موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

ما لا يخفى (١). وفي الأوّل منع تحقّقه في المقام (٢).

______________________________________________________

ومن هنا فلا يمكن فرض الإيجاد بالفعل مع فرض عدم الوجود كذلك ، بأن يكون معلّقاً على أمر سيتحقق في المستقبل.

(١) فإنّ الإنشاء وعلى ما حققناه مفصلاً في المباحث الأُصولية ، ليس من الإيجاد في شي‌ء وإن ذهب إليه غير واحد من الأصحاب. وعلى تقدير تسليمه ، فليس التعليق هنا في الإيجاد ونفس الإنشاء ، وإنما هو في الأمر الاعتباري أعني المعتبر ، فإنه قد يفرض مطلقاً وقد يفرض مقيداً.

فإنّ الاعتبار والإنشاء كما يتعلقان بالأمر المطلق يتعلقان بالأمر المقيد ، فقد يُنشئ الإنسان الملكيّة المطلقة وقد يُنشئ الملكيّة المقيدة ، فهما من هذه الناحية أشبه شي‌ء بالواجب المطلق والواجب المشروط.

ولا يلزم من ذلك أي انفكاك بين الإنشاء والمنشأ والاعتبار والمعتبر ، فإنّ الملكيّة المقيّدة موجودة بالفعل بالاعتبار ، كما هو الحال في الوصية والتدبير.

بل يمكن القول بذلك في الوجود الحقيقي أيضاً ، إذ يصحّ تعلّق اللحاظ والتصوّر بالأمر الاستقبالي كقيام زيد في يوم غد ونحوه ، فإنّ قيامه كذلك موجود بالفعل بالوجود الذهني ، والحال أنّ الوجود الذهني نوع من الوجود الحقيقي.

والحاصل أنّ التعليق في المقام ليس في نفس الإنشاء والاعتبار ، وإنما هو في المنشأ والمعتبر. ولا مانع منه ، فإنّ كلّاً منهما موجود بالفعل ، وليس المفقود إلّا فعلية الملكيّة.

(٢) في قبال المقام الأوّل ، أعني تعليق العقد على الأمر المتأخر وإن علم حصوله فإنه لا يبعد القول بتحققه فيه.

بل ولو لم يتمّ ذلك ، فالحكم بالصحة فيه مشكل أيضاً ، نظراً لعدم شمول العمومات له ، لما عرفته من ظهورها في اعتبار كون الوفاء من حين العقد ، وعدم انفكاك المعتبر عن حين الاعتبار.

ولا يبعد دعوى كون بناء العقلاء على ذلك أيضاً في غير الوصية والتدبير ـ

٤٠١

وربّما يقال : لا يجوز تعليق الضمان ، ولكن يجوز تعليق الوفاء على شرط مع كون الضمان مطلقاً. وفيه : إنّ تعليق الوفاء عين تعليق الضمان ، ولا يعقل التفكيك (١).

نعم ، في المثال الثاني يمكن أن يقال (*) بإمكان تحقق الضمان منجزاً مع كون

______________________________________________________

حيث لم يعهد صدور مثله منهم ، بأن يجري عقد النكاح مع المرأة الآن على أن تكون هي زوجة له من غد ، وهكذا.

وأما في المقام ، أعني التعليق على أمر فعلي مشكوك الحصول ككونه هاشمياً ونحوه ، فلم يتم إجماع على إيجابه لفساد العقد ، ولا سيما في الضمان حيث لا يتضمّن أيّ نوع من التمليك والتملك.

(١) لأنّ الوفاء إذا كان مقيَّداً بشي‌ء كان مرجعه إلى عدم الضمان عند عدم ذلك التقدير ، إذ لا معنى لعدم الوفاء إلّا عدم الضمان ، وإلّا فلا معنى لكون الضمان مطلقاً مع تعليق الوفاء على أمر غير متحقق.

نعم ، لا بأس بالتعليق على أمر معدوم التحقق بعد ذلك ، فإنه خارج عن محلّ الكلام لا يتمّ في خصوص المثال الثاني ، أعني تعليق الضمان على عدم وفاء المدين. فإنه لا بدّ من القول فيه بالبطلان حتى بناءً على القول بصحة التعليق في الضمان ، وذلك لأنّ مرجع التعليق على عدم الوفاء بقاء الدَّين في ذمّة المدين إلى حين الأداء ، وهو ينافي مذهبنا في الضمان وكونه نقل ذمّة إلى أُخرى ، وإنما ينسجم مع مذهب العامّة من كونه ضمّ ذمّة إلى أُخرى.

__________________

(*) لعله يريد بذلك أنّ الضمان في مورد تعليق الوفاء على عدم وفاء المديون ، ليس بمعنى النقل إلى الذمة ليرجع تعليق الوفاء عليه إلى تعليق الضمان ، بل هو بمعنى تعهّد ما في ذمّة الغير على حذو تعهّد العين الخارجية ، وعليه فالضمان فعليّ وأثره الانتقال إلى الذمة على تقدير عدم وفاء المديون ، كما أنّ أثره في ضمان العين الخارجية ذلك على تقدير تلفها. وعلى هذا فلا بأس بما أفاده (قدس سره) ، ولا يبعد أن يكون الضمان بالمعنى المزبور من المرتكزات العرفية.

٤٠٢

الوفاء معلقاً على عدم وفاء المضمون له (١) لأنه يصدق أنه ضمن الدَّين على نحو الضمان في الأعيان المضمونة ، إذ حقيقته قضية تعليقية. إلّا أن يقال بالفرق بين الضمان العقدي والضمان اليدي.

الثامن : كون الدَّين الذي يضمنه ثابتاً في ذمّة المضمون عنه ، سواء كان مستقرّاً كالقرض والعوضين في البيع الذي لا خيار فيه ، أو متزلزلاً كأحد

______________________________________________________

(١) ولعل مراده (قدس سره) من كلامه هذا يرجع إلى إرادة معنى آخر غير المعنى المصطلح من الضمان ، أعني نقل ما في ذمّة إلى أُخرى.

وقد يكون هذا المعنى هو التعهّد بالمال وكون مسؤوليته عليه من دون انتقاله بالفعل إلى ذمّته ، كما هو الحال في موارد ضمان العارية مع الشرط ، أو كون العين المستعارة ذهباً أو فضة. فإنّ ضمانها ليس بالمعنى المصطلح جزماً ، إذ لا ينتقل شي‌ء بالعارية إلى ذمة المستعير ، فإنّ العين لا تقبل الانتقال إلى الذمة وهو غير مشغول الذمة ببدلها قبل تلفها ، فليس ضمانها إلّا بمعنى كون مسؤوليتها في عهدته ، بحيث يكون هو المتعهد بردّها ولو مثلاً أو قيمة عند تلفها ، ونتيجة ذلك إلزام المستعير بردّها عيناً أو مثلاً أو قيمة.

وبهذا المعنى يستعمل الضمان في موارد كثيرة ، كقولهم : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (١) و «أنّ الغاصب ضامن» (٢). فإنه لا يراد به إلَّا التعهد وكونه هو المسئول عن المال ، وإلّا فهو غير مشغول الذمة ببدله فعلاً.

وكيف كان ، فإذا صحّ مثل هذا الضمان في الأعيان الخارجية كموارد اليد والعارية فليكن ثابتاً في الأُمور الثابتة في الذمة أيضاً ، فإنه لا يبعد دعوى كونه متعارفاً كثيراً في الخارج ، فإنّ أصحاب الجاه والشأن يضمّون المجاهيل من الناس من دون أن يقصد بذلك انتقال المال بالفعل إلى ذممهم ، وإنما يراد به تعهّدهم به عند تخلّف المضمون عنه عن أدائه.

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٦١ كتاب اللفظة ، ب ١٦ ذيل الحديث ٢.

(٢) انظر الوسائل ٢٨ : ٢٦٥ ٢٦٦ كتاب الحدود والتعزيرات ، ب ١٠ ذيل الحديث ٥.

٤٠٣

العوضين في البيع الخياري ، كما إذا ضمن الثمن الكلي للبائع أو المبيع الكلِّي للمشتري أو المبيع الشخصي (*) قبل القبض (١) وكالمهر قبل الدخول ونحو ذلك. فلو قال : أقرض فلاناً كذا وأنا ضامن ، أو بعه نسيئة وأنا ضامن ، لم يصحّ على المشهور (٢) (**) بل عن التذكرة الإجماع ، قال : لو قال لغيره مهما أعطيت فلاناً

______________________________________________________

والحاصل أنّ الضمان في المقام غير مستعمل في معناه المصطلح. وعليه فلا مجال للإيراد عليه ، بأنه يتضمّن التعليق الباطل ، أو أنه من ضمّ ذمّة إلى أُخرى لا من نقل ما في ذمّة إلى ذمة أُخرى. وإنما هو مستعمل في التعهد والمسؤولية عن المال ، وهو أمر متعارف عند العقلاء ، فتشمله العمومات والإطلاقات ، فإنه عقد يجب الوفاء به.

(١) الظاهر أنّ ذكره من سهو قلمه الشريف ، فإنه لا محلّ له في مورد الكلام عن اعتبار الثبوت في الدَّين المضمون ، لأنه أجنبي عنه بالمرّة.

وكيف كان ، فإن كان المراد من ضمانه هو الضمان بالمعنى المصطلح وإن كان احتماله بعيداً جدّاً بمعنى جعل الشي‌ء في عهدته عند تلفه وانتقاله من ذمة البائع إلى ذمة الضامن ، فهو باطل جزماً ، نظراً إلى أنّ التلف قبل القبض يوجب انفساخ العقد ورجوع المال إلى ملك مالكه البائع آناً ما كي يكون خسرانه عليه ، ومعه فلا يبقى موضوع للضمان.

وإن كان المراد به تعهّد الضامن بتسليم العين عند احتمال امتناع البائع عنه لا تعهّد تداركه عند تلفه ، فيجب عليه تسليم العين عند الإمكان وإلّا فيلزم ببدلها ، فهو صحيح ولا بأس به ، حيث قد عرفت في المسألة السابقة أنّ مثل هذا الضمان من المرتكزات العرفية وواقع كثيراً في الأعيان الشخصية الخارجية والديون.

والحاصل أنّ أصل الحكم في المقام صحيح وفي محله ، إلّا أن ذكره في المقام من سهو القلم ، لأنّ الكلام في اعتبار الثبوت في الدَّين عند ضمانه.

(٢) على إشكال ستعرفه.

__________________

(*) لا موقع لذكره في المقام ، فإنّ الكلام إنّما هو في ضمان الدَّين.

(**) فيه إشكال ، والاحتياط لا يترك ، ولا يبعد تفرّع هذا الشرط على سابقه.

٤٠٤

فهو عليّ ، لم يصحّ إجماعاً. ولكن ما ذكروه من الشرط ينافي جملة من الفروع الآتية.

ويمكن أن يقال (١) بالصحّة إذا حصل المقتضي للثبوت وإن لم يثبت فعلاً ، بل مطلقاً ، لصدق الضمان وشمول العمومات العامة ، وإن لم يكن من الضمان المصطلح عندهم (٢) بل يمكن مع عدم كونه منه أيضاً.

التاسع : أن لا تكون ذمّة الضامن مشغولة للمضمون عنه بمثل الدَّين الذي عليه ، على ما يظهر من كلماتهم في بيان الضمان بالمعنى الأعم ، حيث قالوا إنه بمعنى التعهد بمال أو نفس. فالثاني الكفالة. والأوّل إن كان ممن عليه للمضمون عنه مال فهو الحوالة ، وإن لم يكن فضمان بالمعنى الأخصّ.

______________________________________________________

(١) إلّا أنه لا يتمّ بناءً على مذهبنا في الضمان وأنّه نقل ذمّة إلى أُخرى ، فإنه إذا لم تكن الذمة الاولى مشغولة بشي‌ء لم يكن لنقله إلى ذمة أُخرى معنى محصل ، ومعه كيف يمكن التمسك بالإطلاقات لإثبات صحّته.

نعم ، لا يبعد تفرّع هذا الشرط أعني ثبوت الدين في الذمّة بالفعل ، على الشرط السابق أعني التنجيز. فإنه لو لم نقل باعتبار التنجيز كما احتملناه ، أمكن التمسك بالإطلاقات والحكم بصحة الضمان في المقام وبمعناه المصطلح على نحو الضمان المتأخر بأن يكون الإنشاء فعلياً والانتقال بعد الدَّين والإعطاء ، فالضامن في الحقيقة إنما ينشأ الانتقال إلى ذمّته بعد الدَّين من الآن.

والحاصل أنه إن تمّ إجماع على اعتبار التنجيز في الضمان ، فلا محيص عن الحكم بالبطلان في المقام ، وإلّا فلا بأس بالتمسك بالإطلاقات وإثبات صحّة الضمان بمعناه المصطلح. وحيث إنّ الماتن (قدس سره) ممن يعتبر التنجيز ، فلا وجه لتمسّكه بالإطلاقات في المقام.

(٢) بأن يكون بمعنى التعهد بالدَّين المتأخر على حدّ التعهد بالأعيان الخارجية.

٤٠٥

ولكن لا دليل على هذا الشرط (١). فإذا ضمن للمضمون عنه بمثل ما له عليه يكون ضماناً ، فإن كان بإذنه يتهاتران (*) بعد أداء مال الضمان (٢) وإلّا فيبقى الذي للمضمون عنه عليه ، وتفرغ ذمّته مما عليه بضمان الضامن تبرّعاً. وليس من الحوالة ، لأنّ المضمون عنه على التقديرين لم يحل مديونه على الضامن حتى تكون حوالة. ومع الإغماض عن ذلك ، غاية ما يكون أنه يكون داخلاً في كلا العنوانين ، فيترتب عليه ما يختصّ بكلّ منهما مضافاً إلى ما يكون مشتركاً.

______________________________________________________

(١) فإنّ الحوالة والضمان يختلفان في الطرفين المقوِّمين لهما. حيث إنّ الأوّل يتقوّم بالمحيل والمحال ، فتبرأ ذمّة الأوّل بمجرد الحوالة على مشغول ذمّة له ، من غير دخل لرضا المحال عليه في ذلك. في حين إنّ الضمان يتقوّم برضا الضامن ، والمضمون عنه هو الأجنبي عن العقد حيث تفرغ ذمته عن الدَّين بالضمان ، سواء أرضيَ به أم لم يرض.

والحاصل أنّ مع اختلاف طرفي العقد المقوِّمين له في الموردين الضمان والحوالة لا مجال للقول باتحادهما ودخول أحد العنوانين في الآخر ، خصوصاً إذا كان الضمان تبرّعياً ولم يكن عن رضا المضمون عنه.

إذن فمجرّد اشتغال ذمّة الضامن للمضمون عنه بمثل الدَّين الذي ضمنه ، لا يعني دخول العقد في عنوان الحوالة.

(٢) هذا إذا كان الدَّينان ما في ذمّته للمضمون عنه ، وما كان للمضمون له على المضمون عنه حالين معاً أو مؤجلين مع وحدة الأجل فيهما ، وإلّا فلا مجال للتهاتر لعدم تساوي الدَّينين. ومن هنا فلو كان ما عليه للمضمون عنه مؤجّلاً ، وقد ضمن ما على المضمون عنه حالاً بأمره ، كان له الرجوع عليه بما ضمنه بالفعل ، وتبقى ذمته مشغولة بالدَّين إلى الأجل المعين.

__________________

(*) هذا إذا كان كلاهما حالين أو كلاهما مؤجَّلين بمدة متساوية ، وإلّا فلا وجه للتهاتر.

٤٠٦

العاشر : امتياز الدَّين والمضمون له والمضمون عنه عند الضامن ، على وجه يصحّ معه القصد إلى الضمان. ويكفي التميز الواقعي وإن لم يعلمه الضامن (١) فالمضرّ هو الإبهام والترديد. فلا يصحّ ضمان أحد الدَّينين ولو لشخص واحد على شخص واحد على وجه الترديد مع فرض تحقق الدَّينين ، ولا ضمان دين أحد الشخصين ولو لواحد ، ولا ضمان دين لأحد الشخصين ولو على واحد.

ولو قال : ضمنت الدين الذي على فلان ، ولم يعلم أنه لزيد أو لعمرو ، أو الدَّين الذي لفلان ، ولم يعلم أنه على زيد أو على عمرو ، صحّ (*) (٢) لأنه متعيّن واقعاً. وكذا لو قال : ضمنت لك كل ما كان لك على الناس ، أو قال : ضمنت عنك كلّ ما كان عليك لكلّ من كان من الناس.

ومن الغريب ما عن بعضهم ، من اعتبار العلم بالمضمون عنه والمضمون له بالوصف والنسب ، أو العلم باسمهما ونسبهما. مع أنه لا دليل عليه أصلاً ، ولم يعتبر ذلك في البيع الذي هو أضيق دائرة من سائر العقود.

______________________________________________________

(١) وهو إنما يتمّ فيما إذا لم يستلزم فقدان شرط آخر.

ومنه يظهر الإشكال في بعض الصور الآتية مما حكم فيها الماتن (قدس سره) بالصحّة ، نظير الجهل بالمضمون له وأنه زيد أو عمرو ، أو ضمان ما للناس عليه. فإنه إنما يصحّ مع انحصار المضمون له في أشخاص وقبولهم للضمان ، وإن لم يميّز المضمون له بشخصه ، وإلّا فالحكم بالصحّة مشكل جدّاً ، نظراً لاعتبار رضا المضمون له بالعقد جزماً ، فإنه طرف من طرفي العقد في الضمان ، فلا يصحّ من دون رضاه.

إذن فما ذكره (قدس سره) من كفاية التعين الواقعي ، إنما يتمّ مع إحراز سائر الشروط المعتبرة في الضمان.

(٢) على إشكال تقدّم بيانه.

__________________

(*) هذا مع قبول المضمون له ، وإلّا فلا يصح ، وبذلك يظهر حال ما بعد هذا الفرع.

٤٠٧

[٣٥٦٨] مسألة ١ : لا يشترط في صحّة الضمان العلم بمقدار الدَّين ، ولا بجنسه. ويمكن أن يستدلّ عليه ، مضافاً إلى العمومات العامة (١) وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «الزعيم غارم» (٢) بضمان علي بن الحسين (عليه السلام) لدين عبد الله بن الحسن ، وضمانه لدين محمّد بن أُسامة (٣).

لكن الصحّة مخصوصة بما إذا كان له واقع معيّن ، وأمّا إذا لم يكن كذلك

______________________________________________________

(١) بل عمومات أدلّة الضمان ، حيث لم يعتبر في شي‌ء منها كون الدَّين معلوماً ومن هنا فمقتضاها الصحة حتى مع الجهل بالدَّين.

وهذا الدليل هو العمدة في الحكم ، وإلّا فسائر الأدلّة لا تخلو عن المناقشة ، كما ستعرفها.

(٢) الرواية نبويّة لم تثبت عن طرقنا ، بل في معتبرة الحسن بن خالد تكذيب ذلك فقد ورد في روايته عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال له : جعلت فداك ، قول الناس الضامن غارم ، قال : فقال : «ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال» (١).

ومن هنا فلا مجال للاعتماد عليها والاستدلال بها.

(٣) أمّا الأوّل فقد رواه الصدوق في الفقيه مرسلاً ، حيث قال (قدس سره) : روي أنه احتضر عبد الله بن الحسن فاجتمع إليه غرماؤه فطالبوه بدَين لهم ، فقال لهم : ما عندي ما أُعطيكم ، ولكن ارضوا بمن شئتم من أخي وبني عمي علي بن الحسين أو عبد الله بن جعفر. فقال الغرماء : أما عبد الله بن جعفر فمليّ مطول ، وأمّا علي بن الحسين فرجل لا مال له صدوق وهو أحبّهما إلينا ، فأرسل إليه فأخبره الخبر ، فقال (عليه السلام) : «أضمن لكم المال إلى غلّة» ولم يكن له غلّة ، فقال القوم : قد رضينا فضمنه فلما أتت الغلّة أتاح الله له المال فأدّاه (٢).

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ١ ح ١.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ٥ ح ١.

٤٠٨

كقولك : ضمنت شيئاً من دَينك فلا يصحّ (١). ولعله مراد من قال : إنّ الصّحة إنما هي فيما إذا كان يمكن العلم به بعد ذلك. فلا يرد عليه ما يقال : من عدم الإشكال في الصحّة مع فرض تعيّنه واقعاً. وإن لم يمكن العلم به فيأخذ بالقدر المعلوم.

هذا وخالف بعضهم فاشترط العلم به ، لنفي الغرر والضرر. وردّ بعدم العموم في الأوّل ، لاختصاصه بالبيع أو مطلق المعاوضات (٢)

______________________________________________________

وأمّا الثاني فقد رواه فضيل وعبيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «لما حضر محمد بن أُسامة الموت دخل عليه بنو هاشم ، فقال لهم : قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم ، وعليَّ دَين فأُحبّ أن تقضوه عنّي ، فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : ثلث دَينك عليَّ ، ثمّ سكت وسكتوا. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : عليَّ دينك كلّه ثمّ قال علي بن الحسين (عليه السلام) : أما إنه لم يمنعني أن أضمنه أوّلاً ، إلّا كراهة أن يقولوا سبقنا» (١).

إلّا أنّ الإرسال في الرواية الأُولى ، ووقوع عبيد الله الدهقان المردد بين عبيد الله بن أحمد الدهقان المجهول وعبيد الله بن عبد الله الدهقان الذي ضعّفه النجاشي صريحاً (٢) يمنعان من الاعتماد عليهما والتمسّك بهما في مقام الاستدلال.

على أنهما لا يتضمّنان إلّا بيان قضية في واقعة ، فلا إطلاق لهما كي يتمسّك به في مقام نفي الشرط المشكوك ، ولعلّه (عليه السلام) كان يعلم بمقدار الدَّين الذي عليهما.

(١) بلا خلاف فيه بين الأصحاب ، إذ يستحيل فراغ ذمّة المضمون عنه واشتغال ذمّة الضامن بالنسبة إلى ما لا تعيّن له واقعاً.

(٢) حيث ألحقها الفقهاء بالبيع ، فلا يشمل الضمان ونحوه مما لا يتضمّن المعاوضة.

على أنه لا غرر في المقام بالمرّة. فإنّ الضامن سيأخذ بمقدار ما يدفعه إلى الدائن من المدين قلّ أو كثر ومن غير أن ينقص منه شي‌ء على الإطلاق ، حاله حال القرض

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ٣ ح ١.

(٢) رجال النجاشي : ٢٣١ ترجمة رقم ٦١٤.

٤٠٩

وبالإقدام في الثاني (١).

ويمكن الفرق (*) بين الضمان التبرعي والإذني ، فيعتبر في الثاني دون الأوّل ، إذ ضمان علي بن الحسين (عليه السلام) كان تبرعياً (٢). واختصاص نفي الغرر بالمعاوضات ممنوع ، بل يجري في مثل المقام الشبيه بالمعاوضة (٣) إذا كان بالإذن مع قصد الرجوع على الآذن. وهذا التفصيل لا يخلو عن قرب.

______________________________________________________

حيث يصحّ إقراض ما في الكيس حتى مع الجهل بمقداره اتفاقاً. ومن غير أن يشمله دليل نفي الغرر ، إذ لا خطر على الدائن في المقام بعد ثبوت معادل ما يأخذه في ذمّة المدين.

والحاصل أنه لا أثر للعلم أو الجهل بالمقدار في الحكم بالبطلان وتحقّق الغرر. فإنّ الخطر إنما يتصوّر في مثل البيع مما يختلف فيه العوضان ، ويكون مبناه على المغابنة بمعنى الاسترباح ودفع الأقل بإزاء أخذ الأكثر ، حيث يحتمل فيه الخسارة. ولا يتصوّر في مثل المقام ، حيث يستوفي الضامن بمقدار ما يدفعه إلى المضمون له.

(١) فإنّ دليل «لا ضرر» إنما ينظر إلى ارتفاع الأحكام الإلزامية به ، فلا دلالة فيه على عدم جواز إلقاء النفس في الضرر ، ولذا لم يستشكل أحد في صحّة الهبة ونحوها باعتبار استلزامها للضرر.

والحاصل أنّ دليل «لا ضرر» بنفسه قاصر عن شمول الضمان قلّ أو كثر ، فإنه لا يدلّ إلّا على نفي إلزام الشارع بالحكم الضرري.

(٢) قد عرفت الإشكال فيه فيما تقدّم.

(٣) فيه إشكال ظهر مما تقدّم. فإنه لا عموم لدليل نفي الغرر ، على أنه لا غرر في المقام إطلاقاً ، حيث إنه سيأخذ من المضمون عنه بمقدار ما يؤدّيه للمضمون له.

والحاصل أنه لا فرق في عدم عموم الدليلين نفي الضرر ونفي الغرر للضمان بين

__________________

(*) لكنه بعيد.

٤١٠

[٣٥٦٩] مسألة ٢ : إذا تحقّق الضمان الجامع لشرائط الصحّة انتقل الحقّ من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، وتبرأ ذمّة المضمون عنه ، بالإجماع والنصوص (١). خلافاً للجمهور ، حيث إنّ الضمان عندهم ضمّ ذمّة إلى ذمّة. وظاهر كلمات الأصحاب عدم صحّة ما ذكروه ، حتى مع التصريح به على هذا النحو. ويمكن الحكم (*) بصحّته حينئذ ، للعمومات (٢).

______________________________________________________

كونه تبرعياً أو إذنياً ، فإنهما وعلى كلا التقديرين غير شاملين له.

وعليه فالقول بالجواز مطلقاً هو الأقرب.

(١) كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : «إذا رضي به الغرماء ، فقد برئت ذمّة الميت» (١).

(٢) لم يظهر مراده (قدس سره) من العمومات في المقام. فإن أدلّة الضمان وبأجمعها واردة في نقل الدَّين من ذمّة إلى أُخرى ، وليس فيها ما يقتضي صحّته حتى على نحو ضمّ ذمّة إلى أُخرى كي يتمسّك به في المقام.

والعمومات العامة غير شاملة له أيضاً. فإن اشتغال ذمّة شخص الضامن بالنسبة إلى غيره مجاناً وبلا عوض ، غير داخل في عنوان التجارة ، ولا يشمله الأمر بالوفاء بالعقود ، إذ العقد ربط لالتزام الطرفين المتعاقدين ، فلا يصدق على ما يكون الالتزام فيه من طرف واحد خاصّة. ولو صحّ ذلك للزم القول بصحّته في غير موارد الدَّين كموارد الالتزام الابتدائي ، والحال أنه باطل ولم يقل بصحّته أحد على الإطلاق.

فإنّ اشتغال الذمّة ليس أمراً اختيارياً للمكلف بحيث يكون له ذلك كيفما شاء وإنما هو متوقف على أسبابه الخاصة ، من تجارة أو استيلاء أو إتلاف أو الشرط في ضمن العقد بناءً على أنه يوجب الملكيّة فلا يحصل من دونها.

__________________

(*) لكنه ضعيف جدّاً.

(١) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ٢ ح ١.

٤١١

[٣٥٧٠] مسألة ٣ : إذ أبرأ المضمون له ذمّة الضامن برئت ذمّته وذمّة المضمون عنه (١). وإن أبرأ ذمّة المضمون عنه لم يؤثر شيئاً ، فلا تبرأ ذمّة الضامن ، لعدم المحلّ للإبراء بعد براءته بالضمان ، إلّا إذا استفيد منه الإبراء من الدَّين الذي كان عليه ، بحيث يفهم منه عرفاً إبراء ذمّة الضامن.

وأما في الضمان بمعنى ضمّ ذمّة إلى ذمّة ، فإن أبرأ ذمّة المضمون عنه برئت ذمّة الضامن أيضاً ، وإن أبرأ ذمّة الضامن فلا تبرأ ذمّة المضمون عنه. كذا قالوا.

______________________________________________________

والحاصل أن إثبات اشتغال الذمّة يحتاج إلى الدليل ، وهو مفقود في غير الدَّين حيث اقتضت أدلّة الضمان الصحّة فيها.

نعم ، لا بأس بتصحيح هذا الضمان بالمعنى الذي سبق منّا بيانه في الشرط السابع أعني التعهّد بالوفاء به على تقدير عدم وفاء المديون ، نظير التعهد بالأعيان الخارجية فإنه لا بأس به حيث لم يكن بمعنى اشتغال الذمّة.

(١) أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني ، فالإبراء فيه إنما هو بمعنى عدم جواز رجوع الضامن عليه ومطالبته بما انتقل إلى ذمّته نتيجة للضمان ، وذلك لأنه من مختصّات الأداء عن أمره ، فلا يثبت مع فقد أحد الشرطين.

وما ذكرناه في معنى براءة ذمّة المضمون عنه هو المتعيّن في التفسير ، وإلّا فذمّة المضمون عنه بالقياس إلى المضمون له الدائن بريئة حتى قبل الإبراء ، على ما يقتضيه مذهبنا في الضمان.

وبعبارة اخرى : لا بدّ من حمل عبارة الماتن (قدس سره) على الضمان الإذني حيث يصحّ معه التعبير ببراءة الذمّتين ، نتيجة لإبراء المضمون له لذمّة الضامن. أمّا ذمّة الضامن فللإبراء ، وأمّا ذمّة المضمون عنه فلعدم أداء الضامن شيئاً ، ومعه فلا يثبت له الضامن حقّ الرجوع عليه المضمون عنه وبهذا المعنى صحّ التعبير ببراءة ذمّته.

وإلّا بأن كان الضمان تبرعياً ، فحيث لا أثر لإبراء المضمون له لذمّة الضامن في

٤١٢

ويمكن أن يقال ببراءة ذمّتهما على التقديرين (١).

[٣٥٧١] مسألة ٤ : الضمان لازم من طرف الضامن والمضمون له (٢). فلا يجوز

______________________________________________________

براءة ذمّة المضمون عنه ، فإنها بريئة وغير مشغولة لأحد بنفس الضمان ، سواء في ذلك قبل الإبراء وبعده ، فلا يصحّ التعبير ببراءة الذمّتين نتيجة لإبراء المضمون له لذمّة الضامن ، فإنه لا يؤثر إلّا في براءة ذمّة الضامن فحسب ، وأمّا ذمّة المضمون عنه فهي بريئة قبل ذلك.

(١) وهو الصحيح.

أمّا مع إبراء الضامن ، فلأنّ الإبراء لا يعني رفع اليد عن الضمّ والضمان خاصّة ، كي يقال بأنّ معه يبقى الدَّين على حاله ويكون المضمون عنه مديناً بعد الإبراء كقبلة ، فإنّ هذا المعنى غير مراد جزماً ، إذ الضمان من العقود اللازمة وهي لا تقبل الرفع حتى مع رضا الطرفين. على أنه ينافي مفهوم الإبراء ، فإنه مساوق لإسقاط الدَّين ، على ما ستعرف.

وإنما الإبراء بمعنى رفع اليد من الدَّين من أساسه ، على ما يساعد عليه ظاهر اللفظ. ومعه فلا مجال للقول ببقاء ذمّة المضمون عنه مشغولة ، فإنّ الدَّين ليس إلّا ديناً واحداً ، فلا يقبل البقاء والسقوط في آن واحد بالقياس إلى الذمّتين.

وبعبارة اخرى : إنّ إبراء إحدى الذمّتين من الدَّين الثابت فيهما على نحو الضمّ ، إنما هو بمنزلة استيفائه منها كما هو واضح ، ولذا يذكر في باب المهور انّ الزوجة إذا أبرأت ذمّة زوجها من المهر فطلّقها قبل الدخول رجع عليها بنصف المهر ، فلا وجه للتفكيك بين الذمّتين بالقياس إليه والقول بثبوته في ذمّة دون اخرى.

وأمّا مع إبراء المضمون عنه ، فلأنّ مرجعه إلى إسقاط الدَّين وإفراغ ذمّته منه ومعه فلا يبقى مجال لضمّ ذمّة أُخرى إليها فيه.

(٢) فإنّ إرجاع الدَّين إلى ذمّة المضمون عنه ثانياً وفراغ ذمّة الضامن ، بعد الحكم بصحّة الضمان وانتقال الدَّين إلى ذمّة الضامن وفراغ ذمّة المضمون عنه بالمرّة ، يحتاج

٤١٣

للضامن فسخه حتى لو كان بإذن المضمون عنه وتبيّن إعساره (١) كذا لا يجوز للمضمون له فسخه والرجوع على المضمون عنه ، لكن بشرط ملاءة الضامن حين الضمان أو علم المضمون له بإعساره (٢).

بخلاف ما لو كان معسراً حين الضمان وكان جاهلاً بإعساره ، ففي هذه الصورة يجوز (*) له الفسخ على المشهور ، بل الظاهر عدم الخلاف فيه ، ويستفاد من بعض الأخبار أيضاً (٣).

______________________________________________________

إلى الدليل وهو مفقود. ومقتضى أصالة اللزوم ، المستفادة من إطلاقات أدلّة صحّة العقود والعمومات ، بقاء الحكم الأوّل على حاله.

(١) فضلاً عمّا لو كان ضماناً تبرعياً ومن غير إذن المضمون عنه.

(٢) لعين ما تقدّم في سابقه.

(٣) وهو موثقة الحسن بن الجهم ، قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل مات وله عليَّ دَين وخلّف ولداً رجالاً ونساءً وصبياناً ، فجاء رجل منهم فقال : أنت في حلّ مما لأبي عليك من حصّتي ، وأنت في حلّ مما لإخوتي وأخواتي وأنا ضامن لرضاهم عنك ، قال : «يكون في سعة من ذلك وحلّ» قلت : فإن لم يعطهم؟ قال : كان ذلك في عنقه. قلت : فإن رجع الورثة عليَّ فقالوا : أعطنا حقّنا؟ فقال : «لهم ذلك في الحكم الظاهر ، فأمّا بينك وبين الله فأنت منها في حلّ إذا كان الذي حلّك يضمن لك عنهم رضاهم فيحمل لما ضمن لك». قلت : فما تقول في الصبي ، لُامّه أن تحلل؟ قال : «نعم ، إذا كان لها ما ترضيه أو تعطيه». قلت : فإن لم يكن لها؟ قال : «فلا». قلت : فقد سمعتك تقول : إنه يجوز تحليلها؟ فقال : «إنما أعني بذلك إذا كان لها» الحديث (١).

وهي وإن كانت معتبرة سنداً ، إلّا أنها أجنبية من حيث الدلالة عن المدّعى. فإنها واردة في تحليل بعض الورثة لحصّته من الدَّين بالفعل مع الالتزام بتحصيل رضا سائر

__________________

(*) ولكن للمناقشة فيه مجال واسع ، وليس في المسألة رواية تدلّ على الخيار وجواز الفسخ.

(١) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ٤ ح ١.

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الورّاث أيضاً ، وأين ذلك من الضمان الذي هو محل الكلام؟.

وبعبارة اخرى : إنّ مورد المعتبرة هو التحليل وهو عقد قائم بين المدين وشخص آخر ، في حين إنّ مورد كلامنا هو الضمان الذي هو عقد قائم بين الدائن وشخص آخر ، فلا مجال لإثبات الحكم الثابت في أحدهما للآخر.

على أنّ هذه المعتبرة لو تمّت من حيث الدلالة في المقام ، فمن الواضح أنّ مقتضاها بطلان الضمان مع عدم الملاءة لا ثبوت الخيار ، وهو مما لا يقول به أحد.

على أنه لا بدّ من ردّ علم هذه المعتبرة إلى أهلها حتى موردها التحليل لأنها تضمّنت صحّة التحليل من الأجنبي وحصول فراغ الذمّة واقعاً به ، وهو أمر لا يمكن الالتزام به ، إذ التحليل من الأجنبي لا يعدو كونه تحليلاً فضولياً يتوقف على إجازة من له الأمر واقعاً.

إذن فلا مجال للتمسّك بالمعتبرة في المقام على كلّ تقدير ، فإنها لو تمّت دلالة وأمكن العمل بها في موردها ، فإثبات حكمها في المقام لا يعدو القياس.

هذا وقد استدلّ صاحب الجواهر (قدس سره) على المدّعى بما دلّ على اعتبار الملاءة في المحال عليه ، بدعوى أنّ الحوالة أُخت الضمان ، فيثبت فيه ما ثبت فيها (١).

وهو كما تراه قياس محض. فإنّ الحكم بالخيار عند إعسار المحال عليه حين الحوالة مع جهل المحال إنما ثبت بالنصّ الخاص ، فالتعدّي عنها إلى غيرها لمجرّد اشتراكهما في جهة لا يخرج عن حدّ القياس.

على أنّ بينهما فرقاً واضحاً. فإنّ الحوالة معاملة قائمة بين الدائن والمدين ، في حين إنّ الضمان معاملة بين الدائن وشخص ثالث ، فالحوالة معاملة معاوضية بخلاف الضمان ، فإنّ الدائن في الحوالة على مشغول الذمّة مشترٍ ما لعمرو مثلاً في ذمّة بكر بماله في ذمّة المدين.

بل وكذا لو كانت الحوالة على بري‌ء الذمّة ، فإنها معاوضة وتبديل لذلك المبلغ في

__________________

(١) الجواهر ٢٦ : ١٢٨.

٤١٥

والمدار كما أشرنا إليه في الإعسار واليسار على حال الضمان ، فلو كان موسراً ثمّ أُعسر لا يجوز له الفسخ (١) كما أنه لو كان معسراً ثمّ أُيسر يبقى الخيار (٢). والظاهر عدم الفرق في ثبوت الخيار مع الجهل بالإعسار ، بين كون

______________________________________________________

ذمّة المحال عليه بماله في ذمّة المدين ، غاية الأمر أنّ المحال عليه لما كان بري‌ء الذمّة بالنسبة إلى المحيل كان العقد فضولياً ومتوقفاً على إجازته.

ومن هنا فحيث إنّ العشرة مثلاً في ذمّة المعسر لا تساوي من حيث المالية بنظر العقلاء العشرة في ذمّة الموسر كما هو واضح ، والمعاملات مبنيّة على التساوي في المالية بحيث يكون ذلك من الشرط الضمني ، كان تخلّفه موجباً لثبوت الخيار على القاعدة ، على ما تقدّم بيانه مفصّلاً في مبحث خيار الغبن.

وأين هذا من الضمان الذي لا يعدّ من المعاوضات بالمرّة ، لأنه ليس إلّا اشتغال ذمّة بلا عوض ومجاناً ، سواء في ذلك ما كان إذنياً أو تبرّعياً ، لأنهما لا يختلفان إلّا من حيث جواز الرجوع على المدين الأوّل وعدمه.

والحاصل أنّ التعدي من الحوالة إلى الضمان قياس مع الفارق وإن اشتركا في جهة من الجهات.

وعلى ضوء ما تقدّم يظهر أنه لا دليل يمكن الاعتماد عليه في القول بالخيار في المقام.

ومن هنا فإن تمّ إجماع على ذلك فهو ، وإلّا كما هو الصحيح إذ غاية الأمر عدم وجدان الخلاف فللمناقشة فيه مجال واسع ، ومقتضى أصالة اللزوم عدمه.

(١) لعدم شمول دليل الخيار بناء على تماميته للإعسار المتأخر ، فإنّ الإجماع غير ثابت فيه ، ومعتبرة الحسن بن الجهم ناظرة إلى حال الضمان ، والحكم في الحوالة مختصّ بالإعسار حينها أيضاً.

(٢) وهو إنما يتمّ فيما إذا كان مستند الخيار في المقام هو معتبرة الحسن بن الجهم فإنه لا بأس بالتمسّك بإطلاقها بعد تسليم دلالتها لإثبات الخيار في الفرض أيضاً.

وأمّا إذا كان المستند هو الإجماع ، فالحكم بثبوت الخيار في المقام مشكل جدّاً

٤١٦

المضمون عنه أيضاً معسراً أوْ لا؟ (١). وهل يلحق بالإعسار تبيّن كونه مماطلاً مع يساره في ثبوت الخيار أوْ لا؟ وجهان (*) (٢).

______________________________________________________

نظراً لكون القدر المتيقّن منه هو المعسر المستمر.

(١) لكونه أجنبياً عن العقد.

(٢) من اختصاص أدلّة الخيار من الإجماع والنص وما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) بالإعسار ، فيكون التعدّي عنه محتاجاً إلى الدليل وهو مفقود ، ومقتضى أصالة اللزوم العدم.

ومن التمسّك بقاعدة نفي الضرر ، فإنّ الحكم بلزوم هذا العقد ضرري على الدائن فينفى بالقاعدة ، على ما مرّ تفصيله في خيار الغبن.

والأقوى هو الأوّل ، لما عرفته غير مرّة من اختصاص دليل «لا ضرر» بنفي الأحكام الضررية من الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة ، وعدم شموله للضرر الحاصل من فعل المكلّف نفسه ، كما أنه لا يتكفل جبر الضرر الحاصل كذلك.

وحيث إنّ مقامنا من هذا القبيل ، لأنّ المضمون عنه إنما وقع في الضرر نتيجة لفعل نفسه ، أعني رفع يده عن دَينه الثابت في ذمّة المدين في قبال اشتغال ذمّة الضامن به فلا يلزم الشارع المقدس تداركه بجعل الخيار له ، فإنّ دليل نفي الضرر قاصر الشمول عن مثل هذه الموارد.

على أنّ دليل نفي الضرر لو شمل المقام لكان لازمه الحكم ببطلان الضمان من رأس ، لا الحكم بصحّته مع ثبوت الخيار.

وتمام الكلام فيه موكول إلى محله.

إذن فالأظهر في المقام هو عدم الخيار حتى ولو قلنا بثبوته على تقدير ظهور إعساره فضلاً عن إنكاره ، كما هو المختار.

__________________

(*) أوجههما العدم.

٤١٧

[٣٥٧٢] مسألة ٥ : يجوز اشتراط الخيار (*) في الضمان (١) للضامن والمضمون له ، لعموم أدلّة الشروط (٢).

______________________________________________________

(١) على إشكال فيه بل منع. فإنّ الضمان لا يقاس بسائر العقود ، والفرق بينهما ظاهر.

فإنّ نتيجة العقد إذا كانت راجعة إلى طرفيه خاصة ، كان لهما رفع اليد عنه بعد ثبوته ولزومه ومن غير حاجة للخيار ، وهو المعبر عنه في الاصطلاح بالتقايل. إلّا في بعض العقود الذي ثبت فيه عدمه بالنص الخاص كالنكاح ، حيث لا يرفع إلّا بالطلاق أو أحد موجبات الفسخ. وإذا جاز لهما ذلك بالنتيجة ، جاز لهما جعل هذا الحقّ في ضمن العقد من الأوّل ، وهو المعبر عنه في الاصطلاح بشرط الخيار. وليس ذلك كلّه إلّا لكون العقد عقدهما والحقّ لا يعدوهما ، فلهما أن يتصرفا كيفما شاءا ما لم يرد منه منع من الشارع المقدس.

وهذا بخلاف ما إذا كانت نتيجة العقد ترتبط بشخص ثالث بحيث يكون الحقّ يعدوهما إليه ، فإنه لا يكون لهما ذلك ، لعدم الولاية لهما على الثالث.

وحيث إنّ مقامنا من هذا القبيل ، فإنّ عقد الضمان وإن كان قائماً بين الضامن والمضمون له ، إلّا أنّ الحقّ فيه يعدوهما إلى المضمون عنه حيث تبرأ ذمّته عن الدَّين فلا يصحّ اشتراط الخيار فيه ، إذ لا موجب لاشتغال ذمّة المضمون عنه ثانياً وبعد الفراغ لمجرّد رضا أحد الطرفين أو هما معاً به ، فإنه أمر يحتاج إلى الدليل وهو مفقود.

والحاصل أنّ باب الضمان لا يقاس بباقي المعاملات التي ترجع نتيجتها إلى المتعاملين نفسهما ، فإنّ اشتغال ذمّة المضمون عنه ثانياً يحتاج إلى الدليل وهو مفقود.

(٢) وفيه : إنّ أدلّة الشروط لا تفي بإثبات صحّة جعل الخيار في المقام ، نظراً لما

__________________

(*) فيه إشكال بل منع ، وكذا في ثبوت الخيار عند تخلّف الشرط. والوجه فيه أنّ انفساخ عقد ما إذا لم يمكن في نفسه ولو بالتقايل ، فأدلّة الشروط لا تفي بصحة جعل الخيار فيه ، وبذلك يظهر الحال في المسألة الآتية.

٤١٨

والظاهر جواز اشتراط شي‌ء لكلّ منهما (١) كما إذا قال الضامن : أنا ضامن بشرط أن تخيط لي ثوباً ، أو قال المضمون له : أقبل الضمان بشرط أن تعمل لي كذا. ومع التخلف يثبت للشارط خيار تخلّف الشرط (٢).

[٣٥٧٣] مسألة ٦ : إذا تبين كون الضامن مملوكاً وضمن من غير إذن مولاه أو بإذنه ، وقلنا إنه يتبع بما ضمن بعد العتق ، لا يبعد ثبوت الخيار للمضمون له (٣).

[٣٥٧٤] مسألة ٧ : يجوز ضمان الدَّين الحالّ حالاً (٤)

______________________________________________________

تقدّم مراراً من أنها ليست بمشرعة ، ولا تفيد إلّا لزوم ما هو سائغ في نفسه ومع قطع النظر عن الاشتراط. وحيث إنّ جعل الخيار في المقام ليس من هذا القبيل ، باعتبار أن اشتغال ذمّة المضمون عنه ثانياً يحتاج إلى الدليل ولا يتمّ باتفاق المتعاقدين عليه ، فلا يمكن إثباته بالاشتراط والتمسّك بعموم أدلّة الشروط.

(١) لعموم أدلّة الشروط بعد أن كان الشرط سائغاً في نفسه ، بحيث كان للمشروط عليه فعله ابتداءً ومن غير اشتراط.

(٢) بل الظاهر أنّ هذا الاشتراط لا يوجب إلّا الحكم التكليفي المحض مع جواز إلزامه به ، نظير الاشتراط في ضمن عقد النكاح.

وذلك لما عرفته من أنّ ثبوت حقّ الفسخ في المقام ، بمعنى اشتغال ذمّة الغير ثانياً وبعد فراغها وبراءتها ، أمر خارج عن صلاحية المتعاقدين ، ويحتاج إلى الدليل الخاص وهو مفقود ، وأدلّة الوفاء بالشرط لا تنهض لإثباته.

(٣) بل هو بعيد. ويظهر وجهه ممّا تقدّم في المسألة السابقة ، إذ الالتزام باشتغال ذمّة الغير بالدَّين ثانياً بعد فراغها منه جزماً على خلاف الأصل ، ويحتاج إلى الدليل الخاص ، وهو مفقود.

(٤) بلا إشكال فيه ، ويقتضيه ما دلّ على كون الضمان نقل الدَّين من ذمّة إلى أُخرى.

٤١٩

ومؤجلاً (١) وكذا ضمان المؤجّل حالاً ومؤجلاً ، بمثل ذلك الأجل أو أزيد أو أنقص (٢). والقول بعدم صحّة الضمان إلّا مؤجَّلاً (٣) وأنه يعتبر فيه الأجل كالسلم ضعيف (٤) كالقول بعدم صحّة ضمان الدَّين المؤجَّل حالاً (٥) أو بأنقص. ودعوى

______________________________________________________

(١) اتفاقاً ، حيث لم ينسب الخلاف فيه إلى أحد من أصحابنا ، بل وقد حكي في كلماتهم الإجماع عليه.

(٢) لما ستعرفه من أنّ الضمان إنما يتعلق بنفس الدَّين ، وأمّا الحلول والتأجيل وقصر المدَّة وطولها فهي تثبت بالاشتراط.

(٣) قال الشيخ (قدس سره) في النهاية : ولا يصحّ ضمان مال ولا نفس إلّا بأجل (١) كما نسب ذلك في بعض الكلمات

إلى غيره أيضاً.

(٤) لعدم الدليل عليه ، بل لاقتضاء أدلّة الضمان خلافه ، على ما تقدّم.

(٥) واستدلّ عليه باستلزامه زيادة الفرع على أصله.

وفيه : إنّ الضمان وإن كان فرع الدَّين ، إلّا أنّ متعلقه هو نفس الدَّين دون الأجل فإنه أمر خارج عنه ويثبت بالاشتراط في ضمنه.

وبعبارة اخرى : إنّ الضمان متعلق بعين ما اشتغلت به الذمّة ومن غير زيادة أو نقيصة ، فإنّ التقديم والتأخير أمران خارجان عنه كليّة.

على أنه لو صحّ ما ذكر ، لزم منه صحّته في عكسه أيضاً والقول بالبطلان في ضمان الدَّين الحال مؤجلاً ، نظراً لنقصان المؤجل عن الحال ، في حين إنّ مقتضى أدلّة الضمان انتقال مثل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ومن غير زيادة أو نقيصة. والحال أنّ هذا ممّا لا يمكن أن يلتزم به ، وليس ذلك إلّا لكون التقديم والتأخير خارجين عن حقيقته.

ثمّ إنّ ممّا ذكرنا يظهر بطلان ما ذكره فخر المحققين واستحسنه العلّامة (قدس سره) في المختلف ، من كونه ضمان ما لا يجب ، نظراً لزيادة مالية الدَّين الحال عن مالية

__________________

(١) النهاية ٣١٥.

٤٢٠