مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

الشيخ علي آل محسن

مسائل خلافية حار فيها أهل السنة

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الميزان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤

أهل البيت هم علي وفاطمة وأبناؤهما عليهم‌السلام ، ولذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غنى عن بيانهم هنا ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أحالهم في هذه الأحاديث على ما هو معلوم عندهم ، وواضح لديهم.

ولوضوح المراد بالعترة عند القوم لا نرى في كل تلك الأحاديث سائلاً يسأل : مَن هم عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أو مَن هم أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وأما الأحاديث التي دلَّت على أن المراد بأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم علي وفاطمة وأبناؤهما عليهم‌السلام ، فهي كثيرة جداً :

منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، والترمذي في سُننه مختصراً ، وكذا الحاكم في المستدرك على الصحيحين ، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في حديث طويل : ولمَّا نزلت هذه الآية ( فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ) (١) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي (٢).

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة ، قالت : خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه مِرْط مُرَحَّل (٣) من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فدخل معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا ) (٤).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٦١.

(٢) صحيح مسلم ٤ / ١٨٧١ كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه. مسند أحمد بن حنبل ١ / ١٨٥ ، سنن الترمذي ٥ / ٢٢٥ وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح. المستدرك ٣ / ١٥٠ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

(٣) المرط : كساء من صوف ، أو من خز أو غيرهما ، والمرحل : الذي نقش فيه تصاوير الرحال.

(٤) صحيح مسلم ٤ / ١٨٨٣ كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٠١

ومنها : ما أخرجه الترمذي في سننه وحسَّنه ، والحاكم في المستدرك وصحَّحه ، والهيثمي في مجمع الزوائد وغيرهم عن أنس بن مالك وغيره : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت ( إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا ) (١).

ومنها : ما أخرجه الحاكم عن عامر بن سعد ، قال : قال معاوية لسعدبن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه : ما يمنعك أن تسب ابن أبي طالب؟ قال : فقال : لا أسُب ما ذكرت له ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم. قال : ما هن يا أبا إسحاق؟ قال : لا أسبُّه ما ذكرت حين نزل عليه الوحي فأخذ عليّاً وابنيه وفاطمة ، فأدخلهم تحت ثوبه ، ثم قال : ربِّ إن هؤلاء أهل بيتي (٢).

ومنها : ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أم سلمة ، قالت : في بيتي نزلت ( إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا ) ، قالت : فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي (٣).

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٢٢٥. قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. المستدرك ٣ / ١٥٨ ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. مجمع الزوائد ٩ / ١٦٨.

(٢) المستدرك ٣ / ١٠٨ ـ ١٠٩ ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وقال الذهبي : على شرط مسلم فقط. وأخرجه أيضاً بلفظ قريب مما مر في حديث طويل آخر ٣ / ١٣٣ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه بهذه السياقة. ووافقه الذهبي.

(٣) المستدرك ٣ / ١٤٦ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وأخرجه أيضاً في ٣ / ١٤٧ عن واثلة بن الأسقع وعن عائشة وصححه في الموضعين ووافقه الذهبي فيهما.

١٠٢

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالّة على ما قلناه (١).

ثم إن المراد من العترة ههنا هم أئمة الدين من أهل البيت النبوي ، لا كل من انتسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق فاطمة عليها‌السلام ، وقد نصَّ غير واحد من أعلام أهل السنة على أن المراد بالعترة هم العلماء لا الجهّال :

قال المناوي : قال الحكيم : والمراد بعترته هنا العلماء العاملون ، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن ، أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي عن المقام (٢).

وقال ابن حجر : ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله ، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض ، ويؤيّده الخبر السابق : « ولا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم » ، وتميَّزوا بذلك عن بقية العلماء ، لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وشرَّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة ، وقد مرَّ بعضها (٣).

أقول : وأوضح مصاديق هؤلاء العلماء من العترة النبوية الطاهرة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فإنهم الذين اتفقت الأمَّة على حسن سيرتهم ، وطيب سريرتهم ، وأجمعوا على أنهم علماء يُقتدى بهم ، وتُقتفى آثارهم ، وقد سبق الإشارة إلى ذلك فيما تقدم.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما إن تمسَّكتم بهما » يدل على أن ترك التمسُّك بهما موقع في الضلال ، لأن المشروط عدَمٌ عند عدم شرطِه.

__________________

(١) راجع مسند أحمد بن حنبل ١ / ١٨٥ ، ٣٣٠ ، ٤ / ١٠٧ ، ٦ / ٢٩٢ ، ٣٢٣. مجمع الزوائد ٩ / ١٦٦ ـ ١٧٤ ، الدر المنثور ٦ / ٦٠٣ في تفسير آية التطهير ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٩ / ٦١ ، السنن الكبرى ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٠ ، مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٢٧٤ ، خصائص أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ، ص ٣٠ ، ٤٧ ، كتاب السنة ٢ / ٥٨٨ ، مشكاة المصابيح ٣ / ١٧٣١ ، تاريخ بغداد ١٠ / ٢٧٨ وغيرها.

(٢) فيض القدير ٣ / ١٤.

(٣) الصواعق المحرقة ، ص ١٥١.

١٠٣

قال المناوي في شرح الحديث : يعني إن ائتمرتم بأوامر كتابه ، واهتديتم بهدي عترتي ، واقتديتم بسيرتهم ، فلن تضلوا. قال القرطبي : وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم ، وجوب الفرائض المؤكَّدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها ، هذا مع ما عُلِم من خصوصيتهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأنهم جزء منه ، فإنهم أصوله التي نشأ عنها ، وفروعه التي نشأوا عنه ، كما قال : فاطمة بضعة مني (١).

وقال التفتازاني : لاتّصافهم بالعلم والتقوى مع شرف النَّسَب ، ألا يُرى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قَرَنَهم بكتاب الله في كون التمسّك بهما منقِذاً من الضلالة ، ولا معنى للتمسّك بالكتاب إلا الأخذ بما فيه من العلم والهداية ، فكذا العترة (٢).

وقال الدهلوي : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إني تارك فيكم الثقلين ، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » ، وهذا الحديث ثابت عند الفريقين : أهل السنة والشيعة ، وقد عُلم منه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا في المقدمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسّك بهذين العظيمي القدر ، والرجوع إليهما في كل أمر ، فمن كان مذهبه مخالفاً لهما في الأمور الشرعية اعتقاداً وعملاً فهو ضال ، ومذهبه باطل لا يُعبأ به ، ومن جحد بهما فقد غوى ، ووقع في مهاوي الردى (٣).

أقول : والتعبير بالتمسُّك دون الإمساك يدل على قوة الاقتداء بهما وشدة اتَباعهما. وعليه فلا ينجو من الضلال من أخذ بشيء منهما ، واتّبع غيرهما وتمذهب بأي مذهب سواهما.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بهما » يدل على أن التمسّك بأحدهما غير منجٍ من

__________________

(١) فيض القدير ٣ / ١٤.

(٢) شرح المقاصد ٥ / ٣٠٣.

(٣) مختصر التحفة الأثني عشرية ، ص ٥٢.

١٠٤

الوقوع في الضلال. وبذلك يتّضح أن قول عمر : « حسْبنا كتاب الله » (١) يتنافى مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الأحاديث.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وإنهما لن يفترقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض ».

قال المناوي في شرح ذلك : وفي هذا مع قوله أولاً : « إني تارك فيكم » تلويح بل تصريح بأنهما ـ أي الكتاب والعترة ـ كتوأمين خلَّفهم ووصَّى أمته بحسن معاملتهما ، وإيثار حقّهما على أنفسهم ، واستمساك بهما في الدين ، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية والأسرار والحِكَم وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق. وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين ، فّطِيبُ العنصر يؤدي إلى حسن الأخلاق ، ومحاسنها تؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته (٢).

أقول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» دالٌّ على أن العترة لا يفترقون عن كتاب الله العزيز مطلقاً ، وعدم الافتراق يتحقق من جهات ثلاث :

الجهة الأولى : أنهم لا يفارقون القرآن في أقوالهم وفتاواهم ، فهي موافقة لمعاني القرآن الظاهرة والباطنة ، وذلك لأنهم علموا محكَمه ومتشابهه ،

__________________

(١) قاله عمر لما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب في مرضه كتاباً لا تضل به الأمة من بعده ، وهذا الحديث مروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، قال : لم اشتد بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه قال : أئتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. قال عمر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : قوموا عني ، ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين كتابه. أخرجه البخاري ١ / ٣٨ ، ٤ / ٨٥ ، ١٢١ ، ٦ / ١١ ، ٧ / ١٥٥ ، ٩ / ١٣٧ ، واللفظ له ، وأخرجه مسلم في صحيحه ٣ / ١٢٥٧ ـ ١٢٥٩ بألفاظ متقاربة ، وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند ١ / ٢٢٢ ، ٢٩٣ ، ٣٢٤ ، ٣٣٦ ، ٣٥٥ ، والحاكم في المستدرك وصححه ٣ / ٤٧٧ ، وغيرهم.

(٣) فيض القدير ٣ / ١٤.

١٠٥

وناسخه ومنسوخه ، وخاصَّه وعامَّه ، ومقيَّده ومطلقه ، ومبيَّنه ومجمَله ، فردّوا المتشابه إلى المحكم ، والمنسوخ إلى الناسخ ، والعام إلى الخاص ، والمطلق إلى المقيّد ، والمجمل إلى المبيّن.

ولولا ذلك لوقعوا في مخالفة الكتاب العزيز من حيث لا يعلمون ، فيقع بينهما الافتراق المنفي في هذا الحديث ، ويتحقق التعارض بين علامتَي الحق المنصوبتين اللتين يجب أن تكونا متّفقتين ، لأن كل واحدة منهما ينبغي أن تكون دالة على الحق ، وهذا لا يتأتّى مع حصول التعارض بينهما.

الجهة الثانية : أنهم لا يفارقون القرآن في أفعالهم وسلوكهم ، وذلك لأنهم لمَّا علموا بمعاني القرآن وفهموا مقاصده الشريفة عملوا بما فيه في جميع شؤونهم وأحوالهم ، فلا يقع منهم ما يخالفه لا عن عمد ولا عن جهل ولا عن سهو ولا غفلة. ولولا ذلك لافترقوا عنه في بعض أحوالهم ، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول عليهم بأنهم لا يفترقون عنه ولا يفترق عنهم.

الجهة الثالثة : أنهم لا يفارقون القرآن في الوجود ، فلا بد من وجود مَن يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت عليهم‌السلام في كل زمن إلى قيام الساعة ، حتى يتوجّه الحث المذكور على التمسّك بهاتين العلامتين على ممر الدهور.

قال ابن حجر : والحاصل أن الحث على التمسّك بالكتاب والسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت ، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأُمور الثلاثة إلى قيام الساعة (١).

وقال : وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : « في كل خَلَف من أُمتي عدول من أهل بيتي ... » إلى آخره (٢).

__________________

(١) الصواعق المحرقة ، ص ١٨٠. وط محققة ٢ / ٤٣٩.

(٢) الصواعق المحرقة ، ص ١٨١. وط محققة ٢ / ٤٤٢.

١٠٦

وقال المناوي : قال الشريف : هذا الخبر يُفهم وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك بهم كما أن الكتاب كذلك ، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض ، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فانظروا كيف تخلّفونّي فيهما » :

معناه : فانظروا لأنفسكم ماذا تختارون : هل تسلكون سبيل الهدى باتباع الكتاب والعترة ، أم سبيل الضلال باتباع غيرهما ، والعاقل مَن يسلك ما ينجيه ، ويبتعد عما يُرديه. وفيه إشارة إلى قوله تعالى ( قل هل من شُركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحَقُّ أن يُتَّبَع أمَّن لا يَهِدِّي إلا أن يُهْدَى فما لكم كيف تحكمون ) (٢).

ولو نظرنا إلى أئمة المذاهب وغيرهم من علماء أهل السنة لوجدنا بعضهم يلجأ في أمور الدين إلى بعض ، وكل واحد منهم يعترف بالقصور ، فتأمل في سِيَرهم وأحوالهم وأخبارهم لترى أنهم علموا شيئاً وغابت عنهم في أمور الدين أشياء وأشياء.

وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فانظروا كيف تخلفوني فيهما » إشارة إلى أن كثيراً من هذه الأمة لن يتّبع الكتاب والعترة ، كما حدث في قوم موسى فيما أخبر به الله جل وعلا ، حيث قال : ( ولما رَجَعَ موسى إلى قومه غضبان أَسِفًا قال بئسما خَلَفْتُمُوني من بعدي أَعَجِلتُم أَمْرَ ربِّكم وأَلقى الأَلواح وأَخَذَ بِرأس أَخيه يَجُرُّه إليه قال ابنَ أُمَّ إنَّ القوم استضعَفُوني وكادوا يَقتُلُونني فلا تُشْمِتْ بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظَّالمين ) (٣).

وهذا ما حدث في هذه الأمة ، فإن أكثر الناس جحدوا فضل العترة

__________________

(١) فيض القدير ٣ / ١٥.

(٢) سورة يونس ، الآية ٣٥.

(٣) سورة الأعراف ، الآية ١٥٠.

١٠٧

النبوية الطاهرة ، حتى لا يذكرهم ذاكر بما هم أهله من الذِّكْر الحسن والثناء الجميل.

قال المناوي بعد أن ذكر أن التمسّك بالعترة واجب على الأمة وجوب الفرائض المؤكَّدة التي لا عذر لأحد في تركها : ومع ذلك فقابل بنو أمية عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق ، فسفكوا من أهل البيت دماءهم ، وسَبَوا نساءهم ، وأسَروا صغارهم ، وخرَّبوا ديارهم ، وجحدوا شرفهم وفضلهم ، واستباحوا سبَّهم ولعنهم ، فخالفوا المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيّته ، وقابلوه بنقيض أمنيّته ، فواخجلهم إذا وقفوا بين يديه ، ويا فضيحتهم يوم يُعرَضون عليه (١).

أقول : إن بني أمية وبني العباس صنعوا الأفاعيل بأهل البيت عليهم‌السلام فماذا فعل أهل السنة لنصرة أهل البيت؟

تاالله إن كانت أميّةُ قد أتَتْ

قتلَ ابنِ بنتِ نبيها مظلوما

فلقد أتتْه بنو أبِيه بمثلِه

هذا لعمْرُك قبرُه مهدوما

أسِفُوا على ألا يكونُوا شا

ركوا في قتْلِه فتتبَّعوه رميما

ثم إن أهل السنة مضافاً إلى أنهم مالوا عن أهل البيت إلى سواهم ، فاتّبعوا غيرهم وقلدوهم ، فإنهم أنكروا فضل أهل البيت وجحدوهم حقوقهم ، واتّفقوا على مخالفة الأحاديث الصحيحة الدالة على فضلهم عليهم‌السلام التي رووها في كتبهم وصحَّحوها ، وهذا الحديث الذي نحن بصدد الحديث عنه ( حديث الثقلين ) مثال واضح بيَّن يُلزَمون به ، والله المستعان.

* * * * *

أحاديث أخر دالة على اتباع أهل البيت عليهم‌السلام :

لقد رووا أحاديث أُخر بمعنى حديث الثقلين تدل على لزوم اتِّباع أهل البيت عليهم‌السلام دون غيرهم ، وتنص على أن الهداية والنجاة منوطان بالتمسك بهم :

__________________

(١) فيض القدير ٣ / ١٤.

١٠٨

منها : ما أخرجه الحاكم وغيره عن أبي عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا ، فصاروا حزب إبليس (١).

أقول : إن الأُمة إذا اتبعتهم واقتفت آثارهم واقتدت بهم لا تنشعب إلى فِرَق ، ولا تنقسم إلى طوائف ، فبهم تجتمع الكلمة وتأتلف الفُرقة. وحيث أنهم مع الحق ، والحق معهم وفيهم ، يدور معهم حيثما داروا ، فمَن خالفهم خالفه ، ومن نابذهم نابذه ، فصار من حزب الشيطان ( ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ).

ومنها : ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن المنكدر في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : النجوم أمان لأهل السماء ، فإن طُمست أتى السماء ما يوَعدون ، وأنا أمان لأصحابي ، فإذا قُبِضتُ أتى أصحابي ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأمتي ، فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمتي ما يوعَدون (٢).

ومنها : ما أخرجه أحمد في الفضائل ، وابن حجر في المطالب ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، والسيوطي في الخصائص وإحياء الميت والجامع الصغير ورمز له بالحسن ، والبوصيري في مختصر الإتحاف وغيرهم عن سلمة بن الأكوع ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأمتي (٣).

قال المناوي : رواه عنه أيضاً الطبراني ومسدّد وابن أبي شيبة بأسانيد

__________________

(١) المستدرك ٣ / ١٤٩ ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

(٢) المصدر السابق ٣ / ٤٥٧ ، ٢ / ٤٤٨ ، قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٣) الجامع الصغير ٢ / ٦٨٠. مجمع الزوائد ٩ / ١٧٤. المطالب العالية ٤ / ٧٤ ، ٣٤٧. إحياء الميت ، ص ٣٧ ، ٤٥. الخصائص الكبرى ٢ / ٢٦٦. فضائل الصحابة ٢ / ٦٧١. مختصر إتحاف السادة المهرة ٩ / ٢١٠. وذكره العجلوني في كشف الخفا ٢ / ١٣٥ ، ٣٢٧. كنز العمال ١٢ / ٩٦.

١٠٩

ضعيفة ، لكن تعدد طرقه ربما يصيره حسناً (١).

ومنها : ما أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ، وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح ، والحاكم في المستدرك وصحَّحه ، والسيوطي في الخصائص وإحياء الميت والجامع الصغير ورمز له بالحسن ، وغيرُهم عن أبي ذر ، قال : سمعتُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : مثَل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، مَن ركبها نجا ، ومن تخلَّف عنها غرق (٢).

قال المناوي : « مثل أهل بيتي » زاد في رواية : فيكم ، « مثل سفينة نوح» في رواية : في قومه ، « من ركبها نجا » أي خلص من الأمور المستصعبة ، « ومن تخلف عنها غرق » ، وفي رواية : هلك. ومن ثم ذهب قوم إلى أن قطب الأولياء في كل زمن لا يكون إلا منهم. ووجه تشبيههم بالسفينة أن مَن أحبَّهم وعظَّمهم شكراً لنعمة جدِّهم ، وأخذ بهدي علمائهم ، نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلَّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في معادن الطغيان (٣).

وقال القاري في مرقاة المفاتيح : ( ألا إن مثل أهل بيتي ) أي شَبَهُهم ( فيكم مثل سفينة نوح ) أي في سببيّة الخلاص من الهلاك إلى النجاة ، ( من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك ) فكذا من التزم محبّتهم ومتابعتهم نجا في الدارين ، وإلا فهلك فيهما (٤).

__________________

(١) فيض القدير ٦ / ٢٩٨.

(٢) المستدرك ٢ / ٣٤٣ ، ٣ / ١٥٠. مجمع الزوائد ٩ / ١٦٨. مشكاة المصابيح ٣ / ١٧٤٢. الجامع الصغير ٢ / ٥٣٣. إحياء الميت ، ص ٤١ ـ ٤٢. الخصائص الكبرى ٢ / ٢٦٦. حلية الاولياء ٤ / ٣٠٦. تاريخ بغداد ١٢ / ٩١. كنز العمال ١٢ / ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٨.

(٣) فيض القدير ٥ / ٥١٧.

(٤) مرقاة المفاتيح ١٠ / ٥٥٢.

١١٠

وقال : شَبَّه الدنيا بما فيها من الكفر والضلالات والبدع والجهالات والأهواء الزائغة ببحر لجّي يغشاه موج ، من فوقه موج ، من فوقه سحاب ، ظلمات بعضها فوق بعض ، وقد أحاط بأكنافه وأطراف الأرض كلها ، وليس منه خلاص ولا مناص إلا تلك السفينة ، وهي محبة أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

أقول : لا خلاص ولا مناص إلا تلك السفينة ، وهي اتباع أهل البيت عليهم‌السلام لا محبّتهم المجرَّدة عن الاتِّباع التي لا تعصم عن الوقوع في الهلاك ، وسيأتي لهذا مزيد بيان قريباً إن شاء الله تعالى.

* * * * *

والحاصل أنه قد اتضح من كل ما تقدم بما لا يدع مجالاً للشك أن الواجب على كل مؤمن بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتمسَّك بكتاب الله العزيز وبالعترة النبوية الطاهرة ليسلك سبيل الهدى ، وينجو من سُبُل الغي والردى.

وهنا لا بد من بيان أمرين مهمّين :

الأمر الأول : أن النجاة من الضلال لا تتحقق إلا بالتمسك بكتاب الله وعترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيرهما ، وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في مقام البيان ، ولو كان أمر ثالث في البين لنصَّ عليه.

فمَن زعم أنه متمسِّك بالصحابة أو التابعين أو أئمة المذاهب من غير أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وأنه صار بسبب ذلك على الهدى والحق ، فقد ردَّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله ، ونقض حُكمه ، كما هو واضح.

الأمر الثاني : أن الواجب هو التمسك بالثقلين معاً ، والتمسّك بأحدهما دون الأخر لا ينفع في الوصول إلى الحق ، وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصَّ في حديث الثقلين المتقدم باختلاف ألفاظه على أن التمسّك بهما معاً هو

__________________

(١) المصدر السابق ١٠ / ٥٥٣.

١١١

المنجي من الوقوع في الضلال.

فمَن زعم أنه متمسك بالقرآن ، وأنه ناج من الضلال بسبب ذلك ، فهو متوهم غافل ، وذلك لأن القرآن فيه المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمبيَّن والمجمل ، وتمييز بعض ذلك عن بعضه الآخر من الأمور المشكلة التي خفيت معرفتها على علماء أكثر الطوائف ، مما سبَّب وقوع الناس في مزيد من التحير والاختلاف ، فلا مناص حينئذ من اتباع العلامة الأخرى التي يكون اتّباعها رافعاً للتحيُّر والاختلاف ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام.

والحاصل : أن الأحاديث المتقدمة دلَّت بما لا يدع مجالاً للريب على أن الناجين من كل فئات هذه الأمة هم أَتْبَاع أهل البيت عليهم‌السلام ، السائرين على نهجهم ، والآخذين بهديهم ، والمقتفين لآثارهم ، دون غيرهم من الناس ، وذلك لأنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة أن الأمة تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، فإذا كانت الفرقة الناجية هي التي تمسَّكت بالكتاب والعترة النبوية فغيرها لا بد أن يكون على ضلال ... ( فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تُصرَفون ).

شبهة وجوابها :

قد يُقال : إن أهل السنة تمسَّكوا بصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إما عملاً بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم » ، أو لأنهم عدول ، فيصح الاقتداء بهم ، ولا مانع أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جعل أكثر من علامةلهداية الأمّة ، فيكون المتمسّك بأي من العلامات المنصوبة ناجياً لا محالة.

والجواب : أن حديث ( أصحابي كالنجوم ) غير صحيح ، وقد نص جمع من أعلام أهل السنة على ضعفه وفساده.

قال ابن حجر : قال أبو بكر البزار : هذا الكلام لم يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١١٢

وقال ابن حزم : هذا خبر مكذوب موضوع باطل (١).

وقال البيهقي : هذا الحديث مشهور المتن ، وأسانيده ضعيفة ، لم يثبت في هذا إسناد (٢).

وقال أحمد بن حنبل : لا يصح هذا الحديث (٣).

وقال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجّة (٤).

وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية : وأما ما يُروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ( أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم ) فهو حديث ضعيف ، قال البزار : هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة (٥).

وضعَّفه ابن القيم في أعلام الموقعين ، والألباني في سلسلته الضعيفة ، فراجع (٦).

والحاصل أنه حديث ضعيف سنداً لا يصح أن يعارض ذلك الحديث الصحيح ، وأيضاً هو فاسد معنى ، لا يصح أن يصدر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لاستلزامه محاذير كثيرة فاسدة.

قال ابن حزم : فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلاً ، بل لا شك أنها مكذوبة ... فمن المحال أن يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم ، وفيهم مَن يُحلِّل الشيء وغيره يحرِّمه ، ولو كان ذلك لكان بيع

__________________

(١) تلخيص الحبير ٤ / ١٩١. ونقل كلام البزار أيضاً الزركشي في المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر ، ص ٨٣. وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ٢ / ٩٠.

(٢) المعتبر في تخريج أحدايث المنهاج والمختصر ، ص ٨٣.

(٣) سلسلة الأحاديث الضعيفة ١ / ٧٩ عن المنتخب لابن قدامة ١٠ / ١٩٩ / ٢.

(٤) جامع بينان العلم وفضله ٢ / ٩١.

(٥) شرح العقيدة الطحاوية ، ص ٤٦٨.

(٦) أعلام الموقعين ٢ / ٢٤٢. سلسة الأحاديث الضعيفة ١ / ٧٨ ـ ٨٤.

١١٣

الخمر حلالاً اقتداءً بسمرة بن جندب ، وحراماً اقتداءً بغيره منهم ، ولكان ترك الغُسل من الإكسال واجباً اقتداءً بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبيّ بن كعب ، وحراماً اقتداءً بعائشة وابن عمر ، وكل هذا مروي عندنا بالأسانيد الصحيحة (١).

ثم قال : فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون؟!

وقال : وإنما الفرض علينا اتّباع ما جاء به القرآن عن الله تعالى الذي شرع لنا دين الإسلام ، وما صحَّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أمره الله ببيان الدين ... (٢)

وقال في مورد آخر : وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليكم بسُنّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين » فقد علمنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأمر بما لا يُقدَر عليه ، ووجدنا الخلفاء الراشدين بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اختلفوا اختلافاً شديداً ، فلا بد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها : إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه ، وهذا ما لا سبيل إليه ، ولا يُقدَر عليه ، إذ فيه الشيء وضدّه ، ولا سبيل إلى أن يورِّث أحد الجد دون الأخوة بقول أبي بكر وعائشة ، ويورِّثه الثلث فقط ، وباقي ذلك للأخوة على قول عمر ، ويورِّثه السدس ، وباقيه للأخوة على مذهب علي. وهكذا كل ما اختلفوا فيه ، فبطل هذا الوجه ... أو يكون مباحاً لنا بأن نأخذ بأي ذلك شئنا ، وهذا خروج عن الإسلام ، لأنه يوجب أن يكون دين الله موكولاً إلى اختيارنا ، فيُحرِّم كل واحد منا ما يشاء ، ويحل ما يشاء ، ويحرّم أحدنا ما يحلّه الآخر ...

ثم قال : فإذا بطل هذان الوجهان ، فلم يبقَ إلا الوجه الثالث ، وهو أخذ ما أجمعوا عليه ، وليس ذلك إلا فيما أجمع عليه سائر الصحابة ...

أقول : فإذا أجمعوا على قول فهذا يكشف عن أنه هو الذي جاء به النبي

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ٦ / ٢٤٤.

(٢) المصدر السابق ٥ / ٦٢.

١١٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كيف لا وفيهم العترة النبوية الطاهرة التي أُمِرْنا باتباعها ، فرجعنا بالنتيجة إلى اتباع العترة النبوية دون غيرهم من الناس.

ثم قال ابن حزم : وأيضاً فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر باتباع سُنَّة الخلفاء الراشدين لا يخلو ضرورة من أحد وجهين : إما أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أباح أن يسنُّوا سُنَنَاً غير سُنَنه ، فهذا لا يقوله مسلم ، ومَن أجاز هذا فقد كفر وارتدَّ ، وحَلَّ دمه وماله ، لأن الدين كله إما واجب أو غير واجب ، إما حرام وإما حلال ، لا قسم في الديانة غير هذه الأقسام أصلاً ، فمَن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سُنَّة لم يسُنّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أباح أن يُحرِّموا شيئاً كان حلالاً على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن مات ، أو أن يُحلُّوا شيئاً حرَّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أن يوجِبوا فريضة لم يوجبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أن يُسقِطوا فريضة فرضها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يسقطها إلى أن مات ، وكل هذه الوجوه مَن جوَّز منها شيئاً فهو كافر مشرك بإجماع الأمة كلها بلا خلاف ...

وإما أن يكون أمر باتباعهم في اقتدائهم بسُنَّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهكذا نقول ، ليس يحتمل هذا الحديث وجهاً غير هذا أصلاً (١).

أقول : هذا كله إذا كان المراد بالخلفاء الراشدين هم الأربعة ، ومع التسليم بصحة الحديث فلا مناص من حمله على أن المراد بالخلفاء فيه هم الاثنا عشر ، ليحصل الالتئام والاتفاق بين كل الأحاديث : حديث الخلفاء الاثنا عشر ، وحديث الثقلين والتمسك بالعترة ، وهذا الحديث.

وبمجموع ما قلناه وما نقلناه يتّضح أنه لا دليل على صحّة اتباع أحد من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير العترة ، لا الخلفاء ولا غيرهم.

شبهة أخرى وجوابها :

قال فخر الدين الرازي : نحن معاشر أهل السنة بحمد الله ركبنا سفينة

__________________

(١) المصدر السابق ٦ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

١١٥

محبّة أهل البيت ، واهتدينا بنجم هدي أصحاب النبي (١) ، فنرجو النجاة من أهوال القيامة ودركات الجحيم ، والهداية إلى ما يوجب درجات الجنان والنعيم المقيم.

وقال القاري في بيان ذلك : وتوضيحه أن من لم يدخل السفينة كالخوارج هلك مع الهالكين في أول وهلة ، ومن دخلها ولم يهتدِ بنجوم الصحابة كالروافض ضل (٢).

والجواب : أن أهل السنة لا يحبّون أهل البيت عليهم‌السلام وإن تشدّقوا بذلك ، فإن للمحب علامات لا نجدها في أهل السنة , ويكفى في الدلالة على بغضهم لأهل البيت أن أحاديثهم مع أنها تدل على تشريك الآل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة عليه إلا أنهم أطبقوا على طرحهم منها ، فصاروا يقولون : « صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، فتركوا العمل بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأحاديث الصحيحة حيث قال : قولوا : اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ... (٣)

__________________

(١) يشير الى الحديث السابق : أصحابي كالنجوم ...

(٢) مرقاة المفاتيح ١٠ / ٥٥٣.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه ٤ / ١٧٨ ، ٦ / ١٥١ ، ٨ / ٩٥. ومسلم في صحيحه ١ / ٣٠٥ ، ومالك في الموطأ ، ص ٨٣ ، وأبو داود في سننه ٢ / ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، والنسائي في سننه ٢ / ٤٥ ـ ٤٩ ، والترمذي في سننه ٢ / ٣٥٢ ، وابن ماجة في سننه ١ / ٢٩٢ ـ ٢٩٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٧ ، ٤ / ١١٨ ، ١١٩ ، ٢٤١ ، ٢٤٤ ، والدارمي في سننه ١ / ٣٠٩ ، ٣١٠ ، وأبو عوانة في مسنده ٢ / ٢١٢ ، ٢١٣ ، والطيالسي في مسنده ، ص ١٤٢ ، والحميدي في مسنده ٢ / ٣١١ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٢ / ١٤٧ ، ١٤٨ ، وابن أبي شيبة في مسنده ١ / ٣٤٣ ، والطبراني في المعجم الصغير ١ / ٨٥ ، وابن حجر في تلخيص الحبير ١ / ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، والطحاوي في مشكل الآثار ٣ / ٧١ ـ ٧٥ ، والألباني في إرواء الغليل ٢ / ٢٤ ، وغيرهم كثير ، وهو حديث متفق عليه. قال ابن منده : حديث مجمع على صحته ( عن إرواء الغليل ٢ / ٢٥ ).

١١٦

وإذا عطفوا الآل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة ، فإنهم يعطفون عليهم الصحب ، مع أن أخبارهم لم تدل على ذلك أصلاً ، وما ذلك إلا لصرف الفضل عن آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتشريك غيرهم معهم.

ومثل هذا كثير يعرفه المتتبع ، ويطول شرحه لو أردنا استقصاءه.

ولو سلّمنا أن أهل السنة يحبون أهل البيت فالحب شيء والاتباع شيء آخر ، والأحاديث السابقة دلّت على لزوم الاتباع لتحصل النجاة ، وأما المحبة المجردة فلا تكفي ، فإن حديث الثقلين قيَّد النجاة من الضلال بالتمسك بهم ، والمحبة المجردة لا تستلزم التمسك بهم والاتباع لهم.

وأما حديث سفينة نوح فإن من ركبها نجا ، وأما من أحبّها وهو بعيد عنها فهو من الهالكين لا محالة.

والحاصل أن أهل السنة لم يركبوا سفينة أهل البيت عليهم‌السلام حتماً ، إلا أنهم لمَّا اتّبعوا نجوم الصحابة وتلك النجوم مختلفة ، بعضها في اليمين وبعضها في الشمال ، إذا أظلم عليهم الليل كيف يسيرون ، وإذا تشعّبت المسالك فأي السبل يسلكون؟ وأين يذهبون؟ وبمَ يستضيئون؟ وأي سفينة يركبون؟

ونتيجة البحث :

أن الأحاديث الثابتة الصحيحة التي رواها أهل السنة في كتبهم وصحَّحوها دلَّت بأتم وأوضح دلالة على أن مَن لم يتمسّك بأهل البيت عليهم‌السلام فهو من الهالكين ، إلا أن أهل السنة هداهم الله قد انصرفوا عن أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أُمِروا باتّباعهم ، واتّبعوا غيرهم ، فبِمَ يعتذرون عن ميلهم عن أهل البيت عليهم‌السلام؟ وبمَ يحتجّون على تمسّكهم بمذاهبهم التي لم يرد في جواز اتباعها نص؟

( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )

آل عمران : ٥٣

١١٧

(٤)

لماذا هذه المذاهب الأربعة؟

تمهيد :

لقد اختلف أهل السنة إلى مذاهب كثيرة في الفروع والأصول ، كمذهب سفيان بن عيينة بمكة ، ومذهب مالك بن أنس بالمدينة ، ومذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري بالكوفة ، ومذهب الأوزاعي بالشام ، ومذهب الشافعي والليث بن سعد بمصر ، ومذهب إسحاق بن راهويه بنيسابور ، ومذهب أحمدبن حنبل وأبي ثور ببغداد ... وغيرها.

إلا أن أكثر تلك المذاهب انقرض بين الناس ، وظلّت آراء أصحابها مدوَّنة في بطون الكتب عند أهل السنة ، وبقيت من تلك المذاهب : الأربعة المعروفة ، وهي مذهب أبي حنيفة النعمان ، ومذهب مالك بن أنس ، ومذهب محمد بن إدريس الشافعي ، ومذهب أحمد بن حنبل.

وهذه المذاهب صارت هي المذاهب التي عليها أهل السنة في كافة الأمصار منذ أن حُصر التقليد فيها إلى عصرنا الحاضر.

وهنا نسأل : هل يجوز التعبّد بهذه المذاهب الأربعة ، وهل تبرأ الذمة باتباع واحد منها أم لا؟

هذا ما سنكشف عنه النقاب في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى :

١١٨

نشأة المذاهب الأربعة :

كان الناس في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلجأون في معرفة أمور دينهم إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى مَن جعلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قِبله كأمراء أو رُسُل إلى البلاد الأخرى ، وبقي الحال على ذلك إلى أن قُبِض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما بعد زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان الناس يسألون الخلفاء خاصة والصحابة عامة لمَّا تفرَّقوا في سائر البلدان ، لأنهم كانوا أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعرفهم بأحكام دينه.

ولما جاء عصر التابعين وتابعي التابعين انقسم العلماء إلى قسمين : أهل الحديث ، وأهل الفتوى. وكثر المفتون في المدينة ومكة والشام ومصر والكوفة وبغداد وغيرها من بلاد الإسلام ، فكان العامة يسألون مَن يظهر لهم علمه ومعرفته ، دون أن يتمذهبوا بقول واحد بعينه.

إلا أن المهاترات التي وقعت بين أهل الحديث وأهل الفتوى وبالأخص أهل الرأي منهم من جهة ، مضافاً إلى تقريب الخلفاء لبعض العلماء دون البعض الآخر من جهة أخرى ، وَلَّد روح التعصّب عند الناس لبعض الفقهاء ، والحرص على الالتزام بآرائه الفقهية وطرح آراء غيره.

ولما ظهر أبو حنيفة كفقيه له آراؤه الفقهية ، استطاع أن يستقطب له تلاميذ صار لهم الدور الكبير بعد ذلك في نشر تلك الآراء ، ولا سيما القاضي أبو يوسف (١) الذي نال الحظوة عند الخلفاء العباسيين ، فتولى منصب القضاء

__________________

(١) هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، ولد في الكوفة سنة ١١٣ هـ ، ونشأ فيها ، وكان فقيراً معدما ً ، اتصل بأبي حنيفة وتتلمذ على يديه ، وفأولاه أبو حنيفة عناية خاصة ، فكان ينفق عليه وعلى عياله ، إلى أن مات أبو حنيفة سنة ١٥٠ هـ ، فأستقل برئاسة المذهب ، وتولى القضاء ، وحظي بمكانة عظيمة عند هارون الرشيد ، وهو أول من لقب بقاضي القضاة ، ونشر مذهب أبي حنيفة في الآفاق ، توفي سنة ١٨٢ هـ ، وعمره ٦٩ سنة.

١١٩

لثلاثة من الخلفاء : المهدي والهادي والرشيد ، فنشر مذهب أبي حنيفة بواسطة القضاة الذين كان يعيّنهم هو وأصحابه.

ولما بزغ نجم مالك بن أنس أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما في الموطأ ، وأمر من ينادي في الناس : « ألا لا يُفتينَّ أحد ومالك بالمدينة ». وحظي مالك بمكانة عظيمة عنده وعند مَن جاء بعده من أبنائه الخلفاء ، كالمهدي والهادي والرشيد ، فسبّب ذلك ظهور أتباع له يروّجون مذهبه ، ويظهرون التعصب له.

ثم تألَّق الشافعي وبرز على علماء عصره ، وساعده على ذلك تتلمذه على مالك في المدينة ، ونزوله ضيفاً لما ذهب إلى مصر عند محمد بن عبد الله بن الحكم الذي كانت له في مصر مكانة ومنزلة علمية ، وكان مقدَّماً عند أهل مصر ، فقام هذا الأخير بنشر علم الشافعي وبث كتبه ، مضافاً إلى ما لقيه الشافعي في بادئ الأمر من المالكية في مصر من الإقبال والحفاوة ، بسبب كثرة ثنائه على الإمام مالك ، وتسميته بـ ( الأستاذ ).

ولما وقع الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن ، وضُرب وحُبس ، مع ما أظهر من الصبر والتجلد ، جعل له المكانة عند الناس ، ولا سيما بعد أن أدناه المتوكل العباسي وأكرمه وعظَّمه ، وعني به عناية فائقة.

هكذا نشأت هذه المذاهب وانتشرت دون غيرها.

ثم إن الأغراض السياسية والمآرب الدنيوية كانت وراء دعم الخلفاء لهذه المذاهب ، فإن خلفاء بني العباس أرادوا أن يلفتوا الناس إلى علماء من أهل السنة ، لتكون لهم المكانة السامية عند الناس ، باعتبارهم أئمة في الدين ، ليصرفوا الأنظار عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين كانت نقطة التوتر بينهم هي الأولوية بالخلافة.

ولهذا كان شعراء بني العباس يثيرون هذه المسألة في مناسبات كثيرة ، يُعرِّضون فيها بأبناء علي وفاطمة عليهم‌السلام ، ويحتجون بأن الخلافة ميراث النبي

١٢٠