موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[٣٢٦٢] مسألة ٥ : معلوميّة المنفعة إمّا بتقدير المدّة كسكنى الدار شهراً والخياطة يوماً أو منفعة ركوب الدابّة إلى زمان كذا ، وإمّا بتقدير العمل (١) كخياطة الثوب المعلوم طوله وعرضه ورقّته وغلظته ، فارسيّة أو روميّة من غير تعرّض للزمان.

نعم ، يلزم تعيين الزمان الواقع فيه هذا العمل كأن يقول : إلى يوم الجمعة مثلاً وإن أطلق اقتضى التعجيل (٢) على الوجه العرفي ، وفي مثل استئجار

______________________________________________________

ويكون الخيار في الاستيفاء للمستأجر كما كان ثابتاً للمؤجّر حسبما عرفت.

وأمّا لو أنكرنا هذا المبنى والتزمنا بأنّ المالك إنّما يملك إحدى تلك المنافع على سبيل البدل لا جميعها ، إذن لا يصحّ مثل هذه الإجارة ، لأنّها إن رجعت إلى تمليك جميع المنافع فهو تمليك لما لا يملكه المالك حسب الفرض ، وإن رجعت إلى تمليك إحدى المنافع على البدل فلازمه عدم تعيين المنفعة ، وقد مرّ اعتبار معلوميّتها. ومن ثمّ صرّح قبل ذلك بعدم صحّة إجارة أحد هذين العبدين ، أو إحدى هاتين الدارين. فكيف تصحّ إجارة إحدى تلك المنافع؟! وبالجملة : فصحّة هذه الإجارة تتوقّف على القول بملكيّة جميع المنافع ملكيّة عرضيّة وهو الصحيح. وبناءً عليه تقع الإجارة على منفعة معلومة ، وهي جميع المنافع ، وتبطل على القول الآخر حسبما عرفت.

(١) فإنّ معلوميّة العوضين المعتبرة في صحّة الإجارة تتحقّق بالنسبة إلى المنفعة بأحد هذين النحوين : إمّا بتقدير الزمان ، أو بتقدير العمل حسبما ذكره (قدس سره).

(٢) فإنّ العمل إذا كان مقيّداً بزمان خاصّ كوقوعه خلال الأُسبوع مثلاً ـ

٦١

الفحل للضراب يعيّن بالمرّة والمرّتين ، ولو قدّر المدّة والعمل على وجه التطبيق (١) فإن علم سعة الزمان له صحّ ، وإن علم عدمها بطل ، وإن احتمل الأمران ففيه قولان.

______________________________________________________

وجبت رعايته وفاءً بالعقد ، وأمّا إذا أطلق ولم يعيّن ثبت طبيعيّ العمل في ذمّة الأجير ووجب تسليم هذا المال إلى مالكه في أقرب فرصة ممكنة ، كما يجب على الآخر أيضاً تسليم العوض ، ولا يسوغ لأيّ منهما التأخير إلّا إذا كان الآخر ممتنعاً ، كما هو الحال في البيع أيضاً ، فإنّه يجب التسليم من الطرفين ، عملاً بالمعاوضة المتحقّقة في البين ، ولا يناط ذلك بالمطالبة.

(١) قد يفرض أنّ المقصود من التقدير المزبور مجرّد الظرفيّة ووقوع العمل في هذا الزمان من غير أيّ غرض عقلائي في التطبيق من ناحية المبدأ والمنتهى ، بل هو في مقابل الوقوع في خارجه.

فهنا يجري ما ذكره في المتن من الصحّة مع العلم بالسعة ، والبطلان مع العلم بالعدم ، والقولين مع احتمال الأمرين.

وأُخرى يفرض تعلّق النظر بتطبيق العمل على الزمن المقرّر شروعاً واختتاماً. وقد نسب إلى بعضهم البطلان حينئذٍ مطلقاً ، نظراً إلى تعذّر حصول مثل هذا العمل غالباً ولو اتّفق أحياناً فهو نادر جدّاً.

ولكنّك خبير بعدم وضوح وجه للبطلان ، بل هو كالفرض السابق في جواز وقوع تمام العمل في تمام الزمان ، ولعلّ للمستأجر غرضاً خاصّاً في هذا التطبيق ، والمفروض أنّ المؤجر بمقتضى قبوله يرى قدرته على ذلك خارجاً بحسب عادته ، أو نوعيّة العمل ، كما لو استأجره للاستنساخ أو للكنس على أن يكون الشروع أوّل الطلوع والفراغ مقارناً للغروب باستثناء ضروريّاته.

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيفما كان ، فتارةً : يعلم سعة الزمان للعمل ، ولا ينبغي الشكّ في الصحّة حينئذٍ بعد فرض القدرة وعدم وجود ما يستوجب الفساد.

واخرى : يعلم عدم السعة ، كما لو استؤجر على ختم القرآن في ساعتين مثلاً ولا ينبغي الشكّ أيضاً في البطلان ، لعدم كون المؤجر مالكاً لمثل هذا العمل الممتنع وقوعه خارجاً حتى يملّكه للغير ، فهو نظير الإجارة على الأمر المستحيل كالجمع بين الضدّين.

وثالثة : يشكّ في السعة الموجب للشكّ في القدرة ، كما لو استؤجر على ختم القرآن في عشر ساعات ولا يدري هل في وسعه تلاوة ثلاثة أجزاء في كلّ ساعة أو لا. فبالنتيجة يشكّ في ملكيّته لهذه المنفعة كي يتمكّن من تمليكها للغير.

ففي الصحّة والبطلان حينئذٍ قولان كما أشار في المتن من غير ترجيح ، وربّما يرجع الثاني ، نظراً إلى الغرر الناشئ من الشكّ في القدرة على التسليم.

والتحقيق : هو التفصيل بين إنشاء الإجارة على سبيل الإطلاق ، وبين إنشائها معلّقة على القدرة.

فيحكم بالبطلان في الصورة الاولى ، لا من جهة الغرر ، بل من أجل عدم السبيل إلى التمليك المطلق لما لا يدري أنّه يملكه أم لا ، ضرورة أنّ الحكم بالصحّة حينئذٍ مطلقاً أي على النحو الذي أنشأه غير ممكن ، إذ على تقدير عدم القدرة لم يقع شي‌ء بإزاء الأُجرة ، فيكون تملّكها وقتئذٍ أكلاً للمال بالباطل ، فكيف يكون مثله مورداً للإمضاء؟! وأمّا الحكم بالصحّة في تقدير القدرة خاصّة فهو أمر ممكن إذا ساعده الدليل ، كما وقع نظيره في مثل بيع الصرف والسلم ، حيث قام الدليل على

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

اختصاص الصحّة بصورة القبض وإن أنشأ العقد مطلقاً ، إلّا أنّه لا دليل عليه في المقام ، لانحصاره في الأدلّة العامّة مثل وجوب الوفاء بالعقود ونحوه ، ومن المعلوم أنّها أدلّة إمضائيّة لا تأسيسيّة ، والإمضاء تابع لكيفيّة الإنشاء ، والمفروض أنّه أنشأ العقد مطلقاً فكيف يتعلّق الإمضاء بالمقيّد؟! فإنّ ما أنشأ لم يمض حينئذٍ ، وما أمضاه الشارع لم يكن مورداً للإنشاء.

وأمّا في الصورة الثانية : فلا يبعد الحكم بالصحّة ، نظراً إلى أنّ توهّم البطلان إمّا أن يستند إلى التعليق ، أو إلى الغرر ، ولا ثالث ، وكلاهما ليسا بشي‌ء :

أمّا الأوّل : فلما هو المقرّر في محلّه من اختصاص التعليق المجمع على بطلانه في العقود بما إذا لم يكن العقد معلّقاً عليه في نفسه كنزول المطر والقدوم من السفر ، وإلّا فالتصريح في متن العقد بما هو معلّق عليه على كلّ حال لا ضير فيه ، كقوله : إن كان هذا ملكي فقد بعته ، وإن كنت زوجتي فأنتِ طالق ، والمقام من هذا القبيل ، لاختصاص ملكيّة المنفعة بصورة القدرة ، فتمليكها معلّقاً عليها في قوّة التمليك بشرط كونه مالكاً المعلّق عليه صحّة العقد في نفسه ، فلا مانع إذن من الإيجار معلّقاً ، ودليل الإمضاء يرد على هذا الإيجار المعلّق.

وأمّا الثاني : فلوضوح عدم وجود أيّ غرر في البين بعد عدم كونه ملزماً بهذا العمل المشكوك قدرته عليه بمقتضى فرض تعليقه وعدم تحكيم العقد وإبرامه ، فيحاول ويشرع ، فإن تمكّن فنعم المطلوب ، وكشف وقتئذٍ عن صحّة العقد واستحقاق الأُجرة ، وإلّا وقع عمله هدراً وتعبه سُدى ، ولا ضير فيه بعد أن حصل بإرادته واختياره لا بإلزامٍ من الغير وإيقاعه في الغرور ، كيف؟! وله الانصراف قبل أن يشرع معلّلاً بالشكّ في القدرة وعدم الاطمئنان بالنتيجة ، وإنّما يتحقّق الغرر فيما إذا كان ثمّة إلزام بالعمل. فالمقام نظير من يذهب باختياره إلى الصيد ولا يدري هل يصيب أو يرجع صفر الكفّ. إذن فيقوى الحكم بالصحّة في الصورة الثانية دون الاولى ، ويكون التفصيل هو الأوجه حسبما عرفت.

٦٤

[٣٢٦٣] مسألة ٦ : إذا استأجر دابّة للحمل عليها لا بدّ من تعيين ما يحمل عليها بحسب الجنس (١) إن كان يختلف الأغراض باختلافه ، وبحسب الوزن ولو بالمشاهدة والتخمين إن ارتفع به الغرر ، وكذا بالنسبة إلى الركوب لا بدّ من مشاهدة الراكب أو وصفه ، كما لا بدّ من مشاهدة الدابّة أو وصفها حتى الذكوريّة والأُنوثيّة إن اختلفت الأغراض بحسبهما. والحاصل : أنّه يعتبر تعيين الحمل والمحمول عليه والراكب والمركوب عليه من كلّ جهة يختلف غرض العقلاء باختلافها.

[٣٢٦٤] مسألة ٧ : إذا استأجر الدابّة لحرث جريب معلوم فلا بدّ من مشاهدة الأرض أو وصفها على وجهٍ يرتفع الغرر.

[٣٢٦٥] مسألة ٨ : إذا استأجر دابّة للسفر مسافةً ، لا بدّ من بيان زمان السير من ليل أو نهار ، إلّا إذا كان هناك عادة متّبعة.

[٣٢٦٦] مسألة ٩ : إذا كانت الأُجرة ممّا يكال أو يوزن لا بدّ من تعيين كيلها أو وزنها ولا تكفي المشاهدة ، وإن كانت ممّا يعدّ لا بدّ من تعيين عددها ، وتكفي المشاهدة فيما يكون اعتباره بها.

______________________________________________________

(١) تعرّض (قدس سره) في هذه المسألة وما بعدها إلى المسألة العاشرة لعدّة فروع تتعلّق بمعرفة العوضين وتتفرّع على ما سبق من لزوم تعيّنها على وجه يرتفع الغرر والجهالة ، فلاحظها. ولا حاجة إلى التعرّض إلى كلّ منها بالخصوص فإنّ حكمها يظهر ممّا تقدّم.

٦٥

[٣٢٦٧] مسألة ١٠ : ما كان معلوميته بتقدير المدّة لا بدّ من تعيينها شهراً أو سنة أو نحو ذلك ، ولو قال : آجرتك إلى شهر أو شهرين ، بطل (١). ولو قال آجرتك كلّ شهر بدرهم مثلاً ـ (٢) ففي صحّته مطلقاً أو بطلانه مطلقاً أو صحّته في شهر وبطلانه في الزيادة فإن سكن فاجرة المثل بالنسبة إلى الزيادة أو الفرق بين التعبير المذكور وبين أن يقول : آجرتك شهراً بدرهم ، فإن زدت فبحسابه بالبطلان في الأوّل والصحّة في شهر في الثاني ، أقوال أقواها : الثاني (*) ، وذلك لعدم تعيين المدّة الموجب لجهالة الأُجرة ، بل جهالة المنفعة أيضاً ، من غير فرق بين أنّ يعين المبدأ أو لا ، بل على فرض عدم تعيين المبدأ يلزم جهالة أُخرى ، إلّا أن يقال : إنّه حينئذٍ ينصرف إلى المتّصل بالعقد. هذا إذا كان بعنوان الإجارة ،

______________________________________________________

(١) لجهالة المنفعة بعد فرض التردّد ولو كانت الأُجرة معلومة.

(٢) اختلفوا في حكم هذه الإجارة على أقوال أربعة :

فنسب إلى جماعة منهم الشيخ (١) الصحّة مطلقاً.

وإلى آخرين منهم الماتن وصاحب الجواهر (٢) البطلان مطلقاً ، بل في الجواهر : لعلّه المشهور بين المتأخّرين.

وفصّل المحقّق في الشرائع بين الشهر الأوّل فيصحّ دون ما زاد عليه (٣).

__________________

(*) لا يبعد أن يكون أقواها الثالث ، ولا سيّما إذا كان الإنشاء بالتعبير الثاني.

(١) الخلاف ٣ : ٤٩٠.

(٢) الجواهر ٢٧ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٣) الشرائع ٢ : ٢١٢.

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وقيل بالتفصيل بين مثل هذا التعبير فيبطل مطلقاً ، وبين ما لو قال : آجرتك شهراً بدرهم فان زدت فبحسابه بالصحّة في الشهر الأوّل خاصّة.

وقد استند القائل بالصحّة إلى أنّ المانع عنها إنّما هو الغرر. ولا غرر في مثل هذه الإجارة ، لأنّه كلّما يسكن فهو يعطي

بإزاء كلّ شهر درهماً ، فليس في البين أيّ مخاطرة لا بالنسبة إلى المؤجر ولا المستأجر.

كما أنّ القائل بالبطلان يستند إلى أنّ الجهالة بنفسها قادحة ولو من دون أيّ غرر كما هو الصحيح ـ (١) لاعتبار معلوميّة المنفعة كالأُجرة حسبما مرّ ، والعوضان مجهولان في المقام.

وأمّا المفصّل فهو يرى حصول التعيين في الشهر الأوّل ، والجهالة في بقية الشهور إمّا مطلقاً أو في خصوص أحد التعبيرين المتقدّمين.

وتفصيل الكلام في المقام : أنّه قد تفرض معلوميّة المدّة التي تقع فيها الإجارة ، ككون السكنى سنة واحدة مثلاً كلّ شهر بدرهم ، وهذا ممّا لا إشكال في صحّته ولم يستشكل فيه أحد ، بل هو خارج عن محلّ الكلام ، وإنّما ذكرناه استقصاءً للأقسام واستيفاءً للبحث ، إذ المنفعة عندئذٍ معلومة كالأُجرة ، لأنّه في قوّة أن يقول : آجرتك سنة باثني عشر درهماً ، فهي إجارة واحدة في الحقيقة قد حلّلها ووزّعها إلى إجارات عديدة بحساب الشهور ، نظير بيع صبرة معيّنة خارجيّة معلومة الكمّيّة وأنّها مائة مَنّ مثلاً كلّ مَنّ بدرهم ، الذي لا إشكال في صحّته ، لمعلوميّة العوضين من دون أيّ غرر أو جهالة في البين. وهذا واضح.

__________________

(١) ومنه تعرف أنّه لم يتّضح وجه اختيار الماتن البطلان هنا مطلقاً مع بنائه (قدس سره) فيما تقدّم من الشرط الأوّل من شرائط العوضين على اختصاص المنع بصورة الغرر.

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

واخرى : يفرض الجهل بالمدّة وعدم معلوميّة الأشهر ، وحينئذٍ :

فتارةً : تقع الإجارة على سبيل الإطلاق ، كما لو آجر الدار إلى آخر زمان يمكن الانتفاع بها كلّ شهر بدرهم ، أو العبد ما دام حيّاً كلّ يوم بدرهم ، بحيث كان زمان الإيجار هو تمام أزمنة بقاء العين صالحة للانتفاع بها على وجه الإطلاق والاستيعاب المعلوم عددها عند الله وإن كانت مجهولة عند المتعاملين.

وهاهنا حيث لا غرر بوجه وإنّما هناك مجرّد الجهالة المتعلّقة بالمنفعة ويتبعها بالأُجرة ، فإن كان المانع عن الصحّة منحصراً في الغرر كما ذهب إليه بعضهم لم يكن عندئذٍ وجه للبطلان ، وأمّا إذا بنينا على قادحيّة الجهالة بعنوانها وإن كانت عارية عن الغرر كما هو الأظهر استناداً إلى معتبرة أبي الربيع الشامي كما مرّ (١) فلا جرم يحكم ببطلان الإجارة لمكان الجهالة.

كما أنّ هذا هو الحال في البيع بعينه فيما لو باع الصبرة المجهولة الكمّيّة كلّ مَنّ بدرهم ، فإنّه ليس في البين ما عدا مجرّد الجهالة من دون أيّ غرر ، فإن كانت الجهالة بعنوانها قادحة بطل البيع ، وإلّا وقع صحيحاً.

وأُخرى : تقع على سبيل الإهمال ، فلا تعيين كما في الصورة الأُولى ، ولا إطلاق كما في الصورة الثانية.

وغير خفي أنّ هذا بالنسبة إلى الملتفت إلى الزمان مجرّد فرض محض يمتنع وقوعه خارجاً حتى يحكم بصحّته أو بفساده ، لما ذكرناه في الأُصول (٢) من أنّ الإهمال في الواقعيّات أمر غير معقول ، فإنّ الملتفت إلى خصوصيّةٍ ما وإلى انقسام الطبيعة بلحاظها إلى قسمين إذا أراد إنشاء حكم وضعي أو تكليفي فإمّا أن يلاحظ الدخل فمقيّد أو عدمه فمطلق ، ولا يمكن الخلوّ عن هذين في مقام

__________________

(١) في ص ٢٨.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٧٧.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الثبوت بحيث لا يلاحظ الدخل ولا عدمه ، فإنّه من ارتفاع النقيضين. نعم ، في مقام الإثبات يمكن أن لا يذكر شي‌ء من الخصوصيّتين.

وأمّا بالنسبة إلى غير الملتفت الغافل عن لحاظ خصوصيّة الزمان في مقام الإيجار ، فالإهمال منه وإن كان أمراً ممكناً إلّا أنّ ما أنشأه لم يكن له أيّ وجود خارجي على صفة الإهمال حتى في علم الله سبحانه ، ضرورة أنّ الطبيعة الموجودة إمّا أن توجد مطلقة أو مقيّدة بحصّة خاصّة ، وأمّا الجامع بين المطلق والمقيّد المعبّر عنه باللابشرط المقسمي فليس له أيّ تقرّر وتعيّن واقعي ، فكيف يمكن أن يكون ملكاً للمستأجر؟! فلا جرم يحكم ببطلان مثل هذه الإجارة.

إذن فيفرّق بين هذه الأقسام ، ففي القسم الأوّل يحكم بالصحّة بلا كلام ، وفي الثاني يبتني على أنّ المانع خصوص الغرر أو مطلق الجهالة ، وفي الثالث يحكم بالبطلان من جهة الإهمال وانتفاء التعيّن الواقعي.

هذا كلّه فيما إذا لوحظ التحديد بالقياس إلى الزمان.

وأمّا إذا لوحظ بالنسبة إلى الزماني ، كما لو حدّدت المنفعة في عقد الإجارة بمقدار السكونة فآجره كلّ شهر بدرهم ما دام يسكن الدار خارجاً ، فحينئذٍ :

قد يفرض التفاته إلى أنّ هذه السكنى محدودة بحدّ خاصّ وزمان معلوم ومعيّن واقعاً ، فيؤجر المنفعة المعلومة كمّيّتها عند الله والمعيّنة في صقع الواقع وإن كانت مجهولة عندهما ، وحكمه الصحّة أيضاً إن كان المانع الغرر فقط ، لانتفائه ، والبطلان إن كانت الجهالة بنفسها مانعة.

وأُخرى : لا يلتفتان إلى ذلك بوجه ، بل ينشئان عقد الإيجار على المنفعة على تقدير السكنى خارجاً كما هو الظاهر من مثل جملة : آجرتك كلّ شهر بدرهم. أي إذا سكنت هذه الدار أيّ مقدار من الشهور فقد آجرتكها كلّ شهر بكذا ، بحيث يكون الإيجار بمقدار السكنى ولا إجارة بدونها.

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا حكمه البطلان ، لمكان التعليق مضافاً إلى الجهالة إذ قد أناط الإجارة وعلّقها على السكونة الخارجيّة حسب الفرض ، والتعليق في العقود موجب للبطلان إجماعاً.

وقد اتّضح من جميع ما تقدّم بطلان الإجارة بالنسبة إلى ما عدا الشهر الأوّل ، إمّا للجهالة أو للتعليق ، أو لعدم التعيّن الواقعي.

وأمّا بالنسبة إلى الشهر الأوّل فيقع الكلام :

تارةً : فيما إذا تعدّد الإنشاء وإن كان أحدهما متّصلاً بالآخر ، كما إذا قال : آجرتك في الشهر الأوّل بدرهم وبعده بحسابه ، بحيث انحلّ في الحقيقة إلى إجارتين.

واخرى : فيما إذا لم يكن في البين ما عدا إنشاء واحد ، كما لو قال : آجرتك كل شهر بدرهم.

أمّا في الصورة الاولى : فلا ينبغي الشكّ في الصحّة في الشهر الأوّل ، ضرورة أنّ البطلان في البقيّة لأجل الجهالة أو الغرر أو التعليق لا يكاد يسري إلى الأوّل بعد أن أُنشئا بإنشاءين وكانت إحدى الإجارتين منعزلة عن الأُخرى. فالبطلان في إحداهما لا يستوجب البطلان في الأُخرى بعد سلامتها عن سببه وموجبه ، كما هو الحال في البيع ، مثل ما لو قال : بعتك هذه الشاة بدينار ومثلها هذا الخنزير ، فإنّ بطلان البيع الثاني لا يستوجب بطلان الأوّل بوجه وإن كان أحدهما مقروناً بالآخر ومنضمّاً به كما هو واضح جدّاً.

وعليه ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ مثل قوله : آجرتك شهراً بدرهم فإن زدت فبحسابه ، المنحلّ إلى إجارتين بإنشاءين وإن كانتا منضمّتين ، يحكم بصحّة الأُولى ، أي في الشهر الأوّل ، والبطلان في البقيّة ، للجهالة مضافاً إلى التعليق.

وأمّا في الصورة الثانية : فقد يقال بالبطلان حتى في الشهر الأوّل ، نظراً إلى

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

أنّ الإنشاء الواحد لا يتبعض من حيث الصحّة والفساد ، وبما أنّ الإجارة في بقيّة الشهور باطلة ولا أقلّ من جهة الجهالة فكذا في الشهر الأوّل.

ويندفع : بأنّ الإنشاء وإن كان واحداً إلّا أنّ المنشأ متعدّد ، ولا تنافي بين وحدة الإبراز وتعدّد المبرز ، ومن المعلوم أنّ العبرة بنفس المبرز لا بكيفيّة الإبراز ومرحلة الإثبات. فلا ضير إذن في التفكيك بعد البناء على الانحلال في أمثال المقام ، وكم له من نظير ، كبيع ما يملك وما لا يملك كالشاة والخنزير أو ما يملكه وما لا يملكه صفقة واحدة المحكوم بصحّة أحد البيعين بعد الانحلال ، غايته ثبوت الخيار للمشتري ، وكطلاق زوجتين بطلاق واحد ، فإنّه يحكم بصحّة أحدهما فيما لو كانت الأُخرى فاقدة للشرائط ، وهكذا.

وعلى الجملة : فالتفكيك والتبعيض موافق للموازين ، ومطابق لمقتضى القاعدة ، بعد أن كانت العبرة بمقام الثبوت وتعدّد الاعتبار لا بمقام الإثبات. فلا مانع إذن من التفصيل والحكم بصحّة الإجارة في الشهر الأوّل ، لتماميّة أركانها فيه ، وفسادها في البقيّة ، لخللٍ فيها من الجهالة أو التعليق حسبما عرفت.

ومن جميع ما ذكرناه يظهر لك أنّ الأظهر ما اختاره المحقّق في الشرائع من التفصيل المزبور من غير فرق بين التعبيرين المتقدّمين ، وإن كان الأمر في مثل التعبير الثاني أظهر من أجل وضوح الانحلال بعد تعدّد الإنشاء كالمنشأ.

هذا كلّه فيما إذا كان المقصود من ذينك التعبيرين الإجارة مطلقاً كما هو المفروض.

وأمّا إذا قصد الإجارة في الشهر الأوّل خاصّة ، والاشتراط في بقيّة الشهور بأن يشترط على المستأجر أنّه إن سكن الدار زائداً على شهر واحد يدفع أُجرة الزائد على غرار الشهر الأوّل من دون أن يكون تمليك فعلي للمنفعة بالإضافة إلى بقيّة الشهور ، كما لا يبعد أن يكون هذا هو الظاهر من ثاني التعبيرين ، أعني

٧١

وأمّا إذا كان بعنوان الجعالة فلا مانع منه (*) (١) ، لأنّه يغتفر فيها مثل هذه الجهالة ،

______________________________________________________

قوله : آجرتك شهراً بدرهم فإن زدت فبحسابه. فالظاهر أنّه لا مانع منه وإن كان الشرط مجهولاً ولم يعلم بمقدار السكونة الزائدة ، إذ لا دليل على قدح مثل هذا الجهل في الشرط ما لم يستوجب غرراً في المعاملة كما هو المفروض ، فيجب الوفاء به عملاً بأدلّة الشروط.

بل لا يبعد أن يكون هذا الاشتراط هو المتعارف بين الناس في أمثال هذه الإجارات ، فيعقدون الإجارة لمدّة معيّنة مشروطة بأنّه إن زاد فبحسابه ، ولا يبالون بمثل تلك الجهالة بعد سلامتها عن أيّ غرر وخطر ، فتكون الصحّة مطابقة لمقتضى القاعدة.

على أنّه يمكن استفادتها من صحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سألته عن الرجل يكتري الدابّة فيقول : اكتريتها منك إلى مكان كذا وكذا فإن جاوزته فلك كذا وكذا زيادة ، ويسمّي ذلك «قال : لا بأس به كلّه» (٢).

فإنّه إذا صحّت الإجارة مع الجهل بكمّيّة الزيادة فمع التحديد والتعيين كما في المقام حيث إنّ الزائد بحساب أنّ كلّ شهر بدرهم بطريق أولى.

وبالجملة : فمحلّ الكلام بين الأعلام في المقام هو خصوص صورة الإجارة ، وأمّا على نحو الاشتراط فلا ينبغي الاستشكال في الصحّة حسبما عرفت.

(١) قال في الجواهر ما لفظه : أمّا لو فرض بوجهٍ يكون كالجعالة بأن يقول

__________________

(١) بأن يجعل منفعة الدار لمن أعطاه درهماً مثلاً.

(٢) الوسائل ١٩ : ١١١ / كتاب الإجارة ب ٨ ح ١.

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الساكن مثلاً : جعلت لك علي كلّ شهر أسكنه درهماً ، لم يبعد الصحّة (١). ففرض (قدس سره) الجعالة من جانب المستأجر ، وأنّه يجعل للمالك على نفسه كذا على تقدير السكنى.

وهذا كما ترى لا ينطبق على ما هو المعهود من عنوان الجعالة ، حيث إنّها عبارة عن جعل الجاعل شيئاً على نفسه للفاعل بإزاء ما يصدر منه من عمل محترم. وهنا قد جعل المستأجر شيئاً على نفسه للمالك بإزاء السكنى التي هي عمل يصدر من نفس الجاعل دون المجعول له.

نعم ، يمكن تصحيحه بأن يكون الجعل بإزاء الإذن من مالك الدار الذي لا ينبغي الإشكال في أنّه عمل محترم صادر منه ، فهو بإزاء الإسكان الذي هو عمل قائم بالمالك ، لا السكنى التي هي فعل قائم بالمستأجر ، فاختلف العامل عن الجاعل.

وما عن شيخنا المحقّق في إجارته (٢) من أنّ الإسكان لا ماليّة له ، بل متعلّق بما له الماليّة وهي سكنى الدار.

غريب جدّاً ، بل لم يكن مترقّباً من مثله (قدس سره).

وكيفما كان ، فما ذكره في الجواهر من افتراض الجعالة من جانب المستأجر لا يمكن تطبيقه على القاعدة وإن أمكن تصويره على النحو الذي عرفت.

هذا ، والظاهر من عبارة الماتن افتراض الجعالة من جانب المؤجر لا المستأجر ، فيجعل على المستأجر شيئاً بإزاء سكناه. والكلام في تصوير ذلك من هذا الجانب :

فقد علّق شيخنا الأُستاذ (قدس سره) في المقام بما نصّه : حيث لا خفاء في

__________________

(١) الجواهر ٢٧ : ٢٣٥.

(٢) ص ٦٩.

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تقوّم الجعالة بأن يكون تعيين الجعل والالتزام به ممّن يبذله دون الطرف الآخر ، وأن يكون بإزاء عمل محترم دون منافع الأموال ، فكون المعاملة المذكورة أجنبيّة عنها ظاهر (١).

وملخّصه : أنّه يعتبر في الجعالة كما مرّ فرض عمل محترم من العامل وأن يلتزم الجاعل بشي‌ء على نفسه إزاء هذا العمل ، وفي المقام لم يجعل المؤجر شيئاً على نفسه لتتحقّق الجعالة من قبله ، بل جعل لنفسه شيئاً على غيره قبال ما يستوفيه الغير من المنافع ، فهو يأخذ الأُجرة بإزاء ما يعطيه من المنفعة ، وأين هذا من الجعالة؟! وبالجملة : تتقوّم الجعالة بأمرين : فرض عمل محترم من شخص ، وجعل الباذل شيئاً على نفسه بإزاء هذا العمل ، فيقول : من ردّ عليّ ضالّتي فله علي كذا. وفي المقام لا يتحقّق ذلك ، بل الذي يتحقّق هو أخذ المؤجر شيئاً بإزاء ما يستوفيه المستأجر من المنافع.

أقول : الظاهر أنّ الماتن (قدس سره) يريد بذلك أنّ المالك يجعل شيئاً على نفسه وهو المنفعة لمن يعمل له عملاً وهو بذل الدرهم مثلاً فيجعل منفعة الدار لمن أعطاه الدرهم ، فالذي يلتزم به الجاعل وهو المؤجر تسليم المنفعة ، والذي يصدر من العامل هو دفع الدرهم ، فالعمل هو إعطاء الدرهم ، والجعل هو منفعة الدار ، ولا ريب أنّ الإعطاء المزبور عمل محترم ، فلاحظ وتدبّر (٢).

__________________

(١) تعليقة النائيني على العروة الوثقى ٥ : ١٨ (تحقيق جماعة المدرسين).

(٢) فإنّ هذا وإن أمكن ثبوتاً إلّا أنّ استفادته من تلك العبارة التي هي محلّ كلام الماتن ومورد اعتراض المعلّق أعني قوله : آجرتك كلّ شهر بدرهم في غاية الإشكال. وقد أجاب دام ظلّه بأنّ الكلام في مقام الثبوت أوّلاً ويمكن استفادته من تلك العبارة أيضاً ثانياً ، فتدبّر جيّداً.

٧٤

وكذا إذا كان بعنوان الإباحة بالعوض (١).

______________________________________________________

السلطنة تخصيص الإباحة بمن يبذل له عوضاً معيّناً فيبيح السكونة في الدار لخصوص من يعطي عن كلّ شهر درهماً مثلاً.

ولكن شيخنا الأُستاذ (قدس سره) ناقش فيه في الهامش بما لفظه : إنّ عوضيّة المسمّى تتوقّف على عقد معاوضة صحيحة ، وإلّا كان ما أباحه المالك بعوضه مضموناً بالمثل أو القيمة دون المسمّى (١).

(١) وحاصله : أنّه ما لم يفرض وقوع عقد صحيح لا يتعيّن المسمّى في العوضيّة ، بل يكون ما أباحه مضموناً بالمثل أو القيمة ، فيضمن الساكن في المقام اجرة المثل لا ما عيّنه من المسمّى.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتّجه لو أُريد عوضيّة المسمّى على نحو الملكيّة بأنّ يكون الطرف المبيح مالكاً لهذا العوض ومطالباً إيّاه الطرف الآخر على حدّ مطالبة الملّاك أموالهم في باب المعاوضات ، فإنّ هذه المالكيّة لا تكاد تتحقّق إلّا بعد افتراض وقوع عقد صحيح كما أفاده (قدس سره).

إلّا أنّ الكلام لم يكن في ذلك ، بل في تصحيح هذه المعاملة على وجهٍ يصحّ للطرف الآخر السكنى منوطاً بدفع المسمى ، وهذا المقدار لا يتوقّف على ما ذكره (قدس سره) من فرض العقد الصحيح ، بل يكفي فيه ما عرفته في تفسير الإباحة من أنّ المبيح بمقتضى عموم سلطنة الناس على أموالهم ربّما لا يبيح المنفعة لكلّ أحد أو لهذا الشخص على سبيل الإطلاق ، بل لطائفة خاصّة وهم

__________________

(١) تعليقة النائيني على العروة الوثقى ٥ : ١٨ (تحقيق جماعة المدرسين).

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الذين يبذلون هذا العوض الخاصّ ، أو لهذا الشخص في تقدير دفع العوض المعيّن وهو عن كلّ شهر درهم بحيث لا يرضى بالتصرّف في تقدير عدم دفع هذا المبلغ المعيّن ، بل يكون غاصباً وقتئذٍ ضامناً للقيمة لا محالة.

ومن الواضح أنّ الإباحة بالعوض بهذا المعنى واقع في الخارج كثيراً ، كما في الحمّامي ، حيث إنّه يبيح البقاء وصرف الماء على الوجه المتعارف لكلّ داخل باذل لمبلغ معيّن بحيث تكون الإباحة مشروطة به ، فلو أعطى هذا المقدار الخاصّ كشف عن الإذن من الأوّل ، وإلّا فعن عدمه كذلك ، وبطبيعة الحال يكون عندئذٍ غاصباً ضامناً لُاجرة المثل.

وكما في الماء الذي يوضع في المسجد مباحاً تصرّفه لخصوص من يصلّي جماعة أو يصلّي في المسجد.

والحاصل : أنّ المالك مسلّط على ماله له الإباحة المطلقة ، أو لطائفة خاصّة بمقتضى القاعدة ، فله أن يبيح سكنى الدار مشروطاً بدفع هذا المقدار ، ولا يسوغ التخطّي عمّا سمّاه ، للزوم الجري على طبق إذنه ورضاه.

نعم ، في صورة الإباحة وكذا ما تقدّم من الجعالة ليس في البين أيّ إلزام أو التزام من أيّ من الطرفين ، فليس للمالك أن يجبر الساكن بالسكنى ، كما ليس للساكن إلزام المالك بذلك ، بل لكلّ منهما رفع اليد ، فلا يقاسان بالإيجار الذي يملّك فيه أحدهما شيئاً على الآخر يستوجب مطالبته إيّاه وإلزامه بالدفع كما هو واضح.

٧٦

[٣٢٦٨] مسألة ١١ : إذا قال : إن خطت هذا الثوب فارسياً أي بدرز فلك درهم ، وإن خطته روميّاً أي بدرزين فلك درهمان ، فإن كان بعنوان الإجارة بطل (*) (١) ، لما مرّ من الجهالة (**)

______________________________________________________

(١) لا لما ذكره (قدس سره) من الجهالة ، لعدم اطّرادها في تمام الفروض كما لا يخفى.

بل لامتناع تحقّقها في المقام على نحو يملك المستأجر العمل والمؤجّر البدل ، وتجوز لكلّ منهما مطالبة الآخر على ما هو الحال في بقيّة الإجارات الصحيحة.

وذلك لأجل أنّ هذه الإجارة قد يفرض انحلالها إلى إجارتين متقارنتين على عملين باجرتين كلّ منهما في عرض الأُخرى ، فيستأجر الخيّاط لخياطة هذا الثوب في هذا اليوم خياطة فارسيّة بدرهم ، وفي عين الوقت يستأجره لخياطته فيه روميّة بدرهمين.

ولا ينبغي الشكّ حينئذٍ في بطلان كلتا الإجارتين ، لعدم قدرة الأجير على الجمع بين هاتين المنفعتين المتضادّتين في وقت واحد ، فوجوب الوفاء بهما متعذّر ، ومعه لا يمكن الحكم بصحّتهما معاً. وحيث إنّ ترجيح إحداهما على الأُخرى بلا مرجّح فلا مناص من الالتزام ببطلانهما معاً.

__________________

(*) هذا في المتباينين ، وأما في الأقل والأكثر كما هو مفروض المثال فيمكن تصحيح الإجارة بالإضافة إلى الأقل ، ويشترط الزيادة بالنسبة إلى الأكثر.

(**) إذا كانت الإجارة واحدة وكان متعلقها مردداً بين أمرين فالبطلان من جهة إبهام المتعلق وعدم تعينه حتى في الواقع ، وأما إذا كانت متعددة وكان متعلق كل منهما معلوماً فلا جهالة ، ولكنها مع ذلك باطلة لاستحالة صحّتهما معاً وترجيح إحداهما على الأُخرى بلا مرجح. ،

٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ونظيره ما لو آجر نفسه لخياطة هذا الثوب في يوم معيّن وآجره وكيله في نفس الوقت لخياطة ثوب آخر في نفس ذلك اليوم بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، أو زوّجت المرأة نفسها من زيد وزوّجها في نفس الوقت وكيلها من عمرو ، أو باع ماله من زيد وباعه وكيله من عمرو. وهكذا الحال في كلّ عقدين متضادّين متقارنين ، فإنّهما محكومان بالبطلان بمناط واحد ، وهو امتناع الجمع وبطلان الترجيح من غير مرجّح ، وهذا واضح.

وأُخرى : يفرض تعلّقها بأحد هذين العملين مردّداً بينهما ، والظاهر بطلانه أيضاً ، لا لأجل الجهالة ، بل لأجل أنّ أحدهما المردّد لا تعيّن له حتى في صقع الواقع ، فلا يملكه الأجير حتى يملّكه للمستأجر ، فإنّ ما يقع في الخارج إمّا هذا معيّناً أو ذاك ، إمّا بصفة الترديد فلا تحقّق له في وعاء الخارج بتاتاً.

والتصدّي للتصحيح بإعطاء لون من التعيين ولو بالإشارة الإجماليّة بأن تقع الإجارة على أحدهما المردّد عندهما المعلوم في علم الله أنّ الأجير سيختاره خارجاً ، ضرورة أنّ ذاك الفرد الخاصّ متعيّن فعلاً في غامض علم الله وإن كان مجهولاً عند المتعاملين ، فلدى تحقّقه خارجاً ينكشف أنّ هذا الفرد كان هو مورد الإجارة ومصبّها ولم يكن ثمّة أيّ غرر بعد تقرّر أُجرة معيّنة لمثل هذا العمل حال العقد حسب الفرض.

غيرُ نافع وإن أمكن تصوير التعيين بما ذكر ، إذ فيه مضافاً إلى الجهالة القادحة بعنوانها وإن كانت عارية عن الغرر كما مرّ ، ضرورة أنّ المنفعة بالآخرة مجهولة فعلاً كالأُجرة ـ : أنّ العمل المستأجر عليه لا تعيّن له لدى التحليل حتى بحسب الواقع وفي علم الله سبحانه ، وذلك لأنّ من الجائز أنّ الخيّاط لا يخيط هذا الثوب أصلاً ولم يصدر منه العمل في الخارج بتاتاً ، فعندئذٍ لا خياطة رأساً لكي يعلم بها الله سبحانه ، فإنّ علمه تابع للواقع ، وإذ لا خياطة فلا واقع ،

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومعه لا موضوع لعلم الله سبحانه حتى يتحقّق به التعيّن الإجمالي المصحّح للعقد ، فما الذي يملكه المستأجر وقتئذٍ؟!

وعليه ، فصحّة هذا العقد تتوقّف على فرض وقوع الخياطة خارجاً حتى تخرج حينئذٍ عن الإبهام والترديد إلى التعيين وتكون مملوكة للمستأجر ، ومن الواضح البديهي أنّ هذا المعنى منافٍ لصحّة الإجارة ، ضرورة أنّ الصحّة هي التي تستوجب إلزام الأجير بالعمل وفاءً بالعقد ، فكيف يكون العمل كاشفاً عنها؟! ومن المعلوم أنّه لا سبيل إلى الإلزام في المقام نحو أيّ من العملين ، فليس للمستأجر أن يلزم الأجير بالخياطة الفارسيّة بخصوصها لعدم وقوعها خارجاً حتى يستكشف ملكيّته لها ، وكذا الروميّة ، والإلزام بالجامع فرع الصحّة المتوقّفة على العمل خارجاً حسبما عرفت ، فليس له مطالبة الأجير بأيّ شي‌ء.

وملخّص الكلام : أنّه إذا كانت الإجارة واحدة فلا بدّ وأن تكون المنفعة معلومة ، وليس في المقام ما يستوجب معلوميّتها ولو في علم الله. ومعه لا مناص من الحكم بالبطلان.

لكن هذا يختصّ بما إذا كان العملان المتضادّان متباينين ، كما لو قال صاحب البستان : إن سقيت البستان اليوم فلك درهم ، وإن بنيت جداره فلك درهمان. ولا يتمكّن الأجير من الجمع بينهما ، فإنّه يجري فيه حينئذٍ جميع ما عرفت.

وأمّا إذا كان من قبيل الأقلّ والأكثر ، كالمثال المذكور في المتن من الخياطة المردّدة بين الدرز والدرزين ، فيمكن تصحيحه بتعلّق الإجارة بالأقلّ (١) متعيّناً ويشترط عليه أنّه إن زاد فله درهم آخر لتلك الزيادة ، كما قد يتّفق ذلك

__________________

(١) كما يمكن دعوى التعلّق بالأكثر متعيّناً واشتراط نقص الأُجرة إن كانت الخياطة فارسيّة.

٧٩

وإن كان بعنوان الجعالة كما هو ظاهر (١) العبارة صحّ ، وكذا الحال إذا قال : إن عملت العمل الفلاني في هذا اليوم فلك درهمان وإن عملته في الغد فلك درهم ،

______________________________________________________

بالنسبة إلى الأفعال الخارجيّة ، فيقول الأجير : إن كنست هذه الغرفة فلك درهم وإن كنست الأُخرى فلك درهم آخر. فإنّ مرجعه إلى الإيجار على كنس غرفة واحدة بدرهم وشرط درهم آخر على تقدير الزيادة ، أو أن يكون ذلك على نحو الجعالة ، نظير ما مرّ من قوله : آجرتك شهراً بدرهم وإن زدت فبحسابه.

وبالجملة : فالظاهر أنّ المثال المذكور في المتن لا ينطبق على الكبرى الكلّيّة من الإيجار على إحدى المنفعتين المتضادّتين ، وإنّما ينطبق عليها مورد التباين لا الأقلّ مع الأكثر حسبما عرفت ، فإنّ الإيجار يقع حينئذٍ على الأقلّ قهراً ويكون الأكثر على سبيل الاشتراط.

(١) بل لا يبعد أن يكون الظاهر من مثل تلك العبارة الدائرة بين الأقلّ والأكثر الوقوع بعنوان الإجارة على طبيعيّ العمل المنطبق قهراً على الأقلّ ، ولحاظ الأكثر على سبيل الاشتراط حسبما مرّ.

وكيفما كان ، فلا إشكال في الصحّة لو كان المقصود عنوان الجعالة بجعل جعلين على عملين وإنشاء جعالتين مقارنتين والعامل بعمله الخارجي يختار أحدهما فيستحقّ بعدئذٍ الأُجرة ، ولا تضرّ الجهالة في باب الجعالة كما هو واضح.

وقد عرفت الصحّة بعنوان الإجارة أيضاً في خصوص ما إذا كانا من قبيل الأقلّ والأكثر كالمثال المزبور ، لا ما إذا كانا متباينين ، كما لو قال : إن خطت هذا جبّة فدرهمان ، وإن خطته قباءً فدرهم واحد. فإنّه لا مناص في مثله من

٨٠