موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد تقي الخوئي

ويستفاد من هذا الخبر ما ذكرنا (*) من أن الزراعة أعم من المباشرة والتسبيب (١).

______________________________________________________

عن ابن سيابة (١) ، والكليني والشيخ (قدس سرهما) قد روياها عن سيابة (٢) ، وكذا في الوافي والوسائل (٣).

والظاهر أنّ نسخة الصدوق (قدس سره) خطأ ، إذ لا وجود لابن سيابة بهذا العنوان في غير هذا الموضع من كلامه (قدس سره) فضلاً عن غيره.

نعم ، لسيابة ولدان عبد الرحمن وصباح والأوّل أكثر رواية من أخيه إلّا أنه لم يرد في شي‌ء من النصوص ذكرهما بعنوان ابن سيابة بقول مطلق ، وإنما هما يذكران باسمهما الخاص : عبد الرحمن بن سيابة ، وصباح بن سيابة.

إذن فالصحيح هو سيابة صاحب الكتاب وفاقاً للكليني (قدس سره) الذي هو أضبط نقلاً من الصدوق (قدس سره) ، لا سيما بعد موافقة الشيخ (قدس سره) له في موضعين من التهذيب.

وعليه فتكون الرواية ضعيفة السند ، نظراً لعدم وثاقة سيابة.

وكيف كان ، فالموجود في الكتب الثلاثة : (أسمع قوماً يقولون : إنّ الزراعة مكروهة) بدلاً عن (أسمع قوماً يقولون : إنّ المزارعة مكروهة) ولا أدري أنّ الماتن (قدس سره) من أين أتى بهذه النسخة.

ومن هنا فيكون حالها حال سائر النصوص الواردة في المقام ، من حيث الدلالة على استحباب الزراعة ، بمعنى مباشرة الإنسان للفعل بنفسه ، وقد عرفت أنها أجنبية عن محل الكلام.

(١) قد عرفت منع ذلك ، وأنّ هذه الرواية ليست رواية مستقلة بإزاء تلك النصوص السابقة ، وإنما هي مثلها.

__________________

(*) لا يستفاد ذلك لأنّ المذكور في الخبر : «أسمع قوماً يقولون : إنّ الزراعة مكروهة».

(١) الفقيه ٣ : ١٥٨ / ٦٩٤.

(٢) الكافي ٥ : ٢٦٠ ، التهذيب ٦ : ٣٨٤ / ١١٣٩.

(٣) الوافي ١٨ : ٤٣٦ ح ٧ ، الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ٣ ح ١.

٢٢١

وأمّا ما رواه الصدوق مرفوعاً عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «أنه نهى عن المخابرة ، قال : وهي المزارعة بالنصف أو الثلث أو الربع» (*) فلا بدّ من حمله على بعض المحامل ، لعدم مقاومته لما ذكر (**) (١). وفي مجمع البحرين : وما روي من أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) نهى عن المخابرة ، كان ذلك حين تنازعوا فنهاهم عنها (***).

ويشترط فيها أُمور :

أحدها : الإيجاب والقبول (٢). ويكفي فيهما كل لفظ دالّ (٣) سواء كان حقيقة أو مجازاً مع القرينة ، كـ (زارعتك أو سلّمت إليك الأرض على أن تزرع على كذا).

______________________________________________________

(١) إلّا أنك قد عرفت عدم تمامية شي‌ء مما تقدّم في الدلالة على استحباب المزارعة بعنوانها المستقل ، ومن هنا فلا تكون معارضة لهذه الرواية.

إلّا أن هذا لا يعني التزامنا بالحكم بالكراهة ، فإنّ هذه الرواية ساقطة من حيث السند ، نظراً لكونها مرفوعة. ومعه فلا تصلح للاستدلال بها على شي‌ء.

أذن فالصحيح أنّ عقد المزارعة في نفسه وكمعاملة مستقلة ، غير متصف بشي‌ء من الاستحباب أو الكراهة ، حاله في ذلك حال سائر العقود ، كالبيع والإجارة ونحوهما. وإنما يتصف بالأحكام الخمسة ، بلحاظ ما يقترن به ويعرض عليه من الأوصاف والعناوين الخاصة ، فإنه وبهذا اللحاظ قد يكون واجباً ، وقد يكون مستحباً ، وقد يكون حراماً ، وقد يكون مكروهاً ، وقد يكون مباحاً أيضاً.

(٢) بلا خلاف فيه. فإنّ عقد المزارعة لما كان موجباً لاستحقاق كل من مالك الأرض والعامل على الآخر شيئاً ، كان لا بدّ فيه من اعتبار كل منهما ذلك لصاحبه ورضاه به مع إبرازه في الخارج ، على ما تقتضيه قضية كونه من العقود.

(٣) وذلك لما ذكرناه في المباحث الأُصولية وغير مورد من المباحث الفقهية ، من

__________________

(*) معاني الأخبار ج ٢ باب المحافلة والمزاينة و ... / ٢٧٧.

(**) الرواية ضعيفة ، وتقدّم أنّه ليس فيما ذكر دلالة على الاستحباب.

(***) مجمع البحرين ١ : ٤٩٠ مادّة خبر.

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أن حقيقة الإنشاء في قبال الأخبار ليست إلّا إبراز أمر نفساني ، غير قصد الحكاية عن وقوع شي‌ء في الخارج أو عدمه.

فإنّ هذا الاعتبار إذا صدر ممن له الأهلية ، كان موضوعاً لترتب الآثار عليه.

ومن هنا فيصح الإنشاء بكل ما يكون مبرزاً ومظهراً لذلك الاعتبار عرفاً ، سواء في ذلك عقد المزارعة وغيره. فيصح الإنشاء بصيغة الماضي والمضارع والأمر بالعربية وغيرها ، ولذا يصحّ إنشاء الملكيّة في الهبة بصيغة الأمر ، حيث يكتفى فيها بقول الواهب للموهوب له : (خذ هذا) ونحوه.

والحاصل أنّ العبرة إنما هي بدلالة اللفظ على الأمر الاعتباري الكامن في النفس فإنّه لو تمّت دلالته صدق العقد عليه ، وشملته أدلة إمضاء ذلك العقد من قبل الشارع.

هذا مضافاً إلى كفاية إطلاقات أدلّة صحة المزارعة في المقام ، فإنها وبمقتضى عدم تحديدها بلفظ خاص ، شاملة لكل ما يصدق عليه عنوان المزارعة ، أعني اتفاق مالك الأرض والعامل على أن يعمل الثاني في أرض الأوّل بشرط أن يكون الربح بينهما سواء أكان ذلك بالجملة الفعلية أو الماضوية أو العربية أم لم يكن.

كما ورد ذلك في المساقاة ، حيث دلّت صحيحة يعقوب بن شعيب على جواز إنشائها بصيغة الأمر. فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : سألته عن رجل يعطي الرجل أرضه وفيها ماء أو نخل أو فاكهة ، ويقول : اسق هذا من الماء واعمره ولك نصف ما أخرج الله عز وجل منه؟ قال : «لا بأس» (١).

والذي يتحصل مما تقدّم أنه ما لم يدلّ دليل خاص على اعتبار لفظ معين في وقوع معاملة ، فمقتضى مطلقات المزارعة في خصوص المقام وقوع المعاملة بكل لفظ يكون كاشفاً عن ذلك الاعتبار النفساني ، ولو كان ذلك الكاشف جملة اسمية ، فضلاً عن كونها فعلية بصيغة المضارع أو الأمر.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ٩ ح ٢.

٢٢٣

ولا يعتبر فيهما العربية (١) ولا الماضوية (٢). فيكفي بالفارسي وغيره ، والأمر كقوله : (ازرع هذه الأرض على كذا) أو المستقبل ، أو الجملة الاسمية مع قصد الإنشاء بها.

وكذا لا يعتبر تقديم الإيجاب على القبول. ويصحّ الإيجاب من كلّ من المالك والزارع (٣).

______________________________________________________

(١) لعدم اختصاص عقد المزارعة بالعرب خاصة ، فهو عقد عقلائي يصدر من العرب ومن غيرهم على حد سواء. وحيث إنّ من الواضح أنّ ما يصدر من غيرهم لا يكون بالعربية ، يكون مقتضى أدلّة إمضاء عقد المزارعة من قبل الشارع من غير تقييد ، صحة العقد المنشأ بغير العربية.

(٢) لإطلاق دليل الإمضاء ، بعد كون العقد بحدّ نفسه عقداً عقلائياً يقع كثيراً ويتعارف فيه الإنشاء بغير الماضوية ، فإنّ عدم التعرض إلى اعتبارها في مقام البيان دليل على عدم الاعتبار.

هذا كله مضافاً إلى إطلاقات أدلّة المزارعة ، حيث لا قصور فيها عن شمول العقد الفاقد لها.

وتوهم دلالة عمومات التجارة والوفاء بالعقود على عدم اعتبارها أيضاً.

مدفوع بما تقدّم غير مرّة من عدم شمولها للعقود التي تتضمن تمليك أمر معدوم بالفعل ، حيث تحتاج صحتها إلى دليل خاص.

(٣) بهذا يمتاز عقد المزارعة عن سائر العقود.

والوجه فيه أنّ المزارعة عقد يملّك كل من طرفيه الآخر شيئاً ويلتزم به ، فالعامل يملّك ربّ الأرض العمل فيها ، وهو يملّكه الحصّة المعينة من حاصلها. ومن هنا فيصح أن يقول المالك للعامل : زارعتك ، كما يصح أن يقول العامل له ذلك ، لاتحاد نسبة كل منهما إليه ، فإنهما بالقياس إليه على حد سواء.

وليس هو كسائر العقود من البيع والإجارة وغيرهما ، حيث تختلف نسبة طرفيها

٢٢٤

بل يكفي القبول الفعلي بعد الإيجاب القولي على الأقوى (١). وتجري فيها المعاطاة ، وإن كانت لا تلزم (*) إلّا بالشروع في العمل (٢).

الثاني : البلوغ ، والعقل ، والاختيار ، وعدم الحجر لسفه أو فلس ، ومالكية التصرّف (٣) في كلّ من المالك والزارع. نعم ، لا يقدح حينئذ فلس الزارع إذا لم

______________________________________________________

إليها ، وإنما هو نظير ما ذكرناه في مسألة تمييز البائع عن المشتري في المكاسب ، من فرض عقد يتضمن مبادلة الكتاب بالعباءة ، حيث يتساوى نسبة مالكيهما إلى ذلك العقد ، من دون أن يتصف أحدهما بعنوان البائع والآخر بعنوان المشتري.

(١) لصدق العقد عليه بعد إبراز الفعل لاعتباره النفساني.

(٢) على ما هو المعروف والمشهور بينهم ، حيث ذكروا أنّ العقد المعاطاتي يكون جائزاً ما لم يتصرف أحدهما فيما يتعلق به ، وأن اللزوم إنّما يختص بالعقد اللفظي.

إلّا أننا قد ذكرنا في مباحث المكاسب ، أنه لا دليل على هذا الحكم سوى الشهرة بل مقتضى العمومات وما دلّ على لزوم العقود في غير المقام وأدلّة الإمضاء في المقام أعني السيرة القطعية المتصلة بعهد المعصومين (عليهم السلام) من دون ردع عنها هو اللزوم مطلقاً ، من غير فرق بين ما كان باللفظ وما كان بالمعاطاة.

إذن فالمعاملة المعاطاتية هذه محكومة بالصحة واللزوم ، حالها في ذلك حال المعاملة المنشأة باللفظ.

(٣) والمراد به تمكّن كل من المالك والزارع من التصرّف ، زائداً على اعتبار البلوغ والعقل والاختيار وعدم الحجر ، بل ومالكيته للعين. فإنّ كل ذلك لا ينفع فيما إذا لم يكن متمكِّناً من التصرّف بالفعل ، كما لو كان عمل العامل في تلك الفترة مملوكاً لغيره بالإجارة أو غيرها ، أو كانت منفعة الأرض كذلك ، أو كانت مرهونة لدى الغير.

فإنّ هذه الأُمور وغيرها ، مما يسلب مالكية أحد الطرفين للتصرف ، تمنع من صحّة المزارعة.

__________________

(*) فيه إشكال ، واللّزوم غير بعيد.

٢٢٥

يكن منه مال ، لأنه ليس تصرّفاً مالياً (١).

الثالث : أن يكون النماء مشتركاً بينهما ، فلو جعل الكل لأحدهما لم يصحّ مزارعة (٢).

______________________________________________________

(١) والحجر عليه مختص بالتصرفات المالية في أمواله خاصة ، وإلّا فله التصرّف في مال الغير بإذنه ، بل وفيما يعود إلى نفسه فيما لا يكون تصرفاً مالياً ، كالاستدانة وإنشاء عقد الإجارة والمزارعة وغيرهما.

(٢) وتدلّ عليه جملة من النصوص المعتبرة ، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «لا تقبل الأرض بحنطة مسماة ، ولكن بالنصف والثلث والربع والخمس لا بأس به» ، وقال : «لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس» (١).

وصحيحة عبد الله الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس» (٢). وغيرهما.

حيث يستفاد منها تقوم المزارعة بكون الحاصل وما يخرجه الله من الأرض مشتركاً بينهما بالنصف والثلث ونحوهما.

ومع قطع النظر عن دلالة هذه النصوص يكفينا في إثبات الحكم في المقام ما ذكرناه غير مرّة ، من عدم شمول عمومات وإطلاقات الوفاء بالعقد للمزارعة ونحوها من المعاملات التي تتضمن تمليك المعدوم بالفعل ، فإنّ عدم الدليل دليل على الفساد في مثله.

وعليه فالحاصل ، وبحكم قانون تبعية النتاج للبذر ، يكون لمالك البذر منهما.

ومن هنا ، فإن كان البذر لمالك الأرض ، وكان الشرط كون النماء بأكمله له ، كان مقتضى فساد العقد كون النتاج له ، لكن لا للشرط لما عرفت فساده ، وإنما لقانون التبعية. ولا يستحق العامل شيئاً ، أما من النتاج فواضح ، وأما اجرة المثل فلإقدامه

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ٨ ح ٣.

(٢) الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ٨ ح ٧.

٢٢٦

الرابع : أن يكون مُشاعاً بينهما. فلو شرطا اختصاص أحدهما بنوع كالذي حصل أوّلاً والآخر بنوع آخر ، أو شرطا أن يكون ما حصل من هذه القطعة من الأرض لأحدهما ، وما حصل من القطعة الأُخرى للآخر ، لم يصحّ (١).

______________________________________________________

على التبرع بعمله على ما كان يقتضيه عقد المزارعة بينهما.

وإن كان الشرط كون النماء للعامل ، فهو وبحكم فساد العقد يكون كالعدم ، وبذلك يكون النتاج كله للمالك. إلّا أن عمل العامل في هذا الفرض لا يذهب هدراً ، لأنه لم يقدم على التبرع به والمجانية وإنما أقدم على أن يكون النتاج له ، وحيث إنه لم يسلم له فله اجرة مثل عمله ما لم تزد على تمام النتاج ، وإلّا فله الأقل منهما.

وإن كان البذر للعامل ، فإن كان الشرط كون النماء له ، أخذ تمام النماء من جهة تبعية النتاج للبذر لا الشرط لفساده. ولا يستحق المالك عليه شيئاً ، لإقدامه على إعطاء الأرض له للزرع مجاناً وبلا عوض.

وإن كان الشرط كون النماء لمالك الأرض ، كان النتاج للعامل لما عرفت من فساد الشرط بفساد العقد ، وتبعية النتاج للبذر في الملك ، إلّا أنّ للمالك اجرة مثل أرضه على العامل إذا لم تزد على تمام النتاج ، لأنه لم يقدم على المجانية.

والحاصل أنه على جميع التقادير المذكورة يكون العقد باطلاً ، لفقدانه شرط اعتبار كون النماء مشتركاً بينهما ، وعندئذٍ يكون النتاج بأكمله لمالك البذر لقانون التبعية ويستحقّ صاحبه عليه اجرة المثل في بعض الفروض ، على التفصيل المتقدِّم.

ثمّ إنّ مما ذكرناه كله يظهر الحال فيما يأتي من المسائل مما حكم فيها الماتن (قدس سره) بالبطلان.

(١) ويقتضيه كل ما تقدّم في وجه اشتراط الاشتراك في النماء ، فإنّ الظاهر من الصحيحتين المتقدمتين تقوم المزارعة بالإشاعة في النماء بالنصف أو الثلث ونحوهما.

ومع الإغماض عنها يكفي في الحكم بالفساد عدم شمول العمومات والمطلقات الأوّلية لمثل هذه المعاملات ، فإنّ عدم الدليل على الصحة يكفي في الحكم ببطلانها.

وعليه فيجري فيه ما تقدّم في الفرع السابق ، من التفصيل في استحقاق اجرة المثل على العمل أو الأرض.

٢٢٧

الخامس : تعيين الحصة ، بمثل النصف أو الثلث أو الربع أو نحو ذلك. فلو قال : ازرع هذه الأرض على أن يكون لك أو لي شي‌ء من حاصلها ، بطل (١).

السادس : تعيين المدة بالأشهُر والسنين (٢) فلو أطلق بطل.

______________________________________________________

(١) لظهور الأدلّة في معلومية الحصّة بالنصف أو الثلث ونحوهما.

على أنه يكفي في الحكم بالبطلان عند عدم التعيين ، عدم الدليل على الصحة ، نظراً لما عرفت من عدم شمول عمومات وإطلاقات الوفاء بالعقد له.

هذا مضافاً إلى قصور العقد عن قابلية الحكم بالصحة. فإنّ ما لا تعيُّن له في الواقعِ وعلمِ الله غيرُ قابلٍ للتمليك في نفسه ، فإنه أمر تابع للاعتبار وجعل المملك ، فإذا لم يكن معلوماً ولو في علم الله ، فلا معنى لتعلق الاعتبار به وتمليكه لغيره.

إذن فمثل هذا العقد باطل في حدّ نفسه ، لقصوره في مقام الثبوت ، فضلاً عن عدم الدليل عليه في مقام الإثبات.

(٢) أما اعتباره فيما يقابل دورانه بين الأقل والأكثر من حيث نوع الزرع ومدّته فهو واضح ولا خلاف فيه ، إذ لا يمكن الحكم بصحّة عقد يكون متعلقه فاقداً للتعيين في الواقع ، فإنّ الالتزام بمجهول لا واقع له حتى في علم الله باطل بطبعه ، ولا تشمله أدلّة المزارعة ، والعمومات والمطلقات بناءً على شمولها لمثل هذا العقد في حدّ نفسه.

وأما اعتباره بمعنى تحديد سنة الزراعة بعد معلومية نوع الزرع ، في مقابل إيقاعهما العقد على الزراعة المعيّنة في الأعم من هذه السنة والسنة الآتية مثلاً ، بحيث يكون العمل معلوماً والمدّة مجهولة في الجملة لوقوع العقد على الجامع ، فهو كذلك ، فإنّ متعلق الحق والمملوك إذا كان كلياً ، كان تعيينه بيد من عليه الحق كما هو واضح. ومن هنا فقد يختلف الطرفان من حيث المدّة ، فيختار المالك السنة الأُولى مثلاً والزارع السنة الثانية. وحيث لا يمكن في مثله الحكم بالوفاء به على أحد الطرفين على الإطلاق ، فإنه كيف يمكن أن يقال بلزوم الوفاء بما عينه صاحبه مع أنّ له الامتناع عنه ، فلا محالة يحكم ببطلانه.

٢٢٨

نعم ، لو عيّن المزروع ، أو (١) مبدأ الشروع في الزرع ، لا يبعد صحّته (٢) إذا لم يستلزم غرراً. بل مع عدم تعيين ابتداء الشروع أيضاً إذا كانت الأرض ممّا لا يزرع في السنة إلّا مرّة ، لكن مع تعيين السنة (٣) لعدم الغرر فيه. ولا دليل على اعتبار التعيين تعبّداً ، والقدر المسلّم من الإجماع على تعيينها غير هذه الصورة (٤).

______________________________________________________

وبعبارة أُخرى نقول : يعتبر في صحة العقد أن يكون على نحو يمكن إلزام كلا طرفيه بالوفاء به والالتزام بمضمونه. وحيث إنّ هذا مفقود في المقام ، فإنّ الواجب على العامل القيام بالزراعة في إحدى تينك السنتين مع كون الخيار له في التعيين والواجب على المالك تسليم أرضه للزراعة في إحدى السنتين مع كون الخيار في التعيين له أيضاً ، فلا يجب على أحدهما إطاعة الآخر فيما عينه ، ويحكم بفساده لا محالة.

(١) كلمة «أو» غلط جزماً ، والصحيح «الواو». ويشهد له قوله (قدس سره) بعد هذا : بل مع عدم تعيين ابتداء الشروع أيضاً.

(٢) إذ بانتهاء الزرع وحصول النتاج ، يقسم الحاصل بينهما على ما اتفقا عليه من النسبة ، وتلغى الفترة الزائدة قهراً. ومعه فلا يبقى للعامل حقّ في التصرّف في الأرض بعد ذلك ، لانتهاء المزارعة به.

(٣) بلا إشكال فيه. فإنّ المزارعة لما كانت زراعة واحدة ، وقد أعطى المالك العامل الحقّ فيها مرّة واحدة متى شاء ، حكم بصحتها ، لعدم فوات شي‌ء على المالك.

(٤) ظاهر كلامه (قدس سره) أنّ الدليل على اعتبار تعيين المدّة بالأشهر والسنين إنما هو الإجماع ودليل نفي الغرر.

ومن هنا فقد يورد عليه بعدم الدليل على المنع من الغرر مطلقاً ، إذ الثابت إنما هو النهي عن البيع الغرري خاصة. وعليه فإن تمّ إجماع محصّل فهو ، وإلّا فلا عبرة بالإجماع المنقول.

إلّا أنك قد عرفت أننا في غنى عن إثبات الإجماع أو الدليل على نفي الغرر مطلقاً

٢٢٩

وفي صورة تعيين المدّة لا بدّ وأن تكون بمقدار يبلغ فيه الزرع (١) فلا تكفي المدّة القليلة التي تقصر عن إدراك النماء.

السابع : أن تكون الأرض قابلة للزرع ولو بالعلاج. فلو كانت سبخة لا يمكن الانتفاع بها ، أو كان يستولي عليها الماء قبل أوان إدراك الحاصل أو نحو ذلك ، أو لم يكن هناك ماء للزراعة ولم يمكن الاكتفاء بالغيث ، بطل (١).

الثامن : تعيين المزروع من الحنطة والشعير وغيرهما (٣) مع اختلاف الأغراض فيه ، فمع عدمه يبطل ، إلّا أن يكون هناك انصراف يوجب التعيين ، أو كان مرادهما التعميم (٤) وحينئذٍ فيتخيّر الزارع بين أنواعه.

التاسع : تعيين الأرض (٥)

______________________________________________________

وإن كان الظاهر تحقّق الإجماع فإنّ نفس أدلّة المزارعة قاصرة عن شمول ما لا تعيين فيه بالمعنيين السابقين.

(١) بلا خلاف فيه. فإنّ فرضها أقل من فترة بلوغ الحاصل ، خلاف جعل المزارعة والمقصود منها ، فيكون مثل هذا الإقدام لغواً ، لكونه إقداماً على أمر لا يتحقّق في الخارج ، فإنّ النتاج لا يحصل في المدة المعيّنة ، في حين لم يلتزم المالك بإعطاء شي‌ء له إزاء ما يحصل خارج تلك الفترة.

(٢) كما هو ظاهر. فإنّ مفهوم المزارعة متقوِّم بإمكان تحقّق الزرع وقابلية الأرض له ، وخروج شي‌ء منها يكون بينهما على ما اتفقا عليه من النسبة.

(٣) في قبال قصد كل منهما نوعاً غير ما قصده الآخر ، إذ معه لا يتحقق مفهوم العقد ، وإلّا فلا دليل على اعتبار تعيين النوع في حدّ ذاته ، كما يشهد له قوله (قدس سره) بعد هذا : أو كان مرادهما التعميم ، فإنه لولا ما ذكرناه لكان منافياً لما ذكره (قدس سره) من اعتبار تعيين المزروع.

(٤) فإنه نوع من التعيين بالمعنى الذي ذكرناه.

(٥) وتفصيل الكلام في المقام أنه لا ينبغي الإشكال في صحة المزارعة ، فيما إذا

٢٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

كانت الأرض معلومة معيّنة.

وكذا الحال فيما لو كانت كليّاً في معين ، فإنه لا قصور في أدلّة المزارعة عن شموله. فقد ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس» (١) فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين العقد الواقع على العين الخارجية والواقع على الكلي في معين.

بل الإطلاقات شاملة للعقد الواقع على الكلي في الذمة ، إذ يصح فيه أن يقال : إنّ المالك زارع العامل على أن يكون ما يخرجه الله بينهما.

نعم ، لو زارعه على إحدى القطعتين المختلفتين في الصفات ، بحيث تكون المزارعة في إحداهما أيسر وأسهل من الأُخرى ، فقد يقال كما ذهب إليه الماتن (قدس سره) بالبطلان ، نظراً للزوم الغرر.

إلّا أنّ للمناقشة فيه مجالاً واسعاً. فإنه لا وجه للحكم بالبطلان فيه ، بعد البناء على صحة المزارعة في الكلي في المعين ، فإنه من مصاديقه ، فإنّ عنوان إحدى هاتين القطعتين كلّي قابل للانطباق على كل منهما.

ودعوى لزوم الغرر.

مدفوعة بأنه إنما يكون فيما إذا كان العوض أمراً معلوماً ومعيناً ، كما لو باعه أحد الثوبين المختلفين من حيث الجنس والوصف بخمسة دنانير ، حيث لا يعلم المشتري ما يملكه بإزاء ما يدفعه ثمناً ، فلا يتمّ في مثل المقام حيث يكون العوض هو النسبة المعينة من الحاصل من الأرض التي يعمل فيها ، فإنه لا غرر فيه على الإطلاق ، ولا يكون إقدام العامل عليه إقداماً غررياً ، فإنه سيأخذ الحصّة المعينة مما أخرجه الله تبارك وتعالى من الأرض. فحال العامل في هذه الصورة ، هو الحال في إقدامه على المزارعة والعمل في الأرض المعينة.

على إنك قد عرفت غير مرّة ، أنه لا دليل على اقتضاء الغرر لبطلان المعاملات بقول مطلق ، إذ المسلم منه هو بطلان البيع الغرري خاصة.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ٨ ح ٧.

٢٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه فإن تمّ إجماع في المقام على بطلان عقد المزارعة عند عدم تعيين الأرض فهو المستند ، وإلّا كما هو الظاهر فلا وجه لاعتبار هذا الشرط.

وبعبارة اخرى : إنّ القطعتين إذا كانتا متساويتين من حيث النسبة والحصة ، بحيث كان العقلاء يقدمون على زراعة كل منهما بتلك الحصّة من حاصلها ، فلا ينبغي الريب في صحة العقد ، إذ لا غرر فيه على المالك أو العامل ، فإنه إنما يكون مع تعيين العوض بحيث يكون مالاً معيناً معلوماً لا مع النسبة. ولا يضرّ في ذلك كون حاصل إحداهما أقلّ من الأُخرى ، بعد أن كانت كل منهما تعطي بنفس تلك النسبة التي تعطى بها الأُخرى.

وأما إذا اختلفتا من حيث النسبة ، بأن كانت إحداهما تزارع على أن يعطى للمالك النصف من الحاصل والأُخرى على ان يكون له الثلث ، فالأمر كذلك أيضاً فيما لو وقع العقد على كلي القطعتين بأقل الحصتين الثلث للمالك ، إذ لا غرر عليهما معاً.

فإنّ المالك إن عيّن القطعة التي تزارع على الثلث للمالك فهو ما أقدم عليه العامل وإن عيّن الأُخرى كان ذلك من جانب العامل ، حيث أخذ ما يعطى بالنصف من الحاصل للمالك بالثلث له ، فلا غرر عليه بالمرّة. وأما المالك ، فحيث إنّ الخيار في التعيين بيده ، وتطبيق الكلي على أي الفردين شاء منوط بنظره ، فلا يكون فيما يختاره خطر عليه.

نعم ، لو أقدم العامل على العقد بأكثر الحصتين للمالك احتمل الخطر عليه ، لأنه قد يختار الأرض التي تعطى بالأقل ، فيكون ضرراً عليه.

إلّا أنّ هذا لا يقتضي البطلان ، إذ لا دليل على المنع من الغرر مطلقاً ، وإنما الدليل يختص بالبيع وما يلحق به كالإجارة للإجماع. ومن هنا فمقتضى الإطلاقات هو الحكم بالصحة.

ومعه فيكون الخيار في التعيين بيد المالك لأنّ الحقّ عليه ، لأنه الذي ملّك العامل الكلي في المعيّن. وأما العامل فهو وإن كان قد ملك كلّي العمل في إحدى القطعتين ، إلّا أنه لا خيار له ، لأنه إنما ملك كلّي العمل في إحدى القطعتين اللتين يكون الخيار في

٢٣٢

ومقدارها (١). فلو لم يعيّنها بأنها هذه القطعة أو تلك القطعة ، أو من هذه المزرعة أو تلك ، أو لم يعيّن مقدارها ، بطل مع اختلافها ، بحيث يلزم الغرر (٢). نعم ، مع عدم لزومه لا يبعد الصحة ، كأن يقول : (مقدار جريب من هذه القطعة من الأرض) التي لا اختلاف بين أجزائها ، أو (أي مقدار شئت منها) (٣). ولا يعتبر كونها شخصية ، فلو عيّن كلياً موصوفاً على وجه يرتفع الغرر ،

______________________________________________________

تعيينها بيد المالك ، فهو في الحقيقة قد ملك المالك عمله فيما يختار المالك من القطعتين.

ومن هنا يظهر عدم صحة قياس مسألتنا على مسألة تعيين المدة بالأشهر والسنين ، حيث حكمنا بالبطلان نظراً لعدم شمول أدلّة اللزوم لها ، حيث يملّك المالك العامل كلّي حقّ التصرّف في الأرض ، في قبال تمليك العامل له كلّي العمل في إحدى السنتين.

(١) بلا ريب فيه. فإنّ المردد بين الأقل والأكثر غير قابل للتمليك ، لعدم التعين له في الواقع ونفس الأمر ، فلو قال المالك : (زارعتك على مقدار من الأرض) من غير تحديد لم تصحّ. فإنّ المزارعة تشتمل على حقّين ، حق المالك وحق العامل ، فلا بدّ فيها من التعيين في الواقع ، بحيث يتعلق التزام كل منهما بأمر له واقع ، وإلّا فلا يقبل التمليك والتملك ، كما تقدّم غير مرّة.

(٢) قد عرفت أنّ الغرر غير متحقّق ، وعلى فرضه فلا دليل على اقتضائه للبطلان. وأن الصحيح عدم اعتبار التعيين بالنسبة إلى أصل الأرض ، واعتبارها بالنسبة إلى المقدار.

(٣) ما أفاده (قدس سره) من الصحة في المثال الأخير ، ينافي اعتباره (قدس سره) لتعيين مقدار الأرض والالتزام ببطلانها عند عدمه.

اللهمّ إلّا أن يكون المراد به الإشارة الإجمالية إلى ما سيعيّن من قبله أو قبل العامل بعد ذلك ، بحيث يكون الاختيار بيده ، فإنه معه يرتفع محذور الإبهام وعدم التعيين الواقعي ، لكونه معلوماً في علم الله.

٢٣٣

فالظاهر صحته (١) وحينئذٍ يتخير المالك في تعينه.

العاشر : تعيين كون البذر على أيّ منهما (٢) وكذا سائر المصارف واللوازم ، إذا لم يكن هناك انصراف مغنٍ عنه ولو بسبب التعارف.

______________________________________________________

(١) لإطلاق أدلّة المزارعة ، على ما تقدّم بيانه مفصلاً.

(٢) فإذا لم يعيّنا بطل العقد ، لانتفاء موضوع المزارعة بانتفاء البذر ، نظراً لعدم وجوب بذله على كل منهما.

وذهب بعض إلى كونه على العامل حينئذ ، لأنه المأمور بالعمل فتكون مقدماته عليه ، نظير ما يذكر في باب الإجارة من كون الخيط عند عدم التعيين على الخياط.

بل ربّما يستشكل في جعله ولو بالتعيين على المالك ، لولا الإجماع على صحته.

وذلك لصحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن الرجل تكون له الأرض من أرض الخراج ، فيدفعها إلى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدّي خراجها ، وما كان من فضل فهو بينهما؟ قال : «لا بأس» إلى أن قال : وسألته عن المزارعة ، فقال : «النفقة منك ، والأرض لصاحبها ، فما أخرج الله من شي‌ء قسم على الشطر ، وكذلك أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) خيبر حين أتوه ، فأعطاهم إيّاها على أن يعمروها ولهم النصف مما أخرجت» (١).

حيث إنّ المستفاد منها تقوّم المزارعة بكون البذر وغيره من النفقة على العامل ، في قبال كون الأرض من صاحبه.

ومن هنا فقد ذكر بعضهم أنه لو اشترط كون البذر على المالك ، خرج العقد عن حقيقة المزارعة ، ومن ثمّ حكم ببطلانه.

لكن الظاهر عدم تمامية شي‌ء من الأمرين : كون البذر عند الإطلاق على العامل وبطلان العقد عند جعله على المالك.

وذلك لأن الواجب على العامل بمقتضى عقد المزارعة هو العمل خاصّة ، وأما

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ١٠ ح ٢.

٢٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مقدّماته فإثبات كونها عليه أيضاً يحتاج إلى الدليل ، وهو مفقود.

فالمقام نظير ما ذكرناه في تكفين الميت ، من أنّ الواجب على المسلمين القيام بالعمل خاصة ، وأما إيجاد الموضوع وتحصيل الكفن فلا دليل على وجوبه عليهم. ومن هنا فلا يجب على أحد منهم بذله ، بل إن كان للميت مال فمنه ، وإلّا فمن الزكاة ونحوها ، فإن لم يوجد دُفن عارياً ، إذا لم يحصل من يتبرع به عن طوع رغبته وإرادته.

ومن هنا فما نحن فيه أشبه شي‌ء بالبناء ، حيث لا يجب على العامل إلّا العمل بالمواد دون تحصيلها.

وصحيحة يعقوب بن شعيب وإن كانت دالّة على كون البذر من العامل وتقوّم المزارعة بذلك ، إلّا أنه لا بدّ من رفع اليد عن ظهورها هذا وحملها على بعض المحامل ككون ذلك هو المعهود في ذلك الزمان ونحوه ، وذلك لجملة من النصوص الدالّة على عدم اعتباره من حيث فرض فيها كون البذر من غير العامل.

ففي معتبرة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال : سألته عن رجل استأجر أرضاً بألف درهم ثمّ آجر بعضها بمائتي درهم ، ثمّ قال له صاحب الأرض الذي آجره : أنا أدخل معك بما استأجرت فننفق جميعاً ، فما كان من فضل بيني وبينك ، قال : «لا بأس بذلك» (١).

فإنه (عليه السلام) حكم بصحّة العقد ، مع كون المفروض فيها مشاركة المالك للعامل في الإنفاق عليها.

وفي صحيحة سماعة ، قال : سألته عن مزارعة المسلم المشرك ، فيكون من عند المسلم البذر والبقر وتكون الأرض والماء والخراج والعمل على العلج ، قال : «لا بأس به» (٢). حيث فرض فيها كون البذر على غير العامل صريحاً.

وأصرح من الكل خبر إبراهيم الكرخي ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أُشارك العلج ، فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ويكون على العلج القيام

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ١٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ١٢ ح ١.

٢٣٥

[٣٤٩٣] مسألة ١ : لا يشترط في المزارعة كون الأرض ملكاً للمزارع ، بل يكفي كونه مسلّطاً عليها بوجه من الوجوه ، كأن يكون مالكاً لمنفعتها بالإجارة أو الوصية أو الوقف عليه ، أو مسلّطاً عليها بالتولية كمتولّي الوقف العامل أو الخاصّ والوصي ، أو كان له حق اختصاص بها بمثل التحجير والسبق ونحو ذلك أو كان مالكاً للانتفاع بها ، كما إذا أخذها بعنوان المزارعة فزارع غيره أو شارك غيره. بل يجوز أن يستعير الأرض للمزارعة (١).

نعم ، لو لم يكن له فيها حق أصلاً لم يصحّ مزارعتها ، فلا يجوز المزارعة في الأرض الموات مع عدم تحجير أو سبق أو نحو ذلك ، فإنّ المزارع والعامل فيها سواء.

نعم ، يصحّ الشركة في زراعتها مع اشتراك البذر أو بإجارة أحدهما نفسه للآخر في مقابل البذر أو نحو ذلك. لكنه ليس حينئذٍ من المزارعة المصطلحة.

______________________________________________________

والسقي والعمل في الزرع حتى يصير حنطة أو شعيراً ، وتكون القسمة ، فيأخذ السلطان حقه ويبقى ما بقي على أنّ للعلج منه الثلث ولي الباقي ، قال : «لا بأس بذلك». قلت : فلي عليه أن يرد عليّ ممّا أخرجت الأرض البذر ويقسم ما بقي؟ قال : «إنما شاركته على أنّ البذر من عندك ، وعليه السقي والقيام» (١).

إلّا أنه ضعيف السند ، فلا يصلح إلّا شاهداً لما ذكرناه.

على أنّ المزارعة من العقود العرفية المعهودة التي يكثر تحققها في الخارج ، بحيث جرت عليها سيرة العقلاء قاطبة فضلاً عن سيرة المتشرعة المتصلة بعهد المعصوم (عليه السلام). ومن هنا فلو كان اعتبار كون البذر من العامل شرطاً فيها ، لوجب أن يكون من الواضحات ، فكيف وقد قام الإجماع على خلافه!

(١) كل ذلك لعدم الدليل على اعتبار الملك ، بل وقيام الدليل على ما ستعرف على خلافه.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٩ كتاب المزارعة والمساقاة ، ب ١٠ ح ١.

٢٣٦

ولعل هذا مراد الشهيد في المسالك من عدم جواز المزارعة في الأراضي الخراجية التي هي للمسلمين قاطبة ، إلّا مع الاشتراك في البذر أو بعنوان آخر. فمراده هو فيما إذا لم يكن للمزارع جهة اختصاص بها (١) وإلّا فلا إشكال في جوازها بعد الإجارة من السلطان ، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار.

[٣٤٩٤] مسألة ٢ : إذا أذن لشخص (*) في زرع أرضه على أن يكون الحاصل بينهما بالنصف أو الثلث أو نحوهما ، فالظاهر صحّته وإن لم يكن من المزارعة المصطلحة (٢)

______________________________________________________

(١) ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) أيضاً (١) إلّا أنه بعيد جدّاً ، إذ الشهيد (قدس سره) قد رتّب حكمه هذا على اعتبار الملكيّة صريحاً (٢).

إذن فالصحيح أن يقال : إنّ ما أفاده الشهيد (قدس سره) في المسالك من سهو قلمه الشريف. إذ لا دليل على اعتبار الملكيّة في المزارعة ، بل الدليل قائم على عدمه ففي صحيحة محمد بن مسلم المتقدِّمة الحكم بصحّة المزارعة على الأرض المستأجرة. بل وفي نصوص المزارعة في الأرض الخراجية ، ما فيه الكفاية لإثبات المدعى.

والحاصل أنّ المتعين في جميع الموارد المذكورة في المتن هو الحكم بالصحة ، ولا وجه لما أفاده الشهيد (قدس سره) من الحكم بالبطلان.

(٢) إلّا أنك قد عرفت غير مرّة ، عدم إمكان التمسك بالعمومات والمطلقات لإثبات الصحة لمثل هذه المعاملة ، تحت أي عنوان كانت الجعالة أو غيرها ، وإنّ صحتها تحتاج إلى دليل خاص.

والوجه فيه أن التزام مالك البذر إذا كان متعلقاً بكون الحاصل مشتركاً ومن حين حدوثه وحصوله بينه وبين صاحبه كما هو مقتضى الأدلّة في الزكاة فهو باطل ولا

__________________

(*) إذا كان مالك الأرض قاصداً بذلك إنشاء عقد المزارعة صحّ ولزم بقبول الزارع ولو قبولاً فعليّاً وأمّا إذا كان قاصداً مجرّد الإباحة لم يصح بعنوان المزارعة ، وبذلك يظهر الحال في الفروض الآتية.

(١) الجواهر ٢٧ : ٣٣.

(٢) مسالك الافهام ٥ : ١٢.

٢٣٧

بل لا يبعد كونه منها أيضاً (١). وكذا لو أذن لكل من يتصدّى للزرع وإن لم

______________________________________________________

أثر له ، فإنه غير مشروع في نفسه لمخالفته للكتاب والسنّة ، فإن النتاج تابع للبذر في الملكيّة ، فلا يمكن ان يكون ولو بعضاً ملكاً للغير حين حدوثه.

فهو نظير ما لو التزم أحد في عقد بكون ما يتركه أبوه عند وفاته كلّاً أو بعضاً لغيره ، فإنّ هذا الالتزام لا يكون نافذاً ، ولا يشمله قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وإن كان التزامه متعلقاً بتمليك ما سيملكه بعد ذلك ، بأن يلتزم بانتقال نصف الحاصل مثلاً إلى صاحبه بعد انتقاله بتمامه إليه أوّلاً ، بحيث يملك صاحبه من الآن الأمر المتأخر ، فهو وإن لم يكن مخالفاً للكتاب والسنة ، إلّا أنه القدر المتيقن من إجماعهم على بطلان التعليق في العقود. بل لم يقع مثله إلّا في الوصية ، حيث إنها ولإطلاقات أدلّتها تعمّ ما يملكه الموصي بعدها إلى حين الوفاة ، وأما في غيرها فلم يقع بتاتاً حتى في التعبير ، إذ لا يصح أن يقول : العبد الذي سأملكه غداً حر بعد وفاتي.

وهذا الكلام غير مختص بباب المزارعة ، فإنه كما لا يجوز فيها لا يجوز في غيرها من أنواع المعاملات أيضاً حتى ولو كان ذلك بعنوان الجعالة ، فلا يصحّ أن يجعل لمن يرجع عبده إليه ثلث ما سيملكه في المستقبل أو ثلث ما ستخرجه أرضه.

ومن هنا تكون صحّتها محتاجة إلى دليل خاص ، ولا يكفي فيها التمسك بالعمومات والإطلاقات ، فإنها غير شاملة له. وحيث لا دليل على الصحة إلّا في المضاربة والمزارعة والمساقاة ، فلا بدّ من الحكم بالبطلان ، لعدم المخرج له عن عموم المنع.

ولذا لم يلتزم أحد من الأصحاب فيما نعلم بصحّة مثل ذلك في غير المزارعة من العقود.

والحاصل أنّ الصحيح في المقام هو الحكم بالبطلان ، لعدم الدليل على الصحة. ومن هنا فلا يستحقّ العامل إلّا اجرة مثل عمله.

(١) بل هو في غاية البعد. فإنّ المزارعة من العقود اللازمة على ما سيأتي ـ

٢٣٨

يعيِّن شخصاً.

وكذا لو قال : (كلّ من زرع أرضي هذه أو مقداراً من المزرعة الفلانية فلي نصف حاصله أو ثلثه) مثلاً ، فأقدم واحد على ذلك ، فيكون نظير الجعالة (١). فهو كما لو قال : (كل من بات في خاني أو داري فعليه في كل ليلة درهم) أو (كل من دخل حمامي فعليه في كل مرّة ورقة) (٢). فإنّ الظاهر صحّته للعمومات (*) ، إذ هو نوع من المعاملات العقلائية ، ولا نسلم انحصارها في المعهودات ، ولا حاجة إلى الدليل الخاص لمشروعيتها ، بل كل معاملة عقلائية صحيحة إلّا ما خرج بالدليل الخاص ، كما هو مقتضى العمومات (٣).

[٣٤٩٥] مسألة ٣ : المزارعة من العقود اللّازمة (٤).

______________________________________________________

ويتضمّن التزاماً من الطرفين مع وجوب الوفاء عليهما ، بحيث لا يكون لكل منهما رفع اليد عنه. وهذا كلّه مفقود في المقام ، فإنه من موارد الإذن والإباحة بالتصرف الخارجي ، وليس من العقد الذي يجب الوفاء به في شي‌ء.

والحاصل أنّ الإذن المجرد مغاير للعقد اللازم بالضرورة ، فلا وجه لجعله منها.

(١) التنظير إنما يتمّ فيما إذا كان البذر من المالك ، إذ المالك حينئذٍ يجعل على نفسه شيئاً للغير عند قيامه بالعمل المعين. وأما إذا كان البذر من العامل فلا وجه لتنظيره بالجعالة ، حيث إنّ المالك حينئذٍ يجعل لنفسه شيئاً على الغير ، أعني الحصّة من النتاج الذي يكون تابعاً للبذر في الملكيّة ، ولا يلتزم على نفسه شيئاً للغير.

(٢) وهو من القياس مع الفارق. فإنه أجنبي عن المزارعة بالمرة ، إذ المال الذي يجب دفعه على الداخل أمر معلوم معيّن ، فيدخل في عنوان الإباحة بالعوض ، وهي أجنبية عن باب المعاملات كلية.

(٣) قد عرفت أنها لا تعمّ المعاملات التي تتضمّن تمليك المعدوم بالفعل.

(٤) بلا خلاف فيه ، بل ادُّعي عليه الإجماع في كلمات غير واحد ، لأصالة اللزوم في العقود ، التي استدل عليها الشيخ الأعظم (قدس سره) بوجوه عديدة.

__________________

(*) العمومات لا تشمل الموارد التي يكون التمليك والتملّك فيها متعلِّقاً بأمر معدوم حال العقد.

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : ما يختصّ بالبيع وتمليك الأعيان ، كقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (١). فإنّ أخْذ المال ثانياً بعد تمليكه للغير منه قهراً عليه ، تجارة من غير تراض وأكْل للمال بالباطل. وقولهم (عليهم السلام) : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» (٢).

ومنها : ما هو عام لجميع العقود ، كاستصحاب بقاء الملكيّة ، وقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٣).

وفي الأوّل مما يعمّ محل الكلام بحث طويل وعريض ، من حيث كونه استصحاباً كلياً أو شخصياً ، وأنّه من قبيل الشك في المقتضي أو الشك في الرافع.

فقد أورد عليه المحقق الخراساني والسيد اليزدي (قدس سرهما) بأنه من الأوّل (٤) لكننا قد أوضحنا في محلّه أنه ليس منه ، وأنه من الشك في الرافع.

لكنك قد عرفت هناك أيضاً ، أنه لا أثر لهذا الاستصحاب ، لأنه من استصحاب الأحكام الكليّة الإلهية ، وهو غير تامّ على ما بيّناه في محلّه.

نعم ، الاستدلال الثاني تام ومتين ، ومقتضاه لزوم العقد في المقام وغيره.

وذلك لأنّ الأمر بالوفاء ليس أمراً تكليفياً محضاً ، إذ لا يحتمل كون الفسخ على تقديري ثبوته وعدمه من المحرمات الإلهية ، وإنما هو أمر إرشادي إلى عدم ثبوت حق رفع اليد عنه له ، فإنّ معنى الوفاء بالعقد إنهاؤه وإتمامه والالتزام بمقتضاه.

ومن هنا فتدلّ الآية الكريمة على لزوم العقد ، وعدم تأثير الفسخ فيه. وبما أنّ المزارعة من العقود المتعارفة المعهودة من قبل التشريع وإلى الآن ، وممضاة من قبل الشارع المقدس بالسيرة القطعية ، فتشملها الآية الكريمة لا محالة.

هذا مضافاً إلى إمكان التمسك بأدلّة إمضاء العقود ، كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٢٩.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ كتاب التجارة ، أبواب الخيار ، ب ١.

(٣) سورة المائدة ٥ : ١.

(٤) العروة الوثقى ٢ : ٤٨٦.

٢٤٠