موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

وإنّما هي ناظرة إلى المال التالف عرفاً لا إلى المال المعرض عنه ، حيث إنّ المال المغروق من أجل عدم تيسّر الوصول إليه عادةً يعدّ تالفاً في نظر العرف ، إذن فما تضمّنته من كونه للمخرج حكم تعبّدي في مورد خاصّ ، نظير ما ورد في اللقطة من جواز استملاك الشاة الملتقطة في البرّ من قوله (عليه السلام) في صحيحة هشام : «هي لك أو لأخيك أو للذئب» إلخ (١) ، غاية الأمر أنّ الحكم هناك لما هو في معرض التلف ، وفي المقام حكم للتالف ، وكلاهما حكم تعبّدي في مورد خاصّ ولا مساس له بباب الإعراض بوجه.

وعلى الجملة : لم يرد في مسألة الإعراض نصّ يعوّل عليه بعد أن كانت خلافيّة وذات قولين ، وإن كان المشهور ما عرفت من كونه مزيلاً للملك ، إلّا أنّ جماعة أُخرى ذهبوا إلى أنّه لا يترتّب عليه إلّا إباحة التصرّف لكلّ أحد ، التي هي المدلول الالتزامي لرفع اليد عن العين من غير أن تزول الملكيّة بمجرّد الإعراض.

وليس في البين أيّ دليل يتمسّك به إلّا السيرة العقلائيّة الممضاة بعدم الردع بعد أن كانت المسألة ممّا تعمّ بها البلوى.

والظاهر لدينا بعد مراجعة السيرة والتدقيق فيما استقرّ عليه بناء العرف والعقلاء عدم كون الإعراض مزيلاً للملك بحيث تكون الملكيّة تحت اختيار الشخص له إزالتها عن نفسه بمجرّد رفع اليد وإلقائه المال في البرّ مثلاً من دون وجود أيّ سبب شرعي مزيل ، ويكون بعدئذٍ بمثابة المباحات الأصليّة يسوغ لكلّ أحد تملّكه.

ألا ترى أنّه لو ندم عن إعراضه وعاد إليه وطالبه ممّن أخذه قبل أن

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٥٧ / كتاب اللقطة ب ١٣ ح ١.

٤٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

يتصرّف فيه فإنّه لا ينبغي الشكّ في استقرار السيرة على أنّ الآخذ لم تكن له معارضة المالك في ذلك بدعوى أنّه مباح أصلي سبقته في الاستيلاء عليه بعد أن زال حقّه بالإعراض عنه ، بل يرونه وقتئذٍ ملزماً بالتخلية عنه وتسليمه إلى المالك بالضرورة. وهذا كاشف قطعي عن عدم زوال الملك بمجرّد رفع اليد ، وإلّا لما كان صاحبه أحقّ به ، غاية ما هناك أنّ الآخذ كان يستباح له التصرّف لولا مراجعة المالك ومطالبته ، فأقصى ما يترتّب على الإعراض هو مدلوله الالتزامي ، أعني : إباحة التصرّف لا ملكيّة المتصرّف.

ولكن هذه الإباحة لم تكن على حدّ الإباحة في باب العارية ونحوها بحيث تتّصف بالجواز المطلق ، ويكون للمالك الرجوع عن إباحته متى شاء.

بل هي شبيهة بالإباحة في باب المعاطاة التي التزم بها جماعة ، أو أنّها عينها في الاتّصاف بعد تعلّقها بعامّة التصرّفات باللزوم وعدم حقّ في الرجوع بعد أن أحدث الآخذ حدثاً في العين وتصرّف فيه نحو تصرّف ، فلو كان ثوباً ففصّله ، أو خشبة فنحتها وجعلها سريراً مثلاً بل حتى لو كان التصرّف بمثل النقل إلى مكان آخر بعيد ، كما لو أخذ أحدٌ ما أعرض عنه المسافر في الطريق وجاء به إلى بلده فإنّه ليس للمالك المراجعة والمطالبة حينئذٍ بالسيرة العقلائيّة ، فهذه سنخ إباحة يعبّر عنها بالإباحة اللازمة بالتصرّف بالمعنى الواسع لمفهوم التصرّف حسبما عرفت.

نعم ، ربّما تستتبع هذه الإباحة للملكيّة فيما لو كان التصرّف المفروض إباحته متوقّفاً عليها ، كالبيع ، حيث إنّه لا بيع إلّا في ملك ، فيلتزم بانتقاله إلى ملك الآخذ آناً ما قبل تحقّق البيع ، بعد أن كان المدلول الالتزامي للإعراض هو الترخيص في عامّة التصرّفات حتى المتوقّفة على الملك.

وبعبارة أُخرى : البيع المرخّص فيه لم يكن فضوليّاً موقوفاً على إجازة المعرض.

٤٦٢

[٣٣٧٤] الخامسة : إذا استأجر القصّاب لذبح الحيوان فذبحه على غير الوجه الشرعي بحيث صار حراماً ضمن قيمته (١) ، بل الظاهر ذلك إذا أمره (٢) بالذبح تبرّعاً ، وكذا في نظائر المسألة.

______________________________________________________

ونتيجته : ما عرفت من الالتزام بانتقال الملك إليه.

وخلاصة الكلام : أنّ ملاحظة السيرة تقضي بعدم الخروج عن الملك بمجرّد الإعراض ، ومن ثمّ ساغ له الرجوع وليس للآخذ الامتناع ما لم يتصرّف ، فلا يترتّب على الإعراض بما هو إعراض عدا الإباحة لا زوال الملك ، غاية الأمر أنّ الإباحة تتّصف باللزوم بعد التصرّف ، بل تستتبع الملك في التصرّف المتوقّف على الملك ، فلا يكون استملاك الآخذ بمناط استيلائه على المباح الأصلي ليدّعى زوال الملك بالإعراض ، بل بمناط دلالته على إباحة عامّة التصرّفات حتى المتوقّفة على الملك حسبما عرفت.

(١) لما تقدّم من ضمان من استؤجر ليصلح فأفسد (١) ، على ما دلّ عليه غير واحد من الأخبار ، فإنّه إتلاف لمال الغير بغير إذنه بعد تغاير ما وقع عمّا وقعت الإجارة عليه ، ومن ثمّ لا يستحقّ الأُجرة أيضاً ، بل إمّا أن تنفسخ الإجارة أو يثبت الخيار والمطالبة بأُجرة المثل عوضاً عن العمل المتعذّر لو لم يفسخ ، على الخلاف المتقدّم في محلّه (٢) ، وقد عرفت أنّ الأظهر هو الثاني.

(٢) أو بدونه مع العلم برضاه ، وذلك لقاعدة الإتلاف المستفادة من النصوص المتفرّقة وإن لم ترد بصورة : من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، في رواية معتبرة ، وإنّما هي عبارة دارجة في ألسنة الفقهاء فحسب كما تقدّم (٣).

__________________

(١) في ص ٢٥٥.

(٢) في ص ٢٤٠ ـ ٢٤٧.

(٣) في ص ١٦٩ و ٢٠٦.

٤٦٣

[٣٣٧٥] السادسة : إذا آجر نفسه للصلاة عن زيد فاشتبه وأتى بها عن عمرو فإن كان من قصده النيابة (١) عمّن وقع العقد عليه وتخيّل أنّه عمرو فالظاهر الصحّة عن زيد واستحقاقه الأُجرة ، وإن كان ناوياً النيابة عن عمرو على وجه التقييد لم تفرغ ذمّة زيد ولم يستحقّ الأُجرة ، وتفرغ ذمّة عمرو إن كانت مشغولة ، ولا يستحقّ الأُجرة من تركته ، لأنّه بمنزلة التبرّع. وكذا الحال في كلّ عمل مفتقر إلى النيّة.

______________________________________________________

(١) ما ذكره (قدس سره) من التفصيل هو الصحيح.

وتوضيحه : أنّه قد يفرض أنّ الاشتباه في مجرّد الاسم ، كما لو تخيّل أنّ من استؤجر للنيابة عنه اسمه عمرو فنوى عنه وهو مسمّى بزيد ، وهذا لا إشكال فيه قطعاً ، بل هو خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ عنوان عمرو إشارة محضة إلى من استؤجر عنه ، ومعرفة الاسم لا مدخليّة لها في الصحّة بالضرورة ، فإنّه في الحقيقة قاصد للنيابة عن والد بكر الذي وقعت الإجارة عنه ، وهو شخص واحد قد يشتبه عليه اسمه ، ولا ضير فيه أبداً.

واخرى : يفرض أنّ هناك شخصين ، فليفرض أنّ أحدهما زيد والد المستأجر ، والآخر عمرو جدّه ، وقد وقعت الإجارة للنيابة عن الأوّل ، وتخيّل الأجير وقوعها عن الثاني فنواه. وهذا هو محلّ الكلام ومورد للوجهين المذكورين في المتن من أنّه :

قد يكون ذلك من باب الاشتباه في التطبيق ، بمعنى تعلّق القصد الكامن في أُفق النفس بمن وقعت الإجارة عنه ، غير أنّه اشتبه فتخيّل أنّ مصداقه عمرو ولأجله نواه ، فهو وإن قصد النيابة عن عمرو إلّا أنّ مورد القصد لم يكن هو عمرو بعنوان أنّه عمرو ، بل بعنوان أنّه مصداق لمن وقعت الإجارة عنه ، وهذا

٤٦٤

[٣٣٧٦] السابعة : يجوز أن يؤاجر داره مثلاً إلى سنة بأُجرة معيّنة ويوكّل المستأجر في تجديد الإجارة عند انقضاء المدّة (١) ، وله عزله بعد ذلك ، وإن جدّد قبل أن يبلغه خبر العزل لزم عقده ، ويجوز أن يشترط في ضمن العقد أن يكون وكيلاً عنه في التجديد بعد الانقضاء ، وفي هذه الصورة ليس له عزله.

______________________________________________________

الاشتباه الراجع إلى مقام الانطباق حيث لم يستوجب خللاً فيما يراد منه من قصد النيابة فلا ضير فيه ولا يقدح في الصحّة عن زيد واستحقاق الأُجرة.

وأُخرى : يتعلّق القصد بالنيابة عن عمرو بعنوان أنّه عمرو بحيث أخذ تمام الموضوع في مقام اللحاظ المعبّر عنه في المتن بكونه على وجه التقييد ، غير أنّ الباعث على هذا الإقدام والداعي لهذه النيابة تخيّل كونه مورداً للإجارة فبان عدمه ، فكان ذلك من باب التخلّف في الداعي لا من باب الاشتباه في التطبيق كما في الصورة الأُولى.

ولا ريب هنا في أنّ ما كان مورداً للإجارة لم يؤت به وما اتي به لم يكن مورداً للإجارة فلم تفرغ ذمّة زيد.

نعم ، تفرغ ذمّة عمرو لو كانت مشغولة ، لوقوع عمل صحيح عنه وإن صدر بداعٍ مخالف للواقع ، غير أنّه لا يستحقّ الأُجرة من تركته ، لكونه بمثابة التبرّع كما أفاده (قدس سره).

وأمّا بالنسبة إلى الأُجرة المسمّاة فيجري فيه الخلاف المتقدّم من الانفساخ أو الخيار والمطالبة لو لم يفسخ بأُجرة المثل عوضاً عن العمل المستأجر عليه لدى تعذّره ، وقد عرفت أنّ الأظهر هو الثاني.

(١) لا إشكال في صحّة التوكيل المزبور بعد صدوره من المالك كصحّة عزله

٤٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بعد الوكالة ، لكونها من العقود الجائزة ، وكذا نفوذ التجديد الحاصل قبل بلوغ خبر العزل ، إذ لا أثر للعزل الواقعي ما لم يبلغ. وهذا كلّه ظاهر.

وإنّما الكلام في اشتراط ذلك في ضمن العقد بأن يجعله وكيلاً على سبيل شرط الفعل وأن لا يعزله ، فهل له العزل بعد ما وكّل أو لا؟

فيه كلام مذكور في باب الشروط مبني على أنّ الشرط هل يستوجب قصر سلطنة المشروع عليه عن ماله فلا يكون مسلّطاً على التصرّف فيه بعد إمضاء الشارع تصرّفاً منافياً لشرطه ، أو أنّه لا يوجبه؟

والمسألة عامّة سيّالة وغير خاصّة بباب الوكالة ، فلو باع داره واشترط أن لا يؤجرها أو لا يبيعها من عمرو فخالف وباع منه أو آجر ، أو اشترطت المرأة على زوجها أن لا يطلّقها فطلّق ، فهل يكون التصرّف المزبور المخالف للشرط صحيحاً ونافذاً بعد الاتّفاق على كونه عاصياً وآثماً؟ فإنّه قد يقال بعدم النفوذ نظراً إلى ما عرفت من أنّ الشرط يلغي السلطنة على التصرّف ، فلا جرم يحكم بفساد.

ولكنّا أشرنا في محلّه إلى أنّ ما يترتّب على نفوذ الشرط ليس إلّا الحكم التكليفي المحض والخيار للشارط عند التخلّف ، وليس معنى الوفاء بالشرط المستفاد وجوبه من مثل قوله (عليه السلام) : «المؤمنون عند شروطهم» أزيد من ذلك. ومن البيّن أنّ الوجوب التكليفي وحرمة المخالفة لا تنافي الصحّة الوضعيّة لو خالف ، ومن ثمّ لم يكن النهي المولوي التكليفي المتعلّق بالمعاملة موجباً لفسادها.

إذن فنفوذ الشرط لا يستوجب قصر السلطنة وزوالها ، لعدم كون ذلك من شؤون النفوذ ومقتضياته بوجه ، فلو خالف في المقام وعزل فقد صدر العزل من أهله وفي محلّه من حيث الوضع ، فلا مانع من ترتّب الأثر عليه ، وكذا في مسألة الطلاق ونظائره.

٤٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه في شرط الفعل.

وأمّا لو لوحظ التوكيل على سبيل شرط النتيجة بأن اشترط في متن العقد أن يكون وكيلاً عنه في التجديد فقد ذكر في المتن أنّه لا مانع منه ، وأنّ الوكالة تصبح بذلك لازمة ولا أثر بعدئذٍ لعزله. وهذا هو الصحيح.

والوجه فيه : ما أشرنا إليه في بعض المباحث السابقة من أنّ شرط النتيجة إنّما لا يصحّ فيما إذا كانت للنتيجة سبب خاصّ كالضمان فإنّ الشرط لا يحقّق تلك النتيجة ولا يحصّلها ما لم يقم عليه دليل آخر. وأمّا فيما لا يحتاج إلى سبب خاصّ بل يكفي مجرّد الإنشاء ممّن بيده الأمر وإبرازه كيفما كان ، فلا مانع في مثله من الالتزام بشرط النتيجة ، وهذا كما في الملكيّة ، حيث إنّها لا تختصّ بسبب معيّن ، بل قابلة للإنشاء بأيّ مبرز كان من بيع أو هبة أو مصالحة ونحوها من سائر الأسباب التي منها الشرط في ضمن العقد ، فلو باع الدار بشرط أن يكون مالكاً للدكّان أيضاً صحّ وملكه بنفس هذا الشرط ، لما عرفت من عدم احتياج الملكيّة إلى سبب خاصّ.

والوكالة أيضاً من هذا القبيل ، إذ يكتفى في تحقّقها بمجرّد الاعتبار النفساني وإبرازه بمبرزٍ ما ، والشرط من أحد أسباب الإبراز ، فكما أنّ الوكالة تتحقّق بإنشائها مستقلا فكذلك باشتراطها في ضمن العقد على سبيل شرط النتيجة ، فيشترط المستأجر أن يكون وكيلاً عن المؤجر في التجديد ، أو الزوجة أن تكون وكيلة عن الزوج في الطلاق ، وهكذا ، فيكون الشارط وكيلاً بنفس هذا الشرط.

نعم ، يفترق هذا عن الوكالة المنشأة استقلالاً في أنّه لا سبيل بعدئذٍ إلى العزل ، لأنّ هذه الوكالة إنّما تحقّقت من أجل نفوذ الشرط المحكوم باللزوم لكونه من توابع العقد اللازم ، فلزومها من شؤون لزوم العقد ومقتضياته ، نظراً إلى أنّ

٤٦٧

[٣٣٧٧] الثامنة : لا يجوز للمشتري (*) ببيع الخيار بشرط ردّ الثمن للبائع أن يؤاجر المبيع أزيد من مدّة الخيار للبائع (١) ، ولا في مدّة الخيار من دون اشتراط الخيار حتى إذا فسخ البائع يمكنه أن يفسخ الإجارة ، وذلك لأنّ اشتراط الخيار من البائع في قوّة إبقاء المبيع على حاله حتى يمكنه الفسخ ، فلا يجوز تصرّف ينافي ذلك.

______________________________________________________

ما دلّ على لزوم العقد فهو كما دلّ على لزوم أصله دلّ على لزوم ما يشتمل عليه من الشرط ، فإذا كان الشرط هو الوكالة فلا جرم كانت لازمة بتبع لزوم أصل العقد ، فالوكالة وإن كانت في نفسها من العقود الجائزة إلّا أنّه لا تنافي بين الجواز الطبعي وبين اللزوم العرضي الناشئ من قبل الوقوع في ضمن عقد لازم واشتراطه فيه ، فليس للمؤجّر عزله عن الوكالة في المقام ، كما ليس للزوج عزل الزوجة عن وكالتها في الطلاق المشترطة في عقد لازم بنحو شرط النتيجة.

(١) قد ذكرنا في محلّه أنّ الخيار الثابت في العقد سواء أكان أصليّاً أم جعليّاً متعلّق بنفس العقد ولا تعلّق له بالعين الخارجيّة المتعلّق بها العقد ، فالخيار متعلّق بالعقد والعقد متعلّق بالعين من دون تعلّق للخيار بنفس العين. ونتيجة ذلك : عدم كون الخيار مانعاً عن تصرّف من عليه الخيار فيما انتقل إليه ، فيجوز لبائع الحيوان التصرّف في الثمن أثناء الثلاثة أيّام ، لأنّه تصرّف في ملكه وصادر من أهله في محلّه ، غاية الأمر أنّ من له الخيار لو فسخ ووجد العين تالفة بتلف حقيقي أو حكمي رجع إلى البدل من مثل أو قيمة.

__________________

(*) هذا بحسب التكليف ، ولكنّه لو آجره لا تبعد الصحّة ، ولكنّه إذا فسخ العقد في وقته أخذ من المشتري بدل التالف من المنفعة.

٤٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والظاهر أنّ هذا ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال ، لما عرفت من كون موضوع الخيار هو العقد دون العين.

وإنّما الكلام في الخيار المجعول للبائع المشروط بردّ الثمن المشتهر باسم بيع الخيار ، كما لو باع داره واشترط لنفسه الخيار متى ما ردّ الثمن خلال ستّة أشهر مثلاً فهل يجوز للمشتري التصرّف في المبيع أثناء هذه المدة تصرفاً منافياً لرده من بيع ونحوه؟

لا ينبغي الشكّ في جوازه فيما إذا اكتنف البيع المزبور بقرائن تشهد بعدم تعلّق النظر بشخص المبيع ، وإنّما العبرة بنوعيّته وماليّته المتحقّقة في ضمن فرد آخر ، كما لو كان بحاجة إلى الدينار العراقي فباع دنانيره الكويتيّة بأقلّ من قيمتها مشروطاً بالخيار لدى ردّ الثمن بعد شهر مثلاً فإنّ من الضروري عدم تعلّق غرض بشخص الدينار الكويتي الذي وقع مورداً للبيع ، بل الغاية من الاشتراط المزبور التمكّن من استرداد هذا النوع من الدينار وإن تحقّق في ضمن فرد آخر.

وأمّا لو تعلّق النظر بشخص المبيع وقام الغرض به بخصوصه ، كما لو باع داره المسكونة ونحوها ممّا تتعلّق العناية باسترداد عينها ، فهل يسوغ للمشتري التصرّف المنافي لذلك من بيع أو إجارة في أزيد من مدّة الخيار ، أو بمقدارها بإجارة لازمة؟

ذهب جماعة ومنهم الماتن إلى عدم الجواز ، نظراً إلى أنّ جعل الخيار في أمثال هذه الموارد بمنزلة اشتراط الاقتناء وإبقاء المبيع على حاله ليتمكّن المشتري من استرداده على النحو الذي أخذه عند استلامه ، فلو آجرها بإجارة لازمة فهي طبعاً تردّ لدى الفسخ مسلوبة المنفعة ، والمفروض لزوم الردّ كما أخذ ، فلأجل كون التصرّف المزبور منافياً للاشتراط لم يكن جائزاً ولا نافذاً.

أقول : ما أُفيد ولعلّه المشهور بينهم وجيه بالنسبة إلى الحكم التكليفي ،

٤٦٩

[٣٣٧٨] التاسعة : إذا استؤجر لخياطة ثوب معيّن لا بقيد المباشرة

______________________________________________________

إذ الإبقاء وعدم التصرّف المنافي بعد أن كان مورداً للشرط ولو بالدلالة الالتزاميّة وجب الوفاء به وحرمت مخالفته بمقتضى عموم :

«المؤمنون عند شروطهم» ، فالإجارة في المقام بما أنّها مخالفة للشرط فهي غير جائزة ومحرّمة تكليفاً.

وأمّا حرمتها وضعاً ليحكم بالبطلان فيما لو عصى وارتكبها فهي مبنيّة على اقتضاء الشرط قصر سلطنة المالك على التصرّف في ماله ، وكونه بمثابة التخصيص في دليل سلطنة الناس على أموالهم.

وقد عرفت في المسألة السابقة منعه وأنّه لا يستفاد من أدلّة نفوذ الشرط شي‌ء آخر أكثر من الوجوب التكليفي والخيار لو تخلّف ، فلو خالف وتصرّف فهو تصرّف من أهله في محلّه ومحكوم بالصحّة بمقتضى الإطلاقات ، ولا أساس لقصر السلطنة.

إذن فالأوجه التفصيل بين الحكم التكليفي فلا يجوز ، وبين الوضعي فيجوز ويحكم بصحّة الإجارة ، غاية الأمر أنّه متى ما فسخ البائع في ظرفه طالب المشتري بعوض ما تلف من المنفعة.

ويطّرد ما ذكرناه في غير المقام أيضاً ، لكون المسألة سيّالة كما أشرنا إليه فيما مرّ.

فلو طلّق زوجته وليفرض الطلاق خلعيّاً ليتضمّن العوض فيكون أظهر وأشبه بالمقام واشترط عليها أن لا تتزوّج من زيد فخالفت وتزوّجت منه ، أو باع داره واشترط أن لا يبيعها أو لا يؤجرها من زيد فخالف ، وهكذا ، فإنّه عاصٍ في مخالفة الشرط بلا إشكال ، وأمّا البطلان فمبني على دلالة الشرط على

٤٧٠

فخاطه شخص آخر (١) تبرّعاً عنه استحقّ الأُجرة المسمّاة ، وإن خاطه تبرّعاً عن المالك لم يستحقّ المستأجَر (*) شيئاً وبطلت الإجارة (**) ، وكذا إن لم يقصد التبرّع عن أحدهما ولا يستحقّ على المالك اجرة ، لأنّه لم يكن مأذوناً من قبله وإن كان قاصداً لها أو معتقداً أنّ المالك أمره بذلك.

______________________________________________________

قصر السلطنة التي عرفت منعها ، فالأقوى صحّة العقد المشروط عدمه في أمثال هذه الموارد.

(١) الشخص الخائط في مفروض المسألة :

تارةً : يقصد التبرّع عن الأجير.

واخرى : عن المالك.

وثالثةً : لا هذا ولا ذاك ، بل يعمل بقصد أخذ الأُجرة من المالك إمّا لاعتقاده أنّ له ذلك ، أو تخيّل أنّه الأجير دون الآخر.

أمّا في الصورة الاولى : فلا ينبغي الشكّ في بقاء الإجارة على صحّتها واستحقاق الخيّاط للأُجرة المسمّاة ، إذ العمل المستأجر عليه بعد أن لم يكن مقيّداً بالمباشرة فهو دين ثابت في ذمّته قد وافاه غيره ، وقد دلّت السيرة العقلائيّة مضافاً إلى بعض الأخبار الواردة في باب الزكاة على جواز التصدّي لتفريغ ذمّة الغير وأداء دينه ولو من غير إذنه ورضاه ، فبعد التبرّع المزبور تصبح الذمّة فارغة ، ولأجله يستحقّ الأُجرة.

ويجري هذا في البيع أيضاً ، فلو اشترى وتبرّع غيره بالثمن ملك المبيع بعين

__________________

(*) المستأجَر بالفتح ، أي الأجير.

(**) في إطلاقه إشكال ، وقد مرّ التفصيل في نظائره.

٤٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

المناط المذكور.

وأمّا في الصورة الثانية : سواء أكان المتبرّع ملتفتاً إلى الإجارة أم لا فقد حكم في المتن بعدم استحقاق الأُجرة ، لبطلان الإجارة من أجل تعذّر العمل بعد عدم قبول المحلّ لخياطة ثانية.

وهو وجيه ، بناءً على مسلكه (قدس سره) من الالتزام بالانفساخ مطلقاً في أمثال المقام ممّا تعذّر فيه العمل المستأجر عليه.

ولكنّك عرفت أنّ الأظهر التفصيل بين عروض التعذّر قبل مضيّ زمان يمكن حصول العمل فيه وبين عروضه بعده.

ففي الأوّل كما لو استؤجر للخياطة يوم الجمعة فبادر المتبرّع يوم الخميس يتّجه البطلان ، لكشف طروّ العذر وقتئذٍ عن عدم قدرته على العمل بتاتاً ، فلم يكن مالكاً له ليملكه.

وأمّا في الثاني بأن كان الوقت موسّعاً كالخياطة خلال الشهر ، فسبقه المتبرّع في اليوم العاشر فلم يتّضح أيّ وجه حينئذٍ للبطلان ، إذ العمل في ظرفه المقرّر كان مقدوراً ومملوكاً له وهو متمكّن من تسليمه وقد أخّره باختياره استناداً إلى سعة الوقت ، فما هو الموجب للانفساخ؟! بل المالك يملك العمل في ذمّة الأجير وهو يملك الأُجرة على المالك ، فله مطالبة الأجير بقيمة العمل المتعذّر بعد دفع المسمّاة ، كما أنّ له الفسخ بمقتضى تعذّر التسليم.

ومنه يظهر الحال في الصورة الثالثة وأنّه لا موجب أيضاً للانفساخ ، بل غايته الخيار حسبما عرفت ، كما لا يستحقّ العامل شيئاً على المالك بعد عدم صدور العمل بإذنه وأمره ، نظير من بنى دار زيد في غيابه بقصد أخذ الأُجرة منه ، فإنّه لا يستوجب الاستحقاق بعد أن لم يكن مضموناً عليه.

٤٧٢

[٣٣٧٩] العاشرة : إذا آجره ليوصل مكتوبة إلى بلد كذا إلى زيد مثلاً في مدّة معيّنة فحصل مانع في أثناء الطريق أو بعد الوصول إلى البلد (١) ، فإن كان المستأجر عليه الإيصال وكان طيّ الطريق مقدّمة لم يستحقّ شيئاً ، وإن كان المستأجر عليه مجموع السير والإيصال استحقّ بالنسبة ، وكذا الحال في كلّ ما هو من هذا القبيل ، فالإجارة مثل الجعالة قد يكون على العمل المركّب من أجزاء ، وقد تكون على نتيجة ذلك العمل ، فمع عدم حصول تمام العمل في الصورة الأُولى يستحقّ الأُجرة بمقدار ما أتى به ، وفي الثانية لا يستحقّ شيئاً ، ومثل الصورة ما إذا جعلت الأُجرة في مقابلة مجموع العمل من حيث المجموع ، كما إذا استأجره للصلاة أو الصوم فحصل مانع في الأثناء من إتمامها.

______________________________________________________

(١) فصّل (قدس سره) حينئذٍ بين وقوع الإجارة على نتيجة العمل أو على المجموع من حيث المجموع ، وبين وقوعها على العمل المركّب من أجزاء ، فيستحقّ الأُجرة بمقدار ما أتى به في الأخير دون الأولين.

وتوضيح كلامه (قدس سره) : أنّ الصور المعقولة في المقام أربع :

الأُولى : انحلال الإجارة إلى إجارات عديدة بعدد أجزاء العمل من غير دخل للهيئة التركيبيّة ، فلوحظ كلّ جزء مستقلا وبحياله قد وقعت الأُجرة بإزائه ، وقد جمع بين الكلّ في إنشاء واحد بحيث تقسّط الأُجرة على الجميع بنسبة واحدة.

كما لو استؤجر لصيام شهر بثلاثين درهماً ، أو الصلاة سنة باثني عشر ديناراً ، فصام عشرة أيّام أو صلّى شهراً فعجز عن الباقي ، فإنّ متعلّق الإجارة منبثّ في الحقيقة على ذوات الأجزاء وهو أنّه كلّ يوم بدرهم أو كلّ شهر بدينار من غير لحاظ لصفة الانضمام والاتّصال. فلا جرم تقسّط الأُجرة ويستحقّ منها بمقدار

٤٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ما أتى ، وتنفسخ في الباقي. وهذا واضح ، وهو خارج عن موضوع كلامه (قدس سره) بالكلّيّة.

الثانية : وقوع الإجارة بإزاء النتيجة المترتّبة على العمل والغاية المترقّبة منه من دون نظر إلى نفس العمل إلّا كوسيلة ومقدّمة صرفة كالإيصال فيما ذكره (قدس سره) من المثال ، وكتفريغ الذمّة فيما لو استؤجر للصلاة أو الصيام ، فإنّه لو حصل مانع في أثناء الطريق فلم يصل ، أو في أثناء الصلاة أو الصيام فلم يتمّ ، لم يستحقّ أيّ شي‌ء وإن كان قد أتى ببعض المقدّمات ، لأنّ ما استؤجر عليه من الإيصال أو التفريغ لم يتحقّق حسب الفرض ، وما تحقّق خارجاً لم يكن مورداً للإيجار ، كما هو الحال في سائر المقدّمات ، مثل ما لو استؤجر للصلاة فتوضّأ ومات فإنّه لا يستحقّ أيّ أُجرة إزاء ما أتى به من الوضوء ، لعين ما ذكر.

الثالثة : أن تقع الإجارة بإزاء عنوان بسيط منتزع من العمل الخارجي لا أنّه مترتّب عليه كما في السابقة ولنعبّر عنه بالمجموع من حيث المجموع المنتزع من اتّصال الأجزاء وانضمام بعضها مع بعض ، حيث إنّ الموجود في الخارج إنّما هو ذوات الأجزاء بالأسر ولكنّها لم تكن مورداً للإيجار ، بل مورده العنوان الانتزاعي ، أي الأجزاء المتّصفة بكونها متّصلة والمتقيّدة بهذا الوصف العنواني.

وحكم هذه حكم الصورة السابقة في أنّه لو وجد مانع من تحقّق المجموع لم يستحقّ شيئاً ، لما عرفت من أنّ ما تحقّق لم تتعلّق به الإجارة ، وما تعلّقت به لم يتحقّق ، كما مثّل له في المتن بما لو استؤجر للصلاة أو الصيام فحصل في الأثناء مانع عن الإتمام.

الرابعة : أن تقع الإجارة بإزاء المجموع ، لكن لا بوصف أنّه مجموع كما في السابقة ليكون بسيطاً ، بل ذات المجموع الراجع إلى تعلّق الإجارة بإزاء كلّ

٤٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

جزء من العمل مشروطاً بالتركّب والاجتماع ، فلوحظت صفة الانضمام شرطاً في كلّ جزء لا قيداً ، وهذا هو المتعارف خارجاً ، كما في بيع شيئين صفقة ، حيث إنّ المبيع هو نفس كلّ من الجزأين ، لكن لا مطلقاً ، بل بشرط الانضمام ، فلو تخلّف صحّ البيع ، لعدم وقوعه بإزاء العنوان البسيط حتى يقال : إنّ ما وقع عليه البيع لم يسلَّم للمشتري وما سُلِّم له لم يتعلّق به البيع ، بل بإزاء ذات كلّ منهما ، غاية الأمر أنّ تخلّف الشرط يستوجب تعلّق الخيار.

وهذا بعينه يجري في الإيجار ، فإنّه إذا آجر داره سنة أو استأجره ليذهب بالمكتوب إلى بلد كذا ، لا على سبيل التقسيط كما في الصورة الأُولى ولا على العنوان البسيط كما في الثالثة فإنّ مرجعه حينئذٍ إلى تعلّق الإجارة بكلّ جزء ولكن مشروطاً بالاجتماع والانضمام ، فلو تخلّف فقد تحقّق المستأجر عليه ، ومن ثمّ استحقّ الأُجرة بإزائه ، غايته ثبوت الخيار فيستحقّ اجرة المثل لو فسخ.

فما ذكره (قدس سره) في المتن من الصحّة في هذه الصورة واستحقاقه الأُجرة المسمّاة بمقدار ما أتى به حسنٌ وفي محلّه ، غير أنّه يثبت له الخيار أيضاً حسبما عرفت وإن لم يتعرّض له في المتن ، وأنّه لو فسخ حينئذٍ يرجع فيما مضى إلى أُجرة المثل دون المسمّاة.

وملخّص الكلام : أنّ الإجارة قد تقع بإزاء نفس الأجزاء من غير لحاظ وصف الانضمام لا شرطاً ولا قيداً ، كما هو المتفاهم العرفي فيما لا يكون هناك غرض في الاتّصال كالصيام شهراً أو الصلاة سنة ، ولا إشكال في مثله في الانحلال لو أتى ببعض العمل دون بعض. وهو خارج عن محلّ الكلام.

وأُخرى : بإزائها مشروطاً بالانضمام ، وحكمها الصحّة لو تخلّف مع ثبوت الخيار.

وثالثةً : بإزاء العنوان البسيط المترتّب ، كتفريغ الذمّة ، أو إيصال المكتوب ،

٤٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المترتّبين على تحقّق العمل الخارجي.

ورابعةً : بإزاء عنوان بسيط منتزع لوحظت فيه الوحدة الاعتباريّة ، ويعبّر عنه بالمجموع من حيث المجموع ، الراجع إلى لحاظ الانضمام والاتّصال قيداً فيما وقعت الإجارة عليه لا شرطاً.

وفي هاتين الصورتين لا يستحقّ الأجير شيئاً لو أتى ببعض العمل دون بعض.

أمّا الأُولى منهما : فظاهر ، لأنّ ما تعلّقت به الإجارة لم يقع ، وما وقع لم تتعلّق به الإجارة.

وكذا الثانية ، لعين ما ذكر بعد وضوح مغايرة الماهية بشرط شي‌ء مع الماهية بشرط لا ، فإنّ الانضمام بعد أن لوحظ قيداً في متعلّق الإجارة فلا جرم كان الواجد للقيد مبايناً مع الفاقد له مباينة الماهية بشرط شي‌ء معها بشرط لا. فإذن لم يكن المأتيّ به خارجاً الفاقد للقيد مورداً للإيجار ، كما أنّه لم يصدر بأمر من المستأجر ، فلا يستحقّ الأجير شيئاً عليه ، لما عرفت من عدم ورود الإجارة على ما وقع ، وعدم كون ما وقع مورداً للإجارة.

ولا فرق في ذلك بين ما إذا كانت الأجزاء الفاقدة للقيد المزبور ذات ماليّة في أنفسها عند العقلاء أو لا ، لوحدة المناط ، فكما لا يستحقّ الأجير شيئاً على ما أتى به من بعض العمل الفاقد للماليّة بالكلّيّة كركعة واحدة من الصلاة ، أو الإمساك نصف اليوم فكذا على ما كان متّصفاً بها ، كما لو استؤجر للاعتكاف عن زيد الذي هو عنوان بسيط منتزع من مجموع الصيام ثلاثة أيّام في المسجد بشرائط خاصّة ، فصام يوماً واحداً عنه ومات ، فإنّ هذا الجزء وإن كان ذا ماليّة عقلائيّة إلّا أنّه لمّا لم يقع بنفسه مورداً للإجارة والمفروض عدم صدوره بأمر من المستأجر فلا يستحقّ العامل اجرة عليه.

٤٧٦

[٣٣٨٠] الحادية عشرة : إذا كان للأجير على العمل خيار الفسخ (١) فإن فسخ قبل الشروع فيه فلا إشكال ، وإن كان بعده استحقّ اجرة المثل ، وإن كان في أثنائه استحقّ بمقدار ما أتى به من المسمّى أو المثل

______________________________________________________

وبالجملة : فليس الوجه فيما ذكرناه من عدم الاستحقاق في هذه الصورة عدم الماليّة ، فإنّ هذا لازم أعمّ قد يكون وقد لا يكون ، بل الوجه عدم وقوع الإجارة عليه وعدم حصول ما وقعت الإجارة عليه حسبما عرفت بما لا مزيد عليه.

(١) قد يفرض الخيار للأجير وأُخرى للمستأجر ، فإن كان للأجير سواء أكان خياراً أصليّاً كخيار الغبن أم جعليّاً كشرط الخيار فلا إشكال فيما لو فسخ قبل الشروع في العمل المستأجر عليه ، فإنّه صادر من أهله في محلّه ويؤثّر أثره ، فيفرض العقد كأن لم يكن ولا يستحقّ أحدهما على الآخر شيئاً. كما لا إشكال فيما لو فسخ بعد الفراغ من العمل فترجع المسمّاة إلى المستأجر ، وحيث لا يمكن رجوع العمل الصادر بأمره إلى الأجير فلا جرم يغرم له اجرة المثل بعد بطلان الضمان بالأُجرة المسمّى بمقتضى افتراض الفسخ ، كما هو الحال في البيع فيما لو فسخ البائع وقد وجد العين تالفة تحت يد المشتري فإنّه يرجع حينئذٍ إلى ثمن المثل. وهذا كلّه واضح.

وإنّما الكلام فيما لو فسخ أثناء المدّة لانكشاف غبنه حينئذٍ مثلاً فهل يستحقّ من المسمّاة بنسبة ما وقع وأتى به في الخارج من العمل ، أو أنّه يستحقّ عليه اجرة المثل؟

تقدّم التعرّض لذلك في المسألة الخامسة من الفصل الثالث ، حيث إنّ الماتن احتمل الوجهين ، وذكرنا أنّ الأقوى هو الثاني ، نظراً إلى أنّ مقتضى الفسخ حلّ

٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

العقد وفرضه كأن لم يكن ، المستتبع لعود كلّ عوض إلى مالكه ، وحيث لا يمكن إعادة ما تحقّق من العمل الذي قد صدر بأمر من المستأجر فلا جرم ينتقل إلى البدل وهو اجرة المثل ، كما هو الحال في فسخ البيع أيضاً بعد أن تلف شي‌ء من المبيع فإنّه ينتقل فيه إلى ثمن المثل.

ولكنّا أشرنا في تلك المسألة إلى أنّ هذا إنّما يتمّ في الخيار الثابت في أصل الشرع كخيار الغبن ونحوه ، وأمّا الخيار المجعول من أحدهما كالأجير فيما نحن فيه فإنّ الارتكاز العرفي في مثله قائم على إرادة الفسخ بالإضافة إلى ما سيأتي دون ما مضى ، فإنّه يمضى حسبما اتّفقا عليه من الأُجرة المسمّاة ، فلو آجر داره إلى سنة بكذا وجعل لنفسه الخيار عند ستّة أشهر ، فإنّ معنى ذلك حسب الفهم العرفي وما هو المتعارف بحسب الارتكاز إرادة الفسخ بالنسبة إلى الستّة أشهر الباقية وإمضاء ما مضى كما مضى والاستحقاق بنسبته من الأُجرة المسمّاة لا فسخ العقد من أصله ليرجع فيه إلى أُجرة المثل.

فإن قلت : العقد الواجد لا يتبعّض فكيف يمكن تعلّق الفسخ بالبعض من متعلّقه دون بعض؟

قلت : نعم ، إلّا أنّه لدى قيام القرينة على عدم مدخليّة لوصف الاجتماع كما تقدّم في الصورة الاولى من فروض المسألة المتقدّمة ففي الحقيقة ينحلّ العقد إلى إجارات عديدة قد جمع بينها وأُنشئ الكلّ بإنشاء واحد ، فهو من ضمّ إجارة إلى إجارة إلى مثلها بعدد أبعاض المنافع أو الأعمال وأجزائها ، فمرجع قيام التعارف على اختصاص حقّ الفسخ في أثناء المدّة بالنسبة إلى ما سيأتي إلى تعلّقه بالإجارة اللاحقة دون السابقة ، لا تعلّقه بالنصف من العقد كي يعترض بعدم قبوله للتبعيض ، فلو آجر داره إلى سنة بمائة ، أو استؤجر للصلاة عن الميّت سنة بمائة فمرجعه إلى إجارة كلّ ستّة أشهر بخمسين ، فلو فسخ بعد ستّة

٤٧٨

على الوجهين المتقدّمين (١) إلّا إذا كان المستأجر عليه المجموع من حيث المجموع (٢) فلا يستحقّ شيئاً ، وإن كان العمل ممّا يجب إتمامه بعد الشروع فيه (٣) ،

______________________________________________________

أشهر فهو إنّما يفسخ الإجارة الثانية المنحلّ إليها العقد ، لا أنّه يفسخ النصف الباقي من العقد ، فلا جرم يستحقّ من الأُجرة المسمّاة بالنسبة إلى ما مضى ولا يرجع إلى أُجرة المثل كما تعرّضنا لذلك كلّه بنطاق واسع في أبحاث المكاسب.

وبالجملة : فيفصّل فيما لو فسخ في الأثناء بين الخيار المجعول المشترط ثبوته في ضمن العقد وبين الثابت بنفسه كخيار الغبن ، ففي الأوّل يستحقّ لما مضى من المسمّى ، وفي الثاني من المثل حسبما عرفت.

(١) في المسألة الخامسة من الفصل الثالث من أوّل كتاب الإجارة.

(٢) بحيث كان المستأجر عليه أمراً واحداً بسيطاً منتزعاً من الأجزاء كالاعتكاف وقد فسخ في الأثناء فلا يستحقّ حينئذٍ لما مضى أيّ شي‌ء ، كما لو فسخ بعد صوم يوم منه لتبيّن غبنه في الإجارة ، لأنّ ما وقع لم تتعلّق به الإجارة ، وما تعلّقت به لم يتحقّق ، فلا مقتضي للرجوع إلى المستأجر بوجه.

(٣) تعرّض (قدس سره) لما إذا فسخ أثناء العمل الذي يجب إتمامه بعد الشروع فيه ، كالصلاة أو الحجّ بناءً على حرمة القطع ووجوب الإتمام ، وكالاعتكاف فيما لو فسخ بعد مضيّ يومين ، وأنّ هذا هل هو بمثابة الفسخ بعد تمام العمل فيستحقّ تمام اجرة المثل أو يجري عليه حكم الفسخ في الأثناء من عدم استحقاق أيّ شي‌ء لو لوحظ المجموع من حيث المجموع وإلّا فيستحقّ ، لما مضى من المثل أو المسمّى على الخلاف المتقدّم؟

ذكر (قدس سره) أنّ فيه وجهين وأنّ الأوجه هو الأوّل ، فيستحقّ الأُجرة لتمام العمل.

٤٧٩

كما في الصلاة بناءً على حرمة قطعها ، والحجّ بناءً على وجوب إتمامه ، فهل هو كما إذا فسخ بعد العمل أو لا؟ وجهان ، أوجههما الأوّل.

______________________________________________________

وما ذكره (قدس سره) هو الصحيح ، والوجه فيه ما ذكرناه في كتاب الحجّ (١) من أنّ باذل الزاد والراحلة لو رجع عن بذله بعد إحرام المبذول له بناءً على جواز الرجوع حينئذٍ كما هو الصحيح فإن لم يتمكّن المحرم من الإتمام كشف عن بطلان البذل وكان إحرامه كلا إحرام ، وأمّا لو تمكّن منه واستطاع على الإتيان ببقيّة الأعمال وجب عليه ذلك وإن كان الباذل قد رجع عن بذله ، لأنّه مستطيع وقتئذٍ فيجب عليه الإتمام.

ولكن هذا العمل الذي يجب إتمامه بما أنّه وقع بأمر من الباذل فلا جرم كان هو الضامن له ، إذ الأمر من موجبات الضمان بالسيرة العقلائيّة ، ويستحقّ العامل على الآمر اجرة المثل ، ولا فرق في ذلك بمقتضى عموم السيرة بين تعلّق الأمر بتمام العمل أو بالشروع في عمل لا بدّ من إتمامه إمّا تكويناً بحيث لا يمكنه رفع اليد كما لو أمره بدخول البحر أو نزول البئر لمعرفة مقدار عمقه مثلاً ، المستلزم للخروج منه قهراً وإمّا تشريعاً كالأمثلة المتقدّمة ، بعد وضوح أنّ الواجب الشرعي كالعقلي في اللابديّة ، فكما أنّ الأمر بالدخول أو النزول يستلزم الأمر بالخروج بالدلالة الالتزاميّة التبعيّة ، ومن ثمّ يكون ضامناً له أيضاً بالسيرة العقلائيّة ، فكذلك في الواجبات الشرعيّة بمناط واحد. إذن فيرجع إلى الباذل في مصارف الإتمام كما يرجع إلى الآمر في المقام.

وبالجملة : لا فرق في الضمان بالأمر بمقتضى عموم دليله وهو السيرة بين أن يعمل العمل ، وبين ما لا بدّ له أن يعمل عقلاً أو شرعاً ، فكما أنّه لو التفت

__________________

(١) شرح العروة ٢٨ : ٦١ ـ ٦٢.

٤٨٠