مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

أجابني منها إلا على خمس مسائل (١).

وروى الخطيب عن أحمد بن حنبل أنه سُئل عن مالك ، فقال : حديث صحيح ، ورأي ضعيف (٢).

وعن مالك أيضاً أنه ربما كان يُسأل خمسين مسألة ، فلا يجيب في واحدة منها (٣).

ونقل ابن عبد البر عن الليث بن سعد أنه قال : أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسُنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما قال فيها برأيه ، قال : ولقد كتبت إليه أعظه في ذلك (٤).

وعن المروزي قال : وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق لشيء بلَغَه عنه تكلّم به في نَسَبه وعِلْمه (٥).

وعن سلمة بن سليمان قال : قلت لابن المبارك : وضعتَ من رأي أبي حنيفة ، ولم تضع من رأي مالك؟ قال : لم أره علماً (٦).

وقال ابن عبد البر : وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة ، كرهتُ ذِكره ، وهو مشهور عنه ، قاله إنكاراً لقول مالك في حديث البيِّعين بالخيار ... (٧) ، وتكلم في مالك أيضاً فيما ذكره الساجي في كتاب العلل : عبد العزيز بن أبي سلمة ، وعبد الرحمن بن زيد بن

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٨ / ٧٧.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ / ٤٤٥.

(٣) فتاوى ومسائل ابن الصلاح ١ / ١٣.

(٤) جامع بيان العلم وفضله ٢ / ١٠٨٠ ( ط محققة ).

(٥) المصدر السابق ٢ / ١١٠٥.

(٦) المصدر السابق ٢ / ١١٠٩.

(٧) ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٢ / ٣٠٢ عن أحمد بن حنبل قال : بلغ ابن ابي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث ( البيعين الخيار ) ، قال : يستتاب وإلا ضربت عنقه.

١٤١

أسلم ، وابن إسحاق ، وابن أبي يحيى ، وابن أبي الزناد ، وعابوا عليه أشياءمن مذهبه ، وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم ، وروايته عن داود بن الحصين وثور بن زيد ، وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسَداً لموضع إمامته ، وعابَهُ قوم في إنكاره المسح على الخفَّين في الحضر والسفر ، وفي كلامه في علي وعثمان ، وفتياه إتيان النساء من الأعجاز ، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذِكره (١).

قال ابن حجر : ويقال إن سعداً (٢) وعظ مالكاً فوجد عليه ، فلم يروِ عنه ... وقال أحمد بن البرقي : سألت يحيى عن قول بعض الناس في سعد أنه كان يرى القدر وترك مالك الرواية عنه. فقال : لم يكن يرى القدر ، وإنما ترك مالك الرواية عنه لأنه تكلم في نسب مالك ، فكان مالك لا يروي عنه ، وهو ثَبْت لا شك فيه (٣).

٣ ـ ما قالوه في الشافعي :

قيل ليحيى بن معين : والشافعي كان يكذب؟ قال : ما أحب حديثه ولا ذِكْره (٤).

واشتهر عن يحيى أنه كان يقول عن الشافعي : إنه ليس بثقة (٥).

وأخرج ابن حجر في توالي التأسيس عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه قال : كان الشافعي قد مرض من هذا الباسور مرضاً شديداً ، حتى ساء

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ١١١٥.

(٢) هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، كان قاضي المدينة ، روى عنه الستة.

(٣) تهذيب التهذيب ٣ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٤) جامع العلم وفضله ٢ / ١٠٨٣ ( ط محققة ).

(٥) المصدر السابق ٢ / ١١١٤.

١٤٢

خُلُقه ، فسمعته يقول : إني لآتي الخطأ وأنا أعرفه (١).

وذكر ابن حجر في لسان الميزان عن معمر بن شبيب أنه سمع المأمون يقول : امتحنت الشافعي في كل شيء فوجدته كاملاً ، وقد بقيت خصلة ، وهو أن أسقيه من الهندبا تغلب على الرجل الجسيد العقل. فحدّثني ثابت الخادم أنه استدعى به فأعطاه رطلاً فقال : يا أمير المؤمنين ما شربته قط. فعزم عليه فشربه ، ثم والى عليه عشرين رطلاً فما تغير عقله ، ولا زال عن حُجّة (٢).

قلت : لعل الشافعي شربه تقية ، لأنه كان يرى التقية من الخلفاء.

٤ ـ ما قالوه في أحمد بن حنبل :

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعتُ أبي يقول : وددتُ أني نجوت من هذا الأمر ، لا عليَّ ولا لي (٣).

وعن أبي بكر الأثرم ، قال : سمعت أحمد بن حنبل يُستفتَى ، فيكثر أن يقول : لا أدري (٤).

وقال الفخر الرازي : إنه ـ يعني الإمام أحمد ـ ما كان في علم المناظرة والمجادلة قوياً ، وهو الذي قال : لولا الشافعي لبقيت أقفيتنا كالكرة في أيدي أصحاب الري (٥).

وقال ابن أبي خيثمة : قيل لابن معين : إن أحمد يقول : إن علي بن عاصم ليس بكذاب. فقال : لا والله ، ما كان علي عنده قط ثقة ، ولا حدَّث عنه بشيء ، فكيف صار اليوم عنده ثقة؟ (٦)

__________________

(١) توالي التأسيس ، ص ١٧٧.

(٢) لسان الميزان ٦ / ٦٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٢٧.

(٤) فتاوى ومسائل ابن الصلاح ١ / ١٣.

(٥) مناقب الإمام الشافعي ، ص ٣٨٩.

(٦) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٠٤.

١٤٣

وقال الحسين بن علي الكرابيسي في الطعن في أحمد : أيش نعمل بهذا الصبي؟ إن قلنا : ( مخلوق ) قال : بدعة. وإن قلنا : ( غير مخلوق ) قال : بدعة (١).

* * * * *

ولعل أحمد بن حنبل هو الذي سَلِم تقريباً من أن توجَّه إليه السهام والطعون كما وُجِّهت لغيره ، وذلك لأنه جعل جُل عنايته في جمع الأحاديث ، فصنّف المسند الذي اشتمل على أكثر من خمسة وعشرين ألف حديث ، ثم إنه حاول أن يفر من الفتوى (٢) ، ولم تُعرف له فتاوى شاذة كثيرة كما عُرفت لغيره ، ثم إن محنة خلق القرآن أكسبته مكانة عظيمة عند الناس ، وفتواه بوجوب طاعة السلطان وحرمة الخروج عليه وإن كان جائراً ، أعطته منزلة كبيرة عند الخلفاء والسلاطين.

تعصب أهل السنة لمذاهبهم :

إن المتتبِّع لما كتبه أهل السنة ـ علماؤهم وغيرهم ـ يجد أن التعصب للمذاهب كان قوياً جداً ، ولم يسلم منه حتى مَن كان يُتوقَّع منه التنزّه عنه لجلالته وعلمه ، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً ، ويمكن أن نقول : إن التعصب قد وقع على أنحاء مختلفة :

منه : ما نتج عنه رَد الأحاديث والآثار النبوية ، والعمل بفتوى إمام المذهب ، وإن كان فيها مخالفة صريحة للنص الثابت.

وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى ( اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) : قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله

__________________

(١) تاريخ بغداد ٨ / ٦٥.

(٢) ذكر الخطيب في تاريخ بغداد ٦ / ٦٦ أن رجلاً سأل أحمد بن حنبل عن مسألة في الحلال والحرام ، فقال له أحمد : سل عافاك الله غيرنا. قال : إنما نريد جوابك يا أبا عبد الله. فقال : سل عافاك الله غيرنا ، سل الفقهاء ، سل أبا ثور.

١٤٤

عنهم : قد شاهدت جماعة من مقلّدة الفقهاء ، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات ، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها ، وبقوا ينظرون إليَّ كالمتعجِّب ، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سَلَفنا وردت على خلافها ، ولو تأمَّلتَ حق التأمَّل وجدتَ هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا (١).

وقال السيد سابق في فقه السنة : وقد بلغ الغلو في الثقة بهؤلاء الأئمة حتى قال الكرخي ـ وهو حنفي ـ : كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ؟! (٢)

وقال ابن حزم : قال بعض من قوي جهله وضعف عقله ورقَّ دينه : إذا اختلف العالمان وتعلَّق أحدهما بحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو آية ، وأتى الآخر بقول يخالف ذلك الحديث وتلك الآية ، فواجب اتباع من خالف الحديث ، لأننا مأمورون بتوقيرهم (٣).

وعن إبراهيم النخعي قال : لو رأيتهم يتوضؤون إلى الكوعين ما تجاوزتهما وأنا أقرؤها ( إلى المرافق ) (٤).

ومِن تعصّبهم : ما جرَّهم إلى أمور منكرة ومهاترات عجيبة.

ومن ذلك ما ذكره ابن كثير في ترجمة محمد بن موسى بن عبد الله الحنفي ، فقال : ولي قضاء دمشق ، وكان غالياً في مذهب أبي حنيفة ... وكان يقول : لو كانت لي الولاية لأخذت من أصحاب الشافعي الجزية. وكان مبغضاً لأصحاب مالك أيضاً (٥).

__________________

(١) التفسير الكبير ١٦ / ٣٧.

(٢) فقه السنة١ / ١٠.

(٣) الإحكام في أصول الاحكام ٦ / ٢٦٠.

(٤) المصدر السابق ٦ / ٢٦٣.

(٥) البداية والنهاية ١٢ / ١٨٧. لسان الميزان ٥ / ٤٠٢.

١٤٥

وذكر الذهبي في العِبَر أن الفقيه الشافعي أبا حامد محمد بن محمد البروي الطوسي صاحب التعليقة المشهورة في الخِلاف كان بارعاً في معرفة مذهب الأشعري ، قدم بغداد وشغب على الحنابلة ، وأثار الفتنة ، ووعظ بالنظامية ، فأصبح ميتاً ، فيقال : إن الحنابلة أهدوا له مع امرأة صحن حلوى مسمومة. وقيل : إن البروي قال : لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية (١).

ومِن تعصّبهم : ما جرَّهم إلى فتاوى غريبة وأحكام عجيبة.

فقد أفتى بعض الأحناف بعدم جواز تزويج الحنفي بالشافعية ، باعتبار أن الشافعية تشك في إيمانها ، لأن الشافعي يقول : أنا مؤمن إن شاء الله. إلا أن بعضهم قال : يجوز ذلك ، قياساً على الذمّية ، أي فكما يجوز زواج الحنفي بالذمّية كذلك يجوز زواج الحنفي بالشافعية.

ومن تعصبهم : ما أحدث الفتن فيما بينهم.

قال ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة ٣٢٣ هـ في بغداد :

وفيها عظم أمر الحنابلة ، وقويت شوكتهم ، وصاروا يكسبون من دُور القُوَّاد والعامة ، وإن وجدوا نبيذاً أراقوه ، وإن وجدوا مغنية ضربوها ، وكسروا آلة الغناء ، واعترضوا في البيع والشراء ، ومشْي الرجال مع النساء والصبيان ، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو؟ [ فإذا ] أخبرهم ، وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة ، وشهدوا عليه بالفاحشة ، فأرهجوا بغداد ... وزاد شرّهم وفتنتهم ، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد ، وكانوا إذا مرَّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان ، فيضربونه بعِصِيّهم حتى يكاد يموت (٢).

ومن تعصبهم : ما سبَّب إغلاق باب الاجتهاد عند أهل السنة.

قال السيد سابق : وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية

__________________

(١) العبر في خبر من غبر ٣ / ٥٢. شذرات الذهب ٤ / ٢٢٤.

(٢) الكامل في التاريخ ٨ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

١٤٦

بالكتاب والسنة ، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد ، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء ، وأقوال الفقهاء هي الشريعة ، واعتُبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعاً لا يوثق بأقواله ، ولا يُعتد بفتاويه (١).

وقال أبو شامة : وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين ، فكل صنف على ما رأى ، وتعقب بعضهم بعضاً مستمدّين من الأصلين : الكتاب والسنة ... ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرّت المذاهب المدوَّنة ، ثم اشتهرت المذاهب الأربعة ، وهُجر غيرها ، فقصرت همم أتباعهم إلا قليلاً منهم ، فقلَّدوا بعدما كان التقليد حراماً لغير الرسُل ، بل صارت أقوال أئمتهم بمنزلة الأصلين : الكتاب والسنة ، وذلك معنى قوله تعالى ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) فعُدِم المجتهدون ، وغلب المتقلّدون ، وكثر التعصب ، وكفروا بالرسول حيث قال : يبعث الله في كل مائة سنة مَن ينفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وحجَروا على ربّ العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم وليّاً مجتهداً ، حتى آل بهم إلى التعصب إلى أحدهم إذا أُورد عليه شيء من الكتاب والسنة على خلافه ، يجتهد في دفعه بكل سبيل من التأويلات البعيدة ، نصرةً لمذهبه ولقوله (٢).

ومن تعصّبهم : غلوّ كل طائفة في إمامها.

قال البيهقي : إن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك أنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُستسقى بها ، وكان يقال لهم : ( قال رسول الله ). فيقولون : ( قال مالك ). فقال الشافعي : إن مالكاً بَشَرٌ يخطئ. فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه (٣).

__________________

(١) فقه السنة ١ / ١٠.

(٢) المختصر المؤمل للردل إلى الأول ، ص ١٤ ـ ١٥. ( عن كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٢ / ١٤٥ ).

(٣) توالي التأسيس ، ص ١٤٧.

١٤٧

وأخرج الخطيب عن علي بن جرير ، قال : كنت في الكوفة فقدمت البصرة وبها ابن المبارك ، فقال لي : كيف تركت الناس؟ قال : قلت : تركت بالكوفة قوماً يزعمون أن أبا حنيفة أعلم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : كُفْر. قلت : اتخَذوك في الكفر إماماً. قال : فبكى حتى ابتلّت لحيته ، يعني أنه حدَّث عنه.

وعنه أيضاً قال : قدمت على ابن المبارك ، فقال له رجل : إن رجلين تماريا عندنا في مسألة ، فقال أحدهما : قال أبو حنيفة. وقال الآخر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال : كان أبو حنيفة أعلم بالقضاء (١).

هذا غيض من فيض من الآثار المذمومة للتعصب للمذاهب ، نسأل الله أن يأخذ بيد جميع المسلمين إلى رضاه ، إنه قريب مجيب.

المسْلم غير ملزم باتباع أحد المذاهب الأربعة :

هذا وقد ذكر بعض علماء أهل السنة في كتبهم ما يضيء الدرب أمام مَن التزم باتباع مذهب معين ، فشدَّدوا في الإرشاد ، وأبلغوا في النصح ، لعل شيئاً منها يجد أذناً صاغية أو قلباً واعياً.

وإليك بعض كلماتهم :

قال ابن عبد البر : يقال لمن قال بالتقليد : لِمَ قلتَ به وخالفتَ السلف في ذلك ، فإنهم لم يقلّدوا؟

فإن قال : قلَّدتُ لأن كتاب الله جل وعزّ لا علم لي بتأويله ، وسُنّة رسوله لم أحصها ، والذي قلّدته قد علم ذلك ، فقلّدت مَن هو أعلم مني.

قيل له : أما العلماء إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب ، أو حكاية سُنّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق ، لا شك فيه ، ولكن اختلفوا فيما قلّدت فيه بعضهم دون بعض ، فما حُجّتك في تقليد بعض دون بعض ، وكلهم عالم ، ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ / ٤٤١ ـ ٤٤٢.

١٤٨

الذي ذهبت إلى مذهبه.

فإن قال : قلّدته لأني علمت أنه صواب. قيل له : علمتَ ذلك بدليل من كتاب أو سُنّة أو إجماع ، فقد أَبطَلَ التقليد ، وطولب بما ادّعاه من الدليل.

وإن قال : قلّدته لأنه أعلم مني. قيل له : فقلّد كل من هو أعلم منك ، فإنك تجد خلقاً كثيراً ، ولا تخص مَن قلّدته ، إذ علّتك فيه أنه أعلم منك.

فإن قال : قلّدته لأنه أعلم الناس. قيل له : فهو إذن أعلم من الصحابة. وكفى بقول مثل هذا قبحاً.

وإن قال : إنما أقلّد بعض الصحابة. قيل له : فما حُجّتك في ترك مَن لم يُقلَّد منهم ، ولعل مَن تركتَ قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله. على أن القول لا يصح لفضل قائله ، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه (١).

وقال ابن حزم : إن العجب ليطول ممن اختار أخذ أقوال إنسان بعينه لم يصحبه من الله عز وجل معجزة ، ولا ظهرت عليه آية ، ولا شهد الله له بالعصمة عن الخطأ ، ولا بالولاية. وأعجب من ذلك إن كان مِن التابعين فمَن دونهم ، ممن لا يُقطع على غيب إسلامه (٢) ، ولا بِيَد مقلِّده أكثر من حسن الظن به ، وأنه في ظاهر أمره فاضل من أفاضل المسلمين ، لا يقطع له على غيره من الناس بفضل ، ولا يشهد له على نُظرائه بسبق ، إن هو إلا الضلال المبين (٣).

ثم قال : ثم ننحط في سؤالهم درجة فنقول : ما الذي دعاكم إلى التهالك على قول مالك وابن القاسم؟ فهلاّ تبعتم قول عمر بن الخطاب وابنه فتهالكتم عليها؟ فهما أعلم وأفضل من مالك وابن القاسم عند الله عز وجل بلا شك.

ونقول للحنفيين : ما الذي حملكم على التماوت على قول أبي حنيفة

__________________

(١) جامع بيان العلم وفضله ٢ / ١١٧.

(٢) يعني كيف نقلد من لا نقطع بأنه مسلم ، غاية ما في الأمر أننا نحسن الظن به باعتبار أنه في الظاهر من أفاضل المسلمين ، أما العلم بحقيقة حاله فلا سبيل لنا إليه.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام ٦ / ٢٨٠.

١٤٩

وأبي يوسف ومحمد بن الحسن؟ فهلاّ طلبتم أقوال عبد الله بن مسعود وعلي فتماوتّم عليها؟ فهما أفضل وأعلم من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن عند الله تعالى بلا شك.

ونقول لمَن قلّد الشافعي رحمه‌الله : ألم ينهكم عن تقليده وأمركم باتباع كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث صحّ؟ فهلاّ اتبعتموه في هذه القولة الصادقة التي لا يحل خلافها لأحد؟ (١)

وقال ابن القيم : نقول : أخذتم بقول فلان لأن فلاناً قاله؟ أو لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله؟

فإن قلتم : ( لأن فلاناً قاله ) جعلتم قول فلان حُجّة ، وهذا عين الباطل. وإن قلتم : ( لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله ) كان هذا أعظم وأقبح ، فإنه مع تضمّنه للكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقويلكم عليه ما لم يقله ، هو أيضاً كذب على المتبوع ، فإنه لم يقُل : هذا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما : إما جعل قول غير المعصوم حجّة ، وإما تقويل المعصوم ما لم يقُله ، ولا بد من واحد من الأمرين.

فإن قلتم : بل منهما بُد ، وبقي قسم ثالث ، وهو أنا قلنا كذا ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرَنا أن نتّبع مَن هو أعلم منا ، ونسأل أهل الذِّكر إن كنا لا نعلم ، ونرُدّ ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم ، فنحن في ذلك متَّبِعون ما أمَرَنا به نبيّنا.

قيل : وهل نُدَنْدِن إلا حول اتّباع أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحيهلا بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتم الإيمان والإسلام إلا به ، فنُناشدكم بالذي أرسله : إذا جاء أمره وجاء أمر مَن قلّدتموه ، هل تتركون قوله لأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتضربون به الحائط ، وتحرِّمون الأخذ به والحالة هذه ، حتى تتحقق المتابعة كما زعمتم ، أم تأخذون بقوله ، وتفوِّضون أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله ، وتقولون : هو أعلم

__________________

(١) المصدر السابق ٦ / ٢٨١.

١٥٠

برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منا ، ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو مُعارَض بما هو أقوى منه ، أو غير صحيح عنده. فتجعلون قول المتبوع مُحْكَماً ، وقول الرسول متشابِهاً ، فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله ، لقدَّمتم قول الرسول أين كان.

وقال : إن ما ذكرتم بعينه حُجّة عليكم ، فإن الله سبحانه أمر بسؤال أهل الذِّكر ، والذكر هو القرآن والحديث ... فهذا هو الذِّكر الذي أمرنا الله باتباعه ، وأمر مَن لا عِلم عنده أن يسأل أهله ، وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذِّكر الذي أنزله الله على رسوله ليُخبروه به ، فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه ، وهذا كان شأن أئمة أهل العلم ، لم يكن فيهم مقلِّد معيَّن يتّبعونه في كل ما قال ، فكان عبد الله بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فعَله أو سَنَّه ، لا يسألهم عن غير ذلك ، وكذلك الصحابة ... وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيّهم فقط ، وكذلك أئمة الفقه ... ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه ، فيأخذ به وحده ، ويخالف له ما سواه (١).

وقال الشيخ محمد حياة السندي : من تعصّب لواحد معين غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة الآخرين فهو : ضال جاهل ، بل قد يكون كافراً يستتاب ، فإن تاب وإلا قُتل. فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد معين من الأئمة رضي الله عنهم دون الآخرين ، فقد جعله بمنزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك كفر (٢).

هذا قليل من كثير قالوه في مسألة عدم جواز اتباع واحد من المذاهب المعروفة ، الأربعة وغيرها ، ولو شئنا استقصاءه لخرجنا عن موضوع الكتاب ،

__________________

(١) أعلام الموقعين ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٢) رسالة « إرشاد النقاد إلى أدلة الاجتهاد » ضمن المجموعة المنيرية ١ / ٢٦ ـ ٢٨ ( عن كتاب السجود على التربة الحسينية للسيد محمد مهدي الخرسان ).

١٥١

ولكن فيما ذكرناه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، والحمد لله رب العالمين.

خلاصة البحث :

لقد اتّضح مما تقدم أمور :

١ ـ أن المذاهب إنما هي أمور مستحدثة ، أُحدثت بعد زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأكثر من قرن من الزمان. ولم يرِد نصّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جواز التعبد بأي منها. وكل ما روي في فضلهم فلا يعدو أن يكون أحاديث موضوعة أو أحلام مكذوبة.

٢ ـ أن علماء أهل السنّة نصّوا على عدم جواز التقليد في الدين ، وعدم جواز التعبد بأي مذهب من المذاهب الأربعة وغيرها ، وأكّدوا أن وظيفة العامي هي اتباع كتاب الله وسُنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يجوز له أن يأخذ دِينه من الرجال.

٣ ـ أن أئمة المذاهب الأربعة نهوا عن تقليدهم ، وأمروا بعرض ما يُنقل من فتاواهم على كتاب الله وسُنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما وافقها يؤخذ ، وما خالفها يُطرح.

٤ ـ أن الأئمة الأربعة رجال غير معصومين ، لهم عثرات وأخطاء ، وقد طعَن فيهم مَن طعن ، بحق أو بغير حق.

فبعد هذا كله نسأل أهل السنّة : هل يجوز التعبد بهذه المذاهب المستحدثة ، وهل تبرأ ذمّة المكلف باتباع واحد منها؟

لقد أجاب ابن حزم على هذا السؤال ، فقال : وأما مَن أخذ برأي أبي حنيفة أو رأي مالك أو غيرهما ، فقد أخذ بما لم يأمره الله تعالى قط بالأخذ به ، وهذه معصية لا طاعة (١).

__________________

(١) الإحكام في أصول الاحكام ٦ / ٢٢٦.

١٥٢

وقال السيد محمد باقر الحجة :

قَلَّدْتُمُ النعمـانَ أو محمــدا

أو مالـكَ بنَ أنسٍ أو أحمــدا

فهل أتى الذِّكرُ به أو وصَّى

به النبي ، أو وجدتم نصَّا؟ (١)

* * * * *

( ومِن الناس مَن يَتَّخِذ مِن دون الله أَندادًا يُحِبُّونهم كَحُبِّ الله والذين آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله وَلَو يَرَى الذين ظَلَمُوا إذ يَرَون العذاب أَنَّ القُوَّة لله جميعًا وأَنَّ الله شديد العذاب * إذ تَبَرَّأَ الذين اتُّبِعُوا مِن الذين اتَّبَعُوا ورأَوا العذاب وَتَقَطَّعَتْ بهم الأَسْباب * وقال الذين اتَّبَعُوا لو أَنَّ لنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ منهم كما تَبَرَّءُوا منَّا كذلك يُرِيهم الله أَعمالهم حَسَرَاتٍ عليهم وما هُم بِخَارِجين من النَّار * يا أَيّها الناس كُلُوا مِمَّا في الأَرض حلالاً طَيِّبًا ولا تَتَّبِعُوا خُطُوات الشَّيطان إِنَّه لكم عَدُوٌّ مُبين * إِنَّمَا يأْمركم بالسُّوء والفحشاء وأَنْ تقولوا على الله ما لا تَعْلَمون * وإذا قِيلَ لَهُم اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالوا بَل نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عليه آباءنا أَوَلَو كان آباؤهم لا يَعْقِلُونَ شيئًا ولا يَهْتَدُون ) سورة البقرة : ١٦٥ ـ ١٧٠.

__________________

(١) منظومة الشهاب الثاقب ، ص ١٢٠.

١٥٣

(٥)

ماذا بقي من شعائر الإسلام صحيحاً

عند أهل السنة؟

تمهيد :

لقد دلَّت الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة على أن شعائر الإسلام بعد زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غُيِّرَتْ ، وأحكام الدين قد حُرِّفت ، فلم يبقَ من الدين شيء إلا وطالته يد التحريف والتغيير ، حتى الصلاة التي هي عمود الدين فإنها قد ضُيِّعت كما ضُيِّع غيرها.

ومن تلك الأحاديث ما أخرجه البخاري في صحيحه عن الزهري أنه قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك؟ فقال : لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضُيِّعتْ.

وفي رواية أخرى ، قال : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قيل : الصلاة؟ قال : أليس ضيَّعتم ما ضيَّعتم فيها؟! (١)

وأخرج الترمذي في سننه ، وأحمد بن حنبل في المسند عن أنس أنه قال : ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقلت : أين الصلاة؟ قال :

____________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٣٣ كتاب مواقيت الصلاة وفضلها ، باب تضييع الصلاة عن وقتها.

١٥٤

أوَلم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟ (١)

وأخرج مالك بن أنس في الموطأ عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء للصلاة (٢).

وأخرج أحمد في المسند عن أم الدرداء أنها قالت : دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضب ، فقلت : مَن أغضبك؟ قال : والله لا أعرف منهم من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً إلا أنهم يصلّون جميعا (٣).

وفي رواية أخرى قال : إلا الصلاة (٤).

وأخرج أحمد في مسنده عن أنس أيضاً أنه قال : ما أعرف شيئاً مما عهدتُ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليوم. فقال أبو رافع : يا أبا حمزة ، ولا الصلاة؟ فقال : أوَليس قد علمت ما صنع الحَجَّاج في الصلاة؟

وأخرج أحمد في المسند ، والبغوي في شرح السنة ، والبوصيري في مختصر الإتحاف عن أنس قال : ما أعرف فيكم اليوم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير قولكم : لا إله إلا الله. قال : فقلت : يا أبا حمزة ، الصلاة؟ قال : قد صليت حين تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... (٥)

وأخرج الطيالسي في المسند ، والبوصيري في مختصر الإتحاف عن أنس أنه قال : والله ما أعرف اليوم شيئاً كنت أعرفه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : يا

__________________

(١) سنن الترمذي ٤ / ٦٣٣ ، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع. قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ١٠١ ، ٢٠٨.

(٢) الموطأ ، ص ٤٢.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٦ / ٤٤٣ ، ٥ / ١٩٥.

(٤) المصدر السابق ٦ / ٤٤٣.

(٥) مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٧٠ ، شرح السنة ١٤ / ٣٩٤ ، مختصر إتحاف السادة المهرة ٢ / ٣٠٧.

١٥٥

أبا حمزة ، والصلاة؟ قال : أوليس أحْدَثتم في الصلاة ما أحدثتم؟ (١)

دلالة الحديث :

قوله : « لا أعرف شيئاً مما أدركتُ » أو « مما كنا عليه على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، يدل على أن كل معالم الدين التي جاء بها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حُرِّفت وبُدلت ، فلم يبق شيء على ما كان عليه في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى الصلاة التي يتعاهدها المسلمون كل يوم خمس مرات هي أيضاً لم تسلم من التبديل والتغيير ، وإن بقيت لها صورة الصلاة الظاهرية ، وهذا العموم استفيد من دلالة وقوع النكرة في سياق النفي في كلام أنس.

وقوله : أليس ضيَّعتم ما ضيَّعتم فيها؟

وقوله : أو لم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟

وقوله : أو ليس أحْدَثتم في الصلاة ما أحدثتم؟

كلها تدل على أن الناس أحدثوا في خصوص الصلاة ما لم يكن معروفاً في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن الحجَّاج أيضاً قد أحدث فيها ما أحدث.

ثم إن سؤال القوم عن خصوص الصلاة مع أن كلامه دال على العموم ظاهر في أن القوم كانوا يعلمون بتبدل أحكام الدين وتحريفها ، ولذلك لم يَعجَبوا من قول أنس ، ولم يسألوه عنها ، وأما الصلاة فكانوا يظنون أنها لا تزال سالمة من أي تحريف أو تغيير.

وقوله في حديث البخاري : « إلا هذه الصلاة » ، يدل على أن الصلاة سلمت نوعاً ما من التغيير ، ولم تسلم بالكلية ، بدليل قوله بعد ذلك : ( وهذه الصلاة قد ضُيّعت ).

ثم إن القوم أغفلوا أو تغافلوا عن الشطر الأول من هذه الأحاديث ، الدال على أن كل أحكام الدين قد حُرِّفت وبُدِّلت ، ووجَّهوا الأنظار إلى

__________________

(١) مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٢٧١ ، مختصر إتحاف السادة المهرة ٢ / ٣٠٧.

١٥٦

الشطر الثاني فحسب ، وهو تضييع الصلاة ، وجعلوا تضييعها تأخيرها عن وقتها ، ولأجل ذلك أدرج البخاري هذين الحديثين في كتاب مواقيت الصلاة ، باب تضييع الصلاة عن وقتها.

قال ابن حجر : المراد أنه لا يعرف شيئاً موجوداً من الطاعات معمولاً به على وجهه غير الصلاة ، وقوله : ( وهذه الصلاة قد ضُيّعت ) قال المهلب : المراد بتضييعها تأخيرها عن وقتها المستحب لا أنهم أخرجوها عن الوقت. كذا قال وتبعه جماعة.

ثم ردّه بأنه تضييع للصلاة عن وقتها الواجب ، واستدل بالأحاديث المشهورة التي تدل على أن الوليد بن عبد الملك والحجَّاج كانا يؤخّران الصلاة إلى أن يمضي وقتها (١).

إلا أن التأمل الصحيح في هذه الأحاديث يقضي بأن يكون المراد هو أن أحكام الدين التي كانت في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنها الصلاة قد تبدّلت وحُرّفت ، بدليل قوله : أو ليس أحْدَثتم في الصلاة ما أحدثتم؟ وتأخير الصلاة عن وقتها لا يسمَّى إحداثاً فيها.

ثم إن بكاء أنس بالشام لا يكون إلا لأمر عظيم جليل ، وهو تحريف أحكام الدين ، والعبث بشريعة سيد المرسلين ، وأما تأخير الولاة أو الخلفاء للصلاة فإنه لا يستدعي منه كل ذلك ، لأنه كان يرى منهم الظلم والفسق والفجور والمجون ، ولم يبكِ لشيء من ذلك ، فكيف يبكي لتأخير الصلاة عن وقتها؟!

لفت نظر :

إن أكثر الأحاديث التي مرَّ ذكرها مروي عن أنس بن مالك ، والقليل منها مروي عن أبي الدرداء ، ولعل السبب في ذلك هو أن أنس بن مالك كان من أواخر الصحابة موتاً ، فهو قد عاش إلى سنة تسعين من الهجرة ، أو ثلاث

__________________

(١) فتح الباري ٢ / ١١.

١٥٧

وتسعين على اختلاف الآراء ، وعمره تجاوز المائة أو نقص عنها قليلاً (١) ، فأدرك كثيراً من الفتن والأهواء والآراء التي حدثت بعد زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو قد رأى ما لم يرَ غيره (٢).

بعض الصحابة أحدثوا في الدين ما ليس منه :

لقد دلَّت الروايات الكثيرة على أن وقوع التحريف في أحكام الدين قد وقع من بعض صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته.

منها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، والترمذي في سننه وصحَّحه ، والنسائي في سننه ، و أحمد في المسند عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث ـ قال : ألا وإنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح : ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) (٣).

ومنها : ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يرِد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ،

__________________

(١) راجع اُسد الغابة ١ / ٢٩٦ ، تهذيب الكمال ٣ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ، النجوم الزاهرة ١ / ٢٢٤ ، تهذيب التهذيب ١ / ٣٣٠ وغيرها.

(٢) قال ابن عبد البر في الاستيعاب ١ / ١١١ : يقال إنه آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أعلم أحداً مات بعده ممن رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أبا الطفيل عامر بن واثلة.

(٣) صحيح البخاري ٦ / ٦٩ كتاب التفسير ، باب سورة المائدة ، ٦ / ١٢٢ سورة الانبياء ، ٨ / ١٣٦ كتاب الرقاق ، باب ٤٥. صحيح مسلم ٤ / ٢١٩٥ كتاب الجنة ... باب ١٤ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. سنن النسائي ٤ / ١١٧ وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ٢ / ٤٤٩. مسند أحمد ١ / ٢٣٥ ، ٢٥٣.

١٥٨

فيُحَلَّون (١) عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : يرِد عليَّ الحوض رجال من أصحابي ، فيحلّؤون عنه ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (٣).

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، وأحمد بن حنبل في المسند وغيرهما عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا فرَطكم (٤) على الحوض ، ولأُنازَعَنَّ أقواماً ثم لأُغلَبَنَّ عليهم (٥) ، فأقول : يا رب ، أصحابي أصحابي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (٦).

ومنها : ما أخرجه البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله : إني فرَطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، لَيَرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم.

قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم. فقال : أَشهدُ على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول : إنهم مني. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سُحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي (٧).

__________________

(١) أي يطردون ويبعدون.

(٢) صحيح البخاري ٨ / ١٥٠ كتاب الرقاق ، باب في الحوض.

(٣) المصدر السابق ٨ / ١٥٠.

(٤) أي سابقكم ومتقدمكم.

(٥) أي سأجادل عن أقوام رغبة في خلاصهم فلا ينفعهم ذلك.

(٦) صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٦ كتاب الفضائل ، باب رقم ٩. مسند أحمد بن حنبل ١ / ٣٨٤ ، ٤٠٦ ، ٤٠٧ ، ٤٢٥ ، ٤٥٣.

(٧) صحيح البخاري ٨ / ١٥٠. صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٣.

١٥٩

ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأحمد في المسند وغيرهم ، عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لَيَرِدَنَّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض ، حتى إذا عرفتهم اختُلِجوا دوني ، فأقول : أصحابي. فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك (١).

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي رواها حفَّاظ الحديث من أهل السنة بطرق كثيرة جداً وبألفاظ متقاربة ، وفيما ذكرناه كفاية (٢).

تأملات في هذه الأحاديث :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أقوام » يدل على كثرة من بدَّل وأحدث بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنه يستفاد كثرة ما حُرِّف في الدين وبُدِّل ، لأنه إذا كان الذين بدّلوا أقواماٌ فلا ريب في أن الذي بُدّل يكون كثيراً ، لأن ما بدَّله بعضهم لا يصح نسبته إلى غيره.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أصحابي » ظاهر في أن أولئك المبدِّلين في الدين والمحدِثين فيه هم ممن صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخالطه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارتدوا على أدبارهم القهقرى :

الارتداد : هو الرجوع ، أعم من أن يكون من الدين أو من غيره ، و إن غلب إطلاقه على الرجوع عن الدين ، وهو محتمل في هذه الأحاديث ، إلا أن قوله : « أحدثوا » ظاهر في أنهم كانوا باقين على الإسلام ، لأن المرتد عن

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ / ١٤٩. صحيح مسلم ٤ / ١٨٠٠. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٨١ ، ٥ / ٤٨ ، ٥٠.

(٢) راجع إن شئت صحيح البخاري ٨ / ١٤٨ ـ ١٥٠ ، وصحيح مسلم ١ / ٢١٧ ، ٤ / ١٧٩٤ ـ ١٧٩٦ ، سنن الترمذي ٤ / ٦١٥ ـ ٦١٦. سنن ابن ماجة ٢ / ١٠١٦. مسند أحمد ١ / ٢٥٤ ، ٤٠٢ ، ٤٣٩ ، ٤٥٥ ، ٣ / ٢٨ ، ١٠٢ ، ٥ / ٣٨٨ ، ٣٩٣ ، ٤٠٠ ، ٤١٢. صحيح ابن خزيمة ١ / ٧. مجمع الزوائد ١٠ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥. صحيح سنن ابن ماجة ٢ / ١٨٢. الموطأ ، ص ٢٣. مختصر إتحاف السادة المهرة ١٠ / ٥٩٤. مسند ابن أبي شيبة ١ / ٨٦ ، ٩٤.

١٦٠