موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

ثمّ على البطلان يكون الغرس لصاحبه (١). فإن كان من مالك الأرض ، فعليه اجرة عمل الغارس (٢) إن كان جاهلاً بالبطلان (*) (٣). وإن كان للعامل ، فعليه

______________________________________________________

ودعوى أنّ الجهالة في غير البيع لا تقتضي البطلان ، لعدم الدليل عليه.

مدفوعة بأنّ ذلك إنما هو فيما لا دخل له في مالية الشي‌ء ، وإلّا فلا يصحّ العقد معها.

الثالثة : مجهولية المنفعة التي يسلّمها المالك للغارس بالتمليك أو الإذن ، فيما إذا كان عوض عمله منحصراً في انتفاعه بالأرض بحيث لم يكن قد اشترط له الحصّة من الأرض ، فإنّ هذه المنفعة مجهولة لعدم تحديدها بحدّ معيّن. ومعه فلا مجال للحكم بصحتها.

والحاصل أنّ الحكم بصحة المغارسة يحتاج إلى الدليل الخاص ، وحيث أنه مفقود فالأصل هو الفساد.

ثمّ إنّ الحكم بالصحة على تقدير تسليمه ، إنما يتمّ فيما إذا كانت الأشجار معلومة من حيث الكمّ والجنس ، وإلّا فلا مجال للحكم بها ، إذ لا موقع للحكم بصحة ما لا واقع له أصلاً.

(١) لعدم الموجب لانتقاله عنه إلى غيره ، فإنّ السبب المتصوّر إنما هو العقد والمفروض الحكم ببطلانه وعدم تأثيره شيئاً.

(٢) لصدور عمله المحترم عن أمره لا بقصد المجانية. وحيث لم يسلّم له العوض المسمّى ، تثبت له اجرة المثل ، لئلا يذهب عمله المضمون هدراً.

(٣) بل ومع العلم به أيضاً ، لما عرفته في غير موضع من أنّ العلم بالفساد لا يلازم تبرع العامل بالعمل ، فإنه إنما يقدم على القيام بالعمل مضموناً على المالك ، حتى مع علمه بعدم إمضاء الشارع لذلك العوض.

نعم ، حيث حكم على العقد بالبطلان ، لا يستحق العامل العوض المسمى والضمان المعيّن في العقد ، وإنما ينتقل حقّه إلى بدل عمله وأُجرة مثله.

__________________

(*) بل مع العلم به أيضاً فيه وفيما بعده.

٣٨١

أُجرة الأرض للمالك (١) مع جهله به (٢). وله الإبقاء بالأُجرة (٣) أو الأمر بقلع الغرس (٤) أو قلعه بنفسه (٥) وعليه أرش نقصانه إن نقص من جهة القلع (٦).

______________________________________________________

(١) لاستيفائه لمنافعها وتصرّفه فيها مضموناً عليه.

(٢) ظهر الحال فيه مما تقدّم في نظيره.

(٣) أو مجّاناً مع التراضي. فإنّ الملك لهما ، فالأرض للمالك والغرس للعامل ، فالحقّ لا يعدوهما.

(٤) لسلطنته على أرضه ، فله مطالبته بتخلية ملكه عن مال لا يعود إليه.

(٥) فإنّ جواز تخليته لملكه عن مال الغير من حقوق المالكيّة المملوكة له ، فله مباشرتها بنفسه وليس للغارس منعه عنها ، كما هو الحال في غير الأشجار من الأموال.

ثمّ هل يكون هذا الحقّ في طول أمره للعامل بالتخلية وامتناعه عنها ، أو في عرضه بحيث يكون له مباشرتها ابتداءً وقبل مراجعة العامل؟

الظاهر هو الثاني ، فإنه مسلّط على ماله ، وليس للغارس حق في الإبقاء كي يتوهّم منافاة التخلية لسلطنته على الأشجار. فهو نظير ما يذكرونه فيما إذا دخل مال الغير في ملكه بغير إذنه ، كما لو دخل بعض القطيع إلى داره ، فإنه يجوز له إخراجه ابتداء وقبل مراجعة مالكه وأمره بذلك ، ولا يعدّ ذلك منافياً لسلطنة صاحبه عليه ، بعد أن لم يكن لصاحبه حقّ وسلطان في إبقائه في ذلك المكان.

(٦) هذا إذا لم يباشر العامل القلع بنفسه ، وإلّا فلا وجه للضمان ، فإنّ العيب إنما حصل بفعله هو ، فلا يكون مضموناً على غيره وإن كان ذلك نتيجة لمطالبته إيّاه وأمره به ، فإنه حقّ له فليس لأحد منعه منه.

وكذا الحال فيما إذا امتنع العامل عن تخلية أرضه ، فرفع أمره إلى الحاكم ليجبره عليه ، فأمره الحاكم بالتخلية. فإنه أيضاً لا يستتبع الضمان ، نظراً لأنّ الحاكم وليّ الممتنع ، فيكون حال الفعل الصادر منه عن أمره ، حال مباشرة العامل للقلع بنفسه.

٣٨٢

ويظهر من جماعة أنّ عليه تفاوت ما بين قيمته قائماً ومقلوعاً. ولا دليل عليه بعد كون المالك مستحقاً للقلع (١). ويمكن حمل كلام بعضهم على ما ذكرنا من أرش النقص الحاصل بسبب القلع إذا حصل ، بأن انكسر مثلاً بحيث لا يمكن غرسه في مكان آخر. ولكن كلمات الآخرين لا تقبل هذا الحمل ، بل هي صريحة في ضمان التفاوت بين القائم والمقلوع ، حيث قالوا : مع ملاحظة أوصافه الحالية من كونه في معرض الإبقاء مع الأُجرة أو القلع.

ومن الغريب ما عن المسالك ، من ملاحظة كون قلعه مشروطاً بالأرش لا مطلقاً ، فإنّ استحقاقه للأرش من أوصافه وحالاته ، فينبغي أن يلاحظ أيضاً في مقام التقويم. مع أنه مستلزم للدور (٢) كما اعترف به.

ثمّ أنه إن قلنا بالبطلان ، يمكن تصحيح المعاملة بإدخالها تحت عنوان الإجارة أو المصالحة أو نحوهما ، مع مراعاة شرائطهما (٣). كأن تكون الأُصول مشتركة بينهما ، إمّا بشرائها بالشركة ، أو بتمليك أحدهما للآخر نصفاً منها مثلاً إذا كانت من أحدهما. فيصالح صاحب الأرض مع العامل بنصف منفعة أرضه مثلاً أو بنصف عينها على أن يشتغل بغرسها وسقيه إلى زمان كذا ، أو يستأجره للغرس والسقي إلى زمان كذا بنصف منفعة الأرض مثلاً.

[٣٥٦٧] مسألة ٣٧ : إذا صدر من شخصين مغارسة ولم يعلم كيفيتها وأنّها على الوجه الصحيح أو الباطل بناءً على البطلان يحمل فعلهما على

______________________________________________________

(١) وبعبارة اخرى : إنه لا وجه لملاحظة قيمة الغرس قائماً ، بعد أن لم يكن بقاء الشجرة في الأرض وكونها فيها من حقوق الغارس ، ولذا لم يجب شي‌ء فيما إذا لم تتعيب الشجرة بالقلع ، بحيث كانت قابلة للغرس في مكان آخر.

(٢) لأخذه (قدس سره) الأرش والتفاوت في موضوع وجوب الأرش ، لاعتباره أرش ما بين الشجرة قائمة والشجرة مقلوعة مع الأرش.

(٣) من معلومية المدة والمنفعة إلى غير ذلك ، مما هو دخيل في صحة المعاملة.

٣٨٣

الصحّة (*) (١) إذا ماتا أو اختلفا في الصحة والفساد.

______________________________________________________

(١) تمسّكاً بأصالة الصحّة في العقود والإيقاعات.

إلّا أنك قد عرفت غير مرّة ، أنّ أصالة الصحّة هذه لم تثبت بدليل لفظي كي يتمسك بإطلاقه عند الشك ، وإنما هي قد ثبتت بالسيرة العملية القطعية المتّصلة بعهد المعصومين (عليهم السلام) من غير خلاف فيها بين الفقهاء والمتشرعة ، حيث لا يعتني أحد باحتمال فساد العقد من جهة احتمال فقده لبعض الشروط أو احتفافه ببعض الموانع.

وعلى هذا الأساس فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن ، وهو ما إذا كان عنوان العقد معلوماً ومحرزاً في الخارج ، وكان الشك في وقوعه صحيحاً أو فاسداً. وأمّا مع الجهل بأصل العنوان وعدم إحرازه ، كما لو دار أمر العقد الواقع في الخارج بين النكاح الصحيح والوقف الباطل ، أو البيع الصحيح والمساقاة الباطلة ، فلا مجال للتمسك بأصالة الصحة لإثبات الصحيح منهما ، بحيث يقال إنّ الواقع في الخارج هو النكاح دون الوقف أو البيع دون المساقاة ، ومن ثمّ ترتيب آثار ذلك العقد عليه.

وحيث إنّ مقامنا من قبيل الثاني ، باعتبار أنّ أمر العقد يدور بين عنوانين أحدهما صحيح والآخر فاسد ، لأنه إما هي إجارة أو صلح صحيحين أو مغارسة فاسدة ، فلا مجال للتمسك بأصالة الصحّة لإثبات العنوان الصحيح من العنوانين وكونه هو الواقع في الخارج ، ليترتّب عليه آثاره. فإنه لم تثبت سيرة عملية على ذلك في الخارج ، بل المحرز بالوجدان خلافه.

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(*) لا موقع لأصالة الصحة إذا ادّعى أحدهما المغارسة والآخر معاملة صحيحة غيرها.

٣٨٤

تذنيب :

______________________________________________________

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «من أراد أن يلقِّح النخل إذا كان لا يجود عملها ولا يتبعل النخل ، فليأخذ حيتاناً صغاراً يابسة فيدقّها بين الدقّين ، ثمّ يذر في كل طلعة منها قليلاً ، ويصرّ الباقي في صرّة نظيفة ثمّ يجعله في قلب النخل تنفع بإذن الله تعالى» (١).

وعن الصدوق في كتاب العلل بسنده عن عيسى بن جعفر العلوي عن آبائه (عليهم السلام) : «إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : مرّ أخي عيسى بمدينة فإذا في ثمارها الدود ، فشكوا إليه ما بهم ، فقال (عليه السلام) : دواء هذا معكم وليس تعلمون ، أنتم قوم إذا غرستم الأشجار صببتم التراب وليس هكذا يجب ، بل ينبغي أن تصبّوا الماء في أُصول الشجر ثمّ تصبّوا التراب لكيلا يقع فيه الدود ، فاستأنفوا كما وصف فأذهب عنهم ذلك» (٢).

وفي خبر عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال : «تقول إذا غرست أو زرعت : ومَثلُ (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)» (٣).

وفي خبر آخر : «إذا غرست غرساً أو نبتاً ، فاقرأ على كلّ عود أو حبّة : سبحان الباعث الوارث ، فإنه لا يكاد يخطئ إن شاء الله» (٤).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٦٣ / ٥ ، الوسائل ١٩ : ٣٨ كتاب المزارعة والمساقاة ب ٦ ح ١.

(٢) علل الشرائع ٥٧٤ ١ / ، الوسائل ١٩ : ٣٢ كتاب المزارعة والمساقاة ب ٢ ح ١.

(٣) الوسائل ١٩ : ٣٨ كتاب المزارعة والمساقاة ب ٥ ح ٥.

(٤) الوسائل ١٩ : ٣٨ كتاب المزارعة والمساقاة ب ٥ ح ٤.

٣٨٥
٣٨٦

كتاب الضّمان

٣٨٧
٣٨٨

كتاب الضّمان

[فصل في معنى الضمان وشرائطه]

وهو من الضمن (١) لأنه موجب لتضمّن ذمّة الضامن للمال الذي على المضمون عنه للمضمون له ، فالنون فيه أصليّة كما يشهد له سائر تصرّفاته من الماضي والمستقبل وغيرهما. وما قيل (٢) من احتمال كونه من الضمّ ، فيكون النون زائدة واضح الفساد ، إذ مع منافاته لسائر مشتقاته (٣) لازمه كون الميم مشدّدة. وله إطلاقان :

إطلاق بالمعنى الأعمّ ، الشامل للحوالة والكفالة أيضاً ، فيكون بمعنى التعهد بالمال أو النفس.

وإطلاق بالمعنى الأخصّ ، وهو التعهد بالمال عيناً أو منفعة أو عملاً ، وهو المقصود من هذا الفصل.

ويشترط فيه أُمور :

أحدها : الإيجاب (٤). ويكفي فيه كلّ لفظ دالّ ،

______________________________________________________

[فصل في معنى الضمان وشرائطه]

(١) بلا خلاف فيه عندنا ، على ما هو صريح عبارات الأصحاب في المقام. إلّا أنّ التعبير بكون الضمان مشتقّاً منه كالتعبير بكونه مشتقّاً من الضمان ، لا يخلو عن مسامحة واضحة ، فإنهما معاً مصدران على حد واحد ، فيقال : ضمن يضمن ضماناً وضمناً وليس أحدهما أصلاً ومبدأً للآخر.

(٢) ذهب إليه أكثر العامة ، حيث التزموا بأنه عبارة عن ضمّ ذمّة إلى ذمّة.

(٣) حيث تبقى النون ولا تحذف ، ولو كانت زائدة للزم حذفها ، كما هو الحال في المشتقّات مما تكون النون فيها زائدة ، كالنزوان والجريان والجولان.

(٤) لعدم تحقّق مفهوم الضمان وصدقه في الخارج ، قبل التزام الضامن بذلك وتعهده

٣٨٩

بل يكفي الفعل الدالّ (١) ولو بضميمة القرائن ، على التعهد والالتزام بما على غيره من المال.

الثاني : القبول من المضمون له (٢). ويكفي فيه أيضاً كل ما دلّ على ذلك من قول أو فعل.

وعلى هذا فيكون من العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول ، كذا ذكروه.

ولكن لا يبعد (٣) دعوى عدم اشتراط القبول على حدّ سائر العقود اللّازمة

______________________________________________________

في نفسه مع الإبراز في الخارج.

وبعبارة اخرى : إنه بدون الإيجاب لا يصدق عنوان الضمان ، ولا يصحّ أن يضاف إلى الفاعل فيقال إنه ضمنه.

(١) لما عرفته غير مرّة ، من أنه لا يعتبر في الإنشاء والإيجاب غير إبراز الاعتبار النفساني بما يصلح أن يكون مبرزاً له ، سواء في ذلك اللفظ وغيره ، ما لم يقم الدليل الخاص على اعتبار اللفظ فيه ، كالطلاق ونحوه.

(٢) ليصحّ معه صدق العقد.

(٣) بل هو بعيد جدّاً ، لعدم الدليل على كفاية الرضا الباطني المجرّد عن المبرز له في الخارج في انتقال الدَّين من ذمّة شخص إلى ذمّة غيره ، فإنّ الانتقال يحتاج إلى العقد بين الضامن والمضمون له على حدّ العقد الواقع على المال الخارجي ، حتى يستند ذلك إلى المالك المضمون له ، إذ ليس الضامن ولياً عنه كي يقوم به قهراً عليه.

وحيث إنّ من الواضح عدم صدق العقد على الرضا الباطني المجرّد ، فلا تشمله عمومات الوفاء به. وعليه فلا بدّ في القول بكفايته في المقام من الدليل الخاص ، وحيث إنه مفقود ، فالمتعيّن هو القول باعتبار المبرز للرضا الباطني.

وأما دعوى دلالة صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، في رجل يموت وعليه دين فيضمن ضامن للغرماء ، فقال : «إذا رضي به الغرماء ، فقد برئت ذمّة الميت» (١) على كفاية الرضا المجرّد.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ٢ ح ١.

٣٩٠

بل يكفي رضا المضمون له (*) سابقاً أو لاحقاً ، كما عن الإيضاح والأردبيلي ، حيث قالا : يكفي فيه الرضا ، ولا يعتبر القبول العقدي. بل عن القواعد : وفي اشتراط قبوله احتمال (١). ويمكن استظهاره من قضية الميت المديون ، الذي امتنع النبيّ

______________________________________________________

مدفوعة بأنّ كلمة «الرضا» في هذه الصحيحة وبفضل الفهم العرفي من قوله : (فيضمنه ضامن للغرماء) مستعملة في الرضا العقديّ المبرز في الخارج ، كما يشهد له إضافته للغرماء ، لا طيب النفس المجرّد عن الإظهار.

وبعبارة اخرى : إنّ الرضا يستعمل في معنيين : مجرّد طيب النفس. وطيب النفس المبرز في الخارج ، وهو ما يعبّر عنه بالرضا العقديّ أو المعامليّ.

فإن كان متعلّق الرضا أمراً خارجياً ، كجواز الدخول في ملك الغير أو التصرّف في ماله ، فالظاهر منه وبحسب ملاحظة مناسبة الحكم والموضوع إرادة المعنى الأوّل ، بمعنى اعتبار طيب النفس وإن لم يظهره في الخارج. وإن كان متعلّقه من الأُمور العقدية الاعتبارية المتعلقة بأموال النفس وحقوقهم ، فالظاهر منه إرادة المعنى الثاني ، إذ لا بدّ له من إظهاره حتى يستند العقد إليه.

ثمّ لو فرضنا أنّ كلمة «الرضا» ليست ظاهرة فيما ذكرناه ، يكفينا كونها مجملة من هذه الناحية ، حيث لا بدّ معه من الحكم بالفساد في موارد خلوّ الرضا عن المبرز له في الخارج استناداً إلى القاعدة ، نظراً لعدم الدليل على صحة المعاملة ، فإنّ عنوان العقد غير صادق عليه ، فإنه ليس من ضمّ الالتزام بالالتزام.

(١) ظهر الحال في هذا القول مما تقدّم ، فإنّ اعتبار القبول أمر متعيّن ، ولا يكفي فيه الرضا الباطني المجرد كما عرفت ، فضلاً عن القول بعدم اعتباره بالمرة.

ويدلّ عليه ، مضافاً إلى دلالة النص السابق ، أنّ نقل مال الغير من ذمّة إلى أُخرى تصرّف في سلطانه ، فلا يجوز من دون إذنه ، كما هو الحال في تبديل عين ماله الخارجية بعين أُخرى ، أو نقلها من مكان إلى مكان آخر.

__________________

(*) هذا إذا أبرزه في الخارج بمبرز.

٣٩١

(صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يصلّي عليه حتى ضمنه عليٌّ (١). وعلى هذا فلا يعتبر فيه ما يعتبر في العقود ، من الترتيب والموالاة وسائر ما يعتبر في قبولها.

______________________________________________________

(١) ذكرها الشيخ (قدس سره) في الخلاف ، تارة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (١) وأُخرى عن أبي قتادة (٢) إلّا أنه أورد على الاستدلال بالروايتين بضعف السند.

لكن الظاهر أنه في غير محلّه. فإنّ سند هاتين الروايتين وإن كان ضعيفاً ، إلّا أنّ أصل القضية مما ثبت تحققه في الخارج ، وذلك لما رواه معاوية بن وهب في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) من غير ذكر فيها لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأبي قتادة (٣).

إذن فالصحيح في الجواب أن يقال : إن هذه الروايات إنما تتضمن قضية شخصية في واقعة ، فلا يمكن جعلها دليلاً على عدم اعتبار القبول في الضمان ، ولعلّ الدائن في تلك القضية كان حاضراً ورضي بذلك.

على أنّ الضمان المذكور فيها أجنبيّ عن الضمان المبحوث عنه في المقام ، فإنّ الكلام إنما هو في الضمان بمعنى نقل ما في ذمّة شخص إلى ذمة غيره على نحو تبرأ ذمّة الأوّل وهذا المعنى غير ثابت في هذه النصوص ، إذ لم يرد في شي‌ء منها براءة ذمّة الميت.

فيكشف ذلك على أنّ الضمان هنا إنما هو بمعنى التعهد بالأداء ، ليطمئن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعدم بقاء ذمة الميت مشغولة ، وعدم ذهاب حق الدائن هدراً. واستعماله في هذا المعنى كثير ومتعارف ، فالصديق يضمن لصديقه القيام بما يشغل باله ويمنعه من السفر أو القيام بأمر أهمّ ، وليس ذلك إلّا بمعنى تعهده المجرّد به.

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٧٩ ، الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ٣ ح ٢.

(٢) الخلاف ٢ : ٨٠ ، الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ٣ ح ٣.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ كتاب الضمان ، ب ٢ ح ٢.

٣٩٢

وأمّا رضا المضمون عنه فليس معتبراً فيه (١) إذ يصحّ الضمان التبرعي ، فيكون بمنزلة وفاء دين الغير تبرعاً ، حيث لا يعتبر رضاه. وهذا واضح فيما لم يستلزم الوفاء أو الضمان عنه ضرراً عليه (*) أو حرجاً (٢) من حيث كون تبرع هذا الشخص لوفاء دينه منافياً لشأنه ، كما إذا تبرّع وضيع دَيناً عن شريف غنيّ قادر على وفاء دينه فعلاً.

الثالث : كون الضامن بالغاً عاقلاً. فلا يصحّ ضمان الصبي (٣)

______________________________________________________

(١) فإنّه أجنبي عن المال بالمرّة ، ولا سلطنة له عليه. ومن هنا فكما يجوز للمالك أن يبيع ماله هذا إلى غيره من غير إذنه ، يجوز له أن ينقله إلى ذمة أُخرى بغير رضاه أيضاً.

وبعبارة اخرى : إنّ ذمّة المضمون عنه ليست إلّا ظرفاً ووعاءً للمال هذا ، وإلّا فلا سلطنة له عليه مطلقاً ، وإنما أمره بيد مالكه فله نقله إلى أيّ ذمة شاء.

(٢) وربّما يعلل ذلك كما في بعض الكلمات ، بنفي الضرر في الشريعة المقدّسة ، فإنه مانع عن الحكم بصحة الضمان في المقام.

وفيه ما لا يخفى. إذ لا مهانة ولا ضرر على الشريف في الحكم بسقوط ما في ذمته بوفاء الوضيع لدينه أو ضمانه له ، وإنما هما في تصدي الوضيع لذلك ومباشرته ، ومن هنا فيكون فعله من مصاديق الإضرار بالشريف وإلقائه في المهانة فيكون محرّماً تكليفاً. إلّا أنّ من الواضح أنّ الأحكام التكليفية لا تلازم الأحكام الوضعية ، فثبوت الحرمة في المقام لا يعني عدم نفوذ الضمان أو الإبراء.

والحاصل أنّ الحكم في المقام تكليفيّ محض ، باعتبار أنّ فعل الوضيع من صغريات عنوان الإضرار بالغير وهو محكوم بالحرمة. وحيث إنه غير ملازم للفساد ، فلا وجه لاستثناء هذه الصورة من الحكم بعدم اعتبار رضا المضمون عنه في نفوذ الضمان.

(٣) كما هو الحال في سائر المعاملات ، فإنه لا يجوز أمره حتى يحتلم على ما جاء

__________________

(*) بل ولو استلزم ذلك ، فإنّ التكليف لا يرتبط بالوضع.

٣٩٣

وإن كان مراهقاً (١) بل وإن أذن له الوليّ على إشكال (*) (٢). ولا ضمان المجنون (٣) إلّا إذا كان أدوارياً في دور إفاقته (٤). وكذا يعتبر كون المضمون له بالغاً عاقلاً (٥). وأمّا المضمون عنه فلا يعتبر فيه ذلك (٦) ، فيصحّ كونه صغيراً أو مجنوناً. نعم لا ينفع إذنهما في جواز الرجوع بالعوض (٧).

______________________________________________________

في النصوص (١) فلا يكون فعله موضوعاً لحكم من الأحكام الشرعية.

(١) لإطلاق الأدلّة.

(٢) والأقوى الجواز. فإنه إذا صحّ ذلك للولي بالمباشرة فيما إذا اقتضت مصلحة الطفل له ، صحّ له ذلك بالتسبيب أيضاً.

وبعبارة اخرى : إنه ليس حال الصبي كالمجنون من حيث سلب عبارته ، فإنّ عبارة الصبي غير مسلوبة ، ولذا يجوز له القيام بالبيع أو النكاح أو غيرهما من العقود والإيقاعات بالوكالة عن الغير ، بل غاية ما هناك أنه لا يجوز أمره بمعنى عدم نفوذ عقده بالإضافة إليه بحيث يستقلّ به ويكون الأمر أمره ، وهذا لا ينافي نفوذه بالإضافة إلى الولي ، بحيث يكون كأنه هو الذي قام بالعقد وإن كان المباشر له هو الصبيّ.

(٣) لرفع القلم عنه ، وقصور عبارته ، فلا يترتّب عليها أثر شرعي.

(٤) لكونه حينئذٍ عاقلاً كسائر العقلاء ، فلا موجب للمنع عن نفوذ أمره.

(٥) لما تقدّم في الضامن حرفياً.

(٦) لما عرفت من كونه أجنبياً عنه ، فلا يعتبر وجوده في الخارج ، كما دلّت عليه صحيحة ابن سنان المتقدِّمة الواردة في الضمان عن الميّت ، فضلاً عن رضاه.

(٧) لأنّ الأمر إنما يوجب الضمان على الآمر فيما إذا كان صادراً ممن له أهلية ذلك الفعل ، فإذا لم يكن متّصفاً بذلك لم يكن أمره موجباً للضمان.

__________________

(*) الظاهر الجواز إذا كانت فيه مصلحة وإن كان هذا الفرض نادراً ، وأولى بالجواز ما إذا كان المضمون له صبياً.

(١) انظر المبسوط ٢ : ٣٢٣.

٣٩٤

الرابع : كونه مختاراً (١) فلا يصحّ ضمان المكره (*) (٢).

الخامس : عدم كونه محجوراً لسفه (٣) إلّا بإذن الولي ، وكذا المضمون له (٤). ولا بأس بكون الضامن مفلساً (٥) فإنّ ضمانه نظير اقتراضه ، فلا يشارك المضمون له مع الغرماء. وأما المضمون له فيشترط عدم كونه مفلساً (٦). ولا بأس بكون المضمون عنه (٧) سفيهاً أو مفلساً ،

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : إنه لما كان أمر الصبيّ والمجنون بمنزلة العدم ، كان الضمان عنهما ضماناً تبرّعياً حتى في فرض أمرهما به ، ومعه فلا يثبت للضامن جواز الرجوع بالمال عليهما.

(١) فإنه لا عبرة بفعل المكره ، فإنه بمنزلة العدم وكأنه لم يكن. ويدلّ عليه ، مضافاً إلى حديث الرفع ، النصوص الواردة في الموارد الخاصّة كالطلاق ونحوه.

(٢) وكذلك الحال في المضمون له ، لما تقدّم في الضامن حرفاً بحرف.

(٣) لكونه محجوراً عليه ، فلا يصحّ ضمانه من غير إذن الولي.

(٤) لكون قبوله بانتقال ماله من ذمّة إلى أُخرى تصرّف ، وهو ممنوع منه بمقتضى أدلّة الحجر.

(٥) فإنّ الحجر إنما يختص بأمواله دون ذمّته ، فلا بأس بتصرّفاته العائدة إليها غاية الأمر أنّ المضمون له لا يشترك مع الغرماء في الضرب في أمواله الموجودة بالفعل ، فإنها تختص بما عداه من الغرماء ، لتعلق حقّهم بها قبل الضمان ، فيكون حال ضمانه هذا حال القرض الجديد.

(٦) لكونه ممنوعاً من التصرّف في أمواله ، بنقل أو إبراء أو غيرهما من الأسباب. وحيث إنّ دَينه هذا من جملة أمواله ، فلا يجوز له التصرّف فيه بنقله من ذمّة إلى أُخرى.

(٧) لما عرفته من كونه أجنبياً عن العقد بالمرة. فإنّ المال للغير وأمره بيده ، فله أن

__________________

(*) وكذلك المضمون له.

٣٩٥

لكن لا ينفع إذنه في جواز الرجوع عليه (*) (١).

______________________________________________________

يتصرّف فيه كيفما يشاء ، وذمّة المضمون عنه ليست إلّا وعاءً لهذا المال فلا سلطنة له عليه.

(١) ظاهر العبارة أنه ليس للضامن الرجوع على المضمون عنه السفية أو المفلس. وهو مما لا يمكن المساعدة عليه بإطلاقه ، فإنه إنما يتمّ بالنسبة إلى السفيه ، وأما المفلس فلا وجه للقول بعدم جواز الرجوع عليه ، بعد أن كان الضمان بأمره وطلبه.

وذلك لأنه وبضمانه هذا ، يملك ما كان للدائن الأوّل المضمون له في المال الموجود بالفعل والمحكوم عليه بالحجر ، لأنه يقابل الدين ، فينتقل إلى ملك من ملك الدين وانتقل إليه.

وبعبارة اخرى : إنّ أمر المضمون عنه بالضمان لا يعدّ تصرفاً في ماله وتعلّق به حق الغرماء ، لأنه لا يوجب إلّا المبادلة بين تمام دين المضمون عنه ونصيبه من المال الموجود ، فإنّ الدَّين ينتقل إلى ذمّة الضامن وبإزاء ذلك يكون له نصيب الدائن الأوّل من المال المحجور عليه ، لكونه عوضاً عنه.

نعم ، بالنسبة إلى المقدار الزائد عن نصيب المضمون له في المال الموجود ، لا مجال لمشاركة الضامن للغرماء في نصيبهم ، فإنه مختصّ بهم قبل الضمان ، فيكون حاله في ذلك حال الدَّين الجديد ، حيث قد عرفت أنه يثبت في الذمّة.

والحاصل : إنّ الضمير في قول الماتن (قدس سره) : (لكن لا ينفع إذنه في جواز الرجوع عليه) إذا كان راجعاً إلى السفيه والمفلس معاً ، فهو مما لا يمكن المساعدة عليه ، لعدم ثبوت ذلك بالنسبة إلى الثاني. وإن كان راجعاً إلى خصوص السفيه ، كما يحتمل إرادته واقعاً وإن كان بعيداً عن ظاهر العبارة جدّاً ، فالأمر كما أفاده (قدس سره).

نعم ، لو كان المراد من العبارة نفي جواز الرجوع على المفلس فيما إذا ضمنه بأمره في غير الدين الذي حجر عليه لأجله ، بمعنى أن يكون الضمان لدين جديد متأخر عن

__________________

(*) أي في أمواله الموجودة التي تكون مورداً للحجر.

٣٩٦

السادس : أن لا يكون الضامن مملوكاً غير مأذون من قبل مولاه على المشهور لقوله تعالى (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ) (١). ولكن لا يبعد صحّة ضمانه وكونه في ذمّته يتبع به بعد العتق ، كما عن التذكرة والمختلف. ونفي القدرة منصرف عمّا لا ينافي حقّ المولى (٢). ودعوى أنّ المملوك لا ذمّة له ، كما ترى ، ولذا لا إشكال في ضمانه لمتلفاته.

______________________________________________________

الحجر ، فهو صحيح ولا ريب فيه ، إلّا أنه لا بدّ من تقييد إطلاقه بأمواله التي وقع الحجر عليها ، وإلّا فالمال ثابت في ذمّته ، وللضامن الرجوع عليه به في غير تلك الأموال.

وكيف كان ، ففي خصوص تقدير أمر المفلس غيره بضمان دين خارج عما اقتضى الحجر ، يصحّ القول بعدم ثبوت حق الرجوع للضامن عليه في الجملة.

(١) بدعوى أنّ إطلاقها ، وخصوصاً بملاحظة استشهاد الإمام علي (عليه السلام) بها في صحيحة زرارة على نفي قدرته على الطّلاق (١) شامل لجميع العقود والإيقاعات الصادرة منه.

(٢) مراده (قدس سره) من هذه الدعوى ، أنّ تصرفات العبد تكون على نحوين : فإنها قد تكون في نفسه بما هو عبد ومتصف بالمملوكية للغير ، وقد تكون في نفسه لا بما هو كذلك بل بما هو إنسان من الناس.

فالنحو الأوّل من التصرفات محكوم بالبطلان وعدم النفوذ ، لكونه تصرفاً في سلطان المولى ، فتشمله الآية الكريمة ، فإنّها لا تختص بتصرفه في الأموال كما توهّمه بعضهم ، بل تعمّ حتى تصرفاته في نفسه بوصف كونه عبداً مملوكاً للغير.

ومن هذا القبيل الطلاق. فإنه إنما يصدر منه بعنوان كونه مملوكاً للمولى وعبداً له فلا يصحّ حتى ولو كان التصرف عائداً إلى نفسه.

وأما النحو الثاني ، فحيث إنه لا يعدّ تصرفاً في سلطان المولى ، لأنه إنما يقوم به بما هو إنسان ، فلا وجه للحكم بعدم نفوذه.

__________________

(*) الوسائل ، ج ٢١ كتاب النكاح ، أبواب مقدّمات الطّلاق ، ب ٤٥ ح ١.

٣٩٧

هذا وأمّا إذا أذن له مولاه ، فلا إشكال في صحّة ضمانه (١). وحينئذ فإن عيّن كونه في ذمّته نفسه ، أو في ذمّة المملوك يتبع به بعد عتقه ، أو في كسبه ، فهو المتّبع (٢). وإن أطلق الإذن ، ففي كونه في ذمّة المولى ، أو في كسب المملوك ، أو في ذمّته يتبع به بعد عتقه ، أو كونه متعلقاً برقبته ، وجوه وأقوال. أوجهها الأوّل لانفهامه عرفاً (٣) كما في إذنه في الاستدانة لنفقته أو لأمر آخر ، وكما في إذنه في التزويج حيث إنّ المهر والنفقة على مولاه.

ودعوى الفرق بين الضمان والاستدانة ، بأنّ الاستدانة موجبة لملكيته وحيث إنه لا قابلية له لذلك يستفاد منه كونه على مولاه ، بخلاف الضمان حيث إنه لا ملكيّة فيه.

______________________________________________________

ومن هذا القبيل الضمان. فإنّ العبد إنما يقوم به بما هو إنسان له ذمّة وأجنبي عن المولى بالمرّة ، حيث يثبت المال في ذمّته يتبع به بعد العتق ، ومعه فلا تشمله الآية الكريمة.

(١) بلا إشكال فيه ولا خلاف ، إذ العبد ليس كالمجنون قاصر العبارة ، بل حاله في ذلك حال العقلاء من الأحرار ، غاية الأمر أنّ تصرفه غير نافذ لاحتفافه بمانع عبوديته ومملوكيته للغير ، فيصحّ مع إذن المولى له في ذلك.

(٢) أما الأوّل فواضح ، وأما الأخيران فلرجوع التعيين إلى تقييد إذنه له في الضمان بذلك.

(٣) وليس المراد به أن الإذن بمنزلة التوكيل ، فيكون الضامن في الحقيقة هو الآمر وأما العبد فلا يقوم إلّا بدور الإنشاء ، حتى يشكل عليه بما في الجواهر ، من كونه خلفاً وخروجاً عن محل الكلام (١) إذ الكلام إنما هو في ضمان العبد بإذن المولى بتوكيل العبد فيه ، فإنّ فيه لا ينبغي الإشكال في ثبوته في الذمّة كما هو الحال في جميع موارد الوكالة ، فإنّ العوض والبدل إنما يثبت على الموكّل دون الوكيل.

وإنما المراد به كما هو ظاهر العبارة ، ضمان العبد بإذن مولاه ، بحيث يكون العبد هو

__________________

(١) الجواهر ٢٦ : ١١٦.

٣٩٨

مدفوعة بمنع عدم قابليته للملكية (١). وعلى فرضه أيضاً لا يكون فارقاً بعد الانفهام العرفي (٢).

______________________________________________________

الضامن بالأصالة ، ومع ذلك يقال بثبوت المال في ذمّة المولى.

وكيف كان ، فالأمر كما ذكره (قدس سره). وذلك لأنّ العبد قد يضمن لشخصه بما هو شخص وإنسان مع قطع النظر عن كونه عبداً مملوكاً للغير ، وقد يضمن الغير بوصف كونه مملوكاً للغير وعبداً له.

ففي الأوّل : بناءً على صحته كما اخترناه ، لا مجال للقول بثبوته في ذمّة المولى ، بل المتعيّن هو القول بثبوته في ذمّة العبد يتبع به بعد العتق والحرية ، إذ قبله يكون هو وما في يده مملوكاً للغير ، فلا يصحّ مطالبته بشي‌ء ما دام هو كذلك.

وفي الثاني : يتعيّن القول بكونه في ذمّة المولى ، وأنه هو المطالب به وكأنه هو الضامن له ، ما لم تكن هناك قرينة على الخلاف.

إلّا أنّ ضمانه هذا إنما يكون في طول ضمان العبد نفسه لا في عرضه ، فإنّ العبد يملك ومن هنا فهو المطالب أوّلاً بما ضمنه ، لكن ضمانه هذا لما كان بوصف كونه عبداً للغير وكان المولى يملك العبد وما يملكه ، كان هو المطالب به في طول مطالبة العبد به.

نظير استدانة العبد لنفسه بإذن المولى ، فإنّه يكون في ذمّة المولى ، ويكون هو المطالب به في طول مطالبة العبد به. والحاصل أنّ العبد لما كان مديناً بوصف كونه مملوكاً للغير ، كان المولى هو المطالب بدينه ، لأنه يملكه ويملك ما في يده.

إذن فالصحيح في المقام هو القول بضمان المولى لما ضمنه عبده بإذنه بوصف كونه عبداً ومملوكاً له ، ما لم يقيد المولى إذنه بكونه في ذمّته يتبع به بعد العتق ، على ما يقتضيه الفهم العرفي.

(١) حيث قد عرفت أنّ الصحيح أنّه يملك ، وأنّ مالكية المولى لتلك الأموال إنما هي في طول ملكيّته العبد لها أوّلاً.

(٢) لما عرفته من أنّ مقتضاه ضمان المولى لما ضمنه عبده بإذنه ، بوصف عبوديته له.

٣٩٩

السابع : التنجيز (١). فلو علّق الضمان على شرط ، كأن يقول : أنا ضامن لما على فلان إن أذن لي أبي ، أو ضامن إن لم يف المديون إلى زمان كذا ، أو إن لم يف أصلاً ، بطل على المشهور (*). لكن لا دليل عليه ، بعد صدق الضمان وشمول العمومات العامة ، إلّا دعوى الإجماع في كلّي العقود على أنّ اللازم ترتّب الأثر عند إنشاء العقد من غير تأخير ، أو دعوى منافاة التعليق للإنشاء (٢). وفي الثاني

______________________________________________________

(١) التنجيز في الاصطلاح يقابل أمرين على سبيل منع الخلو.

فتارة يستعمل بمعنى الفعلية في قبال التعليق وتأخر زمان المنشأ عن زمان الإنشاء ، بحيث يكون الإنشاء فعلياً في حين لا يحصل المنشأ إلّا عند تحقّق المعلّق عليه في ظرفه ، وإن كان أمراً معلوم الحصول عندئذ كالتعليق على طلوع الشمس في يوم غد ، بحيث لا يكون ضامناً بالفعل وإنما ينتقل المال من ذمّة المدين إلى ذمته عند تحقّق المعلّق عليه ، وبذلك يكون هذا العقد في الحقيقة من إنشاء الضمان المتأخر على نحو الشرط المقارن.

وأُخرى يستعمل فيما يقابل تعليق العقد الفعلي على أمر آخر ، معلوم الحصول أو مجهوله.

وقد يجتمع الأمران معاً ، فيكون المنشأ متأخراً عن الإنشاء زماناً ، كما يكون المعلّق عليه أمراً مشكوك الحصول.

وكيف كان ، فالذي لا ينبغي الإشكال فيه هو عدم البطلان في فرض تعليق العقد الفعلي على أمر معلوم الحصول والتحقق لدى الطرفين بالفعل ، لأنه في الحقيقة ليس من التعليق فإنه منجز ، وإنما الإنشاء صيغ بصورة تشبه التعليق.

وأما القسمان الآخران تعليق المنشأ على أمر متأخر ، وتعليق العقد الفعلي على أمر مجهول فسيظهر حالهما مما سيأتي.

(٢) فإنه عندهم بمعنى الإيجاد ، وهو متّحد مع الوجود حقيقة وإن اختلفا اعتباراً.

__________________

(*) فيه إشكال ، والاحتياط لا يترك.

٤٠٠