موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

والصحيح في وجه الاشتراط أن يقال : إنّ أدلّة صحّة العقود ووجوب الوفاء بها قاصرة عن الشمول للمقام ، إذ لا يراد من صحّة العقد مجرّد الحكم بالملكيّة ، بل التي تستتبع الوفاء ويترتّب عليها الأثر من التسليم والتسلّم الخارجي ، فإذا كان الوفاء محرّماً والتسليم ممنوعاً فأيّ معنى بعد هذا للحكم بالصحّة؟! أفهل تعاقدا على أنّ المنفعة تتلف بنفسها من غير أن يستوفيها المستأجر ، أم هل ترى جواز الحكم بملكيّة منفعة لا بدّ من تفويتها وإعدامها وليس للمؤجّر تسليمها للمستأجر لينتفع بها؟!

وعلى الجملة : صحّة العقد ملازمة للوفاء بمقتضى قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) ، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم بطبيعة الحال ، فأدلّة الوفاء ونفوذ العقود لا تعمّ المقام ، ومعه لا مناص من الحكم بالبطلان.

هذا ما تقتضيه القاعدة.

ويدلّ عليه من الروايات : ما رواه الشيخ بإسناده عن عبد المؤمن ، عن صابر (جابر) ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه (فيها) الخمر «قال : حرام أجره» (٢).

أمّا من حيث السند فالظاهر أنّها معتبرة ، إذ المذكور في الوسائل وإن كان «صابر» ولم يوثّق ، ولكن المذكور في موضع من التهذيب مع لفظة «صابر» كلمة «جابر» بعنوان النسخة ، وهو جابر الجعفي الذي أدرك الصادق (عليه السلام) ، لا جابر بن عبد الله الأنصاري ، فإنّه لم يدركه (عليه السلام) والأوّل هو جابر ابن يزيد الجعفي الذي هو ثقة ومن أصحاب الصادق (عليه السلام) وله عنه

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٣٩ ح ١ ، الكافي ٥ : ٢٢٧ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٣٤ / ٥٩٣ و ٦ : ٣٧١ / ١٠٧٧ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ / ١٧٩.

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

(عليه السلام) روايات.

والمذكور في موضع آخر من التهذيب والاستبصار وكذا الكافي هو «جابر» من دون ضمّ «صابر» حتى بعنوان النسخة. فمن ثمّ يُطمأنّ أنّ الراوي إنّما هو جابر ، وأنّ كلمة «صابر» غلط من النسّاخ ، ولعلّهم لم يقدروا على قراءة الكلمة فضبطوها بالكيفيّتين.

وكيفما كان ، فلا شكّ أنّ الكافي أضبط سيّما مع اعتضاده بالاستبصار وبموضع آخر من التهذيب ، ولا ندري لماذا اقتصر

في الوسائل على ضبط «صابر»؟! وكان ينبغي عليه ضمّ جابر ولو بعنوان النسخة ، ولعلّها مذكورة في بعض نسخها الأُخر.

وعلى أيّ تقدير فالسند معتبر.

وأمّا الدلالة : فقد رويت في الكافي والاستبصار وموضع من التهذيب هكذا : يؤاجر بيته يباع فيه الخمر. الظاهر في وقوع الإجارة لهذه الغاية وبعنوان المنفعة المحرّمة ، وقد دلّت على الحرمة الملازمة للبطلان ، فتكون حينئذٍ مطابقة لمقتضى القاعدة حسبما عرفت.

ولكنّها رويت في موضع آخر من التهذيب كما في الوسائل بلفظة : فيباع ، إلخ ، مع «الفاء» الظاهر في أنّ بيع الخمر أمر اتّفاقي ، لا أنّ الإجارة وقعت عليه.

ولا إشكال في الصحّة حينئذٍ كما نطقت به صحيحة ابن أُذينة ، قال : كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير «قال : لا بأس» (١).

فيكون حال ذلك حال بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً ، الذي

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٣٩ ح ٢.

٤٢

السادس : أن تكون العين ممّا يمكن استيفاء المنفعة المقصودة بها (١) ، فلا تصلح إجارة أرض للزراعة إذا لم يمكن إيصال الماء إليها مع عدم إمكان الزراعة بماء السماء أو عدم كفايته.

السابع : أن يتمكّن المستأجر من الانتفاع بالعين المستأجرة ، فلا تصحّ إجارة الحائض لكنس المسجد مثلاً (٢).

______________________________________________________

لا إشكال في جوازه بمقتضى القاعدة المعتضدة بالنصّ والفتوى.

لكن النسخة الأُولى المطابقة للكافي أرجح ، لأنّها أضبط ، فتتمّ الدلالة كالسند. ومن الواضح جدّاً عدم خصوصيّة للخمر ولا للبيع ، فيستفاد منها بطلان الإجارة أيضاً لمطلق المنافع المحرّمة ، فلاحظ.

(١) لعدم تعلّق الملكيّة بمنفعة غير قابلة للتحقّق خارجاً حتى تقع مورداً للتمليك المعتبر في مفهوم الإجارة ، ففي الحقيقة يعدّ هذا من مقوّمات الإجارة لا من شرائطها.

(٢) أي في زمان حيضها.

وفي تعليقة شيخنا الأُستاذ (قدس سره) : أنّ هذا المثال قد خرج باشتراط مملوكيّة المنفعة وإباحتها (١).

وفيه : أنّ الكنس بما هو لا حرمة فيه ، وإنّما الحرام مقدّمته وهو المكث المتوقّف عليه الكنس ، ومن الضروري انّ حرمة المقدّمة لا تسري إلى ذيها ، وإن وقع الكلام في عكسه وأنّ حرمة ذي المقدّمة هل تستوجب تحريم المقدّمة أو لا ، أو أنّ فيه تفصيلاً حسبما هو مذكور في محلّه؟ فالكنس في نفسه منفعة

__________________

(١) تعليقة النائيني على العروة الوثقى ٥ : ١١ (تحقيق جماعة المدرسين).

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

محلّلة مملوكة ، ومن ثمّ لو أُجبرت الحائض عليه ضَمِنَ المكرِه اجرة المثل بلا إشكال ، لأنّه استوفى منها عملاً محترماً وإن حرمت مقدّمته ، فلو كان حراماً في نفسه لم يكن ضامناً ، لعدم ضمان الأعمال المحرّمة كما سبق.

وبالجملة : فالشرط السابق أعني الإباحة أو المملوكيّة لا يكاد يغني عن هذا الشرط ، لعدم رجوعه إليه بوجه.

وقد يقال في وجه اعتبار هذا الشرط : إنّ عدم التمكّن من الانتفاع لمانع شرعي كالحيض يجعل المنفعة متعذّرة التسليم ، إذ الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ، وقد تقدّم اعتبار القدرة على التسليم في صحّة الإجارة التي لا فرق فيها بين القدرة التكوينيّة والتشريعيّة.

ويندفع : بأنّ هذا إنّما يتّجه لو كانت القدرة على التسليم بعنوانها شرطاً ، وليس كذلك ، بل المستند فيه : إمّا الغرر كما عن غير واحد حسبما مرّ ، أو ما ذكرناه من أنّ المنافع إذا كانت متعذّرة التسليم وهي تتلف شيئاً فشيئاً فالعقلاء لا يعتبرون الملكيّة بالإضافة إليها كي يصحّ تمليكها بالإجارة. وشي‌ء من الوجهين غير جارٍ في المقام :

أمّا الغرر : فواضح ، لجواز فرض الحائض غير مبالية بأمر الدين ، فأيّ غرر بعد عدم امتناعها من دخول المسجد؟! وأمّا تلف المنافع شيئاً فشيئاً : فهو مختصّ بالتعذّر التكويني ولا يجري في التشريعي. فلو فرضناها غير مبالية بالدين فدخلت المسجد وكنست فلما ذا لا تكون هذه المنفعة مملوكة بعد أن كانت محلّلة ومقدورة التسليم تكويناً؟! وهذا المقدار كافٍ في صحّة الإجارة. إذن فلا بدّ في الحكم بالبطلان من التماس دليل آخر.

والصحيح في وجه هذا الاشتراط ما تقدّم في نظيره في الشرط الخامس من

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم قبول هذه المعاملة للإمضاء بالأدلّة العامّة ، لأنّها إن كانت ممضاة على النحو الذي أُنشئت أي بصفة الإطلاق المستلزم لتجويز دخول الحائض المسجد لزم منه الترخيص في المعصية وفاءً بالعقد. وهو كما ترى.

وإن كان الإمضاء مترتّباً على الدخول فكانت الصحّة معلّقة على المعصية كما في موارد الترتّب في التكليفيّات فهذا وإن كان ممكناً في نفسه إذا ساعده الدليل في مورد كما في بيع الصرف والسلف حيث خصّ الشارع الصحّة بصورة القبض خاصّة وإن كانت المعاملة مطلقة ، إلّا أنّ الكلام في الإمضاء المستند إلى الإطلاقات والأدلّة العامّة ، مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) ونحو ذلك ممّا وردت بعنوان الإمضاء لا التأسيس ، فهي تدلّ على إمضاء المعاملة على النهج الذي وقعت عليه ، والمفروض أنّها أُنشئت بصفة الإطلاق ، فكيف تختصّ الصحّة والإمضاء بتقديرٍ دون آخر؟! فالدليل قاصر في مرحلة الإثبات.

هذا إذا كانت الإجارة مطلقة.

وأمّا إذا كان إنشاؤها معلّقاً على تقدير العصيان ودخول المسجد لزم منه التعليق المجمع على بطلانه في العقود.

والحاصل : أنّ صحّة العقد تستلزم الوفاء به ، إذ لا معنى للحكم بصحّة الإجارة في المقام ، ومع ذلك تمنع عن دخول المسجد إلى أن تتلف المنفعة شيئاً فشيئاً ، فإنّ هذا ممّا لا محصّل له ، فانتفاء اللازم يكشف طبعاً عن انتفاء الملزوم ، والحكم بالوفاء هنا مطلقاً غير ممكن ، ومقيّداً لا دليل عليه ، ومعلّقاً مبطل حسبما عرفت.

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

٤٥

[٣٢٥٨] مسألة ١ : لا تصحّ الإجارة إذا كان المؤجر أو المستأجر مكرهاً عليها (١) ، إلّا مع الإجازة اللاحقة (٢) ، بل الأحوط عدم الاكتفاء بها ، بل تجديد العقد إذا رضيا.

______________________________________________________

(١) لا لحديث رفع التسعة (١) التي منها : ما استكرهوا عليه ، لضعف سنده وإن وصفه شيخنا الأنصاري في الرسالة بالصحّة (٢) ، نظراً إلى أنّ أحمد بن محمّد ابن يحيى الذي هو شيخ الصدوق ويروي عنه لم يوثّق.

نعم ، في الخصال رواها عن محمّد بن يحيى (٣) نفسه بلا وساطة ولده أحمد ، ولكن فيه سقطاً جزماً ، لعدم إمكان رواية الصدوق عنه ، فإنّ ابن يحيى هو شيخ الكليني ، والفصل بينه وبين الصدوق كثير بمثابة لا يمكن روايته عنه بلا واسطة ، فهو يروي عنه بواسطة ابنه أحمد ، وقد عرفت أنّه لم يوثق.

بل لروايات اخرى معتبرة (٤) دلّت على رفع ما استكرهوا عليه ، ومقتضاها أنّ العقد الواقع عن كره لا أثر له وفي حكم العدم ، فلا جرم يحكم ببطلانه.

(٢) لا ريب في لزوم حصول بعض الشرائط حال العقد كمعلوميّة العوضين ، فلا يكفي ارتفاع الجهالة بعده ، فهل الرضا أيضاً كذلك ، أو أنّه يكتفى بالإجازة

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٢٧.

(٣) الخصال : ٤١٧ / ٩.

(٤) الوسائل ٢٣ : ٢٣٧ / أبواب الأيمان ب ١٦ ح ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦.

ووجه الاعتبار : أنّ كتاب نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى الذي هو مصدر هذه الأحاديث من الكتب المعتمدة ، كما نصّ عليه صاحب الوسائل في ج ٣٠ ص ١٦٢ / ١٩.

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

اللاحقة؟

تبتني هذه المسألة على التكلّم في كبرى كلّيّة ، وهي أنّ صحّة الفضولي هل هي على طبق القاعدة من غير حاجة إلى قيام دليل عليها بالخصوص ، أو أنّها مخالفة لها يقتصر على مقدار قيام الدليل؟

فعلى الأوّل يحكم بالصحّة في الإجارة أيضاً ، بخلافه على الثاني ، لاختصاص الأدلّة بالبيع ، فتحتاج صحّة الإجارة إلى عقد جديد.

هذا ، وقد ذكرنا في محلّه أنّ الأظهر هو الأوّل ، نظراً إلى أنّ الرضا لا يقاس بسائر الشروط ، إذ هو كما يتعلّق بالأمر الحالي كذلك يتعلّق بالاستقبالي والأمر الماضي بنمط واحد ، ولا يعتبر في صحّة العقد ما عدا وجوده وكونه عن رضا المالك ، وأمّا لزوم حصول الرضا حال صدور العقد فلم يدلّ عليه أيّ دليل.

وعليه ، فمتى تحقّق الرضا وصدرت الإجازة من المالك صحّ انتساب العقد السابق إليه فعلاً ، فيقال : إنّ زيداً باع ماله أو وهبه ، وإن كان البيع أو الهبة واقعاً في الزمن السابق ، فإذا كان العقد السابق قابلاً للانتساب إليه فعلاً فلا جرم تشمله إطلاقات أدلّة الصحة والنفوذ ووجوب الوفاء بالعقود ، فإنّها وإن لم تشمله قبل الرضا لعدم كون العقد عقده إلّا أنّه بعد لحوق الرضا الموجب لصحّة الإسناد والانتساب يندرج تحت الإطلاق بطبيعة الحال ، فيحكم بصحّته من دون فرق بين موارده من البيع أو الإجارة ونحوهما ، لاتّحاد المناط في الكلّ ، فمن ثمّ كانت صحّة العقد الفضولي مطابقة لمقتضى القاعدة كما فصّلنا البحث حوله بنطاق واسع في مبحث العقد الفضولي من كتاب البيع (١).

وكما يجري هذا في العقد الصادر من الغير أعني : الفضولي فكذا يجري في العقد الصادر من نفس المالك إذا كان فاقداً للرضا لإكراهٍ من الغير وتوعيده ،

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٢ : ٦٠٧.

٤٧

نعم ، تصحّ مع الاضطرار (١) كما إذا طلب منه ظالم مالاً فاضطرّ إلى إجارة دار سكناه لذلك فإنّها تصحّ حينئذٍ ، كما أنّه إذا اضطرّ إلى بيعها صحّ.

[٣٢٥٩] مسألة ٢ : لا تصحّ إجارة المفلس بعد الحجر عليه (٢) داره أو عقاره. نعم ، تصحّ إجارته نفسه لعمل أو خدمة ،

______________________________________________________

فما دام مكرهاً لا أثر له ، ومتى ارتفع الإكراه وانقلب إلى الرضا صحّ إسناد العقد السابق إليه فتشمله الإطلاقات.

(١) سواء أكان اضطراراً محضاً مستنداً إلى قضاء الله تعالى ، كما لو ألجأته الضرورة إلى إجارة الدار وصرف الأُجرة في معالجة مريضه مثلاً أم كان الاضطرار مستنداً إلى إكراه الغير وإجباره في دفع مقدار معيّن من المال لا يسعه تحصيله إلّا بإيجار الدار.

فإنّ التمسّك بحديث رفع الإكراه لا موقع له حينئذٍ ، أمّا في الفرض الأوّل فواضح ، وكذا الثاني ، إذ لم يتعلّق الإكراه بنفس العقد لكي يرتفع أثره ويحكم بفساده ، بل بأمر آخر وهو مطالبة المبلغ الكذائي. وأمّا الإجارة فقد صدرت طوع رغبته واختياره لكي يتوصّل بتسليم الأُجرة إلى دفع شرّ الظالم وتوعيده.

وأمّا التمسّك بحديث رفع الاضطرار فهو أيضاً لا موقع له ، فإنّ عقد الإيجار وإن كان مورداً للاضطرار إلّا أنّ شمول الحديث له مخالف للامتنان ، للزوم الوقوع في الضيق لو حكم بفساد العقد وعدم ترتّب أثر عليه ، وإنّما يرتفع به الأثر الموافق رفعه للامتنان كما لو اضطرّ إلى الكذب أو شرب النجس ونحو ذلك فيحكم بجوازه حينئذٍ وارتفاع حرمته.

(٢) لا إشكال كما لا خلاف في أنّ المفلس محجور بالنسبة إلى أمواله الموجودة حال الحكم عليه بالحجر ، فليس له التصرّف فيها ببيعٍ أو إجارة

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ونحوهما ، بل المسألة إجماعيّة ، ويستفاد ذلك من بعض الروايات أيضاً.

وأمّا الأموال التي يكتسبها بعد الحكم عليه بالتفليس ففي محجوريّته عنها لكونها أيضاً مورداً لحقّ الغرماء وعدمها خلافٌ وإشكال ، ولسنا الآن بصدد البحث عن ذلك.

وإنّما الكلام في إجارته نفسه لعمل أو خدمة وأنّها هل هي محكومة بالصحّة ، أو أنّ إجارته بالنسبة إلى الأعمال تلحق بإجارة الأموال في المحجوريّة والتوقّف على إجازة الغرماء حيث إنّها أيضاً مال يبذل بإزائها مال كنفس الأموال الخارجيّة؟ فيه خلاف وإشكال.

والمعروف والمشهور هو الأوّل ، وهو الصحيح ، نظراً إلى اختصاص تعلّق الحجر بما يعدّ مالاً له وهي أمواله الخارجيّة ، وأمّا الأعمال فهي وإن كانت متّصفة بالماليّة ومن ثمّ يبذل بإزائها المال كما ذكر إلّا أنّها لا تعدّ مالاً له ولا يعدّ هو مالكاً لها بالفعل. ومن هنا حكموا بأنّ من حبس حرّا ولا سيّما إذا لم يكن كسوباً لم يكن ضامناً لأعماله باعتبار أنّها ليست مملوكة له بالفعل ليكون قد أتلفها بحبسه.

والظاهر إطباق الفقهاء على عدم صدق المستطيع على من لم يكن له مال بالفعل وإن كان متمكّناً من تحصيله بإجارة نفسه ، فلو كانت أعماله أموالاً له بالفعل وهو مالك لها فكيف لا يكون مستطيعاً؟! فإنّ من الواضح أنّه لا يعتبر في صدق الاستطاعة أن يكون مالكاً للدرهم والدينار ، بل تكفي ملكيّته لمالٍ يستطيع معه من الزاد والراحلة ، والحرّ القادر على الإيجار قادرٌ عليه ، مع أنّ ذلك لا يجب عليه قطعاً كما عرفت ، لكونه من تحصيل الاستطاعة غير الواجب عليه بالضرورة.

وعليه ، فتعلّق الحجر بالأموال لا يستدعي تعلّقه بالأعمال ، لعدم احتسابها

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مالاً له ، وليس هو مالكاً لها في اعتبار العقلاء وإن كانت هي في نفسها مالاً يبذل بإزائه المال.

ونظير ذلك بيع شي‌ء كمَنّ من الحنطة في ذمّته ، فإنّ هذا وإن كان مالاً عرفاً ، ومن ثمّ صحّ تمليكه إلى الغير ويدفع بإزائه المال بلا إشكال ، ولكن لا يعدّ ذلك مالاً له ، ولا يصدق عرفاً أنّه مالك لما في ذمّته ، فإنّ الذي يعتبر في صحّة البيع أن يكون المبيع مالاً ، وأن يكون أمره بيده ، وأمّا كونه مالكاً له فغير معتبر في الصحّة.

وعلى الجملة : فإجارة الأعمال من قبيل بيع ما في الذمّة ، فإنّ كلّاً من العمل وما في الذمّة مالٌ عرفاً ومع ذلك لا يعدّان مالاً له ، ولا يعتبر هو مالكاً لهما قطعاً وإن كانت له السلطنة المطلقة عليهما. إذن فدليل حجر المفلس لأمواله لا يعمّ أعماله بوجه.

نعم ، قد يقال باستفادة حجر الأعمال كالأموال ومشاركتهما في تعلّق حقّ الغرماء من موثّقة السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه (عليه السلام) «إنّ عليّاً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ، ثمّ ينظر : فإن كان له مال أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم وأجروه ، وإن شئتم استعملوه» (١).

وفيه أوّلاً : أنّها معارضة بمعتبرة غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه «إنّ عليّاً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ، فإذا تبيّن له حاجة وإفلاس خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً» (٢). وكأنّه عملاً بقوله تعالى (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (٣).

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤١٨ / كتاب الحجر ب ٧ ح ٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤١٨ / كتاب الحجر ب ٧ ح ١.

(٣) البقرة ٢ : ٢٨٠.

٥٠

وأمّا السفيه فهل هو كذلك (١) أي تصحّ إجارة نفسه للاكتساب مع كونه محجوراً عن إجارة داره مثلاً أو لا؟ وجهان (*) : من كونه من التصرّف المالي وهو محجور ، ومن أنّه ليس تصرّفاً في ماله الموجود ، بل هو تحصيل للمال ، ولا تعدّ منافعه من أمواله خصوصاً إذا لم يكن كسوباً ،

______________________________________________________

وثانياً : أنّها أجنبيّة عن التفليس الذي هو محلّ الكلام ، إذ لم يذكر فيها الحكم بالحجر ، بل قد فرض أنّه لا مال له ، فلتحمل بعد وضوح وجوب إنظار المعسر على مدين يتمكّن من الاكتساب بإجارة نفسه وهو مناسب لشأنه ويطالبه الدائن ، فإنّه يجب عليه وقتئذٍ إجارة نفسه تمهيداً لأداء دينه ، ولو امتنع أجبره الحاكم ، فالحكم مطابق للقاعدة. وأين هذا من المفلس الذي حكم على أمواله بالحجر ، وأنّه يمنع من التصرّف في الأعمال كما هو ممنوع عن الأموال؟! فإنّ الرواية أجنبيّة عن ذلك بالكلّيّة.

إذن فما ذكره الماتن وغيره من الفقهاء من اختصاص حجر المفلس بالأموال وعدم السراية إلى الأعمال هو الصحيح ، فلو آجر نفسه صحّت إجارته وإن كان في استقلاله في التصرّف في الأُجرة أو كونه منوطاً بإجازة الغرماء بحثٌ موكول إلى محلّه ، لخروجه عمّا نحن بصدده حسبما عرفت.

(١) لا خلاف كما لا إشكال في محجوريّة السفيه بالنسبة إلى تصرّفاته الماليّة كما يقتضيه قوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (١) ، وكذا جملة من الروايات.

__________________

(*) لا يبعد أن يكون الوجه الأوّل هو الأوجه.

(١) النساء ٤ : ٦.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

وهل الحال كذلك بالنسبة إلى إعماله فليس له أن يؤاجر نفسه بغير إذن الولي حتى مع دفع الأُجرة إلى وليّه ، أو أنّ الإجارة صحيحة ولا يعمّ الحجر عمله وإن لزم دفع المال إلى وليّه؟

ذكر الماتن (قدس سره) أنّ فيه وجهين ولم يرجّح أحدهما على الآخر ، والأظهر هو الأوّل ، فهو محجور عن الأعمال كالأموال على خلاف ما عرفته في المفلس ، نظراً إلى أنّ العمل وإن لم يصدق عليه أنّه مالٌ له في شي‌ء من الموردين حسبما بيّناه إلّا أنّ الفرق أنّ المنع من التصرّف في المفلس لم ينشأ عن قصور في الفاعل وإنّما استند إلى حكم الحاكم عليه بالتفليس رعايةً لحقّ الغرماء ، الذي عرفت اختصاص تعلّقه بالأموال وعدم السراية إلى الأعمال.

وأمّا السفيه فمحجوريّته نشأت عن قصور في ذاته من أجل سفاهته وخفّة عقله وضعف إدراكه ، الموجب لتلف المال وتبذيره وصرفه في غير محلّه جهلاً منه بالمصلحة والمفسدة ، فربّما يبيع ما يسوي خمسين بدرهم واحد ، وهذه العلّة كما ترى تشترك فيها الأموال والأعمال ، إذ كما يبيع ماله على النحو الذي ذكر كذلك ربّما يؤاجر نفسه بإزاء درهم لعمل اجرة مثله خمسون درهماً ، فلا فرق بين المال والعمل في العلّة المقتضية للحجر ، وكما أنّ حفظ مصالحه في أمواله أمواله يستدعي نصب الولي فكذا في أعماله بمناط واحد.

وتدلّنا عليه مضافاً إلى العلم بملاك جعل الولاية عليه في الأموال وجريانه في الأعمال حسبما عرفت جملة من الروايات الظاهرة بمقتضى الإطلاق في عدم الفرق في المحجوريّة بين ماله وعمله :

منها : معتبرة أبي الحسين الخادم بيّاع اللؤلؤ ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره إلى أن قال : «إذا بلغ وكتب عليه الشي‌ء (ونبت عليه الشعر) جاز عليه

٥٢

ومن هنا يظهر النظر فيما ذكره بعضهم من حجر السفيهة من تزويج نفسها (١) بدعوى أنّ منفعة البضع مال ، فإنّه أيضاً محلّ إشكال (*)

______________________________________________________

أمره إلّا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً» (١).

وقد تقدّم في ص ٢٢ أنّ المراد بالخادم هو آدم بن المتوكّل الذي هو ثقة وليس بمجهول. وقد دلّت بوضوح على أنّ البالغ إذا كان سفيهاً لا يجوز أمره ، الشامل بمقتضى الإطلاق الأمر المتعلّق بالأموال والأعمال ، فإنّ كلّاً منهما يعدّ أمراً له.

ومنها : معتبرة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله عزّ وجلّ (حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) «قال : الاحتلام» قال : فقال : يحتلم في ستّ عشرة وسبع عشرة سنة ونحوها «فقال : لا ، إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيِّئات ، وجاز أمره ، إلّا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً» إلخ (٢).

فإنّ جواز الأمر مطلق يشمل المال والعمل كما مرّ. ونحوهما غيرهما.

(١) ينبغي (٣) أنّ يعدّ هذا من غرائب ما صدر منه (قدس سره) مع تضلّعه

__________________

(*) لا وجه للإشكال بعد ورود النصّ على عدم الجواز.

(١) الوسائل ١٨ : ٤١٢ / كتاب الحجر ب ٢ ح ٥.

(٢) الوسائل ١٩ : ٣٦٣ / كتاب الوصايا ب ٤٤ ح ٨ ، والآية من الأحقاف ٤٦ : ١٥.

(٣) لا يبعد أن يكون إشكال الماتن في الدليل الذي ذكره ذلك البعض من كون منفعة البضع مالاً لا في المدّعى ، كيف؟! وقد أفتى هو (قدس سره) بنفسه بحجر السفيه عن النكاح وتوقّفه على إجازة الولي في مسألة ١٤ من فصل العقد وأحكامه من كتاب النكاح ، فلاحظ.

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وكثرة اطّلاعه على الروايات ، إذ لو فرضنا أنّ القاعدة اقتضت اختصاص محجوريّة السفيه بأمواله فقط دون أعماله وبنينا مثلاً على صحّة إجارته نفسه ، إلّا أنّ خصوص النكاح مستثنى من تلك الأعمال وخارج عن مقتضى القاعدة ، من أجل ورود النصّ الخاصّ فيه ، وهو روايتان :

إحداهما : صحيحة الفضلاء لصحّة طريق الصدوق إلى بعض هؤلاء عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : المرأة التي قد ملّكت نفسها غير السفيهة ولا المولّى عليها تزويجها بغير وليّ جائز» (١).

حيث تضمّنت تقييد المرأة التي ملّكت نفسها بكونها غير سفيهة.

وقد ذكرنا في بحث الأُصول (٢) : أنّ الوصف وإن لم يكن له مفهوم بالمعنى المصطلح أعني : الانتفاء عند الانتفاء كما في مفهوم الشرط لكن لا مناص من الإذعان بدلالته على عدم اشتراك الفاقد للقيد مع الواجد في الحكم المترتّب عليه ، بحيث يكون موضوع الحكم هو الطبيعي الجامع بينهما ، وإلّا لأصبح ذكر القيد لغواً محضاً ، فلو كانت السفيهة مشاركة مع غيرها في استقلالها في التزويج لكان التقييد بغير السفيهة في الصحيحة من اللغو الظاهر. فلا جرم يستفاد منها اختصاص الحكم بغير السفيهة ، أمّا هي فتحتاج في نكاحها إلى إجازة الولي.

ثانيتهما : ما رواه الشيخ بإسناده عن عليّ بن إسماعيل الميثمي ، عن فضالة ابن أيّوب ، عن موسى بن بكر ، عن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي من مالها ما شاءت فإنّ أمرها جائز ، تزوّج إن شاءت بغير إذن وليّها ، وإن لم تكن كذلك

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٢٦٧ / أبواب عقد النكاح ب ٣ ح ١.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٥ : ١٢٩ ـ ١٣٣.

٥٤

[٣٢٦٠] مسألة ٣ : لا يجوز للعبد أن يؤاجر نفسه أو ماله أو مال مولاه إلّا بإذنه أو إجازته (١).

______________________________________________________

فلا يجوز تزويجها إلّا بأمر وليّها» (١).

وقد دلّت بوضوح على أنّها إذا لم تكن مالكة أمرها والسفيهة كذلك طبعاً فلا تتزوّج إلّا بأمر الولي. غير أنّ سندها لا يخلو عن الخدش وإن عبّر عنها بالموثّقة في بعض الكلمات (٢) ، نظراً إلى أنّ عليّ بن إسماعيل وإن كان من وجوه المتكلّمين وقد كتب في الإمامة كتاباً على ما نصّ عليه الشيخ والنجاشي (٣) ، إلّا أنّه لم يرد فيه أيّ مدح أو توثيق ما عدا رواية صفوان عنه الذي هو من أصحاب الإجماع ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ رواية هؤلاء عن أحد لا تدلّ على توثيقه بوجه.

على أنّه مع الغضّ وتسليم وثاقة الرجل فطريق الشيخ إليه مجهول ، لعدم تعرّضه إليه لا في المشيخة ولا الفهرست. فهي ضعيفة قطعاً.

والعمدة ما عرفت من صحيحة الفضلاء ، فعلى تقدير تسليم اختصاص حجر السفيهة بالأموال وقد عرفت منعه لا يجوز نكاحها بغير إذن وليّها ، استناداً إلى هذه الصحيحة.

(١) لمحجوريّته عن التصرّف بقول مطلق ، بعد أن كان عبداً مملوكاً لا يقدر على شي‌ء ، وقد دلّت عليه بعض الروايات ، كما أنّه مورد للتسالم من غير خلاف

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٢٨٥ / أبواب عقد النكاح ب ٩ ح ٦ ، التهذيب ٧ : ٣٧٨ / ١٥٣٠ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٤ / ٨٤٢.

(٢) كما في تعليقة السيّد البروجردي (قدس سره) وغيره على المتن.

(٣) الفهرست : ٨٧ / ٣٧٥ ، رجال النجاشي : ٢٥١ / ٦٦١.

٥٥

[٣٢٦١] مسألة ٤ : لا بدّ من تعيين العين المستأجرة ، فلو آجره أحد هذين العبدين أو إحدى هاتين الدارين لم يصحّ (*) (١) ،

______________________________________________________

فيه ولا إشكال.

(١) تعيين العين لا موضوعيّة له ، وإنّما هو من أجل أنّ الجهل به يستلزم الجهل بالمنفعة ، وقد تقدّم لزوم معلوميّة العوضين (١) ، فالتعيين المزبور مقدّمة لتشخيص العمل أو المنفعة الواقعين مورداً للإجارة.

على أنّه لا يستقيم على إطلاقه ، وإنّما يتّجه فيما إذا كان اختلاف بين العينين في الذات أو الصفات ، الموجب لاختلاف الرغبات ، المؤدّي طبعاً إلى جهالة المنفعة كإجارة واحد من العبد ، أو الجارية ، أو من الفرس أو السيّارة ، أو إحدى الدارين الكبيرة أو الصغيرة ، وهكذا.

أمّا إذا اتّحدا من جميع الجهات وتساويا في تمام الخصوصيّات الدخيلة في اختلاف الرغبات إلّا ما شذّ ممّا لا يُعبأ به عند العقلاء ، كأحد هذين العبدين ، أو إحدى هاتين الدابّتين ، أو هاتين السيارتين المشاركتين في تمام الصفات ، فلم تر بأساً حينئذٍ في صحّة مثل هذا الإيجار.

لا بمعنى إيجار الفرد المردّد حتى يقال : إنّه لا وجود له خارجاً حتى في علم الله سبحانه ، إذ كلّ ما في الخارج فهو معيّن لا تردّد فيه ، والشي‌ء ما لم يتشخّص لم يوجد ، فلو فرضنا أنّه مات أحد العبدين ، أو انهدمت إحدى الدارين ، فما هي تلك المنفعة التي يتملّكها المستأجر وقتئذٍ؟!

__________________

(*) لا تبعد الصحّة في المتساويين في الأوصاف.

(١) في ص ٢٦ ـ ٣٢.

٥٦

ولا بدّ أيضاً من تعيين نوع المنفعة إذا كانت للعين منافع متعدّدة (١). نعم ، تصحّ إجارتها بجميع منافعها مع التعدّد فيكون المستأجر مخيّراً بينها (٢).

______________________________________________________

بل بمعنى كونه من قبيل إجارة الكلّي في المعيّن ، نظير بيع الصاع من الصبرة على هذا الوجه ، فكما أنّ المبيع هناك هو الكلّي الطبيعي في إطار معيّن ملغاة عنه الخصوصيّات الفرديّة ، بل هي باقية على ملك المالك ومن ثمّ كان اختيار التطبيق بيد البائع ، فكذا العين المستأجرة في المقام بمناط واحد ، فيؤجّره مثلاً إحدى دورات الجواهر من الطبعة الكذائيّة التي لا امتياز لبعضها على بعض إلّا بما لا ماليّة له ككون جلده أسود أو أحمر ، ويكون اختيار التسليم بيد المؤجر ، كما ربّما يبيعه ويكون الاختيار المزبور بيد البائع قاصداً به الكلّي في المعيّن في كلا الموردين.

وبالجملة : فإطلاق كلام الماتن كغيره من الفقهاء لا بدّ من حمله على غير هذا المورد ، وإلّا فالإجارة في هذا المورد قد وقعت على شي‌ء معيّن معلوم وهو الكلّي منعزلاً عن الخصوصيّات من غير تردّد فيه حسبما عرفت.

(١) وهذا ظاهر بعد البناء على لزوم معلوميّة العوضين ومعرفة المنفعة التي تقع مورداً للإجارة التي من أجلها حكمنا بلزوم تعيين العين المستأجرة كما سبق.

(٢) كما كان هذا التخيير ثابتاً لنفس المالك. وهذا الذي أفاده (قدس سره) وجيه ، بناءً على ما اختاره وهو الصحيح من ملكيّة المالك لكافة المنافع وإن كانت متضادّة لا يمكن استيفاء جميعها في الخارج في عرض واحد ، وأنّ ذلك التضاد لا يسري إلى الملكيّة نفسها على ما سيجي‌ء منه (قدس سره) في مسألة ما لو وقعت الإجارة على منفعة خاصّة فاستوفى المستأجر من العين

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

منفعة أُخرى بدلاً عنها (١) ، كما لو استأجر العبد للكتابة فاستعمله في الخياطة أو الدابّة لحمل المتاع إلى مكان خاصّ فركبها إلى مكان آخر ، وهكذا حيث إنّ المسألة ذات أقوال :

فمنهم من ذهب إلى أنّه يضمن للمالك الأُجرة المسمّاة لا غير.

ومنهم من حكم بضمانه لأغلى الأُجرتين من المسمّاة ومن اجرة المثل لما استوفاه.

واختار جمع ومنهم الماتن أنّه ضامن لكلتا الأُجرتين ، أمّا المسمّاة فبعقد الإجارة المفروض وقوعها صحيحة وإن فوّت المستأجر المنفعة على نفسه ، وأمّا اجرة المثل فلما استوفاها من المنفعة من دون إجازة المالك ، فحيث تصاحب كلتا المنفعتين وهما ملك لمالك العين ضمنهما وإن كانتا متضادّتين ، لعدم سراية المضادّة من المنفعة إلى نفس الملكيّة ، فلا مانع من كون المالك مالكاً لهذه المنفعة في عرض كونه مالكاً للمنفعة الأُخرى المضادّة لها ، ولا يلازم أحد التضادّين التضادّ الآخر.

وهذا هو الصحيح على ما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى ، نظراً إلى أنّ الملكيّة اعتبار شرعي عقلائي لم يكن ثمّة أيّ محذور في تعلّقها بكلّ من المتضادّين مستقلا وفي عرض الآخر لا على سبيل البدل.

فإنّ هذا الحكم الوضعي نظير القدرة ونظير بعض الأحكام الشرعيّة القابلة لأن تكون كذلك مثل الإباحة والاستحباب ، حيث إنّ طائفة من الأفعال الخارجيّة متضادّة ، كالحركة والسكون ، والأكل والنوم في زمان واحد ، ومع ذلك لا يكاد يسري هذا التضادّ إلى نفس الإباحة ، بل كلّ منهما مباح في عرض الحكم بإباحة الآخر بالضرورة ، لا أنّ المباح هو أحدهما على البدل ، فلا

__________________

(١) في ص ٣١٠.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

محذور في الجمع بين الإباحتين ، وإنّما الممتنع الجمع بين الوجوبين.

وهكذا الحال في الاستحباب ، فإنّ زيارة الحسين (عليه السلام) وزيارة مسلم (عليه السلام) وإن لم يمكن الجمع بينهما في زمان واحد ، إلّا أنّ هذه المضادّة لا تستوجب سقوط الاستحباب عن كلّ واحد لينتهي الأمر إلى استحباب واحد منهما على البدل ، بل كلّ منهما مستحبّ في عرض استحباب الآخر. فلا مانع من الجمع بين الاستحبابين وإن امتنع الجمع بين المستحبّين. فالتضادّ الخارجي لا يكاد يسري إلى الحكم الشرعي بوجه.

نعم ، لا مناص من الإذعان بالسراية في الأحكام الإلزاميّة ، إذ نتيجة الجمع بين الإلزامين المتعلّقين بالمتضادّين هو الإلزام بالجمع بين الضدّين ، فإنّه إذا كان الفعلان متضادّين كان الإلزامان أيضاً متضادّين بالعرض ، فهو في حكم الإلزام بالجمع.

وتتلو الإباحة والاستحباب القدرة التكوينيّة ، فإنّها أيضاً تتعلّق بالمتضادّين ، بمعنى : أنّ كلّاً منهما مقدور في عرض القدرة على الآخر ، والذي يتّصف بأنّه غير مقدور إنّما هو الجمع بين نفس المتضادّين ، أمّا الجمع بين القدرتين فلا مانع منه ، فكلاهما مقدور ، لا أنّ المقدور هو الواحد منهما على البدل.

وهذا الذي ذكرناه في الحكم التكليفي يجري في الحكم الوضعي أيضاً بمناط واحد ، فإنّ اعتبار الملكيّة كاعتبار الإباحة والاستحباب لا مانع من تعلّقه بالمنفعتين المتضادّتين ، اللتين كلاهما من شؤون العين ، حيث إنّها مملوكة لمالكها بجميع شؤونها ومنافعها ، فكلّ منفعة قائمة بالعين مملوكة للمالك في عرض ملكيّته للمنفعة الأُخرى وإن كانت مضادّة للأُولى ، فإنّه وإن لم يمكن الجمع بينهما خارجاً إلّا أنّ مجرّد إمكان وجود كلّ منهما في الخارج مصحّح لاعتبار الملكيّة كما لا يخفى.

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى هذا فيصحّ ما ذكره (قدس سره) من ضمان المستأجر لكلتا المنفعتين وإن كانتا متضادّتين ، لكونهما معاً مملوكتين لمالك العين.

فان قلت : لازم ما ذكرت ضمان الغاصب لجميع المنافع التي يمكن أن يستوفيها من العين ، ولربّما تزيد على قيمة نفس العين. وهو كما ترى ، فيكشف ذلك عن عدم ملكيّة المالك لجميعها.

قلت : كلّا ، فإنّ الضمان يتبع مقدار التلف الذي حصل تحت يد الغاصب ، فيقدّر التالف بقيمته ، فإذا امتنع تحقّق المنافع جميعاً كما هو المفروض فلم يحصل تلف بالنسبة إليها تحت يده ليكون ضامناً ، فإنّه إنّما يضمن القيمة ، ولا تلاحظ القيمة للمنافع بأجمعها بعد عدم صدق التلف كما عرفت.

وبعبارة اخرى : لو فرضنا أنّ المالك بناءً على ملكيّته لجميع المنافع أراد أنّ يؤاجر عبده مثلاً بجميع منافعه ، فالأُجرة التي يعتبرها العرف لمثل هذا العبد هي التي قد أتلفها الغاصب ، فيضمن بهذا المقدار لا غير.

ومن الواضح جدّاً أنّه لا يلاحظ لدى التصدّي لتقدير هذه الأُجرة كلّ منفعة بحيالها بأن تراعى أُجرة الخياطة مثلاً ثمّ تضاف إليها اجرة الكتابة ، ثمّ تضاف اجرة البناية ، وهكذا.

والوجه فيه : أنّه بعد ما لم يمكن استيفاء المنافع برمّتها فطبعاً لا تلاحظ القيمة بالإضافة إلى الجميع ، بل لمثل هذا العبد اجرة مقرّرة زائدة على أُجرة الأجير لمنفعة معيّنة باعتبار اختيار المستأجر في استيفاء أيّ منفعة شاء ، فيضمن الغاصب بهذا المقدار فحسب كما عرفت.

وكيفما كان ، فلا نرى أيّ مانع من الجمع بين الملكيّتين وإن كانت المنفعتان متضادّتين.

فعلى هذا المبنى وهو الصحيح لا مانع من إجارة العين بجميع منافعها

٦٠