موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

ويندفع : بأنّ مفاد الحديث قاعدة امتنانيّة ، ولا شكّ أنّ الإبقاء المزبور منافٍ لسلطنة المالك ولا سيّما لو تضرّر بذلك ، فهو مخالف للامتنان بالإضافة إليه ، ومعه لا سبيل للتمسّك بالحديث لتجويز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، سواء أتضرّر ذلك الغير أم لا ، ومع الضرر أوضح ، ولو صحّ ذلك لساغ التصرّف في غير مورد الإيجار أيضاً بمناطٍ واحد ، فلو فرضنا أنّ له بذراً لو لم يزرعه في أرض الغير يتلف أو أنّ له مالاً لو لم يضعه في دار الغير يسرق ، فهل ترى جواز التصرّف حينئذٍ في ملك الغير بغير إذنه استناداً إلى دليل لا ضرر وإن تضمّن خلاف الامتنان بالإضافة إلى الآخر؟! والمتحصّل من جميع ما ذكرناه : عدم جواز الإبقاء من غير رضا المالك وعدم وجوب الصبر عليه وإن احتمله في المتن. ولكنّه بعيد جدّاً ، بل لا بدّ من الاستئذان من المالك ، فإن رضي مجّاناً أو مع الأُجرة فهو ، وإلّا وجب القلع وإن تضرّر.

هذا فيما إذا كانت المدّة وافية.

وأمّا إذا لم تكن وافية من الأوّل فبطريقٍ أولى كما لا يخفى.

٤٢١

فصل

في التنازع

[٣٣٥٦] مسألة ١ : إذا تنازعا في أصل الإجارة قُدّم قول منكرها مع اليمين (*) (١) ، فإن كان هو المالك استحقّ اجرة المثل دون ما يقوله المدّعى ، ولو زاد عنها لم يستحقّ تلك الزيادة وإن وجب على المدّعى المتصرّف إيصالها إليه ، وإن كان المنكر هو المتصرّف فكذلك لم يستحقّ المالك إلّا اجرة المثل ، ولكن لو زادت عمّا يدّعيه من المسمّى لم يستحقّ الزيادة ، لاعترافه بعدم استحقاقها ، ويجب على المتصرّف (**) إيصالها إليه. هذا إذا كان النزاع بعد استيفاء المنفعة. وإن كان قبله رجع كلّ مال إلى صاحبه.

______________________________________________________

(١) قد يفرض ذلك قبل استيفاء المنفعة ، وحكمه حينئذٍ ظاهر ، فإنّه إن كانت للمدّعي سواء أكان هو المالك أم المستأجر بيّنة قُدّم قوله ، وإلّا حلف المنكر بقانون : أنّ البيّنة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه ، فيرجع كلّ مال

__________________

(*) هذا فيما إذا ادّعى المالك الإجارة بأكثر من اجرة المثل أو ادّعى المتصرّف الإجارة بأقلّ منها ، وأمّا إذا انعكس الأمر فهو من تعارض الإقرارين ولا مقتضي فيه لتوجّه اليمين على المالك أو المتصرّف.

(**) إذا علم بصحّة دعواه لا لمجرّد إقراره.

٤٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى صاحبه فكانت المنفعة للمالك والأُجرة للمستأجر.

واخرى : يفرض بعد الاستيفاء ، فيدّعي أحدهما تحقّق الإجارة واستقرار الأُجرة المسمّاة ، وينكرها الآخر وأنّ عليه اجرة المثل.

وحينئذٍ فقد يكون المدّعى هو المالك ، وأُخرى هو المتصرّف ، وعلى التقديرين فقد ذكر في المتن : أنّ القول قول منكر الإجارة مع اليمين ، فلا يستحقّ المالك إلّا اجرة المثل ، ولكنّه لا يستقيم على إطلاقه.

وتوضيحه :

أمّا في الصورة الأُولى : فإنّما يتّجه ما ذكره (قدس سره) فيما إذا ادّعى المالك أُجرة زائدة على اجرة المثل ، كما إذا كانت مائة ، والمالك يدّعي المائتين ، فإنّ هذه الزيادة التي ينكرها الآخر تحتاج إلى الإثبات ، فإذا لم تثبت كما هو المفروض سقطت الدعوى ، فلا يستحقّ إلّا ما يعترف به المنكر من كونه مأذوناً في التصرّف مع الضمان المنطبق على اجرة المثل.

وأمّا إذا ادّعى أُجرة أقلّ منها ، كخمسين ديناراً في المثال المزبور وإن كان الفرض نادراً جدّاً ، فلا يتمّ ما أفاده (قدس سره) من يمين المنكر في هذه الصورة ، ضرورة أنّ المنكر وهو المتصرّف لا يدّعي عليه المالك شيئاً حتى يحتاج في ردّه وإسقاطه إلى اليمين ، كيف؟! وهو معترف بما يدّعيه المالك وزيادة ، فإذن يحلف على أيّ شي‌ء؟! ولا يمين إلّا لإسقاط حقّ أو مال يدّعى عليه.

وبالجملة : لم يتحصّل معنى للحلف على عدم الإجارة في هذه الصورة ، بل الصحيح خروجها عن باب المدّعى والمنكر رأساً ، فإنّ المدّعى على ما سيجي‌ء تفسيره ببيان أوسع هو من يلزم غيره بحقّ أو مال أو غيرهما كالزوجيّة مثلاً بحيث يكون هو المسئول عن إتيانه والمطالب ببرهانه ، أو من يعترف بحقّ أو مال لغيره عليه ولكنّه يدّعي الأداء والوفاء والخروج عن عهدته وفراغ

٤٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ذمّته عنه ، وهو أيضاً لا بدّ له من الإثبات تجاه المنكر لذلك.

وهذا الضابط كما ترى غير منطبق على المقام بوجه ، إذ بعد اعتراف المتصرّف بأنّ عليه شيئاً أكثر ممّا يقوله المالك وهو بصدد الخروج عن عهدته فكيف يصحّ إطلاق المدّعى على أحدهما والمنكر على الآخر؟! بل أنّ مرجع التنازع وقتئذٍ إلى اعترافين متضادّين ، فيعترف المالك بعدم استحقاقه على المتصرّف أزيد من الخمسين ، ويعارضه اعتراف المتصرّف باستحقاق المالك عليه تمام المائة ، فكلّ منهما يعترف على نفسه شيئاً ، لا أنّه يدّعي على الآخر شيئاً ليحتاج إلى الإثبات ويكون من باب التداعي ويطالبا ببيّنة أو يمين ، فهذا خارج عن مورد الدعوى وداخل في عنوان الاعتراف ، وفي مثله ليس لأيّ منهما الأخذ بما يعترف به الآخر ، لمنافاته لاعتراف نفسه ، كما ليس للحاكم الشرعي تنفيذ أيّ من الاعترافين بعد ابتلائه بالمعارض.

نعم ، لو علم المتصرّف بخطإ المالك أو كذبه وأنّ ذمّته مشغولة بالزائد لزمه العمل بمقتضى علمه ، إذ لا أثر لاعتراف المالك في سقوط ما يقطع باستحقاقه ، كما لو علم بأنّه مدين لزيد بكذا وزيد يعترف أنّه لا دين له عليه ، فإنّ ذلك لا يستوجب سقوط الدين فيجب عليه الإيصال كيفما اتّفق.

فما ذكره في المتن من وجوب إيصال الزيادة صحيح ، لكن لا (١) لإقراره كما هو ظاهر كلامه (قدس سره) ، لمعارضته بإقرار آخر كما عرفت وتساقطهما ، بل لعلمه بالاشتغال من غير مسقط وحكم العقل بلزوم الخروج عنه.

وكيفما كان ، فما أفاده (قدس سره) من إجراء أحكام الدعوى هنا ووصول النوبة إلى اليمين والحلف لا أساس له من الصحّة.

__________________

(١) التعليل في المتن بالاعتراف راجع إلى عدم استحقاق المالك للزيادة لا إلى وجوب الإيصال على المتصرّف.

٤٢٤

[٣٣٥٧] مسألة ٢ : لو اتّفقا على أنّه إذن للمتصرّف في استيفاء المنفعة ولكن المالك يدّعي أنّه على وجه الإجارة بكذا أو الإذن بالضمان والمتصرّف يدّعي أنّه على وجه العارية (١) ، ففي تقديم أيّهما وجهان بل قولان : من أصالة البراءة بعد فرض كون التصرّف جائزاً ، ومن أصالة احترام مال المسلم الذي لا يحلّ إلّا بالإباحة والأصل عدمها فتثبت اجرة المثل بعد التحالف ، ولا يبعد ترجيح الثاني (*) ، وجواز التصرّف أعمّ من الإباحة.

______________________________________________________

ومن ذلك كلّه يظهر حكم عكس المسألة. أعني :

الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الدّعي هو المتصرّف ، فإنّ ما أفاده في المتن من تقديم قول المنكر بيمينه إنّما يتّجه فيما إذا تعلّقت الدعوى بالإجارة بالأقلّ من اجرة المثل كما هو الغالب ، فادّعى الإجارة بالخمسين وأُجرة المثل مائة مثلاً لا فيما إذا تعلّقت بالأكثر كالمائتين ، فإنّه يجري فيه الكلام المتقدّم بعينه من عدم كونه من موارد الدعوى ، بل من باب تعارض الاعترافين ، فلاحظ.

(١) قد يفرض هنا أيضاً كالمسألة السابقة أن مدّعي الإجارة هو المالك ، وأُخرى أنّه المتصرّف ، والكلام فعلاً في الفرض الأوّل مع تحقّق الاستيفاء خارجاً.

والمحتملات في المسألة على ما ذكروها ثلاثة :

أحدها : أنّ مدّعي الإجارة هو المدّعى وعليه الإثبات ، وبدونه يتوجّه

__________________

(*) والأظهر هو ترجيح الأوّل ، وذلك لعدم الموجب للضمان إلّا أحد أمرين ، الأوّل : الاستيلاء على مال الغير بدون إذنه. الثاني : الالتزام بالضمان العقدي. والأوّل في المقام مفروض الانتفاء ، والثاني لم يثبت.

٤٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

اليمين إلى الطرف الآخر ، لأنّه ينفي اشتغال ذمّته بالأُجرة ، والأصل هو البراءة.

ثانيها : عكس ذلك وأنّ مدّعي العارية هو المكلّف بالإثبات ، والطرف الآخر منكر ليس عليه إلّا اليمين.

ثالثها : ما هو ظاهر عبارة المتن ونُسب إلى غيره أيضاً من أنّهما يتحالفان باعتبار أنّ المقام من موارد التداعي ، لأنّ كلّاً منهما يدّعي شيئاً من الإجارة أو العارية وينكره الآخر.

هذا ، ولم يرد فيما عثرنا عليه من روايات باب القضاء صحيحها وسقيمها من تفسير المدّعى والمنكر عين ولا أثر ، وإنّما الوارد فيها التعرّض لأحكامهما من كون البيّنة على المدّعى واليمين على المنكر ، أو على المدّعى عليه ، على اختلاف التعابير ، ونحو ذلك ، معرضاً عن تحقيق المراد من نفس الموضوع.

ومن ثمّ اختلفت كلماتهم في تفسير هاتين الكلمتين ، فقيل في معناهما أُمور من أنّ المدّعى مَن لو تَرك تُرك ، أو من خالف قوله الأصل أو الظاهر ، وغير ذلك من الوجوه التي لا يمكن التعويل على شي‌ء منها بعد عدم كونها بيّنة ولا مبيّنة ، بل المرجع في تشخيص الموضوع كما في سائر المقامات هو العرف وبناء العقلاء ، فكلّ من يدّعي شيئاً ويكون في اعتبار العقلاء هو الملزم بإثباته ومطالباً بدليله وبرهانه فهو المدّعى ، ويقابله المنكر غير المكلّف بإقامة الدليل ، وطريقة الإثبات هي ما ذكر في الأخبار من قوله (عليه السلام) : «إنّما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات» (١) فيطالب المدّعى بالبيّنة ، ومع العدم يكلّف المنكر باليمين ، سواء ادّعى شيئاً أم لا ، فإنّه غير ملزم بإثبات دعواه ، بل يكفيه نفي الدعوى القائمة عليه.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ١.

٤٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذه الدعوى التي يطالَب المدّعى بإثباتها تتحقّق في أحد موردين :

أحدهما : من يلزم غيره بحقّ أو مال أو شبه ذلك من زوجيّة أو شرط ضمن عقد أو دين أو نحوها ، فإنّ العقلاء يرون أنّ المدّعى لهذه الأُمور هو المسئول عن الدليل وعهدة إثباتها عليه ، دون الطرف الآخر المنكر لها ، فإنّه غير ملزم بشي‌ء فلا يطالب من يدّعى عليه الدين بإثبات عدم الاستدانة ، بل يطالب المدّعى بإثبات أصل الدين.

ثانيهما : دعوى من يعترف بالحقّ بأدائه والخروج عن عهدته وفراغ ذمّته عنه ، فإنّ العقلاء يلزمون هذا المعترف بإقامة الدليل لإثبات الأداء الذي ينكره خصمه ويرونه هو المدّعى في هذا النزاع وإن كان الضابط الذي ذكروه لتشخيصه من أنّه من لو تَرك تُرك منطبقاً على خصمه ، إذ لا أساس لهذه الضابطة ، ولا شكّ أنّ العقلاء لا يطالبون الخصم بالدليل وإنّما يطلبونه من المعترف فحسب كما عرفت.

فهذا هو الميزان والضابط العامّ لتشخيص المدّعى من المنكر ، وبقيّة ما ذكر من الوجوه لا أساس لها ، فأيّ من المتخاصمين طولب بإقامة الدليل وكان هو الملزم بالإثبات دون الطرف الآخر كان هو المدّعى وكان الآخر منكراً.

ومنه تعرف أنّه لو كان كلّ من الطرفين ملزماً بالإثبات لعدم ترجيح في البين ، كما لو ادّعى كلّ منهما مالاً تحت يد ثالث يعترف أنّه أمانة لم يعلم صاحبها ، خرج ذلك عن باب المدّعى والمنكر واندرج في باب التداعي ، فإن أقام أحدهما بيّنة وإلّا تحالفا.

فالتحالف من أحكام التداعي وإلزام كلّ منهما بالإثبات.

وأمّا لو أُلزم أحدهما فقط دون الآخر فلا معنى للتحالف.

ومن هنا يظهر أنّه لا موقع للتحالف في محلّ الكلام ، فإنّ مدّعي العارية

٤٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يدّعي على المالك شيئاً وإنّما يدفع الأُجرة التي يدّعيها المالك عن نفسه ، فلا تداعي لينتهي الأمر إلى التحالف ، بل هي دعوى واحدة من جانب المالك وهو الملزم بإثباتها ، ولا حلف إلّا على الآخر.

وإذا عرفت ما ذكرناه فتفصيل الكلام في المقام : أنّ المدّعى للإجارة قد يكون هو المالك ، وأُخرى هو المتصرّف ، وعلى التقديرين فقد تكون الدعوى قبل استيفاء المنفعة ، وأُخرى بعدها ، ولو كانت في الأثناء فيجري بالنسبة إلى ما مضى حكم ما بعد الاستيفاء وبالإضافة إلى ما بقي حكم ما قبله.

فإن كانت قبل الاستيفاء وكان المدّعى هو المالك فعليه الإثبات ، لأنّه يلزم المتصرّف بشي‌ء هو ينكره وهو الأُجرة ، فإذا لم يثبت ولم يرض بالبقاء على سبيل العارية استردّ ماله ولم يستحقّ على القابض شيئاً.

وهكذا الحال لو كان المدّعى هو المتصرّف ، حيث إنّه يدّعي ملكيّة المنفعة بالإجارة والمالك ينكرها ، فإذا لم تثبت استردّ ماله. وهذا واضح.

وأمّا إذا كانت بعد الاستيفاء : فإن كان المدّعى هو المتصرّف خرج ذلك عن باب الدعوى واندرج في باب تعارض الإقرارين ، إذ لا يدّعي أيّ منهما حينئذٍ شيئاً على الآخر ، بل يعترف كلّ منهما بشي‌ء على نفسه ، فيعترف المتصرّف باشتغال ذمّته بالأُجرة ، كما يعترف المالك بأنّه لا يستحقّ على المتصرّف شيئاً ، وقد مرّ حكم التعارض المزبور قريباً ، فلاحظ (١).

وإن كان هو المالك كما هو الغالب فيدّعي اجرة على المتصرّف ، وهو يدّعي أنّه سكن الدار عارية ، فلا شي‌ء عليه.

ففي مثله بعد ما عرفت أنّه لا موقع للتحالف كما تقدّم فهل المدّعى من يدّعي

__________________

(١) في ص ٤٢٤.

٤٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الإجارة وهو المالك ولا بدّ له من الإثبات وإلّا فالقول قول مدّعي العارية ، أو أنّ الأمر بالعكس والملزم بالإثبات إنّما هو مدّعي العارية؟

فيه خلاف ، وقد اختار الماتن بعد ما ذكر التخالف أنّ مدّعي العارية هو الملزم بالإثبات ، نظراً إلى قاعدة احترام مال المسلم ، فإنّها تستوجب ضمان المتصرّف المستوفي للمنفعة ما لم تثبت المجّانيّة.

ويندفع بأنّ الضمان بالاستيفاء أو التلف ينحصر موجبه في أحد أمرين :

إمّا اليد والاستيلاء على مال الغير الذي هو معنى الأخذ في قوله : «على اليد ما أخذت» إلخ ، وقد استقرّت عليه السيرة العقلائيّة مشروطاً بعدم الإذن ، كما يفصح عنه التعبير بالأخذ المشروب فيه القهر والغلبة والاستيلاء من غير إذن.

أو الالتزام العقدي من إجارة أو غيرها ، حيث يلزم الطرف الآخر أن يكون الضمان من كيسه ، وهو معنى قولهم ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

ولا شكّ أنّ الأوّل غير محتمل في المقام بعد فرض صدور الإذن من المالك جزماً ، سواء أكان مع العوض أم بدونه ، فالضمان باليد مقطوع العدم.

وأمّا الضمان بالعقد الذي يدّعيه المالك فغير ثابت على الفرض وهو الملزم بإثباته.

وبالجملة : فالمالك يدّعي الضمان بالعقد لا باليد ولا بدّ له من إثبات ذلك.

وأمّا قاعدة الاحترام فإن قلنا باختصاصها بالحكم التكليفي وأنّ مفادها مجرّد عدم جواز التصرّف في مال المسلم بغير إذنه ، فعدم ثبوت الضمان بها حينئذٍ واضح.

وإن عمّمناها للحكم الوضعي بحيث شملت الضمان فهو أيضاً مقيّد بعدم الإذن ، ضرورة عدم اقتضاء احترام المال ضمانه في صورة الإذن ، والمفروض أنّ التصرّف في المقام كان بإذن من المالك وإجازته ، سواء أكان على سبيل الإجارة

٤٢٩

[٣٣٥٨] مسألة ٣ : إذا تنازعا في قدر المستأجر عليه قُدّم قول مدّعي الأقلّ (١).

______________________________________________________

أو العارية ، فلم يكن منافياً لاحترام ماله ليستوجب الضمان ، غايته أنّ المالك يدّعي اشتغال الذمّة بالأُجرة ، وهذا أمر آخر يحتاج إلى الإثبات.

فتحصّل : أنّ الأظهر عدم موجب للضمان وأنّه يقدّم قول مدّعي العارية بيمينه ما لم تثبت الإجارة بطريق شرعي.

(١) هذا على نحوين :

إذ قد يكون مدّعي الأقلّ هو المستأجر وإن كان الفرض نادراً كأن يقول : استأجرت نصف الدار بدينار ، وقال المؤجر : بل آجرتك تمام الدار بدينار ، وهذا من تعارض الاعترافين وليس من باب المدّعى والمنكر ، وقد تقدّم حكمه (١).

وقد يكون مدّعيه هو المؤجر كما هو الغالب فيطالب المستأجر منفعة زائدة على ما يعترف به المؤجر ، فإنّ عليه الإثبات ، وبدونه يُقدَّم قول مدّعي الأقلّ المنكر للزيادة.

هذا ، ونسب إلى بعضهم التحالف ، نظراً إلى أنّ الإجارة أمر وجودي يدّعي كلّ منهما تحقّقها ضمن حدٍّ معيّن وفي كمّيّة خاصّة ، فيندرج في باب التداعي المحكوم بالتحالف.

وفيه ما لا يخفى ، لاتّفاقهما على ملكيّة المؤجر للأُجرة ، وملكيّة المستأجر للمقدار الأقلّ من المنفعة أو العمل ، وإنّما الخلاف في ملكيّته للزائد على هذا المقدار فيدّعيها المستأجر وينكرها المؤجر ، فالإلزام ليس إلّا من طرف واحد ،

__________________

(١) في ص ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

٤٣٠

[٣٣٥٩] مسألة ٤ : إذا تنازعا في ردّ العين المستأجرة (١) قُدّم قول المالك.

[٣٣٦٠] مسألة ٥ : إذا ادّعى الصائغ أو الملّاح أو المكاري تلف المتاع من غير تعدٍّ ولا تفريط وأنكر المالك التلف أو ادّعى التفريط أو التعدّي قُدّم قولهم مع اليمين (*) على الأقوى (٢).

______________________________________________________

ومعه لا موقع لعدّه من باب التداعي لينتهي إلى التحالف ، ومن البيّن أنّ الدعوى لا بدّ وأن تتضمّن أثراً وبدونه لا معنى لجعله مدّعياً ، وأثر الدعوى في المقام ملكيّة المنفعة الزائدة التي ينكرها الخصم ، ولا أثر للدعوى من الجانب الآخر.

(١) فمن هو المدّعى منهما والمنكر؟

الظاهر أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ مدّعي الردّ هو الذي يُلزَم بالإثبات ، لاعترافه بأنّ مال الغير كان عنده وكان عليه الردّ ، فيدّعي فراغ ذمّته عمّا كانت مشغولة به من ردّ العين ، إذن فعليه الإثبات ، وبدونه قُدّم قول المالك المنكر للردّ.

نعم ، وقع الخلاف في باب الوديعة في أنّ الودعي لو ادّعى الردّ وأنكره المستودع فمن المقدّم قوله منهما؟ وقد ذهب جماعة إلى تقديم قول الودعي بالإجماع ، ولكنّه لم يثبت بل الحال فيه كالمقام في الحاجة إلى الإثبات ، وعلى تقدير التسليم فالتعدّي عن مورد الإجماع على فرض تحقّقه إلى ما نحن فيه لا دليل عليه.

(٢) لا إشكال كما لا خلاف في أنّ العين التي تُدفَع إلى الأجير ليعمل فيها من خياطة أو قصارة أو صياغة ونحوها أمانة عنده ، فلو تلفت تحت يده من غير تفريط أو تعدٍّ لا ضمان عليه ، كما دلّت عليه جملة من الروايات الناطقة بأنّه مؤتمن ولا ضمان على الأمين.

__________________

(*) هذا فيما إذا يكونوا متهمين ، وإلّا فالقول قول المالك وهم مطالبون بالإثبات شرعاً.

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

كما لا خلاف ولا إشكال في ضمانه مع التعدّي أو التفريط ، لانقلاب يده وقتئذٍ عن الائتمان إلى العدوان.

وإنّما الكلام فيما إذا لم يعلم بالحال فادّعى العامل التلف من غير تعدٍّ وأنكر المالك إمّا أصل التلف أو الاستناد إلى عدم التعدّي فوقع بينهما التنازع والترافع ، فأيّ منهما مكلّف بإقامة البيّنة؟

نُسِب إلى المشهور بل ادّعي عليه الإجماع : أنّ المكلّف بها هو المالك المدّعى للضمان ، وليس على العامل إلّا اليمين.

كما نُسِب إلى المشهور خلافه أيضاً وأنّ البيّنة تُطلَب من العامل ، والناسب هو الشهيد الثاني في المسالك (١) ، ولكن في ثبوت الشهرة إشكالاً. وعلى كلّ حال ، فلا شكّ أنّ كلّاً من الاحتمالين له قائل قلّ أو كثر والمتّبع هو الدليل.

فنقول : لو كنّا نحن والروايات العامّة ولم ترد في المقام رواية خاصّة لم يكن شكّ في أنّ المكلّف بالإثبات إنّما هو المالك ، إذ بعد فرض اتّصاف يد العامل بالأمانة بمقتضى تلك الروايات فانقلابها إلى اليد العادية يحتاج إلى الإثبات ، وإلّا فالعامل أمين وليس عليه إلّا اليمين ، فمقتضى القاعدة مطالبة المالك بالبيّنة.

وأمّا بالنظر إلى الروايات الخاصّة فهي على طوائف ثلاث :

إحداها : ما دلّ على ضمان العامل مطلقاً ، أي بلا فرق بين المتّهم وغيره ، وبطبيعة الحال يجب عليه الإثبات لدفع الضمان عن نفسه ، وهي عدّة روايات وأكثرها معتبرة.

الثانية : ما دلّ على عدم الضمان مطلقاً.

الثالثة : ما تضمّن التفصيل بين المتّهم وغيره بضمان الأوّل دون الثاني.

__________________

(١) المسالك ٥ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وبما أنّ نسبة الأخيرة إلى كلّ من الأُوليين المتباينتين تماماً نسبة الخاصّ إلى العامّ فتخصّص هي كلّاً منهما وتصلح أن تكون شاهدة جمع بينهما ، فتُحمَل الاولى على مورد الاتّهام ، والثانية على مورد الوثوق والائتمان ، وتكون نتيجة الجمع ضمان العامل إذا كان متّهماً ، وعدم ضمانه فيما إذا كان مأموناً.

ولنذكر من كلّ من الطوائف الثلاث نبذاً من الأخبار.

فمن الطائفة الأُولى :

١ ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال في الغسّال والصبّاغ : «ما سرق منهم من شي‌ء فلم يخرج منه على أمر بين أنّه قد سرق وكلّ قليل له أو كثير فإن فعل فليس عليه شي‌ء ، وإن لم يقم البيّنة وزعم أنّه قد ذهب الذي ادّعى عليه فقد ضمنه إذ لم تكن له بيّنة على قوله» (١).

٢ ـ وصحيحة أبي بصير بطريقي الشيخ والصدوق عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن قصّار دفعت إليه ثوباً فزعم أنّه سرق من بين متاعه «قال : فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه وليس عليه شي‌ء ، فإن سرق متاعه كلّه فليس عليه شي‌ء» (٢).

٣ ـ ومعتبرة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن الصبّاغ والقصّار والصائغ احتياطاً على أمتعة الناس» (٣).

٤ ـ وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سُئل عن رجل جمال استكرى منه إبلاً (إبل. خ ل) وبعث معه بزيت إلى أرض فزعم أنّ بعض

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٤١ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٩ : ١٤٢ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ٥ ، الفقيه ٣ : ١٦٢ / ٧١٢ ، التهذيب ٧ : ٢١٨ / ٩٥٣.

(٣) الوسائل ١٩ : ١٤٢ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ٦.

٤٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

زقاق الزيت انخرق فأهراق ما فيه «فقال : إن شاء أخذ الزيت ، وقال : إنّه انخرق ولكنّه لا يصدّق إلّا ببيّنة عادلة» (١).

٥ ـ وصحيحته الثانية عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في رجل حمل مع رجل في سفينته طعاماً فنقص «قال : هو ضامن» إلخ (٢) ، ونحوها غيرها.

ومن الطائفة الثانية :

١ ـ معتبرة يونس ، قال : سألت الرضا (عليه السلام) عن القصّار والصائغ أيضمنون؟ «قال : لا يصلح إلّا أن يضمنوا» إلخ (٣).

وفي سندها إسماعيل بن مرار ، وهو ثقة على الأصحّ ، لوجوده في تفسير علي ابن إبراهيم ، وقد دلّت على عدم تضمين العامل إلّا أن يشترط عليه الضمان في العقد.

٢ ـ وصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن الصبّاغ والقصّار «فقال : ليس يضمنان» (٤).

ومن الطائفة الثالثة :

١ ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن القصّار والصائغ احتياطاً للناس ، وكان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً» (٥) ، دلّت بالمفهوم على التضمين إن لم يكن مأموناً.

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٤٨ / كتاب الإجارة ب ٣٠ ح ١.

(٢) الوسائل ١٩ : ١٤٩ / كتاب الإجارة ب ٣٠ ح ٢.

(٣) الوسائل ١٩ : ١٤٤ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ٩.

(٤) الوسائل ١٩ : ١٤٥ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ١٤.

(٥) الوسائل ١٩ : ١٤٢ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ٤.

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

٢ ـ ومعتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : كان علي (عليه السلام) يضمن القصّار والصائغ يحتاط به على أموال الناس ، وكان أبو جعفر (عليه السلام) يتفضّل عليه إذا كان مأموناً» (١).

٣ ـ وصحيحة جعفر بن عثمان وهو الرواسي الثقة قال : حمل أبي متاعاً إلى الشام مع جمّال فذكر أنّ حملاً منه ضاع فذكرت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام) «فقال : أتتهمه؟» قلت : لا «قال : فلا تضمنه» (٢).

٤ ـ ومعتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الجمّال يكسر الذي يحمل أو يهريقه «قال : إن كان مأموناً فليس عليه شي‌ء ، وإن كان غير مأمون فهو ضامن» (٣). ومن البيّن أنّ المراد هو التلف ، وإلّا فلا فرق في ضمان المتلف بين المأمون وغيره.

دلّت هذه الروايات على عدم ضمان المأمون.

وتؤيّدها رواية خالد بن الحجّاج كما في الكافي أو الحجّال كما في التهذيب قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الملّاح أُحمّله الطعام ثمّ أقبضه منه فينقص «قال : إن كان مأموناً فلا تضمنه» (٤).

غير أنّ السند ضعيف ، فإنّ خالد بن الحجّال لا وجود له في كتب الرجال ، ولا في كتب الحديث ما عدا هذا المورد في كتاب التهذيب الذي يظنّ أنّه تحريف ، وصحيحه على ما في الكافي الذي هو أضبط : خالد بن الحجّاج ، ولكنّه لم يوثّق ،

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٤٥ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ١٢.

(٢) الوسائل ١٩ : ١٥٠ / كتاب الإجارة ب ٣٠ ح ٦.

(٣) الوسائل ١٩ : ١٥٠ / كتاب الإجارة ب ٣٠ ح ٧.

(٤) الوسائل ١٩ : ١٤٩ / كتاب الإجارة ب ٣٠ ح ٣ ، الكافي ٥ : ٢٤٣ / ٢ ، التهذيب ٧ : ٢١٧ / ٩٤٧.

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فلأجله لا تصلح الرواية إلّا للتأييد ، والعمدة ما عرفت.

فالنتيجة لحدّ الآن : أنّ هذه الروايات قد دلّت على التفصيل الذي عرفت من أنّ العامل إذا كان مأموناً لا يضمن ، فإذا ادّعى المالك عليه التفريط لزمه الإثبات ، وأمّا إذا كان متّهماً فينعكس الأمر ، حيث إنّه يضمن إلّا أن يثبت عدم التفريط ، فهو المطالب حينئذٍ بإقامة البيّنة.

هذا هو المتحصّل من الجمع بين هذه الأخبار.

إلّا أنّ بإزاء ذلك ما دلّ على أنّ وظيفة العامل لدى الاتّهام هو الحلف ولا يكلّف بالبيّنة.

وقد ورد هذا فيما رواه الشيخ بإسناده عن بكر بن حبيب ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه «قال : إن اتّهمته فاستحلفه ، وإن لم تتّهمه فليس عليه شي‌ء» (١).

وروايته الأُخرى عنه (عليه السلام) «قال : لا تضمّن القصّار إلّا ما جنت يده ، وإن اتّهمته أحلفته» (٢).

ونسب هذا إلى المشهور ، واختاره في المتن ، ولكن الروايتين ضعيفتان ، لإهمال الراوي في كتب الرجال ، فلا يمكن التعويل عليهما.

نعم ، إنّ هناك رواية معتبرة ربّما يستدلّ بها على ذلك ، وهي :

صحيحة أبي بصير يعني المرادي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلّا أن يكونوا متّهمين فيخوّف بالبيّنة ويستحلف لعلّه يستخرج منه شيئاً» وفي رجل استأجر جمّالاً فيكسر الذي

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٤٦ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ١٦ ، التهذيب ٧ : ٢٢١ / ٩٦٦.

(٢) الوسائل ١٩ : ١٤٦ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ١٧.

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

يحمل أو يهريقه «فقال : على نحو من العامل إن كان مأموناً فليس عليه شي‌ء ، وإن كان غير مأمون فهو ضامن» (١).

حيث استظهر من ذكر الاستحلاف أنّ وظيفة العامل هو الحلف.

ولكن الظاهر أنّ الدلالة قاصرة ، والاستظهار المزبور في غير محلّه ، والوجه فيه أنّه (عليه السلام) قد حكم صريحاً بالضمان في صورة الاتّهام بقوله (عليه السلام) : «إلّا أن يكونوا متّهمين» ، ومن المعلوم أنّ المتّهم المطالب بالخروج عن عهدة الضمان لا سبيل لذبّ الضمان عن نفسه إلّا بإقامة البيّنة على خلافه ولا ينفعه الحلف بوجه. إذن فالاستحلاف المذكور فيها بقرينة التخويف وبيان الغاية بقوله : «لعلّه» إلخ ، ناظر إلى ما قبل الترافع ، وقبل أن تصل النوبة إلى المحاكمة ، فيخوّف وقتئذٍ ويقال له : إمّا أن تقيم البيّنة ، أو تحلف رجاء أن يستخرج منه ، ولا ينتهي الأمر إلى المرافعة عند الحاكم وقضائه عليه ، فلا دلالة فيها على حكم ما بعد الترافع ، بل أنّ قوله : «إلّا أن يكونوا» إلخ ، ظاهر في الضمان حينئذٍ كما عرفت.

ويعضده ذيل الصحيحة أعني قوله : وفي رجل استأجر ، إلخ ، حيث حكم (عليه السلام) بالضمان لدى عدم الائتمان في مطلق العامل بصورة عامّة ، الراجع إلى جواز مطالبته بالمال إلّا أن يقيم بيّنة على الخلاف.

وبالجملة : فلا دلالة في الصحيحة على أنّ الوظيفة بعد الترافع وتصدّي الحاكم للقضاء الذي هو محلّ الكلام هو الحلف.

هذا ، ولو أغمضنا النظر عن ذلك وأغمضنا عن ضعف روايتي بكر بن حبيب وافترضناهما معتبرتين فلا معارضة بينهما وبين الروايات المتقدّمة الدالّة على الضمان ومطالبة العامل بالبيّنة ، إذ غايته الدلالة على جواز الاكتفاء

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٤٤ / كتاب الإجارة ب ٢٩ ح ١١.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بالاستحلاف بدلاً عن المطالبة بالبيّنة ، ونتيجته تخيير المالك بين الأمرين.

وإنّما تستقيم المعارضة لو دلّت على عدم جواز المطالبة بها ، ولا دلالة فيها على ذلك بوجه ، فلا معارضة بين الطائفتين بتاتاً.

وقد يقال : انّ نصوص الضمان بالرغم من صحّة أسانيدها ساقطة عن درجة الاعتبار ، من أجل إعراض الأصحاب عنها ، حيث إنّ المشهور ذهبوا إلى الاستحلاف المطابق لمضمون الطائفة الأخيرة. إذن فيكون المرجع بعد وضوح أنّ العامل في المقام هو المنكر الإطلاقات الناطقة بأنّ اليمين على المنكر المعتضدة في المقام بهذه الروايات.

ويندفع أوّلاً : بمنع تحقّق الشهرة بمعناها المعروف ، أعني : الاشتهار بين الأصحاب كالمتسالم عليه ، بحيث يكون القول الآخر شاذّاً وفي حكم العدم لم يذهب إليه إلّا مثل ابن الجنيد ونحوه ، كيف؟! وقد سمعت من الشهيد الثاني نسبة القول بالضمان إلى المشهور (١) ، فغايته أن يكون القول الآخر أشهر والقائل به أكثر ، لا أن يكون مشهوراً بحيث يكون القول الآخر شاذّاً لكي يدّعى من أجله الإعراض.

وثانياً : على تقدير التنازل فلم يعلم إعراض الأصحاب عنها ، ولعلّهم عاملوا مع الطائفتين معاملة المتعارضتين فقدّموا نصوص الحلف من أجل موافقتها للإطلاقات والعمومات الناطقة بأنّ اليمين على المنكر ، فكان العمل بها من باب الترجيح لا من باب الإعراض عمّا بإزائها من نصوص الضمان لتسقط عن الحجّيّة.

وثالثاً : أنّ الكبرى ممنوعة ولا يسقط الصحيح بالإعراض عن الحجّيّة كما مرّ غير مرّة.

__________________

(١) المسالك ٥ : ٢٣٣.

٤٣٨

[٣٣٦١] مسألة ٦ : يكره تضمين (*) الأجير في مورد ضمانه (١) من قيام البيّنة على إتلافه أو تفريطه في الحفظ أو تعدّيه أو نكوله عن اليمين أو نحو ذلك.

______________________________________________________

فتحصّل : أنّ ما نُسِب إلى جماعة ونَسَبه الشهيد إلى المشهور من مطالبة العامل بالبيّنة إذا كان متّهماً وعدم استحلافه هو الصحيح ، وإنّما تطلب البيّنة من المالك فيما إذا كان العامل أميناً ، فيفصّل في العامل بين الموثّق وغيره حسبما عرفت.

(١) لم نقف على مدرك لكراهة التضمين أو استحباب عدمه في مفروض المسألة أعني : مورد كون الأجير محكوماً بالضمان ومن المعلوم أنّ فعل الباقر (عليه السلام) من تطوّله وتفضّله الواردين في الروايتين المتقدّمتين كان مخصوصاً بالعامل المأمون الذي لا موجب لضمانه ، فلم يكن ممّا نحن فيه.

وربّما يستدلّ له برواية حذيفة بن المنصور ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع المتاع فتطيب نفسه أن يغرمه لأهله ، أيأخذونه؟ قال : فقال لي : «أمين هو؟» قلت : نعم «قال : فلا يأخذ منه شيئاً» (١).

وفيه : أنّها قاصرة الدلالة ، إذ المفروض ائتمان الأجير ، ومعه لا موضوع للضمان وإن أحبّ تدارك الخسارة من تلقاء نفسه تحفّظاً على كرامته ولكيلا يتّهم كما ذكر ذلك في رواية أُخرى.

وبالجملة : مورد الرواية هو الأمين ، ومعه لا ضمان على العامل ، فهي أجنبيّة

__________________

(١) لم يظهر مستند الحكم بالكراهة.

(٢) الوسائل ١٩ : ١٥٢ / كتاب الإجارة ب ٣٠ ح ١٢ ، التهذيب ٧ : ٢٢٢ / ٩٧٥.

٤٣٩

[٣٣٦٢] مسألة ٧ : إذا تنازعا في مقدار الأُجرة قُدّم قول المستأجر (١).

______________________________________________________

عن محلّ الكلام بالكلّيّة.

أضف إلى ذلك : ضعف السند بالحسن بن الحسين اللؤلؤي أوّلاً ، فإنّه وإن وثّقه النجاشي (*) ولكنّه معارض بتضعيف ابن الوليد وابن نوح والصدوق ، حيث استثنوا من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى ما تفرّد به اللؤلؤي. فلا دليل إذن على وثاقته.

وبابن سنان ثانياً ، إذ المراد به بقرينة الراوي والمروي عنه هو محمّد بن سنان جزماً ، لا عبد الله ، لعدم روايته عن حذيفة ، ولا رواية اللؤلؤي عنه ، فبحسب الطبقة لا يراد به إلّا محمّد الذي روى عن حذيفة ، وروى عنه اللؤلؤي في غير مورد.

على أنّ الشيخ رواها في موضع آخر من التهذيب وهو باب الغرر والمجازفة من التجارات مع نوع اختلاف في المتن والمضمون واحد كما نقله معلّق الوسائل مصرّحاً بمحمّد بن سنان (١).

فتحصّل : أنّ الكراهة لا دليل عليها في محلّ الكلام.

نعم ، لا بأس بالالتزام باستحباب ترك التضمين ورفع اليد عن الحقّ من باب أنّه إحسان في حقّ الغير ، وهو حسن ومندوب في كلّ حال.

(١) الكلام هنا هو الكلام في التنازع في قدر المستأجر عليه بعينه الذي تقدّم مستقصًى في المسألة الثالثة ، فراجع ولاحظ.

__________________

(*) رجال النجاشي : ٤٠ / ٨٣.

(١) التهذيب ٧ : ١٢٩ / ٥٦٥.

٤٤٠