مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

الدين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكنه أن يُحدِث في الإسلام شيئاً ، اللهم إلا إذا كان يبطن خلاف ما يُظهِر ، ولعل المراد بالارتداد هو الرجوع عن بعض الواجبات الدينية المهمة ، والتنصّل منها بعد توكيدها ، كبيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالخلافة كما سيتّضح في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا يكون المراد في هذه الأحاديث : أنهم أحدثوا في الدين ما أحدثوا ، وبدَّلوا في أحكام الله ما بدَّلوا.

وبما أن هذا المعنى يثير سؤالاً ، وهو : أنهم إذا كانوا قد اتّبعوا الخليفة الحق المنصوص عليه من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف تأتّى لهم أن يُحدِثوا في الدين ما شاءوا؟ أجاب بقوله : « إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى » أي رجعوا عن ما وقع منهم أو أُمِروا به من البيعة لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

أحكام محرَّفة وبِدَع مستحدثة :

لقد روى القوم أحاديث كثيرة تدل على أن كثيراً من أحكام الدين قد غُيِّرت وبُدّلت ، وكثيراً من البِدع قد استُحدِثت ، وهذه الأحكام والبِدَع قد بقيت إلى يومنا هذا ، يعمل الناس بها ، ويتعبدون على طبقها.

وبما أن تلكم الأحاديث كثيرة جداً ، وسردها كلّها يستلزم الإطالة ، وضياع المهم الذي نريد بيانه ، فإنا سنذكر بعض الموارد التي وقع فيها ذلك ، وسنذكر من الأحاديث ما يكون صحيحاً عندهم ، وهذه الروايات نقسمها إلى طوائف :

الطائفة الأولى : دلَّت على حلية نكاح المتعة , وأن تحريمها وقع بعد زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عطاء قال : قدم جابر بن عبد الله معتمراً ، فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثم ذكروا المتعة ، فقال : نعم استمتعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر.

١٦١

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (١).

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة في هذه المسألة (٢).

وقد ذكر تحريم عمر للمتعة السيوطي في تاريخ الخلفاء (٣) ، وأبو هلال العسكري في كتاب الاوائل (٤) وغيرهما.

الطائفة الثانية : دلَّت على أن بعضهم حرَّم متعة الحج مع أنها كانت ثابتة في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال : أُنزلت أية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينزل قرآن يحرِّمه ولم ينهَ عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء (٥).

ومنها : ما أخرجه البخاري في صحيحه والنسائي في سننه عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعليّاً رضي الله عنهما ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يُجمع بينهما ، فلما رأى عليٌّ أهلَّ بهما لبّيك بعمرة وحجّة ، قال : ما كنت لأدع سُنَّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول أحد (٦).

وفي رواية أخرى : فقال عليٌّ : ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله النبي

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٣ كتاب النكاح ، باب ١٣.

(٢) راجع مسند أحمد ٣ / ٣٨٠ ، ٤ / ٤٢٩ ، ٤٣٨ ، ٤٣٩.

(٣) تاريخ الخلفاء ، ص ١٠٨.

(٤) الأوائل ١ / ٢٤٠ ، ص ١١٢ ط الباز.

(٥) صحيح البخاري ٦ / ٣٣ التفسير ، سورة البقرة.

(٦) صحيح البخاري ٢ / ١٧٥ الحج ، باب التمتع والإقران ... سنن النسائي بشرح السيوطي ٥ / ١٤٨.

١٦٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! (١).

ومنها : ما أخرجه النسائي في سننه عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول : والله إني لأنهاكم عن المتعة ، وإنها لفي كتاب الله ، ولقد فعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يعني العمرة في الحج (٢).

ومنها : ما أخرجه النسائي في سننه عن طاووس أنه قال في حديث : يقول ابن عباس : هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة وقد تمتَّع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

ومنها : ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال : تمتّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان ، وأول من نهى عنها معاوية (٤).

والأحاديث في هذه المسألة كثيرة لا تحصى.

الطائفة الثالثة : دلَّت على أن التطليقات الثلاث بصيغة واحدة كانت تُعَدّ واحدة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجُعلت ثلاثاُ :

منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم (٥).

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والنسائي وأبو داود في

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ١٧٦.

(٢) سنن النسائي بشرح السيوطي ٥ / ١٥٣ ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ٢ / ٥٧٨.

(٣) سنن النسائي بشرح السيوطي ٥ / ١٥٤ ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ٢ / ٥٧٨.

(٤) سنن الترمذي ٣ / ١٨٥ قال الترمذي : حديث ابن عباس حديث حسن. وفيه ما دل على أن عمر كان ينهى عن متعة الحج.

(٥) صحيح مسلم ٢ / ١٠٩٩ الطلاق ، باب طلاق الثلاث.

١٦٣

سُننهما أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعل واحدةعلىعهدالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وثلاثاً من أمارة عمر؟ فقال ابن عباس : نعم (١).

وفي رواية أخرى عند مسلم قال ابن عباس : قد كان ذلك ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق ، فأجازه عليهم.

الطائفة الرابعة : دلَّت على أن قيام الليل في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤدَّى فرادى ، فصار جماعة ، وهو ما يسُمّى بصلاة التراويح (٢).

منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.

قال ابن شهاب : فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما.

ومنها : ما أخرجه البخاري في صحيحه ، ومالك في الموطأ ، وغيرهما عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب ، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نِعْمَ البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ، يريد آخر الليل ، وكان

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٩٩ الطلاق ، باب طلاق الثلاث. سنن أبي داود ٢ / ٢٦١. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٢ / ٤١٥. سنن النسائي بشرح السيوطي ٦ / ١٤٥ ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ٢ / ٧١٨ ، وإرواء الغليل ٧ / ١٢٢.

(٢) صلاة التراويح : هي صلاة النافلة جماعة في ليالي شهر رمضان ، وسميت بالتراويح لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. ولم تكن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصلى جماعة ، وأول من جمع الناس فيها على إمام هو عمر بن الخطاب.

١٦٤

الناس يقومون أوّله (١).

هذا وقد اعترف جمع من العلماء بأن عمر بن الخطاب هو أول من سنَّ صلاة التراويح جماعة.

قال ابن سعد في الطبقات : وهو ـ يعني عمر ـ أول من سنَّ قيام شهر رمضان ، وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة ، وجعل للناس قارئين : قارئاً يصلّي بالرجال ، وقارئاً يصلي بالنساء (٢).

وذكر ذلك في أوليات عمر : أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل (٣) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (٤) ، وكتاب الوسائل (٥).

والغريب في هذه المسألة أن أهل السنة يلتزمون بصلاة التراويح في شهر رمضان في المساجد ، ويحرصون عليها ، مع أن أحاديثهم نطقت بأن صلاة النافلة في البيت أفضل.

ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما والترمذي وأبو داود والنسائي والدارمي في سُننهم ، ومالك في الموطأ ، وأحمد في المسند وغيرهم ، عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتَّخذ حجرة ـ قال : حسِبْتُ أنه قال : من حصير ـ في رمضان ، فصلّى فيها ليالي ، فصلى بصلاته ناس من أصحابه ، فلما علم بهم جعل يقعد ، فخرج إليهم فقال : قد عرفتُ الذي رأيتُ من صنيعكم ، فصَلّوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل الصلاة صلاةُ

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ٥٩٥ صلاة التراويح ، ب١ ( ط مرقمة ). الموطأ ، ص ٥٩ ح ٢٤٧. الجمع بين الصحيحين ١ / ١٣١.

(٢) الطبقات الكبرى ٣ / ٢٨١.

(٣) الأوائل ١ / ٢٢٩.

(٤) تاريخ الخلفاء ، ص ١٠٨.

(٥) الوسائل في مسامرة الأوائل ، ص ٣٣.

١٦٥

المرء في بيته إلا المكتوبة (١).

وقوله : ( يُصلّون بصلاته ) لا يدل على أنهم كانوا يصلون معه جماعة ، بل كانوا يصلّون مع صلاته ، فهم يصلّون فرادى ، فالباء في ( بصلاته ) بمعنى مع ، مثل قولهم : بعتك الدار بأثاثها. أي مع أثاثها. لأن صلاة الجماعة لا تتم والإمام داخل الحجرة ، والمأمومون خارجها.

قال ابن حجر : مقتضاه أنهم كانوا يصلّون بصلاته وهو داخل الحجرة ، وهم خارجها (٢).

الطائفة الخامسة : دلَّت على أن جلد شارب الخمر ثمانين جلدة استُحدث بعد زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن السائب بن يزيد قال : كنا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمرة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر ، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ، حتى كان آخر إمرة عمر ، فجَلد أربعين ، حتى عَتَوا وفسَقوا جَلد ثمانين (٣).

وأخرج مسلم في الصحيح ، وأبو داود في سُننه عن أنس بن مالك ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر ، فجلده بجريدتين نحو أربعين.

قال : وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ٢٢٨ الأذان ، ب٨١ ح ٧٣١. صحيح مسلم ١ / ٥٣٩ صلاة المسافرين ، ب٢٩ ح ٧٨١. سنن الترمذي ٢ / ٣١٢ ح ٤٥٠. سنن ابي داود ١ / ٢٧٤ ح ١٠٤٤ ، ٢ / ٦٩ ح ١٤٤٧. الموطأ ، ص ٦٦ ح ٢٨٨. سنن الدارمي ١ / ٣١٧. مسند أحمد بن حنبل ٣١ / ٢٦٢ ، ٢٧٤ ، ٢٨٢ ح ٢١٦٦٥ ، ٢١٦٨٦ ، ٢١٧٠٩ ( تتمة ط شاكر ).

(٢) فتح الباري ٢ / ١٧٠.

(٣) صحيح البخاري ٤ / ٢١١٦ الحدود ، ب٤ ( ط مرقمة ).

١٦٦

الرحمن : أخف الحدود ثمانين. فأمر به عمر (١).

وأخرج أبو داود والترمذي والدارمي في سُننهم عن أنس بن مالك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال ، وجلد أبو بكر رضي‌الله‌عنه أربعين ، فلما ولي عمر دعا الناس فقال لهم : إن الناس قد دنوا من الريف ، فما ترون في حد الخمر؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف : نرى أن تجعله كأخف الحدود. فجلد فيه ثمانين (٢).

وقد اعترف بأن عمر هو أول من ضرب في الخمر ثمانين ابن سعد في الطبقات (٣) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (٤) ، وكتاب الوسائل (٥) ، وأبو هلال العسكري في كتاب الأوائل (٦) وغيرهم.

الطائفة السادسة : دلَّت على أن صلاة ركعتين بعد العصر كانت جائزة في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنُهي عنها بعد ذلك.

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر ، فقال : كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر ... (٧)

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ / ١٣٣٠ ، الحدود ، ب٨. سنن أبي داود ٤ / ١٦٣.

(٢) سنن أبي داود ٤ / ١٦٣ ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٣ / ٨٤٧. سنن الترمذي ٤ / ٤٨ قال الترمذي : حديث أنس حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغيرهم أن حد السكران ثمانون. سنن الدارمي ٢ / ١٧٥.

(٣) الطبقات الكبرى ٣ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٤) تاريخ الخلفاء ، ص ١٠٨.

(٥) الوسائل في مسامرة الاوائل ، ص ٥٥.

(٦) الاوائل ١ / ٢٣٨.

(٧) صحيح مسلم ١ / ٥٧٣ صلاة المسافرين ، ب٥٥.

١٦٧

ومنها : ما أخرجه أحمد في المسند والطبراني في المعجم الكبير عن زيدبن خالد الجهني أنه رآه عمر بن الخطاب وهو خليفة ركع بعد العصر ركعتين ، فمشى إليه فضربه بالدرة وهو يصلي كما هو ، فلما انصرف قال زيد : يا أمير المؤمنين فوالله لا أدَعها أبداً بعد أن رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصليهما. قال : فجلس إليه عمر وقال : يا زيد بن خالد لولا أني أخشى أن يتّخذها الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب عليها (١).

ومنها : ما أخرجه الهيثمي عن عروة بن الزبير قال : خرج عمر على الناس فضربهم على السجدتين بعد العصر ، حتى مرَّ بتميم الداري فقال : لا أدَعهما ، صلّيتهما مع من هو خير منك : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال عمر : إن الناس لو كانوا كهيئتك لم أُبالِ (٢).

والأحاديث التي دلَّت على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّيهما ، بل كان مداوماً عليهما كثيرة :

منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة قالت : ركعتان لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يَدَعُهما سرّاً ولا علانية : ركعتان قبل صلاة الصبح ، وركعتان بعد العصر (٣).

ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ـ واللفظ لمسلم ـ والنسائي وأبو داود والدارمي في سننهم وغيرهم عن عائشة قالت : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط.

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٤ / ١١٥ ، المعجم الكبير ٥ / ٢٢٨ ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ٢٢٣ : رواه أحمد والطبراني في الكبير ، وإسناده حسن.

(٢) مجمع الزوائد ٢ / ٢٢٢ ، قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح في الكبير والأوسط...

(٣) صحيح البخاري ١ / ١٩٣ مواقيت الصلاة ، ب٣٣ ( ط مرقمة ). صحيح مسلم ١ / ٥٧٢ صلاة المسافرين ، ب٥٤. سنن النسائي ١ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ( ط محققة ).

١٦٨

وقالت : ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتيني في يوم بعد العصر ، إلا صلّى ركعتين (١).

الطائفة السابعة : دلَّت على أن بعضهم أعال الفرائض ، ولم يكن هذا العول ثابتاً في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ، والبيهقي في السنن وغيرهما عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهعنهما أنه قال : أول من أعال الفرائض عمر رضي‌الله‌عنه ، وأيم الله لو قُدَّم من قدَّم الله ، وأُخَّر من أخّر الله ما عالت فريضة (٢).

وقد نص غير واحد من علماء أهل السنّة على أن أول من قال بالعول هو عمر :

قال السيوطي : أول من قال بالعول في الفرائض عمر بن الخطاب (٣).

وقال أبو هلال العسكري : أول من أعال الفرائض عمر رضي‌الله‌عنه (٤).

والعول في الفرائض : هو زيادة فروض الورثة بحيث لا يتّسع لها المال. مثل : امرأة ماتت ولها زوج وأختان لأبوين : فالزوج له النصف ، والأختان لهما الثلثان ، ولو جعلنا التركة ستة أسهم ، فالزوج له ثلاثة ، والأختان لهما أربعة ، وهي تساوي سبعة ، فتكون قد عالت على أصل المال.

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٩٣ مواقيت الصلاة ، ب٣٣ ( ط مرقمة ). صحيح مسلم ١ / ٥٧٢ صلاة المسافرين ، ب٥٤. سنن النسائي ١ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ( ط محققة ). وعند أبي داود ٢ / ٢٥ : ما من يوم يأتي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا صلى بعد العصر ركعتين. ( صححه الألباني في صحيح سنن ابي داود ١ / ٢٣٨ ). سنن الدارمي ١ / ٣٣٤.

(٢) السمتدرك ٤ / ٣٤٠ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. السنن الكبرى ٦ / ٢٥٣. أحكام القران ٢ / ٩٠. المغني ٧ / ٢٧. المحلى ٨ / ٢٧٩.

(٣) الوسائل في مسامرة الأوائل ، ص ٤٨. وذكر ذلك في اوليات عمر في تاريخ الخلفاء ، ص ١٠٨.

(٤) الأوائل ١ / ٢٥٦.

١٦٩

وذهب الجمهور تبعاً لعمر بن الخطاب إلى أن النقص يرد على الجميع ، فتُجعل التركة سبعة أسهم ، ويكون للزوج ثلاثة من سبعة ( ثلاثة أسباع ) التركة ، وللأختين أربعة من سبعة ( أربعة أسباع ).

وذهب الشيعة الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام إلى تقديم أصحاب السهام المؤكَّدة الذين لا ينتقلون من فرض إلى فرض ، كالزوجين والأبوين على البنات والأخوات ، فيُجعل الباقي لهن. ففي فرض المسألة يأخذ الزوج ثلاثة من ستة ، والباقي للأختين.

وهذا هو رأي ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، وقد أوضحه في الحديث المذكور آنفاً.

قال الزهري : وأيم الله ، لولا أنه تَقَدَّمَ ابنَ عباس إمامُ عدل ، فأمضى أمراً فمضى ، وكان أمراً ورعاً ، ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم (١).

الطائفة الثامنة : دلَّت على أن التثويب بدعة.

منها : ما أخرجه الترمذي عن مجاهد قال : دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً ، وقد أَذَّن فيه ، ونحن نريد أن نصلي فيه ، فَثَوَّبَ المؤذّن ، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد ، وقال : اخرُجْ بنا من عند هذا المبتدع. ولم يصَلِّ (٢).

ومنها : ما أخرجه أبو داود في سننه عن مجاهد ، قال : كنت مع ابن عمر ، فثوَّب رجل في الظهر أو العصر ، قال : اخرج بنا ، فإن هذه بدعة (٣).

والتثويب : هو قول : ( الصلاة خير من النوم ) أو غيره في أذان صلاة الفجر أو غيرها.

__________________

(١) أحكام القرآن ٢ / ٩٠. السنن الكبرى ٦ / ٢٥٣. المحلى ٨ / ٢٨١.

(٢) سنن الترمذي ١ / ٣٨١.

(٣) سنن ابي داود ١ / ١٤٨ ح ٥٣٨. أورده الألباني في صحيح سنن ابي داود ١ / ١٠٨ ح ٥٠٤ وقال : حسن. وكذلك في إرواء الغليل ١ / ٢٥٤. السنن الكبرى ١ / ٤٢٤.

١٧٠

وقسَّم بعضهم التثويب إلى قسمين : تثويبٌ سُنة ، وتثويبٌ بدعة ، واختلفوا في البدعة من التثويب ، فقال أحمد بن حنبل وابن المبارك : هو قول ( الصلاة خير من النوم ) في أذان الفجر.

وقال إسحاق بن راهويه : هو أن المؤذن إذا استبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح. قال : وهو التثويب الذي كرهه أهل العلم ، والذي أحدثوه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

قال الترمذي : والذي فسَّر ابنُ المبارك وأحمد : أن التثويب أن يقول المؤذن في أذان الفجر : ( الصلاة خير من النوم ) ، وهو قول صحيح ... وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه.

وقال الصنعاني في سبل السلام : شرعية التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر ، لأنه لإيقاظ النائم ، وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة (٢).

وقال الزيلعي في نصب الراية : أحاديث التثويب : وهو مخصوص عندنا بالفجر ... وفيه حديثان ضعيفان : أحدهما للترمذي وابن ماجة ... عن بلال قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا أثوِّب في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر .. والحديث الثاني أخرجه البيهقي ... ولكن اختلفوا في التثويب ، فقال أصحابنا ـ يعني الحنفية ـ هو أن يقول بين الأذان والإقامة : « حي على الصلاة ، حي على الفلاح » مرتين. وقال الباقون : هو قوله في الأذان : الصلاة خير من النوم (٣).

وحاصل كلامهم أن التثويب البدعة هو زيادة قول : ( الصلاة خير من النوم ) في أذان الفجر وفي غيرها من الصلوات ، أو زيادة غيرها بين الأذان

__________________

(١) نقلنا كلا القولين عن سنن الترمذي ١ / ٣٨٠.

(٢) سبل السلام ١ / ٢٥٠.

(٣) نصب الراية ١ / ٢٧٩.

١٧١

والإقامة في عامة الصلوات ، وأما زيادة ( الصلاة خير من النوم ) في الأذان الأول في الفجر فهو سنة عندهم.

ومنه يتضح أن ما يفعله أهل السنة في هذه الأعصار من قول ( الصلاة خير من النوم ) في أذان الفجر فهو بدعة.

هذا إذا صحّت الروايات الدالة على أن ( الصلاة خير من النوم ) جزء من الأذان الأول لصلاة الصبح ، والذي يظهر من بعض الروايات أن عمر بن الخطاب هو أول من وضعها في أذان صلاة الفجر ، فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر يُؤْذِنه لصلاة الصبح ، فوجده نائماً ، فقال : الصلاة خير من النوم. فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح (١).

وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف بلفظ متقارب (٢).

وأخرج الدارقطني في سُننه عن ابن عمر ، عن عمر أنه قال لمؤذِّنه : إذا بلغت ( حي على الفلاح ) في الفجر ، فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم (٣).

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : قال في البحر : أحدثه عمر فقال ابنه : هذه بدعة. وعن علي عليه‌السلام حين سمعه : لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه (٤).

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : ما ابتدعوا بدعة أحب إلي من التثويب في الصلاة. يعني العشاء والفجر (٥).

__________________

(١) الموطأ ، ص ٤٢ ، ح ١٥١.

(٢) المصنف ١ / ١٨٩ ح ٢١٥٩.

(٣) سنن الدارقطني ١ / ٢٤٣.

(٤) نيل الأوطار ٢ / ٣٨.

(٥) المصنف ١ / ١٩٠ ح ٢١٧٠. وهو حديث صحيح عندهم ، رواه ابن أبي شيبة عن وكيع ، عن سفيان ، عن ابن الاصبهاني ، وهو عبد الرحمن بن عبدالله ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وكلهم ثقات عندهم.

١٧٢

فعلى ذلك تكون هذه الجملة بدعة في أي أذان قيلت.

ولا يُعتد بكلام السرخسي في المبسوط : أما المتأخرون فاستحسنوا التثويب في جميع الصلوات ، لأن الناس قد ازداد بهم الغفلة ، وقلّما يقومون عند سماع الأذان ، فيستحسن التثويب للمبالغة في الإعلام (١).

وذلك لأنه إذا كان بدعة كما نص عليه أعلام أهل السنة فلا يختلف الحال فيها في جميع الأزمان والأحوال ، فلا يصح أن يُزاد في الأذان أو في غيره من العبادات أية زيادة بأي اعتبار من الاعتبارات.

* * * * *

هذا قليل من كثير ، وأمثاله لا يكاد يحصى ، وهو مبثوث في كتبهم ، ولوأردنا أن نستقصي أشباه هذه الطوائف لطال بنا المقام ، وفيما ذكرناه كفاية.

محاولات لتحريف الأحكام لم يكتب لها الدوام :

ودلَّت أحاديث أخرى صحيحة على أن القوم خالفوا السُّنّة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا أن هذه المخالفات لم يُكتب لها الدوام ، فاندثرت واضمحلّت ، ولم تصبح أحكاماً في الدين ، ولم يفتِ على طبقها أحد المُفتين.

وهذه الأحاديث أيضاً نقسمها إلى طوائف :

الطائفة الأولى : دلت على أن منهم مَن صلّى بالناس في منى تماماً مع ثبوت الصلاة قصراً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

منها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ـ واللفظ لمسلم ـ والنسائي وأبو داود والدارمي في سننهم وغيرهم عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلّى بنا عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه بِمِنَى أربع ركعات ، فقيل ذلك

__________________

(١) المبسوط ١ / ١٣١.

١٧٣

لعبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه فاسترجع (١) ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر رضي‌الله‌عنه بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بمنى ركعتين ، فليت حظّي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان (٢).

ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، والنسائي والدارمي في سُننهما ، وأحمد في المسند عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنه قال : صلّيت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ركعتين ، وأبي بكر وعمر ، ومع عثمان صدراً من إمارته ، ثم أتَمَّها (٣).

وزاد مسلم : فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعاً ، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين.

الطائفة الثانية : دلَّت على أن بعضهم ابتدع النداء الثالث لصلاة الجمعة ، مع أن ذلك لم يكن في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه ـ واللفظ له ـ ، والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة في سُننهم ، وأحمد في المسند عن السائب بن يزيد قال : إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلما كان في خلافة عثمان

__________________

(١) أي قال : إنا لله وإنا إليه راجعون.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٣٢٥ تقصير الصلاة ، ب٢ ( ط مرقمة ). صحيح مسلم ١ / ٤٨٣ صلاة المسافرين ، ب٢. سنن أبي داود ٢ / ١٩٩. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ١ / ٣٦٩.

(٣) صحيح البخاري ١ / ٣٢٥ تقصير الصلاة ، ب٢ ، ١ / ٤٩٢ الحج ، ب٨٤ ( ط مرقمة ). صحيح مسلم ١ / ٤٨٢ صلاة المسافرين ، ب٢. سنن النسائي ٣ / ١٣٦. صححه الألباني في صحيح سنن النسائي ١ / ٣١٣. مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٢٠٨ ( ط محققة ). سنن الدارمي ٢ / ٥٥.

١٧٤

رضي‌الله‌عنه وكثروا أمَرَ عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث ، فأُذِّن به على الزوراء (١) ، فثبت الأمر على ذلك (٢).

ومنها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن السائب بن يزيد قال : إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه حين كثر أهل المدينة ، ولم يكن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤذِّن غير واحد ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام ، يعني على المنبر (٣).

الطائفة الثالثة : دلَّت على أن بعضهم جعل الخطبة في العيدين قبل الصلاة ، مع أنها كانت في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الصلاة.

منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي في سُننه ، عن طارق بن شهاب ، قال : أول مَن بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة. فقال : قد تُرِك ما هنالك ... (٤)

وعند البخاري : فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غَيَّرتم والله. فقال : أبا سعيد ، قد ذهب ما تعلم. فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة (٥).

__________________

(١) الزوراء : موضع بالمدينة عند السوق. وفي سنن ابن ماجة ١ / ٣٥٩ : أنها دار في السوق يقال لها الزوراء.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٢٧٢ الجمعة ، ب٢٥. سنن الترمذي ٢ / ٣٩٢ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. سنن النسائي ٢ / ١١١ ( ط محققة ). سنن أبي داود ١ / ٢٨٥. سنن ابن ماجة ١ / ٣٥٩. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ١ / ٣٠١ ، وصحيح سنن ابن ماجة ١ / ١٨٧ ، وصحيح سنن ابي داود ١ / ٢٠٣. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٤٥٠.

(٣) صحيح البخاري ١ / ٢٧٢ الجمعة ، ب٢٢ ( ط مرقمة ).

(٤) صحيح مسلم ١ / ٦٩ الإيمان ، ب٢٠. وفي ٢ / ٦٠٥ صلاة العيدين ، ح ٩. سنن الترمذي ٤ / ٤٦٩ ح ٢١٧٢ ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٥) صحيح البخاري ١ / ٢٨٧ العيدين ، ب٦ ( ط مرقمة ).

١٧٥

ومنها : ما أخرجه أبو داود وابن ماجة في سُننهما ، وأحمد في المسند وغيرهم عن أبي سعيد الخدري ، قال : أخرج مروان المنبر في يوم عيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، فقام رجل فقال : يا مروان ، خالفت السنّة ، أخرجت المنبر في يوم عيد ، ولم يكن يُخرَج فيه ، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ... (١)

قال الزرقاني : في الصحيحين عن ابن عباس : شهدت العيد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكلهم كانوا يصلّون قبل الخطبة.

قال : واختلف في أول من غيَّر ذلك ، ففي مسلم عن طارق بن شهاب : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان. وفي ابن المنذر بسند صحيح عن الحسن البصري : أول من خطب قبل الصلاة عثمان ، صلّى بالناس ثم خطبهم ، أي على العادة ، فرأى الناس لم يدركوا الصلاة ... فصار يخطب قبل الصلاة ... ويحتمل أن عثمان فعل ذلك أحياناً ، بخلاف مروان فواظب عليه ، فلذا نُسِب إليه.

وقال : وروي عن عمر مثل فعل عثمان ... وهذا إسناد صحيح ... وأخرج الشافعي عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عباس ، وزاد : حتى قدم معاوية ، فقدّم الخطبة. وهذا يشير إلى أن مروان إنما فعل ذلك تبعاً لمعاوية ، لأنه كان أمير المدينة من جهته (٢).

وذكر الشوكاني في نيل الأوطار نحو ذلك (٣).

أقول : المتحصّل من كل هذه الروايات أن أول من قدَّم الخطبة يوم العيد

__________________

(١) سنن أبي داود ١ / ٢٩٧. وصححه الألباني في صحيح سنن ابي داود ١ / ٢١١. سنن ابن ماجة ١ / ٤٠٦ ح ١٢٧٥. وصححه الالباني في صحيح سنن ابن ماجة ١ / ٢١٥ ح ١٠٥٣. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ١٠ ، ٢٠ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٩٢.

(٢) شرح الزرقاني على موطأ مالك ١ / ٥١٣.

(٣) نيل الأوطار ٣ / ٢٩٤.

١٧٦

هو عمر ، إلا أنه فعل ذلك قليلاً ، وكذا صنَع عثمان ، ثم صارت سُنّة جارية في زمن معاوية ، فعلها هو وأمراؤه كمروان في المدينة ، وزياد بالبصرة.

الطائفة الرابعة : دلَّت على أن بعضهم ابتدع الأذان لصلاة العيدين ، مع أن ذلك لم يكن في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب ، قال : أول من أحدث الأذان في العيدين معاوية (١).

قال الشافعي في كتاب الأم : أخبرنا الثقة عن الزهري أنه قال : لم يُؤَذّن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان في العيدين ، حتى أحدَثَ ذلك معاوية بالشام ، فأحدثه الحجّاج بالمدينة حين أُمِّر عليها. وقال الزهري : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر في العيدين المؤذّن أن يقول : الصلاة جامعة (٢).

هذا وقد نص بعض أعلام أهل السنة على ذلك :

قال ابن حجر في فتح الباري : واختُلف في أول من أحدث الأذان فيها ـ أي في صلاة العيد ـ فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه معاوية. وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري مثله (٣).

وهي عين عبارة الزرقاني في شرح الموطأ (٤).

وقال القسطلاني : أول من أحدث الأذان فيها معاوية. رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح (٥).

وقال الشوكاني : وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن المسيب

__________________

(١) المصنف ١ / ٤٩١.

(٢) كتاب الأم ١ / ٢٣٥.

(٣) فتح الباري ٢ / ٣٦٢.

(٤) شرح الزرقاني على موطأ مالك ١ / ٥١٢.

(٥) إرشاد الساري ٢ / ٢١١.

١٧٧

قال : أول من أحدث الأذان في العيد معاوية (١).

الصلاة لم تسلم من التحريف :

لقد مرَّ بنا بعض ما ابتُدع في الصلاة ، كإحداث صلاة التراويح ، والصلاة في منى تماماً ، والتثويب في الأذان ، والأذان لصلاة العيدين ، والأذان الثالث يوم الجمعة ، وجعل خطبة العيدين قبل الصلاة وغير ذلك.

وأما ما ابتُدع في الصلاة نفسها فسيأتي ذِكر بعضه قريباً ، وحسبك ما تجده من الاختلافات الكثيرة بين المذاهب الأربعة وغيرها من مذاهبهم في كل أحكام الصلاة تقريباً : من التكبير إلى التسليم ، فراجع الكتب المعدة لذلك ككتاب الفقه على المذاهب الأربعة ، وكتاب بداية المجتهد ، وكتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة وغيرها لتدرك صحة ما قلناه.

وللدلالة على كثرة تلكم الاختلافات انظر الفرق بين الصلاة الصحيحة عند أبي حنيفة والصلاة الصحيحة عند غيره ، وسنذكرها فيما يأتي من الكلام.

ولا بأس أن ننقل بعض فقرات مما قاله ابن رشد في اختلافهم في الصلاة ، ليتبيّن للقارئ العزيز صحّة ما قلناه :

قال ابن رشد في بيان اختلافهم في أقوال الصلاة فقط دون أفعالها :

اختلف العلماء في التكبير على ثلاثة مذاهب : فقوم قالوا : إن التكبير كله واجب في الصلاة ، وقوم قالوا : إنه كله ليس بواجب. وهو شاذ ، وقوم أوجبوا تكبيرة الإحرام فقط.

وقال مالك : لا يجزئ من لفظ التكبير إلا : الله أكبر. وقال الشافعي : ( الله أكبر ) و( الله الأكبر ) اللفظان كلاهما يجزئ. وقال أبو حنيفة : يجزئ من لفظ التكبير كل لفظ في معناه ، مثل : الله الأعظم والله الأجل.

وذهب قوم إلى أن التوجيه في الصلاة واجب ، وهو أن يقول بعد التكبير :

____________

(١) نيل الاوطار ٣ / ٢٩٥.

١٧٨

( وجَّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ) ، وهو مذهب الشافعي ، وإما أن يسبِّح ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وإما أن يجمع بينهما ، وهو مذهب أبي يوسف وصاحبه. وقال مالك : ليس التوجيه بواجب ولا سُنَّة.

وقد ذهب قوم إلى استحسان سكتات كثيرة في الصلاة ، منها حين يكبّر ، ومنها حين يفرغ من قراءة أم القرآن ، وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع ، وممن قال بهذا الشافعي وأبو ثور والأوزاعي ، وأنكر ذلك مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة وأصحابه.

واختلفوا في قراءة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في افتتاح القراءة في الصلاة ، فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة ، جهراً كانت أو سرّاً ، لا في استفتاح أم القرآن ولا في غيرها من السور ، وأجاز ذلك في النافلة. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد : يقرؤها مع أم القرآن في كل ركعة سرّاً. وقال الشافعي : يقرؤها ، ولا بد في الجهر جهراً ، وفي السر سرّاً ، وهي عنده آية من فاتحة الكتاب ، وبه قال أحمد وأبو ثور وأبو عبيد. واختلف قول الشافعي ، هل هي آية من كل سورة ، أم إنما هي آية من سورة النمل فقط ، ومن فاتحة الكتاب؟ فرُوي عنه القولان جميعاً.

واختلفوا في القراءة الواجبة في الصلاة ، فرأى بعضهم أن الواجب مِن ذلك أم الكتاب لـمَن حفظها ، وأن ما عداها ليس فيه توقيت ، ومِن هؤلاء مَن أوجبها في كل ركعة ، ومنهم من أوجبها في أكثر الصلاة ، ومنهم من أوجبها في نصف الصلاة ، ومنهم من أوجبها في ركعة من الصلاة. وبالأول قال الشافعي ، وهي أشهر الروايات عن مالك ، وقد روي عنه أنه مَن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأتْه. وأما من رأى أنها تجزئ في ركعة ، فمنهم الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة. وأما أبو حنيفة فالواجب عنده إنما هو قراءة أي آية اتفقت أن تقرأ ، وحَدَّ أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدَّيْن. وهذا في الركعتين الأوليين ، وأما في الأخيرتين فيستحب عنده التسبيح فيهما دون القراءة ، وبه قال الكوفيون ، والجمهور يستحبون القراءة فيها كلها.

١٧٩

واتفق الجمهور على منع قراءة القرآن في الركوع والسجود ... وبه أخذ فقهاء الأمصار ، وصار قوم من التابعين إلى جواز ذلك ، وهو مذهب البخاري.

واختلفوا هل الركوع والسجود قول محدود يقوله المصلّي أم لا؟ فقال مالك : ليس في ذلك قول محدود. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجماعة غيرهم إلى أن المصلي يقول في ركوعه : ( سبحان ربي العظيم ) ثلاثاً ، وفي السجود : ( سبحان ربي الأعلى ) ثلاثاً.

وكذلك اختلفوا في الدعاء في الركوع بعد اتفاقهم على جواز الثناء على الله ، فكره ذلك مالك ... وقالت طائفة : يجوز الدعاء في الركوع ... وأبو حنيفة لا يجيز الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن ، ومالك والشافعي يجيزان ذلك.

واختلفوا في التشهد وفي المختار منه ، فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التشهد ليس بواجب ، وذهبت طائفة إلى وجوبه ، وبه قال الشافعي وأحمد وداود.

وأما المختار من التشهد فإن مالكاً رحمه‌الله اختار تشهد عمر رضي‌الله‌عنه ... الذي كان يعلمه الناس على المنبر ... واختار أهل الكوفة وأبو حنيفة وغيره تشهد عبد الله بن مسعود ... وبه قال أحمد وأكثر أهل الحديث ... واختار الشافعي وأصحابه تشهد عبد الله بن عباس.

وقد اشترط الشافعي الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشهد ، وقال : إنها فرض ... وذهب قوم من أهل الظاهر إلى أنه واجب أن يتعوذ المتشهد من الأربع التي جاءت في الحديث من عذاب القبر ، ومن عذاب جهنم ، ومن فتنة المسيح الدجال ، ومن فتنة المحيا والممات.

واختلفوا في التسليم من الصلاة ، فقال الجمهور بوجوبه ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : ليس بواجب ، والذين أوجبوه منهم من قال الواجب على المنفرد والإمام تسليمة واحدة ، ومنهم من قال : اثنتان.

١٨٠