موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[٣٣٦٣] مسألة ٨ : إذا تنازعا في أنّه آجره بغلاً أو حماراً (١) أو آجره هذا الحمار مثلاً أو ذاك فالمرجع التحالف ، وكذا لو اختلفا في الأُجرة أنّها عشرة دراهم أو دينار.

______________________________________________________

(١) إذا اتّفقا في أصل الإجارة وفي مقدار الأُجرة واختلفا في العين المستأجرة فادّعى المالك أنّها حمار والمستأجر أنّها فرس مثلاً أو اختلفا في أنّها هذا الحمار أو ذاك.

أو اختلفا بعد التوافق على العين المستأجرة في تعيين الأُجرة بحيث كانت دائرة بين المتباينين ، كما لو ادّعى أحدهما أنّها دينار واحد ، والآخر أنّها عشرة دراهم ، أو قال أحدهما : أنّها من النقود ، والآخر أنّها من العروض أو الأعمال.

فالمعروف والمشهور حينئذٍ ما اختاره في المتن من التحالف ثمّ بعدئذٍ يحكم بالانفساخ من أجل عدم ثبوت شي‌ء من الدعويين ولزوم إنهاء النزاع الواقع في البين ، فكأنه لم تقع الإجارة من أصلها ، وذلك لأنّ كلّاً منهما يدّعي شيئاً والآخر ينكره.

واختار بعض الأكابر (١) (قدس سره) في حاشيته على العروة أنّ المقام من موارد المدّعى والمنكر ، دون التداعي لينتهي الأمر إلى التحالف ، نظراً إلى عدم صدور الدعوى على الآخر إلّا من أحدهما فحسب ، أمّا من الطرف الآخر فهو اعتراف على نفسه لا أنّه دعوى على غيره.

فلو اتّفقا على الأُجرة وتنازعا في العين المستأجرة فالمستأجر يدّعي بعد اعترافه بملكيّة المؤجر للأُجرة ملكيّته لمنفعة الفرس مثلاً والمالك ينكره

__________________

(١) هو السيد الأصبهاني (قدس سره).

٤٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

فعليه الإثبات ، وأمّا دعوى المالك وقوع الإجارة على الحمار فمرجعها إلى الاعتراف بمملوكيّة منفعة الحمار للمستأجر ، ولا تتضمّن دعوى ضدّه ، إذ لا يطالب بذلك شيئاً ينكره بعد فرض الاتّفاق منهما على استحقاق الأُجرة وعدم النزاع فيها. فهذه الدعوى منه لا أثر لها في محلّ الكلام بعد كونها فارغة عن المطالبة المقرونة بالإنكار ، فهي لا تشكّل دعوى اخرى تجاه الدعوى الاولى ليتحقّق التداعي بذلك.

وكذلك الحال فيما لو انعكس الأمر فاتّفقا على العين المستأجرة وأنّها الدار مثلاً واختلفا في الأُجرة وأنّها الدرهم أو الدينار ، فإنّ المدّعى هنا هو المالك فقط دون المستأجر ، عكس ما سبق.

إذ هو يدّعي بعد اعترافه بملكيّة المستأجر لمنفعة الدار ملكيّة الدينار ويطالب المستأجر بذلك ، وبما أنّه ينكره فعليه الإثبات ، ودعوى المستأجر وقوع الإجارة على الدرهم لا تتضمّن مطالبة المالك بشي‌ء وإقامة دعوى عليه حسبما عرفت.

هكذا أفاده (قدس سره).

واختار بعض الأعلام في مستمسكه (١) ، ونسب إلى بعض المتقدّمين أيضاً.

ولكنّه غير واضح ، لصدور دعوى اخرى من الطرف الآخر في كلا الفرضين ، ويظهر وجهه ممّا تقدّم ، حيث عرفت أنّ لفظي المدّعى والمنكر لم يفسّرا في شي‌ء من الأخبار ، بل هما موكولان إلى نظر العرف ، ولا ريب أنّ العقلاء يرون أنّ من يطالب بشي‌ء من حقّ أو مال أو يدّعي الخروج عن عهدة ما يعترف به من حقّ أو مال هو الملزم بالإثبات ، فهو المدّعى وخصمه منكر له.

__________________

(١) مستمسك العروة ١٢ : ١٧١.

٤٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فعلى هذا الميزان الكلّي والضابط العام يتحقّق التداعي من الجانبين في المقام.

ففي الفرض الأوّل : كما أنّ المستأجر يدّعي شيئاً ينكره المالك حسبما ذكر فكذلك المالك ، إذ هو يطالب بالأُجرة ويدّعي استحقاقها بمجرّد تسليم الحمار ومن دون تسليم الفرس الذي يدّعيه المستأجر ، وهذا شي‌ء ينكره المستأجر ، فإنّه وإن اعترف بكون الأُجرة ملكاً للمؤجّر لكنّه ينكر استحقاق تسلّمها ما لم يسلّم الفرس ، فعلى المالك إثبات الاستحقاق المزبور بعد وضوح عدم وجوب تسليم أحد العوضين من كلّ من الطرفين ما لم يسلّم الطرف الآخر.

وكذا في الفرض الثاني ، إذ كما أنّ مالك الدار يدّعي الدينار وينكره المستأجر كما ذكر ، فكذلك المستأجر يطالب المالك بتسليم العين فيدّعي استحقاق منفعة الدار من دون أن يعطي الدينار ، بل بإزاء دفع الدراهم فقط ، وهذا شي‌ء ينكره المالك ، فلا جرم يحتاج إلى الإثبات وإقامة البيّنة عليه ، فإنّ المنفعة وإن كانت ملكاً له باعتراف المالك إلّا أنّه لا يجب التسليم على كلّ منهما ما لم يسلّم الآخر كما هو مقتضى مفهوم المبادلة والمعاوضة حسبما عرفت ، فيطالبه المستأجر بالتسليم من دون دفع الدينار الذي يدّعيه المالك ، وهو غير ثابت.

فإذن كلّ منهما يدّعي شيئاً ينكره الآخر ، وهذا هو معنى التداعي (١) ، ومجرّد الاتّفاق على أنّ المنفعة ملك للمستأجر لا أثر له في انحصار المدّعى في المالك ، فلاحظ.

فما ذكره في المتن من عدّ المقام من موارد التحالف هو الصحيح ، ومعلوم أنّ محلّ الكلام ما إذا أقام كلّ منهما البيّنة أو لم يقمها أيّ منهما ، وإلّا فلو أقام

__________________

(١) يمكن إجراء هذا البيان في المسألة الثالثة المتقدّمة أيضاً إلّا أن يفرق بأنّ الأصل فيها بلا معارض ، فلاحظ.

٤٤٣

[٣٣٦٤] مسألة ٩ : إذا اختلفا في أنّه شرط أحدهما على الآخر شرطاً أو لا فالقول قول منكره (١).

[٣٣٦٥] مسألة ١٠ : إذا اختلفا في المدّة أنّها شهر أو شهران مثلاً فالقول قول منكر الأزيد (٢).

[٣٣٦٦] مسألة ١١ : إذا اختلفا في الصحّة والفساد قُدِّم قول من يدّعي الصحّة (٣).

______________________________________________________

أحدهما دون الآخر فالقول قوله ، ومعه لا تصل النوبة إلى التحالف.

(١) لوضوح أنّ الشرط مئونة زائدة على أصل العقد ، فمدّعي تحقّقه سواء أكان المؤجر أم المستأجر هو الملزم بالإثبات ، فهذا من موارد المدّعى والمنكر ، ولا موجب لجعله من موارد التحالف.

(٢) إذ هما بعد أن اتّفقا على أصل المنفعة ومقدار الأُجرة وكان الاختلاف في المدّة فمدّعي الزيادة هو الملزم بالإثبات ، وبدونه يقدّم طبعاً قول المنكر ، بل أنّ هذا في الحقيقة داخل في التنازع في قدر المستأجر عليه الذي مرّ البحث حوله في المسألة الثالثة ، فراجع ولاحظ.

(٣) هذا على إطلاقه مشكل ، بل ممنوع ، فإنّ أصالة الصحّة بالمعنى المتنازع فيه أعني ترتيب آثار الصحّة لم يثبت بدليل لفظي ليتمسّك بإطلاقه.

نعم ، الحمل على الصحيح بمعنى التنزيه عن القبيح قد دلّت عليه جملة من النصوص الناطقة بأنّه : ضع فعل أخيك على أحسنه (١) ، إلّا أنّه أجنبي عمّا نحن

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٠٢ / أبواب أحكام العشرة ب ١٦١ ح ٣.

٤٤٤

[٣٣٦٧] مسألة ١٢ : إذا حمل المؤجر متاعه إلى بلد فقال المستأجر : استأجرتك على أن تحمله إلى البلد الفلاني ، غير ذلك البلد ،

______________________________________________________

بصدده ، فلو صدر كلام مردّد بين السبّ والسلام ينزّه عن الحرام ، لا أنّه يرتّب عليه أثر الصحّة ليحكم بوجوب الجواب وردّ التحيّة الذي هو محلّ الكلام.

فالمستند في أصالة الصحّة بالمعنى المبحوث عنه في المقام ليس إلّا السيرة القطعيّة العقلائيّة الممضاة لدى الشرع بعدم الردع القائمة عليها في أبواب المعاملات وغيرها من غير حاجة إلى إقامة البيّنة عليها ، بل مدّعي الفساد هو المطالب بإقامة البيّنة. وهذا واضح وغير قابل للتشكيك كما لم يقع الخلاف فيه.

بيد أنّ السيرة بما أنّها دليل لبّي لا لسان له فلا مناص من الاقتصار على المقدار المتيقّن من تحقّقها.

والقدر المتيقّن ما إذا أُحرز ما يعتبر في أصل العقد المعبّر عنه بالركن وكان الشكّ في الصحّة من جهة الأُمور الخارجيّة.

وبعبارة اخرى : ما إذا أُحرزت الشرائط المعتبرة في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل وشكّ فيما عداهما من سائر الشرائط.

أمّا مع عدم إحراز الأهليّة إمّا من ناحية الفاعل كما لو شكّ في بلوغ البائع مع قطع النظر عن استصحاب صغره أو احتمل عدم كونه مالكاً ولا وكيلاً بحيث شكّ في قدرته على إيجاد العقد ، أو من ناحية القابل كما لو احتمل وقفيّة المبيع ، فجريان السيرة على أصالة الصحّة في مثل ذلك محلّ تأمّل ، بل منع ، وتمام الكلام في بحث الأُصول.

٤٤٥

وتنازعا ، قُدِّم قول المستأجر (*) (١) ، فلا يستحقّ المؤجر أُجرة حمله ،

______________________________________________________

(١) استناداً إلى أصالة عدم وقوع الإجارة على ما يدّعيه الأجير ، بناءً على ما يبدو منه من عدّ المقام من موارد المدّعى والمنكر.

هذا ، ومفروض كلامه (قدس سره) في هذه المسألة ما إذا كان التنازع بعد الحمل ، لما سيصرّح به في ذيل المسألة الآتية التي هي عين هذه المسألة بتفاوت يسير كما سنبيّن من أنّ النزاع إذا كان قبل الحمل فالمرجع التحالف.

أقول : لا ينبغي الشكّ في التحالف فيما إذا كان النزاع قبل العمل من حمل أو خياطة مردّدة بين القباء والقميص ، المفروضة في المسألة الآتية.

ولا يصغي إلى ما قد يدّعى من الاندراج حينئذٍ في باب المدّعى والمنكر ، بدعوى عدم صدور الدعوى إلّا من المستأجر فحسب ، فإنّه الذي يطالب بحمل متاعه إلى المكان الذي يدّعيه وينكره الأجير ، وأمّا ما يدّعيه الأجير من ملكيّة الأُجرة وانتقالها إليه فالمستأجر معترف به ولا ينكره ليتشكّل التداعي بينهما.

وذلك لما أسلفناك قريباً من أنّ مجرّد الاعتراف المزبور لا يمنع عن تضمّن دعوى اخرى ضدّ الخصم ، فإنّ الأُجرة وإن كانت مملوكة للأجير باعتراف الطرفين إلّا أنّ استحقاق المطالبة في باب المعاوضة منوط بتسليم الطرف الآخر ، فلا استحقاق قبله إذن ، فكما أنّ المستأجر مدّعٍ كما أُفيد فكذلك الأجير ، لأنّه

__________________

(*) هذا إنّما يتمّ على مسلكه (قدس سره) من انفساخ الإجارة بتفويت المؤجر محلّها ، وأمّا على ما بنينا عليه من ثبوت الخيار للمستأجر فإن لم يفسخ وطالب بأُجرة المثل وكانت زائدة على الأُجرة المسمّاة أو مباينة لها لزم التحالف ، وبذلك يظهر الحال في المسألة الآتية.

٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أيضاً يدّعي استحقاق تسلّم الأُجرة ومطالبتها قبل تسلّم المنفعة التي يدّعيها المستأجر ، أي قبل نقل المتاع إلى المكان الذي يدّعيه ، وبعد نقله إلى ما هو يدّعى وقوع الإجارة عليه ، وهذا شي‌ء ينكره المستأجر حسب الفرض. فلا جرم يتحقّق التداعي بينهما المؤدّي إلى التحالف ، فأيّ منهما أثبت دعواه أمّا بإقامة البيّنة أو الحلف مع امتناع الآخر ثبت مدّعاه ، وإلّا فمع التحالف يحكم بانفساخ الإجارة.

وأمّا إذا وقع النزاع بعد صدور العمل وتحقّقه خارجاً ، فحمل المتاع إلى بغداد مثلاً والمستأجر يدّعي لزوم حمله إلى البصرة ، فظاهر عبارة المتن ولا سيّما بقرينة ما سيذكره في ذيل المسألة الآتية اندراج هذا النزاع في باب المدّعى والمنكر حسبما أشرنا إليه.

وهذا يبتني على أمرين :

أحدهما : فرض انقضاء المدّة المضروبة والأجل المقرّر للحمل في عقد الإيجار بحيث فات المحلّ وامتنع التدارك ، كما لو كان مؤقّتاً بوقوعه خلال الأُسبوع وقد انقضى.

ثانيهما : الالتزام بما بنى (قدس سره) عليه من انفساخ الإجارة بتفويت المؤجر محلّها وعدم استحقاقه حينئذٍ شيئاً على المستأجر. فلدى افتراض هذين الأمرين يتّجه ما أفاده (قدس سره) ، إذ لا دعوى وقتئذٍ إلّا من ناحية الأجير ، فإنّه الذي يطالب بالأُجرة بزعم الوفاء بما وقعت الإجارة عليه ، أمّا المستأجر فلا شي‌ء من قبله إلّا إنكار هذه الدعوى من غير أن يقيم عليه دعوى اخرى ، فليس عليه إلّا الحلف ، والأجير هو الملزم بإقامة البيّنة.

وأمّا مع افتقاد أحد الأمرين فالظاهر الاندراج في باب التداعي ، إذ مع بقاء المدّة وإمكان التدارك فكما أنّ الأجير يدّعي الأُجرة ويطالبها حسبما ذكر كذلك

٤٤٧

وإن طلب منه الردّ (١) إلى المكان الأوّل وجب عليه ، وليس له ردّه إليه إذا لم يرض ، ويضمن له إن تلف أو عاب ، لعدم كونه أميناً حينئذٍ في ظاهر الشرع.

______________________________________________________

المستأجر يطالب بالحمل إلى البصرة وفاءً بالإجارة ، زعماً منه أنّ ما صدر من الحمل إلى بغداد لغو محض ، لخروج عن مصبّ الإيجار.

فحال النزاع حينئذٍ بعينه هو حاله في الصورة الاولى ، أعني : التنازع قبل صدور العمل وتحقّقه في الخارج في صدور الدعوى من كلّ من الجانبين حسبما عرفت.

كما أنّا لو أنكرنا ما بنى (قدس سره) عليه من الانفساخ بعد انقضاء المدّة وامتناع التدارك وبنينا على ما هو الحقّ من ثبوت الخيار وجواز المطالبة مع عدم الفسخ بعوض الفائت أعني أُجرة المثل ففيما إذا كانت زائدة على الأُجرة المسمّاة أو مباينة معها كما لو كانت المسمّاة عملاً أو عروضاً ، وأُجرة المثل طبعاً من النقود. فلا جرم يتحقّق التداعي بينهما أيضاً ، فإنّ الأجير يدّعي المسمّاة ، والمستأجر يدّعي اجرة المثل ، فينتهي الأمر إلى التحالف (١).

(١) إذا لم تثبت دعوى الأجير والمفروض أنّه حمل المتاع من النجف مثلاً إلى بغداد ، فسواء أكان المقام من باب التداعي أو المدّعى والمنكر فللمستأجر المطالبة بردّه إلى مكانه الأوّل ، إذ بعد عدم ثبوت الدعوى في ظاهر الشرع فما

__________________

(١) فإن قلت : إمضاء العقد يستلزم الاعتراف بالمسمّاة فليست ثمّة دعوى تقابل بالإنكار إلّا من ناحية المستأجر فقط بالإضافة إلى أُجرة المثل ، فكيف يعدّ المقام من باب التداعي؟

قلت : الأجير يدّعي المسمّى ويطالبها من دون دفع اجرة المثل ، وهذا شي‌ء ينكره المستأجر كما مرّ نظيره ، فلاحظ.

٤٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

صدر منه تصرّف من غير أهله في غير محلّه ، وحمل لمال الغير من دون إذنه وإجازته ، ومن ثمّ لو تلف أو تعيّب خلال هذا الانتقال كان ضامناً.

وحينئذٍ فإن رضي المالك ببقائه في مكانه وإن لم يذكر ذلك في كلام الماتن صريحاً إيكالاً على وضوحه فلا إشكال ، بل ليس له الإرجاع حينئذٍ ، فإنّه تصرّف في مال الغير بغير رضاه.

وأمّا إذا طالبه بردّه وجب عليه ذلك.

والدليل عليه : هي السيرة العقلائيّة التي هي المدرك الوحيد في أصل الضمان باليد بقول مطلق ، فإنّ ما اشتهر من أنّ «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (١) رواية نبويّة ولم تثبت من طرقنا ، وما ورد من أخبار الضمان في الموارد المتقدّمة لا يستفاد منها حكم كلّي ، وإنّما هي جرى على طبق السيرة العقلائيّة كما لا يخفى ، فكما أنّ السيرة قاضية بأنّ اليد هي المسئولة عن تلف العين فكذلك تقضي بضمانها للصفات التي لها مدخليّة في الأغراض النوعيّة أو الشخصيّة ، وأنّه لا بدّ من أداء العين وردّها على النحو الذي أخذها واستولى عليها ، فإنّ الصفات وإن لم تقابل بالمال بحيال ذاتها إلّا أنّها من أجل تأثيرها في ازدياد قيمة العين فلا جرم كانت هي أيضاً مضمونة كما في وصف الصحّة ، ومن ثمّ لو أخذها صحيحة وردّها معيبة ضمن صفة الصحّة بلا إشكال ، مع أنّها كما عرفت لا تقابل بالمال.

ومن هذا القبيل وصف المكان ، فإنّ من استولى على مال أحد في مكان بغير إذنه وأراد الردّ إلى صاحبه في مكان آخر فله الامتناع عن الاستلام والمطالبة بالردّ إلى مكانه الأوّل بالسيرة العقلائيّة القاضية بالتحاق صفة المكان بسائر الأوصاف التي يضمنها المستولي ، ويجب عليه الخروج عن عهدتها كما

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٨٨ / كتاب الغصب ب ١ ح ٤.

٤٤٩

[٣٣٦٨] مسألة ١٣ : إذا خاط ثوبه قباءً وادّعى المستأجر أنّه أمره بأن يخيطه قميصاً فالأقوى تقديم قول المستأجر (١) ، لأصالة عدم الإذن في خياطته قباءً ، وعلى هذا فيضمن له عوض النقص الحاصل من ذلك ، ولا يجوز له نقضه إذا كان الخيط للمستأجر ، وإن كان له كان له ويضمن النقص الحاصل من ذلك ، ولا يجب عليه قبول عوضه لو طلبه المستأجر ، كما ليس عليه قبول عوض الثوب لو طلبه المؤجر. هذا ، ولو تنازعا في هذه المسألة والمسألة المتقدّمة قبل الحمل وقبل الخياطة فالمرجع التحالف.

______________________________________________________

يجب عليه الخروج عن عهدة نفس العين حسبما عرفت.

بل قد صرّح الأصحاب بمثل ذلك في باب القرض أيضاً وأنّه لو اقترض في بلد فليس له الأداء في بلد آخر ما لم يرض في المقرض ، وهو كذلك ، لاشتغال ذمّته بالمال الموصوف بكونه في ذلك البلد ، فلا بدّ من الخروج عن عهدته على النحو الذي اشتغلت به الذمّة. نعم ، لا بأس به مع التراضي.

(١) قد عرفت اتّحاد هذه المسألة مع المسألة السابقة ملاكاً وحكماً وارتضاعهما من ثدي واحد ، وأنّ النزاع المطروح بينهما معدود من باب التداعي المحكوم فيه بالتحالف من غير فرق بين حدوثه قبل العمل أو بعده.

ونتيجته : سقوط كلتا الدعويين بعد التحالف وعدم استحقاق الأجير شيئاً على ما عمله من الحمل أو الخياطة ، لعدم ثبوت صدوره عن أمر من المستأجر ، بل يضمن عوض النقص الحاصل من صنعه قباءً وقد أراده المستأجر قميصاً ، لأنّ هذا النقص إنّما طرأ من أجل فعل الخيّاط المحكوم بكونه تصرّفاً في ملك الغير بغير إذنه في ظاهر الشرع بمقتضى عدم ثبوت دعواه ، كما مرّ نظيره في الحمل (١).

__________________

(١) في ص ٣١٠ وما بعدها.

٤٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وإنّما تفترق هذه المسألة عمّا تقدّمها في مزيّة ، وهي زيادة العين بعد عمليّة الخياطة من أجل اشتمالها على الخيوط التي خيط الثوب بها.

وحينئذٍ فقد يفرض أنّ تلك الخيوط ملك للمستأجر أيضاً والخيّاط أجير على مجرّد العمل.

واخرى يفرض أنّها ملك للخيّاط نفسه.

فعلى الأوّل : بما أنّ الأجير لم يكن له أيّ حقّ في هذه العين فليس له نقض الخياطة والمطالبة بإرجاع الثوب إلى حالته الأُولى ، فإنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، والمفروض ذهاب عمله هدراً بعد عدم ثبوت وقوع الإجارة عليه ، وأمّا الهيئة القائمة بالعين أعني : صفة المخيطيّة فهي وإن تحصّلت من عمل الأجير إلّا أنّه لا ماليّة لها ، فما صدر منه في العين إمّا مالٌ لا احترام له ، أو صفةٌ لا ماليّة لها ، فلا حقّ له بوجه ليستتبع المطالبة المزبورة.

ونظير ذلك ما ذكروه في باب الغصب من أنّه لو غصب ذهباً فصاغه حليّاً لم تكن له إزالة الصياغة وإعادة العين إلى ما كانت عليه وإن زادت قيمتها بها ، لأنّ الأوصاف لا تقابل بالمال ، فلا يجوز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، ولا المطالبة بقيمة الهيئة بعد أن لم تكن لها قيمة حسبما عرفت.

فليس للأجير المطالبة بنقض الخياطة في المقام بتاتاً.

وأمّا على الثاني : فله ذلك ، لعدم خروج الخيوط عن ملكه بعد بقاء عينها وإمكان الانتفاع بها بعد النقض ، فله المطالبة به تمهيداً لتسلّم ملكه.

وبالجملة : القميص الموجود مركّب من ثوب وخيوط ، والأوّل للمستأجر والثاني للأجير ، ولكلّ منهما المطالبة بعين ماله خالصاً عن مال غيره بقاعدة السلطنة ، فلا يحقّ للمستأجر إلزام الأجير بقبول قيمة الخيوط بدلاً عنها ، ولا للأجير إلزام المستأجر بدفع القيمة.

٤٥١

[٣٣٦٩] مسألة ١٤ : كلّ من قدّم قوله في الموارد المذكورة عليه اليمين للآخر (١).

______________________________________________________

وحينئذٍ فإن رضيا بتصدّي أحدهما أو ثالث بالنقض فهو ، وإلّا فلا بدّ من مراجعة الحاكم الشرعي للإجبار على ذلك بعد أن كان لكلّ منهما حقّ في العين يستلزم التصرّف فيه تصرّفاً في ملك الآخر.

نظير ما لو أراق أحدٌ ماءه في قدر الآخر ، فإنّ الماء لم يخرج عن ملكه بالإراقة ، كما لم يخرج القدر عن ملك مالكه ، ولكن تصرّف كلّ منهما في ماله يستلزم التصرّف في مال الآخر ، فإن رضيا بالتفريغ وإلّا أجبرهما الحاكم.

هذا ، ولو ترتّب على الإجبار ونقض الخياطة تعيّب الثوب ضمنه الأجير ، لأنّه حصل من فعله وكان هو السبب الموجب للوقوع فيه.

(١) أي (١) لنفي القول الآخر الذي يدّعيه المدّعى ، والوجه فيه ظاهر ، فإنّ القضاء وفصل النزاع لا يكون إلّا بالبيّنة أو اليمين بمقتضى قوله (عليه السلام) : «إنّما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات» ، فيطالب المدّعى بالبيّنة أوّلاً ، فإن تمكّن وإلّا يوجّه الحلف نحو المنكر وله ردّ اليمين إلى المدّعى ، فليس معنى تقديم قول المنكر عدم الاعتناء بدعوى المدّعى وأنّها تذهب هدراً ، بل يعتنى بها ولأجله يكلّف باليمين كما سمعت.

نعم ، ربّما يطلب اليمين من المدّعى أيضاً ، حيث إنّ البيّنة المكلّف بإقامتها أعمّ من الشاهدين العادلين ومن شاهد واحد مع ضمّ اليمين في بعض الموارد على تفصيل مذكورٍ في محلّه من كتاب القضاء.

__________________

(١) لعلّ المراد أنّها حقّ للآخر عليه.

٤٥٢

خاتمة

فيها مسائل :

[٣٣٧٠] الأُولى : خراج الأرض المستأجرة في الأراضي الخراجيّة على مالكها (١) ، ولو شرط كونه على المستأجر صحّ على الأقوى (٢) ، ولا يضرّ كونه مجهولاً من حيث القلّة والكثرة ، لاغتفار مثل هذه الجهالة عرفاً ، ولإطلاق بعض الأخبار.

______________________________________________________

(١) أي من بيده الأرض بعد أن تقبّلها من وليّ الأمر وسلطان الوقت عادلاً كان أو جائراً مدّعياً للخلافة ، فإنّها تختصّ وقتئذٍ به وله سلطنة التصرّف فيها ، ولا تسوغ لغيره معارضته.

ولا إشكال بينهم ظاهراً في تعلّق الخراج بهذا المتصرّف المعبّر عنه بالمالك ، وأنّه حقّ ثابت في عهدته دون من يستأجر الأرض عنه ، وقد دلّت عليه جملة من الأخبار الواردة في الأراضي الخراجيّة.

(٢) كما لعلّه المعروف والمشهور بين الأصحاب من نفوذ هذا الشرط وعدم قدح الجهل بكمّيّة الخراج وإن ناقش فيه بعضهم للوجهين المذكورين في المتن من الاغتفار وإطلاق الأخبار.

٤٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : قد يفرض تعلّق الشرط بانتقال الحقّ من ذمّة المؤجر إلى عهده المستأجر على سبيل شرط النتيجة ، كما ربّما يظهر ذلك من صاحب الجواهر ، حيث ذكر (قدس سره) أنّ الحقّ عليه أي المستأجر نظير بيع العين الزكويّة على أن تكون الزكاة عليه (١).

واخرى يفرض تعلّقه بتصدّيه للأداء خارجاً وتفريغ ذمّة المؤجر عن الخراج على سبيل شرط الفعل لا النتيجة ، نظير ما لو كان مديناً لزيد فباع متاعه من عمرو واشترط عليه القيام بأداء الدين.

أمّا الأوّل : فالظاهر فيه بطلان الشرط ، لعدم القدرة عليه ، لأنّ التقبيل معاملة بينه وبين السلطان قد استتبعت تعلّق الخراج به وثبوته في ذمّته ، وهذا حكم شرعي متوجّه إليه ، وليس له نقل الحكم التكليفي أو الوضعي إلى شخص آخر حتى بالشرط ، لخروجه عن اختياره ، إلّا إذا قام دليل خاصّ على وفاء الشرط بذلك غير الأدلّة العامّة القائمة على نفوذ الشروط ، وهكذا الحال في بيع العين الزكويّة مشروطاً بانتقال الزكاة منه إليه.

وبالجملة : نقل الحقّ المزبور ولو بمعونة الشرط يحتاج إلى نهوض دليل عليه بعد خروجه عن الاختيار ، ولا دليل عليه في المقام وأشباهه.

وأمّا الثاني : فلا بأس به كما لا يقدح الجهل بالمقدار حسبما أُشير إليه في المتن :

أوّلاً : لاغتفار مثل هذه الجهالة في نظر العرف بعد أن لم تكن متعلّقة بركني العقد أعني : العوضين بل بتوابعه الخارجة عنه ، فلا يكون مثلها مورداً للإجماع على عدم جواز الجهالة في العقد ، ولم ينهض دليل آخر على لزوم معلوميّة جميع الجهات حتى الشرط.

__________________

(١) الجواهر ٢٧ : ٤٣ ـ ٤٧.

٤٥٤

[٣٣٧١] الثانية : لا بأس بأخذ الأُجرة على قراءة تعزية سيّد الشهداء

______________________________________________________

وبالجملة : مثل هذه المعاملة على ما هي عليه من الجهالة جارية بل متداولة عند العرف والعقلاء ، كالبيع أو الإجارة مشروطاً بتقبّل الضريبة أو الحراسة ودفعها عن المالك مع عدم خلوّها غالباً عن نوع من الجهالة ولا يعبؤون بها ، ولا يحتمل عادةً قيام الإجماع على الفساد في مثل ذلك كما لا يخفى. هذا.

وثانياً : مع الغضّ عن ذلك فالروايات غير قاصرة الدلالة على عدم قدح مثل هذه الجهالة بمقتضى الإطلاق ، فإنّ جملة منها وردت في باب المزارعة التي لا يحتمل الفرق بينها وبين الإجارة من هذه الجهة من غير أن يذكر فيها معلوميّة الخراج الشامل بإطلاقها لصورة الجهل به ، كصحيحة يعقوب بن شعيب (١) وغيرها.

بل قد ورد مثل ذلك في باب الإجارة نفسها ، وهي صحيحة داود بن سرحان التي رواها المشايخ الثلاثة باختلاف يسير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الرجل تكون له الأرض عليها خراج معلوم ، وربّما زاد وربّما نقص ، فيدفعها إلى رجل على أن يكفيه خراجها ويعطيه مائتي درهم في السنة «قال : لا بأس» (٢).

فإنّ إطلاقها يشمل ما إذا كان الاختلاف يسيراً جدّاً كواحد في المائة ، ونحوه ممّا لا يصدق معه الجهالة حتى في الغبن ، وما إذا كان مقداراً معتدّاً به عند العقلاء ، بل ربّما يبلغ الضعف في بعض السنين بحيث يستوجب تضرّر المستأجر ، فإنّ مثل هذه الجهالة أيضاً غير قادحة بمقتضى الإطلاق ، وقد عرفت إقدام العقلاء على مثل هذه الجهالة واغتفارها لديهم في نظائر المقام كالضرائب ونحوها.

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٤٥ / كتاب المزارعة ب ١٠ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٩ : ٥٧ / كتاب المزارعة ب ١٧ ح ١ ، الكافي ٥ : ٢٦٥ / ٥ ، الفقيه ٣ : ١٥٤ / ٦٧٨ ، التهذيب ٧ : ١٩٦ / ٨٦٨.

٤٥٥

وسائر الأئمّة صلوات الله عليهم (١) ، ولكن لو أخذها على مقدّماتها من المشي إلى المكان الذي يقرأ فيه كان أولى (٢).

[٣٣٧٢] الثالثة : يجوز استئجار الصبي المميّز من وليّه الإجباري أو غيره كالحاكم الشرعي لقراءة القرآن والتعزية والزيارات (٣) ،

______________________________________________________

فالصحيح ما ذكره في المتن ، ولا وجه لمناقشة بعض فيه بأنّ للشرط قسطاً من المالية فتسري جهالته إلى العقد ، لما عرفت من التعارف الخارجي والاغتفار لدى العرف أوّلاً ، وإطلاق النصوص ثانياً ، فلاحظ.

(١) فإنّ القراءة عمل سائغ ذو غرض عقلائي ، وقد تقدّم (١) أنّ مقتضى القاعدة جواز أخذ الأُجرة على كلّ أمر محلّل مورد لأغراض العقلاء وإن كان واجباً فضلاً عن المستحبّ ، فإن تمكّن من قصد القربة يكون مأجوراً ومثاباً أيضاً ، وإلّا فليس له إلّا ما يأخذه من الأجر الدنيوي.

والاختلاف في كيفيّة القراءة ومقدارها ومؤدّاها لا يستوجب اختلافاً في ماليّتها بعد كونه أمراً متعارفاً خارجاً ومنضبطاً ولو في الجملة ، فلا يكون الجهل بها جهلاً بالعمل المستأجر عليه كما لا يخفى ، فلا حاجة إلى جعل الإجارة بإزاء كلّي القراءة وذكر المصاب.

(٢) لكونه أقرب إلى الخلوص.

(٣) لا ينبغي الاستشكال في ذلك ، إذ بعد أن لم يكن العمل ممنوعاً شرعاً ، لعدم كون المؤجر هو الصبي نفسه ، بل وليّه الإجباري كالأب والجدّ ، أو الشرعي كحاكم الشرع ، وكان مورداً لغرضٍ عقلاً أو شخصي ، فالعمل محترم يجوز

__________________

(١) في ص ٣٧٣ وما بعدها.

٤٥٦

بل الظاهر جوازه لنيابة الصلاة عن الأموات (*) ، بناءً على الأقوى من شرعيّة عباداته (١).

______________________________________________________

الاستئجار عليه ، فيملكه المستأجر ويلزم الأجير بتسليمه كما هو واضح.

(١) تقدّم البحث غير مرّة في مطاوي هذا الشرح حول عبادات الصبي ، سواء أكانت واجبة في ذاتها أم مستحبّة ، وأنّها هل هي تمرينيّة محضة وعبادة صوريّة كي يتعوّد فلا تصعب عليه لدى بلوغه ، أو أنّها شرعيّة وعبادات حقيقيّة على حذو العبادات الصادرة من البالغين من غير فرق إلّا من ناحية الوجوب والاستحباب.

وقد عرفت أنّ الأظهر هو الثاني ، لا لإطلاقات أدلّة التشريع ، كيف؟! وقد خُصِّصت بالبالغين بمقتضى حديث رفع القلم عن الصبي ، الظاهر في رفع قلم التشريع لا خصوص رفع الإلزام كما لا يخفى ، بل بالجعل الثانوي ، وهو ما ورد من قوله (عليه السلام) : «مروا صبيانكم بالصلاة والصيام» (١) بعد وضوح أنّ الأمر بالأمر بالشي‌ء أمرٌ بذلك الشي‌ء ، ووضوح عدم فهم خصوصيّة لهاتين العبادتين بحسب الانسباق العرفي.

ثمّ إنّه لا شكّ في عدم صحّة استئجاره لنيابة الصلاة عن الميّت بناءً على القول بالتمرينيّة ، لامتناع صدور العبادة الحقيقيّة منه حسب الفرض ، ولا قيمة للصوريّة منها. ومن البيّن لزوم صدور العمل عن النائب على الوجه المطلوب

__________________

(*) فيه إشكال ، إذ لا ملازمة بين شرعية عبادات نفسه وجواز نيابته ليترتّب عليها فراغ ذمّة الغير.

(١) لاحظ الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥ وج ١٠ : ٢٣٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٩ ح ٣.

٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

من المنوب عنه ، أي على صفة العبادة بحيث كأنه هو الآتي بها ، لا بأن يقصد الأمر المتعلّق بالمنوب عنه الذي فيه ما لا يخفى ، بل بأن يقصد الأمر المتوجّه إليه نفسه ، حيث يستحبّ لكلّ أحد النيابة عن الميّت شرعاً ، غايته أنّ هذا الأمر الاستحبابي النفسي ينقلب بعدئذٍ إلى الوجوبي بسبب عروض الإجارة ، كانقلاب استحباب نافلة الليل إلى الوجوب بسبب النذر ، وهذا الأمر الإجاري أو النذري وإن كان توصّليّاً في نفسه إلّا أنّ متعلّقه لمّا كان عبادة فلا مناص من الإتيان به بوجه قربي ، فالتعبّديّة ناشئة من قبل هذا الأمر المتعلّق بالنائب لا الأمر المتعلّق بالمنوب عنه الساقط بموته.

وكيفما كان ، فالعبادة اللازم صدورها من النائب يمتنع صدورها عن الصبي على القول بالتمرينيّة ، فلا يجوز استئجاره كما عرفت.

وأمّا على الشرعيّة كما هو الصحيح حسبما مرّ (١) فهل تصحّ نيابته حينئذٍ عن الميّت أو الحيّ في مورد الجواز؟

الظاهر : العدم ، لعدم الملازمة بين الأمرين ، أعني : الشرعيّة والنيابة بحيث تفرغ ذمّة المنوب عنه ، إذ السقوط بفعل الغير خلاف إطلاق الخطاب وموقوف على قيام الدليل عليه ، والمتيقّن منه صورة بلوغ النائب ، أمّا غيره فلم نعثر (٢) لحدّ الآن على دليل يدلّ على جواز نيابة غير البالغ ، ولا إطلاق في أدلّة النيابة لكي تشمله كما لا يخفى.

ونظير ذلك ما ذكرناه في الصلاة على الميّت من أنّها وإن كانت مشروعة منه

__________________

(١) شرح العروة (الصلاة ٥) : ١٦٧.

(٢) ودعوى أنّ ما ورد من أنّ من برّ الولد لوالده أن يصلّي عنه ، إلخ ، مطلق من حيث بلوغ الولد وعدمه.

مدفوعة بعدم وروده في مقام البيان من هذه الجهة ، فلاحظ.

٤٥٨

[٣٣٧٣] الرابعة : إذا بقي في الأرض المستأجرة للزراعة بعد انقضاء المدّة أُصول الزرع فنبتت (١) فإن لم يعرض المستأجر عنها كانت له ، وإن أعرض عنها (*) وقصد صاحب الأرض تملّكها كانت له ، ولو بادر آخر إلى تملّكها ملك وإن لم يجز له الدخول في الأرض إلّا بإذن مالكها.

______________________________________________________

لاشتراكه مع البالغ في ذلك حسب التقريب المتقدّم ، إلّا أنّها لا تجزئ في سقوط التكليف عن البالغين ، فإنّ الواجب كفائي والقدر الثابت من الأدلّة سقوطه بفعل واحد منهم ، أمّا بفعل شخص آخر لم يتعلّق به الوجوب فغير ثابت ، ومقتضى الإطلاق عدم الاكتفاء به.

فالأظهر عدم صحّة استئجار الصبي للصلاة عن الميّت كما لا يجتزأ بصلاته على الميّت حسبما عرفت.

(١) وأنتجت كما هو الغالب ، فهل الحاصل تابع للأرض فهو ملك للمؤجّر أو للحبّ فهو للمستأجر؟

المعروف والمشهور وهو الصحيح أنّه من فوائد الحبّ وتوابعه كما في الدجاج التابع للبيض فإنّه هو الذي كبر ونما ، والأرض ظرف ووعاء محض.

وحينئذٍ فإن لم يكن المستأجر معرضاً كما لو كان بانياً على الرجوع وأخذه فنسي فهو له بلا إشكال.

وأمّا إذا كان معرضاً فقد ذكر في المتن أنّه إن تملّكه صاحب الأرض كان له كما في سائر المباحات الأصليّة ، وإن سبقه غيره فتملّكه ملكه وإن كان آثماً في

__________________

(*) الظاهر أنّ الإعراض لا يوجب الخروج عن الملك ، وعليه فلا يملكها صاحب الأرض بقصد تملّكها. نعم ، لا بأس بالتصرّف فيها من جهة الإباحة.

٤٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

استطراق الأرض إذا لم يكن بإجازة المالك.

أقول : ما ذكره (قدس سره) من زوال الملك بمجرّد الإعراض وصيرورته كالمباح بالأصل يجوز لكلّ أحد تملّكه ، هو المعروف والمشهور بينهم ظاهراً.

وأيّده في السرائر وغيره بما ورد في السفينة المغروقة من أنّ ما أُخرج منها بالغوص فهو للمخرج ، نظراً إلى ابتناء الحكم على أنّ المالك قد أعرض ، ومن ثمّ كان ملكاً للمخرج. قال ابن إدريس : وليس هذا قياساً ، لأنّ مذهبنا ترك القياس ، وإنّما هذا على جهة المثال (١).

ولكنّك خبير بأنّ الرواية المشار إليها أجنبيّة عن باب الإعراض رأساً ، فإنّها رويت بطريقين : تارةً بعنوان السكوني ، وأُخرى بعنوان الشعيري ، وكلاهما شخص واحد ، والمعتبر هو الطريق الأوّل الذي يروي عنه النوفلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «قال : وإذا غرقت السفينة وما فيها فاصابه الناس فما قذف به البحر على ساحله فهو لأهله وهم أحقّ به ، وما غاص عليه الناس وتركه صاحبه فهو لهم» (٢) ، ونحوها بعنوان الشعيري (٣).

وهي كما ترى لم يفرض فيها الإعراض أبداً ، ولعلّ المالك لم يطّلع على الغرق ، أو لم يعلم بوجود ماله في السفينة ، أو كان متوقّعاً خروجه عن البحر ولو من باب الصدفة كما قد يتّفق.

وبالجملة : لم يفرض فيها أنّ المالك أعرض عن ماله ، فهي أجنبيّة عن محلّ الكلام.

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٩٥.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤٥٥ / كتاب اللقطة ب ١١ ح ١.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٤٥٥ / كتاب اللقطة ب ١١ ح ٢.

٤٦٠