موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

هذا إذا كان الخيار فوريّاً (١) كما في خيار الغبن إن ظهر كونه مغبوناً في أثناء العمل وقلنا : إنّ الإتمام منافٍ للفوريّة ، وإلّا فله أن لا يفسخ إلّا بعد الإتمام. وكذا الحال إذا كان الخيار للمستأجر (٢) ، إلّا أنّه إذا كان المستأجر عليه المجموع

______________________________________________________

بعد خروجه إلى غبنه فيما استؤجر له من الدخول أو النزول ففسخ يستحقّ اجرة المثل لمجموع العمل ، فكذا لو التفت وهو داخل البحر أو في قعر البئر ففسخ.

فإذا كان الأمر فيما لا بدّ منه عقلاً كذلك ، ففيما لا بدّ شرعاً أيضاً كذلك بمناط واحد.

وعلى ضوء ذلك يستقيم ما أفاده (قدس سره) في المقام ، حيث إنّ الأجير إذا التفت إلى غبنه مثلاً بعد الشروع في الصلاة أو الإحرام ففسخ وقد وجب عليه الإتمام ، فبما أنّ الاقتحام في هذا العمل قد وقع بأمر من الغير ففسخه لا يمنع من الرجوع إليه بأُجرة المثل بعد الفراغ من العمل. وهذا معنى كون الفسخ في الأثناء كالفسخ بعد العمل ، باعتبار أنّ إنهاء ما لا بدّ من إنهائه يستند بالآخرة إلى أمر الآمر ، الموجب للضمان مطلقاً بمقتضى السيرة العقلائيّة. فالحكم إذن مطابق لمقتضى القاعدة.

(١) هذا تدارك لما سبق ، يعني : أنّ ما ذكرناه لحدّ الآن إنّما هو فيما إذا كان الخيار فوريّاً وكان الإتمام منافياً للفوريّة. وأمّا إذا لم يكن فوريّاً ، أو لم يكن منافياً ، فله حينئذٍ تأخير الفسخ إلى ما بعد العمل فيرتفع معه موضوع البحث ، أعني : الفسخ في الأثناء ، ويستحقّ عندئذٍ اجرة المثل لتمام العمل من غير أيّة شبهة أو إشكال.

(٢) يعني : فيجري فيه جميع ما يجري فيما لو كان الخيار للأجير من الأحكام المتقدّمة من عدم استحقاق أيّ شي‌ء إذا كان الفسخ قبل العمل ، والرجوع إلى

٤٨١

من حيث المجموع وكان في أثناء العمل يمكن أن يقال (*) : إنّ الأجير يستحقّ بمقدار ما عمل من اجرة المثل لاحترام عمل المسلم ، خصوصاً إذا لم يكن الخيار من باب الشرط.

______________________________________________________

اجرة المثل إذا كان بعد العمل ، وإليها أو إلى المسمّى بالنسبة على الخلاف إذا كان في الأثناء ، فهما يشتركان في الأحكام.

ولا فرق إلّا في صورة واحدة ، وهي ما إذا كان المستأجر عليه العنوان البسيط الانتزاعي ، أعني : المجموع من حيث المجموع كالاعتكاف وقد فسخ في الأثناء ، فإنّه يفترق عمّا مرّ في أنّ الفاسخ إن كان هو الأجير لم يستحقّ شيئاً ، لما عرفت من أنّ ما وقع لم يكن مورداً للإجارة ، وما كان مورداً لها لم يقع.

وأمّا لو كان هو المستأجر فيمكن القول باستحقاق الأجير حينئذٍ بمقدار ما عمل من اجرة المثل ، لقاعدة احترام عمل المسلم ، إذ المستأجر بفسخه ولا سيّما عن خيار أصلي كالغبن منعه عن الإتمام وألغى عمله عن الاحترام ، حيث فوّته عليه وحال دون ما يتوقّعه من استحقاق الأُجرة ، فلا جرم يضمنه رعايةً لاحترام عمل المسلم.

أقول : لم يتّضح وجه صحيح لما أفاده (قدس سره) ، فإنّ الذي تقتضيه قاعدة الاحترام عدم جواز الاستيلاء على مال الغير باستيفاء أو إتلاف ونحوهما بغير إذنه ، لا أنّ كلّ ما يتلف ويفوت منه يلزم على الآخر تداركه وإن لم يأمر به.

__________________

(*) لكنّه بعيد ، إذ المفروض أنّ الواقع في الخارج مغاير لما تعلّقت به الإجارة ، وقاعدة الاحترام في نفسها لا تفي بإثبات الضمان.

٤٨٢

[٣٣٨١] الثانية عشرة : كما يجوز اشتراط كون نفقة الدابّة المستأجرة أو العبد والأجير المستأجرين للخدمة أو غيرها على المستأجر إذا كانت معيّنة بحسب العادة أو عيّنّاها على وجهٍ يرتفع الغرر ، كذلك يجوز اشتراط كون نفقة المستأجر على الأجير أو المؤجر (١) بشرط التعيين أو التعيّن الرافعين للغرر ، فما هو المتعارف من إجارة الدابّة للحجّ واشتراط كون تمام النفقة ومصارف الطريق ونحوها على المؤجر لا مانع منه إذا عيّنوها على وجهٍ رافعٍ للغرر.

______________________________________________________

وفي المقام لم يتعلّق أمر بما وقع ، كما لم تقع اجرة بإزائه ، لوقوعها بإزاء المجموع ولم يتحقّق حسب الفرض ، غاية الأمر أنّ المستأجر بمقتضى الخيار الثابت له بأصل أو جعل وإعماله حقّه لم يمكّن الأجير من إتمام العمل ليستحقّ الأُجرة ، فهو بفسخه هذا أعدم موضوع الاستحقاق لا أنّه أتلف عليه المال ، ومجرّد الصدّ والحيلولة دون نيل الهدف وبلوغ المنفعة المترقّبة لا يكاد يستفاد منعه من قاعدة الاحترام ليستوجب الضمان.

وبالجملة : قاعدة الاحترام لا تقتضي ضمان ما لا مقتضي لضمانه ، والمفروض أنّ المقدار الصادر من العمل خالٍ عن اقتضاء الضمان بعد عرائه عن الأمر ، فلا تقتضي القاعدة ضمانه. إذن فالظاهر مشاركة فسخ المستأجر مع فسخ الأجير من هذه الجهة أيضاً ، لاتّحاد المناط ، وهو عدم الوقوع عن الأمر ، وعدم وقوع ما تعلّق به الأمر ، فلا مقتضي للاستحقاق في كلا الموردين.

(١) لعدم الفرق في نفوذ الشرط بين الصورتين بعد ما كان سائغاً صادراً من أهله في محلّه ، وكانت ثمّة عادة منضبطة رافعة للغرر ، كما هو المتعارف عند الحملداريّة في سفر الحجّ من تعهّدهم كافّة نفقات الحجّاج تجاه أُجرة معيّنة

٤٨٣

[٣٣٨٢] الثالثة عشرة : إذا آجر داره أو دابّته من زيد إجارة صحيحة بلا خيار له ثمّ آجرها من عمرو كانت الثانية فضوليّة (١) موقوفة على إجازة زيد ، فإن أجاز صحّت له ويملك هو الأُجرة فيطلبها من عمرو ، ولا يصحّ له إجازتها على أن تكون الأُجرة للمؤجّر وإن فسخ الإجارة الأُولى بعدها ،

______________________________________________________

واختلاف ذلك باختلاف الأحوال والأطوار وعوارض السفر كمّاً وكيفاً ومدّةً لا يستوجب الغرر بعد ما كان أمراً متعارفاً قد جرت العادة على المسامحة فيها ، إذ لا يعتبر التعيين الرافع للجهالة من تمام الجهات ، فالزيادة أو النقيصة المحتملة المغتفرة عند العقلاء لا تكون قادحة بعد ما عرفت من جريان العادة وعدم الدليل على لزوم رفع الجهالة بقولٍ مطلق.

(١) لوقوعها على غير ملكه بعد انتقال المنفعة إلى زيد بالإجارة الاولى ، المفروض عدم الخيار في فسخها حتى بالإجارة الثانية لتقع في ملكه.

وبما أنّ الإجارة الثانية قد وقعت لمالك العين نفسه حسب الفرض لا للمستأجر فلا جرم تكون من قبيل بيع الغاصب لنفسه ، وفي صحّته بالإجازة كلام طويل الذيل تعرّض له شيخنا الأنصاري (قدس سره) في مكاسبه (١). وملخّصه : أنّ المعاوضة من بيع أو إجارة متقوّمة بالمبادلة بين العوضين من منفعة أو عين ، فهما الركن في انعقاد المعاملة وتحقّقها ، وأمّا خصوصيّة المالك فلا مدخليّة لها في ذلك ، فضميمة قصد مالك خاصّ والوقوع له أو عنه لغو محض ، لخروجه عن حقيقة ما يتقوّم به مفهوم الإنشاء المعاملي. إذن فقصد الغاصب وقوع البيع لنفسه وعدمه سيّان ، فإنّه كضمّ الحجر في جنب الإنسان ، غاية الأمر أنّ هذه المعاملة المنشأة بما أنّها صدرت عن غير المالك واتّصفت بالفضوليّة فلا جرم

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٣٧٦ وما بعدها.

٤٨٤

لأنّه لم يكن مالكاً للمنفعة حين العقد الثاني ، وملكيّته لها حال الفسخ لا تنفع إلّا إذا جدّد الصيغة (*) ، وإلّا فهو من قبيل من باع شيئاً ثمّ ملك ، ولو زادت مدّة الثانية عن الاولى لا يبعد لزومها على المؤجر في تلك الزيادة ، وأن يكون لزيد إمضاؤها بالنسبة إلى مقدار مدّة الاولى.

______________________________________________________

يتوقّف نفوذها على إجازته ، فمتى أجاز كان الثمن له قهراً وإن قصد الغاصب نفسه ، لأنّه هو المالك للمعوّض ، ولا يدخل العوض إلّا في ملك من خرج عنه المعوّض قضاءً لمفهوم المعاوضة والمبادلة.

وعليه ففي المقام إذا أجاز المالك أي مالك المنفعة وهو المستأجر الأوّل وقعت الإجارة الثانية له ، وإن قصد الغاصب وهو مالك العين وقوعها عن نفسه فإنّه لغو لا يقدح في الصحّة بعد التعقّب بالإجازة حسبما عرفت.

وممّا ذكرنا تعرف أنّه ليس في وسع المستأجر إجازة الإجارة الثانية على نحوٍ تكون الأُجرة للمؤجّر بنفس هذه الإجازة ، إذ مقتضى تأثيرها في الصحّة دخول الأُجرة في ملك من تخرج عن ملكه المنفعة وهو المستأجر نفسه لا في ملك شخص آخر ، اللهمّ إلّا أن يملّكها له بتمليك جديد كما لا يبعد إرادته في أمثال المقام بحسب الفهم العرفي وإلّا فنتيجة الإجازة من حيث هي ليست إلّا صحّة الإجارة فحسب ، وأمّا وقوعها عن المؤجر فيحتاج إلى إنشاء آخر وتمليك جديد وأنّ الأُجرة التي يستحقّها هو بمقتضى الإجازة يتركها للمؤجّر.

نعم ، في وقوعها عنه بعد ما فسخت الإجارة الأُولى وعادت المنفعة إليه ثانياً كلامٌ آخر طويل الذيل أيضاً ، تعرّض له الشيخ (قدس سره) فيمن باع ثمّ

__________________

(*) بل يكفي إجازة العقد الثاني بعد فسخ العقد الأوّل بدون حاجة إلى تجديد الصيغة.

٤٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ملك (١) ، وقد حكم الماتن (قدس سره) تبعاً للشيخ بالفساد ولزوم تجديد العقد باعتبار عدم كونه مالكاً للمنفعة حال وقوع الإجارة الثانية والملكيّة المتأخّرة الحاصلة حال الفسخ غير نافعة ، فلا مناص من تجديد الإجارة ، ولا تصلح المعاملة الفضوليّة للتصحيح بالإجازة في أمثال المقام ممّا لم يكن المجيز مالكاً حال العقد.

ولكن الأظهر هو الصحّة فيها أيضاً بمقتضى القاعدة كما في سائر موارد الفضولي ، إلّا إذا أنكرنا صحّتها من أصلها من جهة القاعدة واستندنا فيها إلى الأخبار الخاصّة ، حيث إنّه لم يرد في المقام نصّ خاصّ إلّا في باب الزكاة ، إذ قد ورد (٢) فيمن باع العين الزكويّة بتمامها المستلزم لكون البيع فضوليّاً حينئذٍ في مقدار الزكاة عدم نفوذه في هذا المقدار ولزوم إخراجها على المشتري ورجوعه فيه إلى البائع ، إلّا إذا أخرجها البائع من مالٍ آخر فإنّه يحكم حينئذٍ بالصحّة وانتقال المال بتمامه إلى المشتري ، الكاشف عن صحّة بيع الشي‌ء قبل تملّكه. ولكنّه كما عرفت خاصّ بباب الزكاة ، ولا دليل على التعدّي إلى سائر الموارد ، مثل ما لو باع ملك أبيه ثمّ ورثه فأجاز ، أو باع مال زيد ثمّ اشتراه فأجاز ، وهكذا.

وعلى الجملة : فبناءً على ما هو الحقّ من أنّ صحّة العقد الفضولي المتعقّب بالإجازة مطابقٌ لمقتضى القاعدة لا يفرق الحال في ذلك بين المقام وبين سائر الموارد ، لاتّحاد المناط.

فإنّ العمدة في تقرير الصحّة : أنّ الإجازة اللاحقة تستوجب استناد العقد السابق إلى المجيز إسناداً حقيقيّا عرفيّاً ، فلو بيع دار زيد فضولةً فأجاز يصحّ

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٤٣٥ وما بعدها.

(٢) راجع زكاة الغلّات المسألة ٣٣ وما بعدها.

٤٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أن يقال وقتئذٍ حقيقةً : إنّه باع داره ، فيضاف البيع إليه بعد الإجازة بعد ما كان فاقداً لهذه الإضافة ، فيندرج عندئذٍ تحت عمومات حلّ البيع والتجارة عن تراضٍ والوفاء بالعقد ، فلا جرم يكون صحيحاً ونافذاً.

وهذا التقرير كما ترى لا يعتبر فيه إلّا ملكيّة المجيز حال الإجازة ، وأمّا ملكيّته حال العقد فلا مدخليّة لها بوجه بعد أن لم يقم عليها أيّ دليل شرعي ، فإنّ المعاملة تتقوّم بالمعاوضة بين الطرفين عن تراضي المالكين إن عاجلاً أو آجلاً ، فمتى تحقّقت وقارنت أو تعقّبت بالرضا حكم بصحّتها ، سواء أكانت الملكيّة حاصلة حال العقد أم بعدها ، لتساوي الصورتين في ضابط الصحّة ومناطها.

نعم ، إنّ هناك روايات تضمّنت النهي عن بيع ما ليس عنده أو ما لا يملك ، وأنّه لا بيع إلّا في ملك ، فربّما يستدلّ بها على بطلان هذه المعاملة باعتبار أنّه لم يكن مالكاً حال البيع وإن ملك حال الإجازة فيحكم بفساده ، بل قد يستدلّ بها على البطلان في مطلق الفضولي نظراً إلى أنّه ليس بمالك لما يبيعه ، فبيعه منهي عنه فيفسد.

ولكنّا أشرنا في محلّه إلى أنّ المستفاد من هذه الروايات ولا سيّما في بعضها : «أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك؟» قلت : بلى «قال : لا بأس» (١) عدم نفوذ هذه المعاملة من غير المالك وعدم ترتّب الأثر ما دام كذلك ، لا عدم قابليّتها للصحّة حتى بعد الإجازة المصحّحة للإسناد والإضافة والموجبة لقلبها بقاءً من بيع غير المالك إلى بيع المالك ، فإنّها لا تكاد تدلّ على عدم الصحّة حتى في هذه الصورة بالضرورة. إذن فالأظهر كفاية الإجازة ممّن بيده الإجازة في كافّة المعاملات الفضوليّة بمقتضى القواعد الأوّلية ، فيحكم بنفوذها بعدها من غير حاجة إلى التماس دليل خاصّ.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٥٠ / أبواب أحكام العقود ب ٨ ح ٤.

٤٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بقي شي‌ء ، وهو أنّ التحقيق أنّ الإجازة كاشفة لا ناقلة ، غايته كشفاً حكمياً لا حقيقيّا ، لا على سبيل الانقلاب ولا الالتزام بالشرط المتأخّر على ما هو موضح في محلّه.

وهذا أعني : الكشف الحكمي غير قابل للانطباق على المقام ونظائره من موارد : من باع ثمّ ملك ، ضرورة أنّ الإجازة الصادرة من المالك الفعلي الذي لم يكن مالكاً حال العقد لا يمكن أن تكشف عن الصحّة له من لدن وقوع العقد لفرض كون المبيع ملكاً لغيره آن ذاك ، والالتزام بالصحّة من الآن خلاف ما بنى عليه من كونها كاشفة لا ناقلة. إذن فمن أيّ زمان يحكم بالصحّة؟

وهذا الإشكال قد تعرّضنا لجوابه في محلّه وأشار إليه الشيخ (قدس سره) في بعض الموارد الأُخر (١) غير المقام ومحصّله : الالتزام بالكشف عن الصحّة من أوّل زمان قابل لها ، وهو زمان انتقال الملك إليه ، المتخلّل ما بين زمان وقوع البيع خارجاً وزمان حصول الإجازة ، فإنّ صحّة إضافة البيع إلى المجيز وحسن إسناده الناشئ من ناحية الإجازة إنّما هي من هذا الزمان دون ما تقدّمه ، فلا جرم تستكشف الصحّة من هذا الزمان أيضاً.

وبالجملة : يعتبر في صحّة العقد أن يكون واجداً لتمام الشروط ، والتماميّة إنّما تتحقّق بعد انتقال الملك إليه ، ولا دليل على اعتبار الكشف من الأوّل.

هذا غيض من فيض ، وعصارة الكلام بما يسعه المقام ويطلب التفصيل ممّا باحثناه بنطاق واسع في كتاب المكاسب (٢).

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٤٠٧ وما بعدها.

(٢) مصباح الفقاهة ٢ : ٧٢٦ وما بعدها.

٤٨٨

[٣٣٨٣] الرابعة عشرة : إذا استأجر عيناً ثمّ تملّكها قبل انقضاء مدّة الإجارة بقيت الإجارة على حالها (١) ، فلو باعها والحال هذه لم يملكها المشتري إلّا مسلوبة المنفعة (*) في تلك المدّة ، فالمنفعة تكون له ولا تتبع العين. نعم ، للمشتري خيار الفسخ إذا لم يكن عالماً بالحال ، وكذا الحال إذا تملّك المنفعة بغير الإجارة في مدّة ثمّ تملّك العين ، كما إذا تملّكها بالوصيّة أو بالصلح أو نحو ذلك ، فهي تابعة للعين إذا لم تكن مفروزة ، ومجرّد كونها لمالك العين لا ينفع في الانتقال إلى المشتري. نعم ، لا يبعد تبعيّتها للعين إذا كان قاصداً لذلك حين البيع.

______________________________________________________

(١) لو استأجر داراً مثلاً ثمّ اشتراها فبطبيعة الحال تكون ملكيّة المنفعة مغايرة لملكيّة العين من ناحية السبب ، لاستناد الاولى إلى الإجارة الباقية على حالها بعد وضوح عدم المقتضي لبطلانها ، والثانية إلى البيع. وحينئذٍ فلو باع الدار كما اشتراها فلا جرم تكون مسلوبة المنفعة في تلك المدّة ويثبت الخيار للمشتري إن كان جاهلاً بالحال ، إلّا إذا كان من قصده حال البيع نقل المبيع بما له من المنفعة فتنتقل المنفعة حينئذٍ أيضاً وإن اختلف السبب ، لعدم اعتبار الاتّحاد.

هذا ملخّص كلامه (قدس سره).

ولكنّه لا يمكن المساعدة عليه ، لعدم المقتضي للخيار في المقام ، فإنّ من يتملّك المنفعة بسببٍ من إجارة ونحوها ثمّ يتملّك العين بسببٍ آخر من شراءٍ ونحوه ثمّ يتصدّى للبيع.

__________________

(*) فيه إشكال ، بل الظاهر عدمه.

٤٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فإمّا أن يقصد البيع على النهج المتعارف بين الناس ، والمرتكز في أذهان عرف البائعين والمشترين من نقل العين بما لها من المنافع المعدودة من توابعها كما أشار (قدس سره) في آخر كلامه ، فلا مقتضي حينئذٍ للخيار بعد انتقال العين والمنفعة معاً إلى المشتري كما هو واضح.

وإمّا أن يقصد بيع ما اشتراه خاصّة أي العين مسلوبة المنفعة فحينئذٍ إن كان المشتري عالماً بالحال فلا خيار له أيضاً بعد إقدامه وموافقته على شرائها كذلك كما هو ظاهر أيضاً.

وإن كان جاهلاً فتخيّل أنّ المبيع هو العين ذات المنفعة لا المجرّدة عنها فأقدم على شرائها كذلك فالظاهر بطلان البيع حينئذٍ لا الصحّة مع الخيار لعدم المطابقة بين الإيجاب والقبول المعتبرة في صحّة العقد ، إذ الذي أنشأه البائع وتعلّق به الإيجاب هو بيع العين مسلوبة المنفعة ، والذي قبله المشتري هو شراء العين ذات المنفعة ، فما أنشأه البائع لم يقبله المشتري ، وما قبله لم ينشئه البائع ، فأين التطابق المعتبر بينهما؟! فإنّ هذا نظير ما لو أوجب البائع بيع الجزء الأوّل من كتاب شرح اللمعة فقبل المشتري شراء الجزأين ، أفهل يحتمل حينئذٍ الحكم بالصحّة مع التدارك بالخيار لتبعّض الصفقة؟ كلّا ، ضرورة أنّ مورد الخيار المزبور ما لو توارد الإيجاب والقبول على مورد واحد فتعلّق القبول بعين ما تعلّق به الإيجاب ، غاية الأمر أنّ أحد الجزأين لم يسلّم للمشتري خارجاً ، كما لو باعه جزأي الكتاب وشراهما المشتري كذلك ، فانكشف أنّ أحد الجزأين لثالث ولم يجز البيع ، فإنّ الصفقة التي ورد عليها الإيجاب والقبول معاً قد تبعّضت خارجاً ، فلا جرم يتدارك بجعل الخيار. وكما لو آجر الدار إلى سنة ثمّ باعها على النهج

٤٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعارف أي مع المنفعة ولم يجز مالكها أي المستأجر فإنّ المبيع هو الدار ذات المنفعة وقد شراها المشتري كذلك ، غير أنّ المنفعة لم تسلّم له ، فيتدارك بجعل الخيار باعتبار أنّه اشترى شيئين ولم يسلّما له.

أمّا في المقام فقد قصد البائع العين المجرّدة ، والمشتري العين ذات المنفعة ، فكيف يمكن الحكم بالصحّة مع عدم المطابقة؟! وهكذا الحال في بقيّة الموارد ، كما لو كانت العين والمنفعة كلتاهما ملكاً له بسبب واحد ، وفي مقام البيع قال : بعتك العين مسلوبة المنفعة ، وقال المشتري : قبلت غير مسلوبة المنفعة ، فلا جرم يحكم بالبطلان ، لعدم المطابقة بين الإيجاب والقبول ، بعد تباين الماهيّة بشرط لا معها بشرط شي‌ء.

أذن فما ذكره من ثبوت الخيار لم يعرف له أيّ وجه ، بل إمّا صحيح لا خيار له ، أو باطل من أصله ، فليتأمّل (١).

وقد عرفت أنّ ظاهر البيع من غير نصب قرينة على الخلاف وقوعه على النهج المتعارف بين الناس ، أعني : إرادة العين مع المنفعة وتعلّق الإنشاء بها بتبع العين. وعليه ، فيحكم بالصحّة من دون الخيار ، إذ العبرة بملكيّتهما معاً بأيّ سبب كان ، ولا يعتبر الاتّحاد والمفروض أنّه مالك لهما.

__________________

(١) كي لا يتوهّم التنافي بين ما أفاده (دام ظلّه) في المقام وبين ما تقدّم في المسألة الاولى من الفصل الثاني في أوّل الكتاب من ثبوت الخيار للمشتري مع الجهل ، لكون المفروض هناك تعلّق البيع بالعين المستأجرة على النهج المتعارف أي بمالها من المنفعة وإن لم تنتقل إلى المشتري إلّا مسلوبة فيما إذا لم يجز المستأجر ، فلاحظ.

٤٩١

[٣٣٨٤] الخامسة عشرة : إذا استأجر أرضاً للزراعة مثلاً فحصلت آفة سماويّة أو أرضيّة توجب نقص الحاصل (١) لم تبطل ، ولا يوجب ذلك نقصاً في مال الإجارة ولا خياراً للمستأجر (٢). نعم ، لو شرط على المؤجر إبراءه من ذلك (٣) بمقدار ما نقص بحسب تعيين أهل الخبرة ثلثاً أو ربعاً أو نحو ذلك أو أن يهبه ذلك المقدار إذا كان مال الإجارة عيناً شخصيّة فالظاهر الصحّة ، بل الظاهر صحّة اشتراط البراءة على التقدير المذكور بنحو شرط النتيجة ، ولا يضرّه التعليق ، لمنع كونه مضرّاً في الشروط.

______________________________________________________

(١) كشدّة الحرّ أو فيضان البحر بحيث لم يستنتج من الحاصل ما كان متوقّعاً.

(٢) والوجه في الكلّ ظاهر ، إذ لا مقتضي للبطلان بعد أن كانت الأرض ذات منفعة وصالحة للزراعة ، ولا للخيار بعد أن كانت الآفة لأمر خارجي. ومنه تعرف عدم نقص في الأُجرة ، لعدم نقص في المنفعة من ناحية العين المستأجرة.

(٣) إذا احتمل المستأجر عروض نقص في الحاصل فيمكنه التخلّص عن ذلك بالاشتراط ، إمّا على سبيل شرط الفعل بأن يشترط إبراءه عن الأُجرة بمقدار ما نقص ، أو هبته لو كانت الأُجرة شخصيّة ، أخذاً بعموم دليل نفوذ الشرط بعد اغتفار الجهالة فيه كما لا يخفى.

أو على سبيل شرط النتيجة بأن تكون ذمّته بريئة لدى عروض النقص ، فإنّ شرط النتيجة إذا لم تكن متوقّفة على سبب خاصّ كالملكيّة والإبراء ونحوهما أمرٌ سائغ كما تقدّم ، فينشأ الإبراء في ظرفه من الآن بنفس الشرط بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، وإنّما لا يسوغ فيما إذا كانت منوطة بسبب خاصّ

٤٩٢

نعم ، لو شرط براءته على التقدير المذكور حين العقد بأن يكون ظهور النقص كاشفاً عن البراءة من الأوّل فالظاهر عدم صحّته (*) ، لأوْله إلى الجهل بمقدار مال الإجارة حين العقد.

______________________________________________________

كالنكاح والطلاق والضمان ونحوها.

ونحوهما أمرٌ سائغ كما تقدّم ، فينشأ الإبراء في ظرفه من الآن بنفس الشرط بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، وإنّما لا يسوغ فيما إذا كانت منوطة بسبب خاصّ كالنكاح والطلاق والضمان ونحوها.

نعم ، تبقى في المقام شبهة التعليق ، حيث إنّ الإبراء معلّق على مجي‌ء الزمان المتأخّر وعلى حصول النقص في الحاصل.

ولكنّها مندفعة بما في المتن من عدم كونه قادحاً في الشرط ، كما لو باع داره واشترط عليه معالجة المريض في شهر رجب مثلاً إذ لا دليل على البطلان به إلّا الإجماع ومورده التعليق في العقد نفسه ، كأن يبيع معلّقاً على مجي‌ء زيد من السفر. وأمّا بالنسبة إلى الشرط فلا إجماع ، ومقتضى الإطلاقات صحّته ونفوذه حتى مع التعليق.

غير أنّ الماتن (قدس سره) استثنى من ذلك صورة واحدة ، وهي ما لو رجع الشرط المزبور إلى كشف ظهور النقص عن البراءة على سبيل شرط النتيجة من الأوّل ، فحكم (قدس سره) في مثله بعدم الصحّة ، لرجوعه إلى الجهل بمقدار الأُجرة ، إذ معناه : أنّ الأُجرة على تقدير عدم النقص مائة وعلى تقدير النقص خمسون مثلاً فلأجل جهالة التقدير تكون الأُجرة أيضاً مجهولة

__________________

(١) بل الظاهر صحّته ، فإنّ البراءة إنّما هي في الآن المتأخّر عن زمان الاشتغال ، فلا جهل بمقدار مال الإجارة أصلاً.

٤٩٣

[٣٣٨٥] السادسة عشرة : يجوز إجارة الأرض (*) مدّة معلومة بتعميرها وإعمال عمل فيها من كري الأنهار وتنقية الآبار وغرس الأشجار (١) ونحو ذلك ، وعليه يحمل قوله (عليه السلام) (**) : لا بأس بقبالة الأرض من أهلها بعشرين سنة أو أكثر فيعمرها ويؤدّي ما خرج عليها. ونحوه غيره.

______________________________________________________

فتبطل الإجارة.

ويندفع : بأنّ البراءة فرع الاشتغال ، فهي متأخّرة عنه لا محالة ، إذن فلا يستوجب اشتراطها حتى من الأوّل الجهل بكمّيّة الأُجرة ، بل هي معيّنة معلومة والذمّة بها مشغولة ، غير أنّها على تقدير النقص تبرأ آناً ما بعد اشتغالها ، كما لو أبرأه المؤجر بلا شرط فقال : آجرتك بمائة وأبرأتك من خمسين ، فإذا جاز ذلك جاز مشروطاً بشرط متأخّر وهو حصول النقص في ظرفه.

(١) لا إشكال في صحّة قبالة الأرض بأن يتقبّل الرجل من شخص أرضاً ليعمرها نحو عمارة من غرس الأشجار أو تنظيف الأنهار والآبار وما شاكل ذلك إلى مدّة معيّنة ، على أن يكون حاصل الأرض للعامل وبعد انقضاء المدّة يكون لصاحب الأرض.

وهذه العمليّة تسمّى بالتقبيل والتقبّل ، والفعل الصادر منهما يدعي بالقبالة.

وقد دلّت على جوازها وصحّتها عدّة من الأخبار وجملة منها صحاح ، التي منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : إنّ القبالة أن تأتي الأرض الخربة فتقبلها من أهلها عشرين سنة أو أقلّ من ذلك أو أكثر فتعمرها

__________________

(*) هذا إذا كان العمل معيّناً كمّاً وكيفاً.

(**) الرواية منقولة بالمعنى.

٤٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وتؤدّي ما خرج عليها ، فلا بأس به» (١).

وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام) : «لا بأس بقبالة الأرض من أهلها بعشرين سنة أو أقلّ أو أكثر فيعمرها ويؤدّي خراجها ، ولا يدخل العلوج في شي‌ء من القبالة ، لأنّه لا يحلّ» (٢).

ومنه تعرف أنّ الرواية المذكورة في المتن منقولة بالمعنى.

وكيفما كان ، فلا إشكال في صحّة هذه المعاملة.

وإنّما الكلام في أنّها هل هي إجارة كما عبّر بها في المتن أو لا؟ وعلى الأوّل فهل المستأجر هو العامل الذي يعمر الأرض ، والمؤجّر هو صاحب الأرض ، أو أنّ الأمر بالعكس والمؤجّر إنّما هو العامل الذي يؤاجر نفسه لعمارة الأرض ، والأُجرة هي منفعة الأرض والمستأجر صاحبها؟

ولا يخفى عدم ترتّب أثر عملي لبيان ذلك وأنّ القبالة المزبورة هل هي معاملة مستقلّة أو أنّها مندرجة تحت عنوان الإجارة أو غيرها؟ ومن هو المؤجر والمستأجر بعد قيام الدليل على صحّتها ونفوذها على كلّ تقدير حسبما عرفت؟

وقد وقع نظير ذلك في البيع لدى تشخيص البائع عن المشتري فيما لو كان الثمن والمثمن كلاهما من العروض أو كلاهما من النقود.

وقد ذكرنا في كتاب البيع ضابطة عرفيّة لتشخيص البائع عن المشتري ، حاصلها : أنّ البائع بحسب الارتكاز المغروس في أذهان العرف هو الذي يتحفّظ على ماليّة ماله من غير نظر منه إلى خصوصيّة العين ، بل همّه الاستبدال

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٤٦ / كتاب المزارعة ب ١١ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٩٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٩٣ ح ٣.

٤٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والاسترباح وازدياد المال. أمّا المشتري فهو ناظر إلى الخصوصيّة القائمة بالعين التي يتصدّى لشرائها ، لكونه بحاجة إلى بضاعة كذائيّة فيشتريها فهو طالب لخصوصيّة المال ولا يريد كلّ ما له مالية كيفما اتفق (١).

وبالجملة : فالبائع يطلب الماليّة ، والمشتري يطلب الخصوصيّة. ومن ثمّ يروم الأوّل العثور على النقود والأثمان ، والثاني على الأشخاص والأعيان.

وعليه ، فإذا فرضنا أن كلا طرفي المعاوضة من العروض والأعيان فاحتاج أحدهما إلى كتاب المكاسب مثلاً والآخر إلى كتاب الرسائل ، فتبادلا بجعل أحدهما عوضاً عن الآخر ، فالظاهر عدم التمييز وقتئذٍ بين البائع والمشتري حتى في نفس الأمر وصقع الواقع ، لتساوي النسبة بينهما وكونهما على حدٍّ سواء بالإضافة إلى العقد من غير ترجيح في البين بعد أن كان كلّ واحد منهما طالباً للخصوصيّة القائمة بالعين لا لمحض الماليّة ، فلا يقال : إنّ صاحب المكاسب بائع والآخر مشترٍ أو العكس.

ونحوه ما لو كان كلاهما من الأثمان.

بل الظاهر أنّ هذه مبادلة خاصّة ومعاملة برأسها خارجة عن عنوان البيع والشراء ، فإنّ البيع وإن كان هو مبادلة مال بمال إلّا أنّه ليس كلّ مبادلة مال بمال بيعاً ، بل خصوص ما إذا كان أحد المتبادلين ناظراً إلى الماليّة والآخر إلى الخصوصيّة ، غير المنطبق على المقام حسبما عرفت.

هذا ، والظاهر انسحاب الضابطة المزبورة إلى باب الإجارة أيضاً ، فالمستأجر هو الذي ينظر إلى خصوصيّة المنفعة القائمة بالعين المستأجرة ، فهو بمثابة المشتري

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٢ : ١١ ـ ١٢.

٤٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

في البيع ، كما أنّ المؤجر هو الناظر إلى الماليّة فحسب كالبائع ، ولا فرق بين البابين من هذه الجهة ما عدا أنّ المتعلّق في أحدهما العين وفي الآخر المنفعة. وعليه ، فلو فرضنا أنّ كلّاً منهما ناظر إلى الخصوصيّة ، كما لو اتّفقا على أن يخيط أحدهما للآخر ثوباً إزاء أن يبني الآخر له حائطاً ، فوقعت المبادلة بين عملين.

أو وقعت بين منفعتين ، كما لو كانت لأحدهما دار صغيرة ولكنّها قريبة من الصحن الشريف ، وللآخر دار كبيرة ولكنّها بعيدة ، فاتّفقا على المبادلة بين سكنى الدارين إلى سنة واحدة.

أو بين منفعة وعمل ، كما لو تبادلا بين سكنى الدار شهراً وبين الخياطة ثوباً.

ففي جميع ذلك بما أنّ النسبة من كلّ من الجانبين متساوية لأنّ كلّاً منهما يطلب الخصوصيّة فلا يختصّ أحدهما باسم المستأجر أو المؤجر دون الآخر. ومن ثمّ كان الأظهر خروج ذلك عن باب الإجارة رأساً وكونها معاملة مستقلّة ومبادلة برأسها واقعة بين منفعتين ، أو عملين ، أو مختلفين كالعينين في البيع.

ومقامنا من القسم الأخير ، حيث إنّ طرف المبادلة من جانب صاحب الأرض هو منفعة العين ، ومن الجانب الآخر هو العمل ، وهي كما عرفت معاوضة خاصّة خارجة عن باب الإجارة محكومة بالصحّة بمقتضى القواعد العامّة والنصوص الخاصّة الواردة في المقام.

ثمّ إنّه كان على الماتن (قدس سره) أن ينبّه على أنّ هذه المعاملة سواء أكانت إجارة أم لا لا بدّ فيها أن يكون العمل معلوماً ، حذراً عن الجهالة المؤدّية إلى الغرر الموجب للفساد ، ولعلّه مفروغ عنه في كلامه (قدس سره).

٤٩٧

[٣٣٨٦] السابعة عشرة : لا بأس بأخذ الأُجرة على الطبابة وإن كانت من الواجبات الكفائيّة (١) ، لأنَّها كسائر الصنائع واجبة بالعرض لانتظام نظام معايش العباد ، بل يجوز وإن وجبت عيناً لعدم من يقوم بها غيره. ويجوز اشتراط كون الدواء عليه مع التعيين الرافع للغرر (٢) ، ويجوز أيضاً مقاطعته على المعالجة إلى مدّة أو مطلقاً (٣) ،

______________________________________________________

(١) فإنّها وإن كانت واجبة بالعرض باعتبار توقّف بقاء النظام عليها كسائر أنواع الحرف والصناعات الدخيلة في حفظ النظام المحكومة بكونها واجبات عرضيّة كفائيّة إلّا أنّ هذا الوجوب لا يمنع عن أخذ الأُجرة ، إذ الواجب إنّما هو طبيعي الطبابة مثلاً لا بقيد المجّانيّة ، فلا مانع إذن من أخذ المال بإزائها ، بل الأمر كذلك حتى لو انقلب إلى الوجوب العيني لأجل عدم وجود من به الكفاية غيره ، لعين المناط.

(٢) لعموم دليل نفوذ الشرط.

(٣) فلا يعتبر ذكر المدّة إذا كان للمعالجة حدّ خاصّ معروف بحسب المتعارف الخارجي وإن كان قد يزيد أو ينقص ممّا يتسامح فيه بحيث يندفع به الغرر ، كما هو المتداول في المستشفيات في العصر الحاضر ، فيعلم أنّ المرض الكذائي يستوعب كذا مدّة من الزمان وإن كان قد يتخلّف بما يتسامح فلا يعتبر التدقيق.

وقد تقدّم (١) في أوّل كتاب الإجارة أنّ ضبط المدّة وتعيينها إنّما يعتبر فيما تختلف الماليّة من أجلها ، كما في سكنى الدار ، لا في مثل الخياطة والاستنساخ ونحوهما ممّا لم تكن المدّة ملحوظة ومنظورة عرفاً ما لم تشترط ، فلا تضرّ في

__________________

(١) في ص ٦١ ـ ٦٣.

٤٩٨

بل يجوز المقاطعة عليها بقيد البرء أو بشرطه (١) إذا كان مظنوناً بل مطلقاً (*).

وما قيل من عدم جواز ذلك ، لأنّ البرء بيد الله فليس اختياريّاً له ، وأنّ اللازم مع إرادة ذلك أن يكون بعنوان الجعالة لا الإجارة.

______________________________________________________

مثلها الجهالة بعد معلوميّة متعلّق الإجارة ونحوها المقاطعة مع الطبيب للمعالجة ، فلا يلزم ذكر المدّة بعد كونها متعارفة وأنّه يموت فيها أو يبرأ عادةً.

(١) قد تتعلّق الإجارة بحصّة خاصّة من المعالجة ، وهي المتّصفة بكونها موصلة إلى البرء ، والمتقيّدة بهذا الوصف العنواني. وأُخرى : تتعلّق بطبيعي المعالجة ويكون الإيصال إلى البرء شرطاً ملحوظاً في العقد لا يترتّب على فقده إلّا الخيار. وعلى التقديرين فقد حكم الماتن (قدس سره) بصحّة المقاطعة ، سواء أكان البرء مظنوناً أم مشكوكاً.

وأجاب (قدس سره) عمّا قيل بعدم الجواز استناداً إلى خروج البرء عن الاختيار فلا يصحّ أخذه شرطاً ولا قيداً في الإجارة إلّا إذا كان على سبيل الجعالة ، بكفاية كون مقدّماته العاديّة اختياريّة ، وإلّا لما صحّت الجعالة أيضاً ، لعدم صحّة الجعالة على أمر غير اختياري.

أقول : أمّا المقاطعة المزبورة على سبيل الاشتراط فالظاهر جوازها كما ذكره (قدس سره) ، لما مرّ غير مرّة من رجوع الشرط المبني عليه العقد إلى الالتزام بالفعل تارةً ، وإلى جعل الخيار على تقدير التخلّف تارةً أُخرى ، أعني : ما إذا

__________________

(*) يشكل الحكم بالصحّة في فرض التقييد مع الظنّ بالبرء أيضاً. نعم ، لا تبعد الصحّة مع الاطمئنان به.

٤٩٩

فيه : أنّه يكفي كون مقدّماته العاديّة اختياريّة ولا يضرّ التخلّف في بعض الأوقات ، كيف؟! وإلّا لم يصحّ بعنوان الجعالة أيضاً (*).

______________________________________________________

كان الشرط خارجاً عن الاختيار وغير قابل لوقوعه مورداً للإلزام والالتزام ، كبيع العبد بشرط أن يكون كاتباً ، فإنّ الكتابة وإن كانت خارجة عن القدرة إلّا أنّ اشتراطها لا يضرّ بصحّة العقد ، فإنّ مرجعه إلى عدم الالتزام به على تقدير التخلّف. إذن فلا مانع من اشتراط البرء وإن كان خارجاً عن اختيار الطبيب بعد أن كان متعلّق الإجارة وهي ذات المعالجة مقدورة ، غايته ثبوت الخيار على تقدير التخلّف. وهذا ظاهر.

وأمّا المقاطعة على سبيل التقييد بأن يكون متعلّق الإجارة خصوص الحصّة الموصلة من المعالجة إلى البرء لا طبيعيّها فالظاهر عدم جوازها.

أمّا أوّلاً : فلأجل لزوم الغرر ، إذ بعد فرض عدم العلم بالإيصال وخروج البرء عن تحت الاختيار واختصاص القدرة بذات المعالجة لا هي مع النتيجة التي قد تحصل وقد لا تحصل ، فالإجارة مع هذه الحالة غرريّة لا محالة ، فتبطل.

وأمّا ثانياً : فمع الإغماض عن ذلك وتسليم عدم نهوض دليل على بطلان المعاملة الغرريّة فيما عدا البيع كما قيل فيكفي في الحكم بالبطلان لزوم التعليق المجمع على قدحه في العقود.

بيان ذلك أنّا قد ذكرنا في الأُصول في مطاوي مباحث الواجب المعلّق والمشروط (١) : أنّ القيود الملحوظة في مورد التكليف على ضربين : فتارةً تكون

__________________

(*) الفرق بين الجعالة والإجارة من هذه الجهة ظاهر.

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٢٤ و ٣٤٧ وما بعدها.

٥٠٠