مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

فكيف عدَّ الأشاعرة بعد ذلك من الفرقة الناجية؟

ثم إن ما ساقه الإيجي من عقائد أهل السُّنّة فيه من الباطل ما فيه ، ومنه قوله : إن الله تعالى يراه المؤمنون يوم القيامة. مع أن ذلك خلاف نص الكتاب العزيز في قوله سبحانه ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) (١) ، ولسنا هنا بصدد بيانه.

ومنه قوله : لا غرض لفعله سبحانه.

وهو خلاف قوله تعالى ( أَفَحَسِبْتم أَنَّما خَلَقْنَاكُم عَبَثًا ) (٢) ، وقوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، وقوله ( الذي خَلَقَ المَوْتَ والحياة لِيَبْلُوَكُم أَيُّكُم أَحْسَن عَمَلاً وهو العزيز الغفور ) (٣) ، وغير هذه الآيات في كتاب الله كثير.

وقوله : إن الإمام الحق بعد رسول الله أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، والأفضلية بهذا الترتيب.

وهذا قد بيَّنَّا فساده في الفصل الثاني من هذا الكتاب فراجعه.

إلى غير ذلك من مواقع الخلل في كلامه ، فكيف يكون أهل السنة هم الفرقة الناجية بهذه الأدلة الواهية؟

الثاني : ما ذكره المناوي في فيض القدير ، فإنه قال بعد أن ذكر أن الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة :

فإن قيل : ما وثوقك بأن تلك الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة ، مع أن كل واحدة من الفرق تزعم أنها هي دون غيرها؟

قلنا : ليس ذلك بالادّعاء والتشبث باستعمال الوهم القاصر والقول

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ١٠٣.

(٢) سورة المؤمنون ، الآية ١١٥.

(٣) سورة الملك ، الآية ٢.

٢٤١

الزاعم ، بل بالنقل عن جهابذة هذه الصنعة وأئمة أهل الحديث ، الذين جمعوا صحاح الأحاديث في أمر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحواله وأفعاله وحركاته وسكناته ، وأحوال الصحب والتابعين ، كالشيخين وغيرهما من الثقات ، الذين اتفق أهل المشرق والمغرب على صحة ما في كتبهم ، وتكفّل باستنباط معانيها وكشف مشكلاتها كالخطابي والبغوي والنووي جزاهم الله خيراً ، ثم بعد النقل يُنظَر من تمسّك بهديهم ، واقتفى أثرهم ، واهتدى بسيرتهم في الأصول والفروع ، فيُحكم بأنهم هم (١).

وأقول : هذا الدليل في ركاكته كسابقه ، فإن كل الفِرَق تزعم أنها جمعت الآثار الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحواله وأفعاله وحركاته وسكناته بالنقل الصحيح عن جهابذة الحديث وأئمة الدين ... إلى آخره.

وكل الفِرَق تدّعي أنها تقتفي آثار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتتمسّك بأحكامه المنقولة عنه بالنقل الثابت الصحيح. إلا أن هذه كلها دعاوى فارغة لا قيمة لها كما قلنا.

وقوله : ( بالنقل عن جهابذة هذه الصنعة ... كالشيخين وغيرهما من الثقات الذي اتفق أهل المشرق والمغرب على صحة ما في كتبهم ) ادّعاء فاسد ، فإن الشيعة مثلاً لا يصحِّحون أسانيد أكثر تلك الأحاديث ولا يعتدّون بها ، وإجماع أهل السنة على صحة تلك الأحاديث التي جمعها حفّاظ الأحاديث عندهم لا يعني إجماع كل الأمة على ذلك فضلاً عن إجماع أهل المشرق والمغرب.

وقوله : ( ثم بعد النقل يُنظَر من تمسّك بهديهم (٢) ، واقتفى أثرهم ، واهتدى بسيرتهم في الأصول والفروع ، فيُحكم بأنهم هم ) لم يبيِّن فيه أن أهل السنة هم الذين تمسّكوا بهدي الصحابة والتابعين ، بل علّق الحكم بالنجاة على

__________________

(١) فيض القدير ٢ / ٢٠.

(٢) يعني بهدي الصحب والتابعين.

٢٤٢

النظر.

ومجموع كلامه لا يدل على أكثر من أن أهل السنة جمعوا الأحاديث الصحيحة فقط ، أما أنهم عملوا بها أم لا ، فهذا لم يثبته كما هو واضح.

ثم إن المطلوب هو التمسك بهدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتباع مَن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتباعه ، لا اتِّباع مَن رأى الناس لأنفسهم اتباعه.

هذان أنموذجان من استدلالاتهم على نجاتهم ، وهما كغيرهما من أدلتهم دعاوى مجرّدة ، وأدلّة ملفّقة ، لا تستند إلى حجّة صحيحة ولا إلى برهان مستقيم.

وهذا واضح جلي عند كل من تتبع كلماتهم ونظر في كتبهم.

الشيعة الإمامية هم الفرقة الناجية :

إن كل عالم منصف يرى أن الأدلة القطعية تأخذ بالأعناق إلى اتّباع مذهب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، دون غيره من المذاهب ، والأحاديث الصحيحة دلَّت بأجلى بيان على ما عليه الشيعة الإمامية.

ولنا أن نستدل على حقِّيَّة مذهب الشيعة الإمامية بعدة أدلة :

الدليل الأول :

أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر الأمّة بأن النجاة منحصرة في التمسّك بالكتاب وأهل البيت عليهم‌السلام بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني تارك فيك ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض.

ولا ريب في أن أهل السنة والمعتزلة والخوارج وغيرهم من الطوائف لم يتمسَّكوا بأهل البيت عليهم‌السلام ، فوجب بمقتضى الحديث وقوعهم في الضلال ، وأما الشيعة الإمامية فاتَّبعوهم واتّخذوهم أئمة ، فكانوا بذلك هم الناجين دون غيرهم. وقد أشبعنا الكلام في حديث الثقلين وطرقه وبيان صحة سنده في الفصل الثالث ، فراجعه.

٢٤٣

الدليل الثاني :

أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر في أحاديث صحيحة مرَّ بيانها في الفصل الأول من هذا الكتاب أن الخلفاء الذين يكون الدين بهم قائماَ وعزيزاً ومنيعاً وأمر الناس بهم صالحاً هم اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش.

وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الثقلين أن الواجب على الأمّة هو اتباع أهل البيت عليهم‌السلام والتمسّك بهم لئلا تقع في الضلال ، فبضم هذه الأحاديث إلى تلك يُعلم أن الخلفاء الاثني عشر لا بد أن يكونوا من أهل البيت عليهم‌السلام.

ونحن نظرنا في المذاهب فلم نجد طائفة تعتقد باثني عشر إماماً فقط ، سواء كانوا من أهل البيت أم من غيرهم ، إلا الشيعة الإمامية. فبهذا يكونون هم الناجين دون غيرهم.

الدليل الثالث :

أنا قد بيَّنَّا في الفصل السادس أن أهل السنة في هذا العصر وما قبله وغيرهم لم يبايعوا إماماً واحداً لهم ، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نَصَّ على أن مَن مات وليس في عنقه بيعة فميتته جاهلية ، فتكون كل الطوائف مشمولة بهذا الحديث ، فلا يمكن أن يكونوا ناجين وهم موصوفون بهذه الصفة.

وأما الشيعة الإمامية فلهم إمام واحد معصوم منصوص عليه كما مرَّ في الفصل السادس مفصَّلاً ، فبذلك يكونون هم الناجين دون غيرهم.

الدليل الرابع :

أن أحكام الشريعة عند أهل السنة اعتراها التغيير والتبديل ، فلم يبق منها شيء كما كان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مرَّ تفصيل ذلك في الفصل الخامس ، فحينئذ لا يمكن أن يكونوا هم الناجين وشرائع دينهم محرَّفة ، فيكون الناجون هم الشيعة الإمامية ، لاتفاق السنة والشيعة على أن غير هاتين الطائفتين ليس بناج ، فإذا انتفت نجاة إحداهما ثبتت نجاة الأخرى.

٢٤٤

الدليل الخامس :

أن خلافة أبي بكر وعمر التي ارتكز عليها مذهب أهل السنة لم نعثر على دليل واحد يصحِّحها كما أوضحناه في الفصل الثاني ، وحيث أن أساس الخلاف بين مذهب الشيعة وأهل السنة هو مسألة الخلافة ، وأن كلاً من المذهبين قائم على ما أسَّسه في مسألة الإمامة ، فإذا ثبت بطلان خلافة أبي بكر وعمر ، فلا مناص حينئذ من ثبوت بطلان مذهب أهل السنة المبتني عليهما ، فيثبت صحة مذهب الإمامية لعين ما قلناه في الدليل الرابع.

الدليل السادس :

أن الأحاديث التي رواها أهل السنة صرَّحت بنجاة الشيعة ، بينما لم يرووا في كتبهم أحاديث تدل على نجاتهم هم.

ومن تلك الأحاديث ما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : عليٌّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة.

وأخرج السيوطي في الدر المنثور والشوكاني في فتح القدير عن ابن عساكر ، قال : عن جابر بن عبد الله قال : كنّا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل علي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لَهُم الفائزون يوم القيامة. ونزلت ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البَرِيَّة ) ، فكان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل علي قالوا : جاء خير البَرِيَّة (١).

وعن ابن عباس قال : لما نزلت ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البَرِيَّة ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين (٢).

وعن علي عليه‌السلام قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألم تسمع قول الله

__________________

(١) الدر المنثور ٨ / ٥٨٩. فتح القدير ٥ / ٤٧٧ في تفسير الآية ٧ من سورة البينة.

(٢) المصدران السابقان ، عن ابن عدي.

٢٤٥

( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البَرِيَّة ) أنت وشيعتك. وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جاءت الأمم للحساب تُدعَون غُرَّاً محجَّلين (١).

وأخرج الطبري في تفسير الآية المذكورة عن محمد بن علي : ( أولئك هم خير البرية ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت يا علي وشيعتك (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : يا علي ، إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوّك غضاب مُقمَّحين (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : أنت وشيعتك ترِدُون عليَّ الحوض (٤).

وقال : أنت وشيعتك في الجنة (٥).

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : إن أول أربعة يدخلون الجنة : أنا وأنت والحسن والحسين ، وذرارينا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرارينا ، وشيعتنا خلف أيماننا وشمائلنا (٦).

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تؤدّي هذا المعنى.

الدليل السابع :

أن الشيعة اتّبعوا أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم مضافاً إلى دلالة

__________________

(١) المصدر السابق ، عن ابن مردويه.

(٢) تفسير الطبري ٣٠ / ١٧١.

(٣) مجمع الزوائد ٩ / ١٣١. المعجم الكبير للطبراني ١ / ٣١٩ ح ٩٤٨. الصواعق المحرقة ٢ / ٤٤٩.

(٤) مجمع الزوائد ٩ / ١٣١. المعجم الكبير للطبراني ١ / ٣١٩ ح ٩٥٠.

(٥) تاريخ بغداد ١٢ / ٢٨٩ ، ٣٥٨. حلية الأولياء ٤ / ٣٢٩. فضائل الصحابة ٢ / ٦٥٥ ح ١١١٥.

(٦) مجمع الزوائد ٩ / ١٣١. فضائل الصحابة ٢ / ٦٢٤ ح ١٠٦٨.

٢٤٦

الأحاديث الصحيحة على لزوم اتّباعهم ، فقد وقع الاتفاق على صلاحهم ونجاتهم ، وحسن سيرتهم ، وطيب سريرتهم ، وأما أهل السنّة فاتَّبعوا أئمتهم الذين لم يرِد في جواز اتّباعهم نصّ ، ولم يُتَّفَق على نجاتهم وصلاحهم ، بل إنهم رووا الأحاديث الصريحة في الطعن فيهم (١).

ولا ريب في أن الواجب هو اتّباع المتَّفَق على صلاحه ، دون المختَلَف فيه الذي قَدَح فيه أولياؤه وأعداؤه.

فحينئذ يكون الشيعة الإمامية هم الناجين دون غيرهم ، لأنهم اتَّبعوا مَن يجب اتّباعه دون أهل السنّة وغيرهم.

الدليل الثامن :

أن أئمة أهل السنّة غير مستيقنين بإيمانهم وبنجاتهم ، وأما أئمة أهل البيت عليهم‌السلام فهم جازمون بذلك غير شاكين فيه. ولا شك في أن اتّباع الجازم بذلك هو المتعيِّن ، دون اتّباع غيره.

وبذلك يكون الشيعة الإمامية هم الناجين دون غيرهم ، لاتّباعهم من يتعيَّن اتّباعه.

أما أن أئمة أهل السنة غير جازمين بنجاتهم فيدل عليه كثير من الآثار المروية عنهم في ذلك :

ومن ذلك ما رووه في احتضار أبي بكر أنه قال : وددتُ أني خضرة

__________________

(١) لا يسعنا أن نذكر الطعون والمثالب التي ذكرها القوم في أئمتهم ، وهي كثيرة ومبثوثة في مطاوي الكتب ، ومن أراد الاطلاع على شي منها فليراجع كتاب ( منهاج الكرامة في معرفة الإمامة ) للعلامة الحلي ، وكتاب ( الغدير ) للأميني ج٦ ، وكتاب ( الاستغاثة ) لعلي بن أحمد الكوفي ، وكتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، وكتاب ( الشافي في الإمامة ) ٤ / ٥٧ ـ ٢٩٣ : لسيد المرتضى ، وكتاب ( النص والاجتهاد ) للسيد شرف الدين ، وكتاب ما روته العامة من مناقب أهل البيت عليهم‌السلام ، ص ٣٠٧ ـ ٤٧٤.

٢٤٧

تأكلني الدواب (١).

وقال عمر في احتضاره : لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديتُ بها من النار وإن لم أرَها (٢).

وقال أيضاً حينئذ : لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر (٣). وفي بعضها : لافتديت به من هول المطَّلع (٤).

وقال وقد أخذ تِبْنة من الأرض : ليتني كنت هذه التِّبْنة ، ليتني لم أُخلَق ، ليت أمّي لم تلدني ، ليتني لم أكُ شيئاً ، ليتني كنت نسياً منسياً (٥).

وما قاله عمر وقت احتضاره غير هذا كثير ، فراجعه في مظانّه (٦).

بينما رووا أن علياً عليه‌السلام لما ضربه ابن ملجم قال : فزتُ وربّ الكعبة (٧).

ثم إن عمر كان يسأل حذيفة بن اليمان هل ذُكر في المنافقين أم لا (٨).

قال الغزالي بعد أن ساق جملة من الأخبار الواردة في النفاق : فهذه

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ / ١٩٨.

(٢) كتاب المحتضرين ، ص ٥٦.

(٣) الطبقات الكبرى ٣ / ٣٥٣. كتاب المحتضرين ، ص ٥٦.

(٤) المستدرك ٣ / ٩٢. تاريخ الإسلام : عهد الخلفاء الراشدين ، ص ٢٧٨. مجمع الزوائد ٩ / ٧٥ ، وقال : رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. ٩ / ٧٧ وقال : رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح. تاريخ الخلفاء ، ص ١٠٦.

(٥) الطبقات الكبرى ٣ / ٣٦٠ ، ٣٦١.

(٦) راجع الطبقات الكبرى ٣ / ٣٥١ ـ ٣٦١ ، تاريخ الاسلام : عهد الخلفاء الراشدين ، ص ٢٧٨ ـ ٢٨٢. كتاب المحتضرين ، ص ٥٥ ـ ٥٦.

(٧) كتاب المحتضرين ، ص ٦٠ ـ ٦١. إحياء علوم الدين ٤ / ٤٧٩.

(٨) سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٦٤. تاريخ الإسلام : عهد الخلفاء الراشدين ، ص ٤٩٤. جامع البيان ( تفسير الطبري ) ١١ / ٩. البداية والنهاية ٥ / ١٨ ، كنز العمال ١٣ / ٣٤٤.

٢٤٨

الأخبار والآثار تُعرِّفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي ، وأنه لا يؤمَن منه ، حتى كان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذُكِر في المنافقين (١).

وأخرج أحمد في المسند ، والهيثمي في مجمع الزوائد عن أم سلمة قالت : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مِن أصحابي مَن لا أراه ولا يراني بعد أن أموت أبداً. قال : فبلغ ذلك عمر فأتاها يشتد أو يسرع ، فقال : أنشدك الله ، أنا منهم؟ قالت : لا ، ولا أبرّئ بعدك أحداً أبداً (٢).

ثم إن أئمتهم اتفقوا على أن الرجل إذا سُئل : « هل أنت مؤمن؟ » فلا يجوز له أن يقول : « نعم » ، بل يقول : « أنا مؤمن إن شاء الله ». أو يقول : « ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد ، أمقبول العمل أم لا ». أو يقول : « أرجو إن شاء الله » (٣).

وعن قتادة أن عمر بن الخطاب قال : مَن زعم أنه مؤمن فهو كافر ، ومن زعم أنه في الجنة فهو في النار (٤).

قال ابن بطة الحنبلي : فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله (٥).

__________________

(١) إحياء علوم الدين ١ / ١٢٤.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٦ / ٢٩٠ ، ٢٩٨ ، ٣٠٧ ، ٣١٢ ، ٣١٧. مجمع الزوائد ١ / ١١٢. ٩ / ٧٢ قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات. المعجم الكبير للطبراني ٢٣ / ٣١٧ ـ ٣١٨ ح ٧١٩ ـ ٧٢١.

(٣) راجع كتاب الشريعة للآجري ، ص ١٤٨ باب فيمن كره من العلماء لمن سأل غيره فيقول له : أنت مؤمن؟ هذا عندهم مبتدع رجل سوء. وكتاب الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ٢ / ٨٦٢ ـ ٨٨٣.

(٤) الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ٢ / ٨٦٩ ح ١١٨٠.

(٥) المصدر السابق ٢ / ٨٦٤.

٢٤٩

وأخرج ابن بطة عن أحمد بن حنبل قال : حدّثني علي بن بحر ، قال : سمعت جرير بن عبد الحميد يقول : كان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع ، والعلاء بن المسيب ، وابن شبرمة ، وسفيان الثوري ، وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات ، يقولون : « نحن مؤمنون إن شاء الله » ، ويعيبون مَن لا يستثني (١).

وهذا كله ناشئ من شكّهم في أنهم مؤمنون كما لا يخفى ، مع أن الإيمان لا بد أن يكون عن جزم ويقين ، ولا يكون بالشك والظن والتخمين.

وقال ابن بطة : ولكن الاستثناء يصح من وجهين : أحدهما : نفي التزكية ، لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله ... ويصح الاستثناء من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال ، وعلى الخاتمة ، وبقية الأعمال ، ويريد أني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين ، وإن كنت عند الله مثبتاً في ديوان أهل الإيمان ، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمراً يدوم لي ويبقى عليَّ حتى ألقى الله ، و لا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا ... فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله وتعلم أن قلبك بيده ، يصرفه كيف شاء ، أن تقول قولاً جزماً حتماً : إني أصبح غداً كافراً ولا منافقاً. إلا أن تصل كلامك بالاستثناء ، فتقول : إن شاء الله. فهكذا أوصاف العقلاء من المؤمنين (٢).

أقول : هذا عين الشك في الإيمان ، لأن مورد النزاع هو هل أنا الآن متَّصف بالإيمان أم لا ، وهذا أمر وجداني يشعر به كل مؤمن ، ويدرك في نفسه أنه معتقد بالحق جازم به ، وأما ما يكون في مستقبل الأيام فلا علم لنا به ، فلا ينبغي لمؤمن أن يقول : « أنا سأبقى مؤمناً إلى ما بعد سنة » ، لأن هذا أمر غيبي لا نجزم به ، ولا طريق لنا إلى معرفته ، فلا يصح هذا القول من هذه الجهة

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ٨٧١.

(٢) المصدر السابق ٢ / ٨٦٥ ـ ٨٦٦.

٢٥٠

إلا بالاستثناء ، وليس هذا موضع نزاعنا.

وقولي : « إني مؤمن » لا تزكية فيه للنفس ، بل هو إخبار عن واقع صحيح باعتقادي ، وإنما يكون تزكية إذا ادّعيت أني كامل الإيمان وفي أعلى مراتبه ، لأن الإيمان مراتب ودرجات. ولِمَ لا يكون قولي ذلك من باب التحدّث بنعمة الله تعالى إذ أنعم علينا بنعمة الإيمان ، وربما يكون عدم جزمي بذلك نوعاً من الجحود.

ثم إن الله تعالى حكى عن موسى عليه‌السلام ذلك ، فقال عز من قائل ( وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِليكَ وَأَنَا أَوَّلُ المؤمنين ) (١).

وحكاه عن السَّحَرة الذين آمنوا بموسى فقال جل شأنه ( قال آمنتم له قبل أن آذَن لكم إنه لكبيركم الذي علَّمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعَنَّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلّبنّكم أجمعين * قالوا لا ضير إنَّا إلى ربِّنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربُّنا خطايانا أَنْ كنَّا أول المؤمنين ) (٢).

الدليل التاسع :

أن مذهب الشيعة الإمامية هو المذهب الخالص عن الأباطيل في الفروع والأصول ، وقد مرَّت بك نماذج كثيرة من أقوال أصحاب المذاهب وفتاواهم ، وهي قليل من كثير عثرنا عليه ، وما لم نعثر عليه أكثر ، بسبب قلة المصادر لدينا ، وكثرة كتب أهل السنة وتفرّقها في البلدان ، وكثرة المشاغل ، وضيق الأوقات ، وخشية ملالة القرَّاء ، وغير ذلك.

وأما عقائد الإمامية فهي خالية عن كل ذلك.

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية ١٤٣.

(٢) سورة الشعراء ، الآيات ٤٩ ـ ٥١.

٢٥١

ولا بأس أن نذكرها مجملة ، فنقول في بيانها على نحو الإجمال :

إن الشيعة الإمامية يعتقدون أن الله سبحانه هو المخصوص بالأزلية والقِدَم ، وكل ما سواه مخلوق مُحدَث ، وأنه واحد وليس بمركَّب ، لأنه لو كان مركباً لاحتاج إلى أجزائه ، ولكان مسبوقاً بها ، فيكون حينئذ مُحدَثاً ، كما أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عَرض ولا يحويه مكان ولا في جهة ، وإلا لكان مُحدَثاً مخلوقاً ، وليس له شبيه ولا نظير ولا نِد ولا مثيل.

ويعتقدون أنه تعالى قادر على جميع المقدورات ، وأنه لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير ، وأنه عَدْل حكيم لا يظلم أحداً ، ولا يقع منه القبيح ، ولا يفعل إلا لحكمة وغرض ، ولولا ذلك لكان جاهلاً أو محتاجاً أو عاجزاً أو عابِثاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

ويعتقدون أيضاً أنه تعالى لا يُرى ولا يُدرَك بالحواس ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) (١).

ويعتقدون أنه تعالى لا يعذِّب الأنبياء على طاعتهم ، ولا يثيب إبليس على معصيته ، ولا يكلِّف الناس بما لا يطيقون ، ولا يؤاخذهم بما لا يعلمون.

وأما الأشاعرة والحنابلة فاعتقدوا أن لله يدين ورجلين يضعهما في النار فتقول : ( قَط قَط ) ، ويكون في صورة خاصة ، يراه الناس يوم القيامة ، فلا يعرفونه إلا بكشف ساقه وسجود الأنبياء له. وأنه تعالى ينزل كل ليلة جمعة إلى سماء الدنيا ، فينادي : هل من تائب فأتوب عليه ، وهل من مستغفر فأغفرُ له.

وأن له أن يعذِّب الأنبياء والمؤمنين ويدخلهم النار ، ويثيب العصاة والمنافقين وإبليس ويدخلهم الجنة ، لأنه لا يُسأل عما يفعل وهم يُسأَلون.

ثم إن الشيعة الإمامية يعتقدون أن أنبياء الله عامة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة معصومون عن الخطأ والسهو والمعصية : صغيرها وكبيرها ، من أول

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ١٠٣.

٢٥٢

العمر إلى آخره ، قبل بعثتهم وبعدها ، فيما يبلِّغونه وما لا يبلِّغونه ، ولولا ذلك لما حصل الوثوق بهم وبكلامهم ، فتنتفي الفائدة من بعثتهم ، وأنهم منزَّهون من كل ما يُنفِّر عنهم من الصفات الذميمة والطباع السيئة والأفعال القبيحة وعن دناءة الآباء وعهر الأمهات.

وأما أهل السنة فجوَّزوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسهو في صلاته حتى صلى الظهر ركعتين ، وأن يغفل عنها حتى نام عن صلاة الفجر ، وأن يشك في نبوَّته في بداية بعثته حتى سأل عنها غيره ، وأن يظن أن النبوة انتقلت إلى غيره كلما تأخر عنه الوحي ، وأن يضرب مَن لا يستحق ، ويسب ويلعن بغير حق ، وأن يسمع المعازف مع أهله ، ويسابق زوجه فيسبقها مرة ، وتسبقه مرة أخرى ، ويخرج إلى المسجد للصلاة وعلى ثيابه أثر المني ، وغير ذلك مما لا يليق بمقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم إن الإمامية قالوا بعصمة الأئمة ، وبلزوم النصّ عليهم ، وبأنهم أفضل أهل زمانهم ، لقبح تقديم المفضول على الفاضل ، واشترطوا طهارة مولده ، ونزاهته عن كل ما ينفِّر منه كما تقدم في النبي. وأن يكون أعلم الناس لا يحتاج أن يسأل غيره فيما ينتابه من الحوادث ، وأن يكون طاهر المولد ، ولا يكون ابن زنا أو مختلط النسب ، أو مَن يُعيَّر بأمّه أو بأبيه ، أو معتوهاً ، أو متكالباً على الدنيا ، أو مأبوناً أو ملعوناً.

وأما أهل السنة فصحَّحوا خلافة كل مَن بايعه الناس وإن كان فاسقاً أو منافقاً ، وصحَّحوا خلافة كل مَن تولَّى أمور المسلمين بالقهر والقوة وإن كان من الطلقاء وأبناء الطلقاء وأبناء الزنا. وجوَّزوا خلافة مَن عبد الأصنام في سالف عمره ، وشرب الخمر ، ووأد البنات ، وفعل أفعال الجاهلية.

وبالإجمال : كل مَن كان منصفاً ، واطّلع على المذاهب بتأمّل وإنصاف يجد أن مذهب الشيعة الإمامية هو المذهب الواجب الإتباع ، لموافقته للأدلة الصحيحة ، وبعده عن الأباطيل والبدع ، وقد تقدمَّت نماذج كثيرة من بِدَع

٢٥٣

القوم ، فراجعها.

الدليل العاشر :

لقد أثبت علماء الشيعة الإمامية مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وردّوا على خصومهم ، وفندوا آراء المذاهب الأخرى ، وهم في ذلك قد ألزموا أنفسهم بألا يحتجّوا إلا بما ورد في كتب القوم مما يعترفون بصحّته ويسلّمون به ، فأثبتوا صحة المذهب من طريقهم ، وطريق خصومهم.

فاحتجوا على أهل السنة بما روي في الصحيحين وباقي الكتب المعتبرة عندهم ، وبأقوال أعلامهم وأساطين علمائهم.

وأما الخصوم عامة ، وأهل السنة خاصة ، فإنهم لم يتسنَّ لهم ذلك ، فغاية ما سلكوا في إثبات مذاهبهم أنهم يحتجّون على غيرهم بأحاديث رُويت من طريقهم هم ، لا يسلِّم بها الخصم ، فاحتج أهل السنة على الشيعة بما في صحيح البخاري ومسلم وباقي كتب الحديث عندهم ، وبأقوال أحمدبن حنبل والشافعي ومالك وأبي الحسن الأشعري وابن تيمية وغيرهم.

ومن الواضح أن الدليل الذي يصح الاحتجاج به لا بد أن يسلم به الخصم ويقر به ، وأدلتهم كلها ليست كذلك.

ثم إن بعض علماء أهل السنة لمَّا أعياهم الدليل الصحيح في نقد مذهب الإمامية عمدوا مع بالغ الأسى إلى تضعيف الأحاديث الصحيحة المروية عندهم ، كحديث الثقلين ، وحديث الغدير ، وحديث أنا مدينة العلم ، وحديث الطير مع كثرة طرقه ، وغيرها من الأحاديث التي تلزمهم (١).

__________________

(١) من ذلك إنكار ابن حزم حديث الغدير قال في الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ / ١٤٧ : واما ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) فلا يصح من طريق الثقات أصلاً.

ومنه تضعيف ابن تيمية في منهاج السنة ٤ / ١٠٤ لحديث ( ما تريدون من علي؟ علي مني وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي ) ، وقد مر بيان ذلك في صفحة ٧٨ من هذا الكتاب.

٢٥٤

وعمدوا أيضاً إلى اختلاق الأكاذيب على الشيعة واتهامهم بما لا يقولون به (١) ، وبما ليس فيهم (٢). وهذا كله ناشئ من عدم الدليل عندهم على صحة مذاهبهم.

ثم إنا لم نجد في ردّهم على الشيعة الإمامية إلا السباب والشتم المقذع ، مع أن الله تعالى يقول ( ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) فانظر ما كتبه ابن حجر في الصواعق المحرقة ، وابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل ، وابن تيمية في منهاج السنة وغيرهم ، وهذا سبيل العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة كما هو معلوم (٣).

وهذا كله يدل بوضوح على صحّة مذهب الإمامية وسلامته.

الدليل الحادي عشر :

قد تقدَّم أن مذاهب أهل السنة في الأصول الاعتقادية ثلاثة : الأثرية

__________________

(١) من ذلك ما ذكره ابن تيمية في كتابه منهاج السنة ٤ / ١١١ ، فإنه سطّر الأكاذيب القبيحة على الشيعة ، منها : أن الشيعة ينتفون النعجة كأن لهم عليها ثاراً ، كأنهم ينتفون عائشة ، ويشقون جوف الكبش كأنهم يشقون جوف عمر ، وأنهم يكرهون لفظ العشرة لبغضهم الرجال العشرة ، فإذا أرادوا أن يقولوا : عشرة ، قالوا : تسعة وواحد. إلى غير ذلك مما ملأ به كتابه هذا وغيره من كتبه.

(٢) سمعنا من كثير من أهل السنة يعيبون الشيعة بأن لهم أذناباً كما للبهائم. فلا أدري كيف يصدقون هذه الافتراءات والأكاذيب مع أنهم يرون جميع أهل الملل الكافرة لا أذناب لهم ، فهل خص الله الشيعة بالأذناب دون سائر الناس؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.

(٣) ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١٣ / ٤٣١ أن الشافعي قال : ناظر أبو حنيفة رجلا فكان يرفع صوته في مناظراته إياه. فوقف عليه رجل ، فقال الرجل لأبي حنيفة : أخطأت. فقال أبو حنيفة للرجل : تعرف المسألة ما هي؟ قال : لا. قال : فكيف تعرف أني أخطأت؟ قال : أعرفك إذا كان لك الحجة ترفق بصاحبك ، وإذا كانت عليك تشغب وتجلب.

٢٥٥

وإمامهم أحمد بن حنبل ( ١٦٤ ـ ٢٤١ هـ ) ، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري ( ٢٦٠ ـ ٣٣٠ هـ ) ، والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي ( ت ٣٣٠ هـ ). وكلها نشأت بعد القرن الثاني من الهجرة.

وأما في الفروع فهم مذاهب كثيرة ، وأشهرها المذاهب الأربعة المعروفة. وكلها نشأت بعد انتهاء القرن الأول من الهجرة.

فإذا كانت هذه المذاهب قد نشأت في عصور متأخرة ، فلا بد أن يكون الحق في غيرها قبل نشوئها ، لأنه لا بد أن تكون طائفة من طوائف هذه الأمة على الحق من زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قيام الساعة ، وإلا لزم أن تكون الأمة كلها على ضلال إلى زمان نشوء هذه المذاهب ، وهو باطل بالاتفاق.

فإذا كان الحق في غيرها فهو منحصر في مذهب الإمامية ، لأنه هو المذهب الفريد بين كل المذاهب الإسلامية الذي امتد من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى العصور المتأخرة (١).

لا يقال : إن أئمة المذاهب أخذوا عمن سبقهم إلى أن يصل الأمر إلى زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لأنا نقول : إن أئمة المذاهب اختلفوا فيما بينهم في الأصول والفروع ، وخالفوا من سبقهم ، لأنهم كانوا مجتهدين غير مقلِّدين لغيرهم ، ولذلك اجتهد الإمام أحمد في المسائل المتجدّدة كمسألة خلق القرآن وغيرها من المسائل التي لم تكن مطروحة من قبل.

الدليل الثاني عشر :

أنَّا رأينا في الحوادث الكثيرة والوقائع المختلفة التي اشتهرت وذاعت أنه

__________________

(١) وذلك لأن أول الأئمة عند الإمامية هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثم ابنه الإمام الحسن عليه‌السلام ، ثم الإمام الحسين عليه‌السلام ، ثم ابنه الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام ، ثم ابنه الإمام محمد بن علي الباقر عليه‌السلام ، ثم ابنه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، المعاصر له أول ائمة المذاهب الأربعة وهو أبوحنيفة.

٢٥٦

ما من رجل كان ينتحل مذهباً من مذاهب أهل السنة ، وانتقل عنه إلى مذهب الشيعة الإمامية ، إلا كان عالماً مخلصاً ، أو مفكِّراً مطّلعاً حُرّاً ، أو كان صاحب شهادة علمية عالية وثقافة واسعة.

كما أنَّا لم نرَ رجلاً كان على مذهب الإمامية وانتقل عنه إلى مذاهب أهل السنة ، إلا كان جاهلاً بالمذهب الذي انتقل عنه ، وبالمذهب الذي انتقل إليه ، أو كان منحرف السلوك ، نفعيّاً يسعى وراء مصلحة دنيوية من مال أو منصب أو شهرة أو غير ذلك.

وقد رأينا علماء ومفكّرين من أهل السنة تشيَّعوا قديماً وحديثاً ، ولم يحدث العكس. ويكفي أن نذكر بعضاً ممن تشيَّع في هذا العصر على سبيل المثال لا الحصر ممن لهم كتب ومؤلفات ، منهم :

١ ـ الشيخ محمد مرعي الأمين الأنطاكي السوري ، من شيوخ الجامع الأزهر بمصر ، كان شافعي المذهب فاستبصر ، وألَّف كتاب ( لماذا اخترت مذهب الشيعة ) مطبوع ، يذكر فيه قصة تشيّعه ، ويستدل فيه على لزوم اتباع مذهب الإمامية.

٢ ـ الشيخ محمد أمين الأنطاكي السوري ، من شيوخ الجامع الأزهر بمصر ، وهو أخ الشيخ السابق ، كان شافعي المذهب فاستبصر ، وألَّف كتاب ( في طريقي إلى التشيع ) مطبوع ، ذكر فيه قصة تشيّعه.

٣ ـ الدكتور محمد التيجاني السماوي التونسي ، خرّيج جامعة السوربون في فرنسا بشهادة الدكتوراه في الفلسفة ، كان مالكياً فصار شيعياً إمامياً ، وألَّف كتاب ( ثم اهتديت ) مطبوع ، ذكر فيه قصة تشيعه ، وانتصر فيه لمذهب الإمامية ، وألَّف كتباً أخرى في اثبات مذهب الإمامية ، منها : ( مع الصادقين ) ، ( فاسألوا أهل الذِّكْر ) ، ( الشيعة هم أهل السنة ) ، ( اتقوا الله ) ، ( اعرف الحق ) وغيرها ، وكلها مطبوعة.

٤ ـ المحامي أحمد حسين يعقوب الأردني ، كان على مذهب أهل السنة ،

٢٥٧

ثم صار شيعياً إمامياً ، له كتاب ( النظام السياسي في الإسلام ) وكتاب ( نظرية عدالة الصحابة ) ، و( المواجهة مع رسول الله وآله ) وغيرها ، وهي كلها مطبوعة ينتصر فيها لمذهب الإمامية.

٥ ـ أسعد وحيد القاسم ، فلسطيني ، لديه شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية ، والماجستير في إدارة الإنشاءات ، كان على مذهب أهل السنة فصار إمامياً ، وألَّف كتاب ( حقيقة الشيعة الاثني عشرية ) مطبوع ، ذكر فيه قصة تشيّعه وانتصر فيه لمذهب الإمامية.

٦ ـ صالح الورداني : كاتب مصري ، كان على مذهب أهل السنة فصار إمامياً ، له عدة مؤلفات مطبوعة ، منها : ( الخدعة : رحلتي من السنة إلى الشيعة ) ، ( أهل السنة : شعب الله المختار ، دراسة في فساد عقائد أهل السنة ) ، ( السيف والسياسة : إسلام السنة أم إسلام الشيعة ) ، ( عقائد السنة وعقائد الشيعة ) ، ( زواج المتعة حلال : عند أهل السنة ) وغيرها ، وكلها ينتصر فيها لمذهب الإمامية ، وهي مطبوعة.

٧ ـ إدريس الحسيني : كان على مذهب أهل السنة فصار إمامياً ، له عدة مؤلفات مطبوعة : منها : ( لقد شيعني الحسين : أو الانتقال الصعب في رحاب المعتقد ).

٨ ـ الشيخ معتصم سيد أحمد : كاتب سوداني ، كان على مذهب أهل السنة فصار إمامياً ، وألَّف كتاب ( الحقيقة الضائعة : رحلتي نحو مذهب آل البيت ) ، وهو مطبوع ، يذكر فيه قصة تشيّعه.

٩ ـ مروان خليفات : كان شافعي المذهب ، فاستبصر واتّبع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وسجَّل رحلته إلى الإيمان في كتابه ( وركبت السفينة ) ، وهو مطبوع ، ينتصر فيه إلى مذهب الإمامية.

وكل هذه الكتب المذكورة جيدة في بابها ، وتدل على سعة اطلاع ، وقوة اعتقاد ، وصلابة في الحق ، فجزى الله أصحابها خير جزاء المؤمنين المخلصين ،

٢٥٨

وشكر الله لهم مساعيهم وجهودهم في بيان الحق ونصرة أهله.

الدليل الثالث عشر :

إن علماء الشيعة الإمامية ناظروا خصومهم في الإمامة وغيرها من المسائل الخلافية ، فكانت الحجّة معهم والغلَبة لهم على غيرهم ، فألَّفوا في ذلك المصنفات الكثيرة المشتملة على أمثال هذه المناظرات ، ككتاب ( الاحتجاج ) لأحمد بن علي الطبرسي ، وكتاب ( الفصول المختارة ) للسيد المرتضى ، وكتاب ( المراجعات ) للسيد شرف الدين ، وكتاب ( الغدير ) للشيخ عبد الحسين الأميني وغيرها من الكتب التي لو تأملها المتأمّل لحصل له القطع بمذهب الشيعة الأمامية دون غيره من المذاهب.

وعلماء الشيعة كانوا وما يزالون يَدْعُون أرباب المذاهب للمناظرة في المذهب ، بل إن عوام الشيعة كثيراً ما يُقدِمون على مناظرة علماء الطوائف الأخرى فضلاً عن العوام منهم ، ثقة منهم بأن ما عندهم هو الحق ، وما عليه غيرهم هوالباطل ، والباطل لا يزهق الحق ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) (١) ، وهذا أمر بيِّن يعرفه كل من عرف الشيعة وخالطهم واطّلع على أحوالهم.

الدليل الرابع عشر :

اعتراف بعض علماء أهل السنة بصحّة مذهب الشيعة الإمامية وجواز التعبّد به دون العكس ، منهم :

١ ـ الشيخ سليم البشري ، شيخ الجامع الأزهر (٢) :

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية ١٨.

(٢) الشيخ سليم بن أبي فراج البشري ( ١٢٨٤ ـ ١٣٣٥ هـ ) شيخ الجامع الأزهر ، من فقهاء المالكية ، ولد في محلة بشر بمصر ، وتعلَّم وعلَّم بالأزهر ، تولّى نقابة المالكية ، ثم مشيخة الأزهر مرتين ، وتوفي بالقاهرة ، له كتاب ( المقامات السنية في الرد على القادح في البعثة النبوية ) مخطوط. ( عن الأعلام ٣ / ١١٩ بتصرف ).

٢٥٩

قال فيما كتبه إلى السيد عبد الحسين شرف الدين أعلى الله مقامه : أشهدُ أنكم في الفروع والأصول على ما كان عليه الأئمة من آل الرسول ، وقد أوضحت هذا الأمر فجعلتَه جلِيّاً ، وأظهرت من مكنونه ما كان خفيّاً ، فالشك فيه خبال ، والتشكيك فيه تضليل ... وكنتُ قبل أن أتَّصل بسببك على لبس فيكم ، لما كنت أسمعه من إرجاف المرجفين ، وإجحاف المجحفين (١).

٢ ـ الشيخ محمود شلتوت ، شيخ الجامع الأزهر (٢) :

أفتى فتواه المشهورة بجواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية ، ومما ورد فيها :

إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك ، وأن يتخلَّصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معيَّنة ، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب ، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى ، يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم ، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات (٣).

__________________

(١) المراجعات ، ص ٢٩٥.

(٢) الشيخ محمود شلتوت ( ١٣١٠ ـ ١٣٨٣ هـ ) فقيه مفسر مصري ، ولد في البحيرة بمصر ، وتخرج من الأزهر سنة ١٩١٨ م ، وتنقل في التدريس إلى أن نقل للقسم العالي بالقاهرة سنة ١٩٢٧ م ، وكان داعية إصلاح نير الفكرة ، يقول بفتح باب الاجتهاد ، وسعى إلى إصلاح الأزهر ، فعارضه بعض كبار الشيوخ وطُرد هو ومناصروه ، فعمل في المحاماة ، وأعيد إلى الأزهر ، فعين وكيلا لكلية الشريعة ، ثم كان من أعضاء كبار العلماء ، ومن أعضاء مجمع اللغة العربية ، ثم شيخاً للأزهر سنة ١٩٥٨ م إلى وفاته ، وكان خطيباً موهوباً جهير الصوت ، له ٢٦ مؤلفاً مطبوعاً ( عن الأعلام ٧ / ١٧٣ بتصرف ).

(٣) صورة هذه الفتوى أدرجناها في كتابنا ( دليل المتحيرين ) ، ص ٣٨٨ ، فراجعه.

٢٦٠