة شاء فلا يقبل الانتقال إلى عين اخرى فضلاً عن الذمّة.

وبعبارة اخرى : إنّ المبيع لما كان موجوداً خارجياً وإن لم يكن شخصياً حيث إنه كلّي لكنه مقيد بالموجود في ضمن الصبرة المعينة لم يصحّ ضمانه ، لعدم ثبوت شي‌ء في الذمّة كي يقبل النقل إلى غيرها.

(٢) تنقسم النفقات إلى قسمين : نفقة الزوجة ونفقة الأقارب.

والمعروف والمشهور في الاولى ، بل لا يبعد دعوى الإجماع عليه كونها على نحو التمليك. بخلاف الثانية ، حيث إنّ وجوبها حكم تكليفي محض ، لا يترتّب على مخالفته غير العصيان والإثم.

ويدلّ على الحكم في الأُولى ، مضافاً إلى ما سيظهر من بعض النصوص ، قوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (١). فإنّ الرزق عبارة عما يرتزق به

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٣٣.

٤٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

واسم للعين الخارجية مما يؤكل أو يشرب ، والكسوة اسم لما يلبس ، فيكون معنى الآية الكريمة : أنّ على الرجل الطعام والشراب واللباس بالمعروف.

وقد ذكرنا في مبحث النفقات من كتاب النكاح أنّ متعلق (عليك) أو (عليه) أو غيرهما مما يدلّ على الإلزام ، إذا كان عيناً خارجياً كان معناه التمليك ، فيقال : عليه الدينار أو الدرهم وما شاكل ذلك. وهذا بخلاف ما لو كان متعلقه الفعل كالصلاة والصيام ، فإنّ ظاهره الإلزام به ووجوبه عليه تكليفاً محضاً لا غير.

وحيث إنّ الآية الكريمة من قبيل الأوّل ، باعتبار أنها أثبتت نفس الأعيان الخارجية على الرجل ، كان ظاهرها ثبوت تلك الأعيان في ذمّته ، وهو ما يعني ملكيّة الزوجة لها عليه.

وتقدير الفعل في الآية الكريمة ، بدعوى كون المراد : عليه إعطاء الرزق والكسوة خلاف الظاهر ولا شاهد يعضده.

واحتمال كون الرزق والكسوة مصدرين ، كما جاء في بعض الكلمات ، بعيد غايته. فإنّ الأوّل من الأفعال المتعدّية ومصدره الرزق بفتح الراء وأوضح منه فساداً الثاني ، فإنه اسم للعين وليس بمصدر جزماً ، فإنّ مصدره الكسو.

إذن فما ذهب إليه المشهور بل لا يبعد دعوى عدم الخلاف فيه ، من ملكيّة الزوجة لنفقتها ، هو الصحيح.

هذا كلّه في الزوجة. وأمّا الأقارب فلا دليل على ملكيتهم لنفقتهم بالمرّة ، حيث لم يرد في شي‌ء من نصوصها ما يستفاد منه ذلك ، بل الأمر بالعكس من ذلك ، حيث إنّ ظاهر نصوصها كون الإنفاق عليهم حكماً تكليفياً محضاً.

وعليه فلو عصى المكلّف ولم ينفق عليهم ، لم يكن عليه غير الإثم. وأمّا اشتغال ذمّته بها لهم ، حتى لو مات أُخرجت من تركته كسائر الديون الذي عليه ، فلا.

نعم ، ليس هذا الحكم التكليفي كسائر الأحكام التكليفية بالمعنى الأخص ، وهو ما يصطلح عليه في كلماتهم بالحكم ، وإنما هو من الحقوق حيث يقبل الإسقاط ، كما هو الحال في سائر موارد الحقوق.

٤٥٩

حينئذٍ (١) وإن لم تكن مستقرّة ، لاحتمال نشوزها في أثناء النهار ، بناءً على سقوطها بذلك. وأمّا النفقة المستقبلة فلا يجوز ضمانها عندهم ، لأنه من ضمان ما لم يجب (٢). ولكن لا يبعد صحّته (*) (٣) لكفاية وجود المقتضي وهو الزوجية.

______________________________________________________

ومن هنا فلو امتنع من يجب عليه الإنفاق منه ، جاز لواجب النفقة رفع أمره إلى الحاكم وله إجباره عليه ، فإن امتنع جاز له الأخذ من ماله والإنفاق على من تجب نفقته على الممتنع ، لكونه وليّ الممتنع.

إذا عرفت ذلك كلّه ، ظهر الوجه في صحّة ضمان النفقة الماضية للزوجة ، فإنها دين حقيقة ثابت في ذمّة الزوج بالفعل ، فلا مانع من نقله بالضمان إلى ذمّة غيره.

كما ظهر الوجه في عدم جواز ضمان النفقة الماضية للأقارب ، إذ الإنفاق عليهم ليس إلّا حكماً تكليفياً محضاً ، فلا يترتب على عصيانه ثبوته دَيناً في ذمّته.

(١) بناءً على ما هو المعروف والمشهور بينهم من ملكيّة الزوجة لنفقتها في أوّل النهار ، فإنه حينئذ يصحّ ضمانها ، لثبوتها في ذمّته بالفعل.

وكذا بناءً على القول بملكيتها لنفقة كلّ وقت في حينه ، بحيث تملك نفقة الصبح صباحاً ونفقة الظهر عنده والعشاء ليلاً ، فإنه يصحّ ضمانها في حينها ، لثبوتها في ذمّة الرجل عند ذلك.

(٢) وحيث لا تملك الزوجة شيئاً بالفعل في ذمّة زوجها ، فهو غير مدين إليها بالفعل ، كي يصحّ الضمان ونقل ذلك الدَّين إلى ذمّة غيره.

(٣) بل هو بعيد جدّاً ، بل لم يظهر وجه لاحتمال الصحّة في المقام بالمرّة. فإنّ الضمان كما عرفته نقل الدَّين من ذمّة إلى أُخرى ، فما لم يكن الدَّين ثابتاً بالفعل فلا موضوع لنقله.

وبعبارة اخرى : إنّ الضامن إن أنشأ اشتغال ذمّته بالدَّين فعلاً ، فهو غير صحيح لعدم ثبوته في ذمّة المضمون عنه كي ينقل إلى ذمّته. وإن أنشأ اشتغالها به عند اشتغال

__________________

(*) مر الكلام فيه.

٤٦٠