موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

إيجاد هيئة من الهيئات في هذا الموضوع ، كما في إجارة شخص للبناية أو الخياطة أو الكتابة أو الصباغة ونحوها من الأعمال القائمة بالموضوع والحادثة في محلّ مخصوص ، فإنّ إحضار الموضوع وما هو معروض للعمل في عهدة المستأجر وخارج عن شؤون الأجير بما هو أجير.

فتحصيل مواد البناية مثلاً من الجصّ والطابوق والحديد ونحوها من وظائف المستأجر ، إذ ليس المطلوب من الأجير إلّا إيجاد هيئة لهذه المواد يعبّر عنها بالدار مثلاً وعملية البناية المستأجر عليها عبارة عن نفس إيجاد هذه الهيئة فحسب.

وهكذا الخيّاط ، فإنّ وظيفته تفصيل الثوب وإدخال الخيوط فيه على نهج مخصوص تحدث منه هيئة خاصّة ، يعبّر عن هذه العملية بالخياطة ، وأمّا إيجاد الموضوع الذي توجد فيه هذه الهيئة من الثوب والخيوط فهو أجنبي عنه ومن وظائف المستأجر نفسه.

وهكذا الحال في الأجير على الكتابة ، فإنّ تحصيل المداد غير واجب عليه ، وإنّما الواجب جعل المداد على القرطاس على نحوٍ خاصّ.

وهكذا الصبّاغ ، فإنّ وظيفته تلوين المحلّ بالصبغ لا تحصيل نفس الصبغ.

وبالجملة : فينبغي التفصيل بين ما يعدّ مقدمة للعمل ولا يبقى منه فيه أثر ، كإجارة الدابّة المتوقّف عليها الحجّ ، وشراء الماء لوضوء الصلاة ، فعلى عاتق الأجير. وبين ما هو معروض العمل وموضوعه ويبقى أثره بعد العمل ، كالخيوط في الثوب ، والحبر في القرطاس ، والصبغ في الباب ، والجصّ في الدار ، حيث إنّ هذه الآثار تبقى للمستأجر بعد الانتهاء من العمل ، فتحصيل هذه المواد من وظائف المستأجر وليس في عهدة الأجير ما عدا إحداث الهيئات فيها حسبما عرفت.

٤٠١

[٣٣٥٢] مسألة ٢٣ : يجوز الجمع بين الإجارة والبيع مثلاً بعقد واحد (١) ، كأن يقول : بعتك داري وآجرتك حماري بكذا ، وحينئذٍ يوزّع العوض عليهما بالنسبة ويلحق كلّاً منهما حكمه ، فلو قال : آجرتك هذه الدار وبعتك هذا الدينار بعشرة دنانير ، فلا بدّ من قبض العوضين بالنسبة إلى البيع في المجلس ، وإذا كان في مقابل الدينار بعد ملاحظة النسبة أزيد من دينار أو أقلّ منه بطل بالنسبة إليه ،

______________________________________________________

ومنه تعرف أنّ تحصيل الإبرة في الخياطة وكذا القلم في الكتابة في عهدة الأجير ، لأنّهما من مقدّمات العمل لا موضوعاته ، فإنّ الإبرة مقدّمة لإدخال الخيط كالقلم لجرّ الحبر ، فهما نظير الدابّة في سفر الحجّ ، ومن المعلوم عدم بقاء أثرهما بعد العمل.

والضابط : أنّ كلّ ما كان من قبيل الموضوع لا يجب تحصيله ، وما كان من قبيل المقدّمة يجب كلّ ذلك بشرط عدم وجود قرينة على التعيين حسبما عرفت.

(١) عملاً بعمومات الصحّة.

نعم ، قد يناقش تارةً : بخروج مثله عن العقود المتعارفة ، لانصراف دليل الصحّة إلى ما كان عقداً مستقلا بحياله ، فلا يشمل الملفّق من عقدين ، الذي هو أمر غير متعارف.

ويندفع : بمنع الصغرى أوّلاً ، فإنّ هذا النوع من العقد وإن كان قليل التحقّق إلّا أنّه على قلّته لم يكن خارجاً عن حدود التعارف بمثابةٍ ينصرف عنه الإطلاق كما لا يخفى ، فلا مانع لدى العرف من أن يؤاجر داره سنة ويبيعه جميع أثاث البيت بمبلغ كذا.

ومنع الكبرى ثانياً ، لعدم الدليل على اختصاص أدلّة الصحّة بالعقود المتعارفة ،

٤٠٢

للزوم الربا (١). ولو قال : آجرتك هذه الدار

______________________________________________________

بل كل ما صدق عليه عنوان التجارة عن تراضٍ ولم يكن الأكل فيه عن سبب باطل فهو محكوم بالصحّة ومشمول للإطلاقات ، سواء أكان متعارفاً أم لا ، ولا شكّ في صدق هذا العنوان على المقام.

بل في الحقيقة ينحلّ ذلك إلى بيع وإجارة وإن أُبرزا وأُنشئا بإنشاء واحد فكأنّ المبرز لدى التحليل أمران : تمليك عين ، وتمليك منفعة عين اخرى ، قد جمع بينهما في مقام الإبراز. فلا جرم يقسط العوض إلى ثمن وأُجرة بالنسبة ، ويجري على كلّ منهما حكمه حسبما ذكره في المتن.

وقد يناقش اخرى : بجهالة كلّ من الثمن والأُجرة ، لعدم العلم بمقدار كلّ واحد منهما ، فيبطل البيع والإجارة من أجل الجهالة.

ويندفع : بعدم قدح مثل هذا الجهل ، لعدم كون المعاملة غرريّة بعد أن كان المجموع معلوماً ، نظير ما لو باع شيئين بثمن واحد ، فإنّه لا إشكال في الصحّة وإن لم يعلم بأنّ كلّ واحد منهما قوبل بأيّ مقدار من الثمن ، فإنّه لا غرر ولا خطر في مثل ذلك بعد معرفة المجموع ، ولا يضرّ الجهل بسائر الخصوصيّات.

وبالجملة : فلا موقع لأمثال هذه المناقشة ولا ينبغي التأمّل في صحّة هذه المعاملة وانحلالها بعد توزيع العوض بالنسبة كما عرفت إلى بيع وإجارة ، فيلحق كلّاً منهما حكمه.

ويترتّب عليه ما ذكره في المتن من أنّ أحدهما لو كان من بيع الدينار بالدينار لزم فيه قبض العوضين في مجلس البيع ، للزوم التقابض في بيع الصرف ، كما يعتبر فيه أيضاً عدم التفاضل حذراً عن الربا.

(١) قد يقال بالصحّة ، نظراً إلى وجود الضميمة المانعة عن تحقّق الربا نصّاً

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وفتوى. فقد ورد في غير واحد من الأخبار أنّ الدراهم كانت مختلفة القيمة في زمانهم ، بل ربّما كان الدرهم من جنس يسوى درهمين من جنس آخر ، لخصوصية لا نعرفها ، كما هو المشاهد عندنا في الأوراق النقديّة الدارجة في العصر الحاضر ، حيث إنّ الدينار العراقي يختلف في السعر عن الكويتي وهما عن قسم آخر وهكذا.

فمن ثمّ سُئِل الإمام (عليه السلام) في بعض النصوص عن بيع ألف درهم بألفين فأجاب (عليه السلام) بالمنع إلّا مع ضم شي‌ء إلى المبيع ، حتى أنّ السائل اعترض بأنّ الضميمة لا تسوى بألف وأنّ هذا هو الفرار ، فأجاب (عليه السلام) : نِعْمَ الفرار من الحرام إلى الحلال (١).

فيقال : إنّ مقتضى هذه الروايات الجواز في المقام أيضاً ، لصدق الضميمة وتحقّقها فيما نحن فيه.

ولكنّه بمراحل عن الواقع ، إذ الضميمة النافعة حسبما يستفاد من هذه الأدلّة يراد بها ضمّ شي‌ء إلى المبيع بحيث يكون المبيع شيئين ، فيكون من ضمّ مال بمال ، لا ضمّ عقد بعقد كما في المقام ، فالمبيع هنا هو الدينار فقط من غير أن يقترن معه بما هو مبيع شي‌ء ، غاية ما هناك ضمّ معاملة أُخرى مع البيع ، ومثل هذه الضميمة لا تجدي في حلّ مشكلة الربا ، ولا تعدّ من الفرار بمقتضى هذه الأخبار.

ويزيدك وضوحاً ما لو افترضنا تعدّد المالك فكان المؤجر شخصاً والبائع شخصاً آخر ، كما لو كان وكيلاً عن زيد في إجارة داره وعن عمرو في بيع ديناره ، فآجر الدار وباع الدينار بعشرة دنانير ، فإنّه لا ينبغي التأمّل في عدم صدق الضميمة وقتئذٍ وخروجه عن مورد تلك النصوص.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٧٨ / أبواب الصرف ب ٦ ح ١.

٤٠٤

وصالحتك على هذا الدينار بعشرة دنانير مثلاً ـ (١) ، فإن قلنا بجريان (*) حكم الصرف من وجوب القبض في المجلس وحكم الربا في الصلح فالحال كالبيع ، وإلّا فيصحّ بالنسبة إلى المصالحة أيضاً.

______________________________________________________

(١) فهل يجري على هذا الصلح حكم الصرف من وجوب التقابض في المجلس ، وكذا حكم الربا كما كان جارياً لو أنشأ بصيغة البيع بدلاً عن الصلح حسبما تقدّم؟

فيه كلام طويل بدليل مذكور في محلّه.

والصحيح هو التفصيل بين أحكام الصرف والربا فتجري الثانية دون الاولى ، نظراً إلى أنّ أكثر النصوص المعتبرة الواردة في الربا خالية عن ذكر البيع ، بل موضوعها مجرّد الزيادة والمفاضلة الظاهرة في مطلق المبادلة وإن كانت بعنوان المصالحة.

ففي معتبرة عبد الرّحمن قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أيجوز قفيز من حنطة بقفيزين من شعير؟ «فقال : لا يجوز إلّا مثلاً بمثل. ثمّ قال : إنّ الشعير من الحنطة» (١).

وفي صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : الحنطة والشعير رأساً برأس ، لا يزاد واحد منهما على الآخر» (٢) ، ونحوهما غيرهما.

بل لعلّ مفهوم الربا الذي هو بمعنى الزيادة يعمّ المقام ، إذ لم يؤخذ في مفهومه البيع ، فالممنوع مطلق إعطاء الزيادة وأخذ الناقص.

__________________

(*) الظاهر أنّه لا يجري فيه حكم الصرف ويجري فيه الربا.

(١) الوسائل ١٨ : ١٣٨ / أبواب الربا ب ٨ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٣٨ / أبواب الربا ب ٨ ح ٣.

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيفما كان ، فيكفينا إطلاق الروايات الشاملة للمصالحة.

فلا يدور الحكم مدار صدق البيع ، بل يعمّ الصلح المعاوضي الواقع في مكيل أو موزون ، وهذا بخلاف روايات باب الصرف المتضمّنة لشرط التقابض ، فإنّها بأجمعها خاصّة بالبيع ولم ترد رواية مطلقة كما في الربا ليتعدّى منه إلى الصلح ، فلاحظ الباب الثاني من أبواب الصرف من الوسائل.

فلا مناص إذن من الاقتصار على موردها والرجوع فيما عداه إلى إطلاقات الصحّة.

فالمتّجه هو التفصيل بين البابين ، لاختلاف نصوص الطرفين حسبما عرفت.

نعم ، قد يقال بأنّ صحيحة ابن مسلم تدلّ بإطلاقها على جواز المصالحة حتى مع العلم بالمفاضلة فلا يجري الربا في الصلح.

فقد روى عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي «فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما» (١).

دلّت على جواز المصالحة بين الطعامين لدى جهل كلّ من الطرفين بمقدار ماله عند الآخر ، الشامل بمقتضى الإطلاق لصورة العلم بأصل الزيادة ، كما لعلّه الغالب ، فيفارق الصلح للبيع في جواز الربا فيه ، وتكون هذه الصحيحة مقيّدة لإطلاقات عدم الجواز.

ويندفع : بقصورها عن الشمول لصورة العلم ، لظهور الجهل المفروض فيها في الجهل بالكمّيّة بقولٍ مطلق ، فلا يدري أيّ منهما أنّ ماله عند الآخر هل هو

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤٤٥ / كتاب الصلح ب ٥ ح ١.

٤٠٦

[٣٣٥٣] مسألة ٢٤ : يجوز استئجار من يقوم بكلّ ما يأمره من حوائجه فيكون له جميع منافعه (١) ، والأقوى أنّ نفقته على نفسه لا على المستأجر إلّا مع الشرط أو الانصراف من جهة العادة ، وعلى الأوّل لا بدّ من تعيينها كمّاً وكيفاً إلّا أن يكون متعارفاً ، وعلى الثاني على ما هو المعتاد المتعارف ،

______________________________________________________

أكثر ممّا للآخر عنده أو أقلّ أو أنّهما متساويان؟ ففرض العلم بالزيادة خارج عن منصرف الصحيحة ، كيف؟! وهو حينئذٍ عالم في الجملة ، فلا يكون ممّن لا يدري ، الظاهر في الجهل المطلق كما عرفت.

نعم ، لا يضايق من ظهورها في جواز المصالحة مع احتمال الزيادة ، ولعلّ عنوان التصالح والتسالم مبني على ذلك ، فبهذا المقدار يلتزم بالصحّة لأجل هذه الصحيحة ويخرج عن المطلقات ، وأمّا مع العلم بها فكلّا.

فبحسب النتيجة يفصّل في الصلح المعاوضي الطارئ عن المكيل أو الموزون بين صورتي العلم بالزيادة فلا يجوز ، واحتمالها فيجوز ، ولا يعتبر إحراز التساوي. وأمّا في البيع فلا مناص من إحراز المساواة ، إذ لا يجوز إلّا مثلاً بمثل كما نطقت به النصوص وقد مرّ بعضها ، فلاحظ.

(١) المقدورة له والمتعارفة من مثله ، كما هو الشائع المتعارف في استئجار الخدم ، وحيث لا محذور فيه فهو مشمول لإطلاقات الصحّة. وهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الكلام في نفقة الأجير وأنّها هل هي عليه نفسه أو أنّها على المستأجر؟

اختار الثاني في الشرائع (١) ، ونُسب إلى العلّامة في بعض كتبه وإلى الشيخ في

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

٤٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

النهاية (١) وبعض آخر ، بل نسبه في اللمعة إلى المشهور (٢) ، إلّا أنّ صاحب الجواهر (قدس سره) ناقش فيه بأنّا لم نتحقّقه ، بل المشهور خلافه كما نصّ (قدس سره) على جماعة ذهبوا إلى القول الأوّل (٣).

وكيفما كان ، فلا يهمّنا أنّ المشهور أيّ من القولين ، والمتّبع هو الدليل.

ومحلّ الكلام ما إذا لم تكن قرينة خارجيّة مثل جريان العادة ونحوه على كون النفقة على المستأجر ، كما لعلّها موجودة في كثير من الموارد ، سيّما الأجير للخدمة في سفر الحجّ ، أو على كونها على الأجير نفسه ، كما ربّما يتّفق في بعض الخدم ممّن له دار وأهل يقوم بشؤونهم ويعيش معهم وإنّما استخدم في ساعات معيّنة ، وإلّا فلا شبهة في لزوم اتّباع القرينة التي هي في قوّة التحديد اللفظي والتصريح في متن العقد ، وهو خارج عن محلّ الكلام.

ولا ينبغي الشكّ حينئذٍ في أنّ مقتضى القاعدة كونها على نفس الأجير ، لعدم المقتضي لإلزام المستأجر بها بعد أن لم يكن مدلول العقد ما عدا المبادلة بين المنفعة والأُجرة المسمّاة ، فإلزام الزائد على المفاد من دون انصراف ولا اشتراط كما هو المفروض لا دليل عليه.

نعم ، ربّما يستدلّ له برواية واحدة فيدّعى من أجلها ثبوت الحكم تعبّداً وعلى خلاف القاعدة.

وهي ما رواه الكليني بإسناده عن سليمان بن سالم ، قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل استأجر رجلاً بنفقة ودراهم مسمّاة على أن يبعثه إلى أرض ، فلمّا أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين

__________________

(١) إرشاد الأذهان ١ : ٤٢٥ ، النهاية : ٤٤٧.

(٢) اللمعة ٤ : ٣٥٧.

(٣) الجواهر ٢٧ : ٣٢٨.

٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر ، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه به الذي يدعوه ، فمن مال من تلك المكافأة ، أمن مال الأجير أو من مال المستأجر؟ «قال : إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله ، وإلّا فهو على الأجير» وعن رجل استأجر رجلاً بنفقة مسمّاة ولم يفسّر (يعيّن. يب) شيئاً على أن يبعثه إلى أرض أُخرى ، فما كان من مئونة الأجير من غسل الثياب والحمّام فعلى من؟ «قال : على المستأجر» (١).

أمّا فقه الحديث : فهو أنّ الأجير بعد أن بلغ الأرض المبعوث إليها وافاه رجل فدعاه إلى ضيافته وبعد انتهاء مدّة الضيافة تصدّى لمكافأة المضيف فدفع إليه مقدار ما ينفق عليه لولا الدعوة والضيافة ، فسُئل الإمام (عليه السلام) عن أنّ هذا المقدار المدفوع هل يحسب من النفقة فيكون في عهدة المستأجر ، أو أنّه يخرج من كيس الأجير؟ ففصّل (عليه السلام) في الجواب بين ما إذا كانت الضيافة لصلة وصداقة بين المضيف والمستأجر فكان الإكرام لأجل كونه مبعوثاً من قبل المستأجر وفي الحقيقة كان الإنفاق له المستتبع طبعاً لكون المكافأة بصلاحه ، وبين ما إذا كانت لصداقة بينه وبين الأجير نفسه المستلزم لكونها في صالح الأجير.

ففي الأوّل جاز الاحتساب من النفقة ، لعود مصلحته إلى المستأجر كما ذكر ، بخلاف الثاني ، إذ لا مقتضي وقتئذٍ للاحتساب ، فإنّ المستأجر إنّما تعهّد النفقة لدى الحاجة بطبيعة الحال ولا حاجة مع وجود الباذل ، والمفروض عدم عود مصلحة التكافؤ إلى المستأجر ، ومصلحة الأجير لا ترتبط به.

ثمّ سُئِل ثانياً عن تفسير النفقة لدى الإطلاق وأنّها هل تشمل غسل الثياب والحمّام؟ فأجاب (عليه السلام) بالشمول وأنّها على المستأجر.

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١١٢ / كتاب الإجارة ب ١٠ ح ١ ، الكافي ٥ : ٢٨٧ / ٢.

٤٠٩

ولو أنفق من نفسه أو أنفقه متبرّع يستحقّ مطالبة عوضها على الأوّل (*) (١) ، بل وكذا على الثاني ، لأنّ الانصراف بمنزلة الشرط.

______________________________________________________

ووجه الاستدلال : أنّه يظهر من الصدر والذيل بوضوح المفروغيّة عن كون النفقة على المستأجر ، ومن ثمّ حكم (عليه السلام) بكون المكافأة عليه لو كانت بصالحه ، وبشمولها لغسل الثياب والحمّام.

والجواب : أنّ المفروض فيها اشتراط كون النفقة على المستأجر ، ومحلّ الكلام كما مرّ فرض الخلوّ عن الشرط والقرينة ، فهي إذن خارجة عمّا نحن فيه ، وإنّما السؤال فيها عن أنّ النفقة هل تشمل الحمّام أو لا؟ وعلى تقدير أن يكون المنفق شخصاً آخر فهل تجوز المكافأة من هذه النفقة أو لا؟ وذلك مطلب آخر أجنبي عمّا نحن بصدده. هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ سند الرواية ضعيف جدّاً ، فإنّها وإن كانت صحيحة إلى سليمان ابن سالم ولكن الرجل بنفسه لم يوثّق في شي‌ء من كتب الرجال ، بل لم تُرو عنه رواية في شي‌ء من الكتب الأربعة ما عدا اثنتين هذه إحداهما ، فالرجل قليل الرواية ومجهول ولم يكن من المعاريف ، فلا يمكن التعويل على روايته بوجه ، ولو سلّمنا كونها تامّة الدلالة فلا مخرج إذن عمّا تقتضيه القاعدة من لزوم كون النفقة على الأجير نفسه حسبما عرفت.

(١) أي في صورة الاشتراط ، ولا بدّ وأن يكون محلّ الكلام ما إذا لم يكن الإنفاق من نفسه مبنيّاً على إسقاط الشرط ، ولا إنفاق المتبرّع بعنوان النيابة عن المستأجر ، وإلّا فلا ينبغي الشكّ في عدم استحقاق المطالبة كما لا يخفى.

وقد حكم (قدس سره) حينئذٍ بالاستحقاق ، عملاً بالشرط وما في حكمه

__________________

(*) الظاهر أنّه لا يستحقّها ، إذ المفروض أنّ النفقة أُخذت على وجه الشرطيّة دون الجزئيّة.

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

من الانصراف المستوجب لثبوت الحقّ بعد عدم اقترانه بالمسقط كما هو المفروض.

ويندفع : بعدم اقتضاء نفوذ الشرط ما عدا التكليف المحض دون الاستحقاق الوضعي بحيث تكون ذمّة المشروط عليه مشغولة للشارط ومديناً له بالنفقة لكي يطلب منه ما يملكه عليه ، كما هو الحال في سائر الشروط المذكورة في ضمن العقود ، كشرط الكتابة والخياطة ونحوهما ، فإنّها لا تستوجب شيئاً أكثر من مجرّد التكليف بوجوب الوفاء ، من غير أن يملك الشارط شيئاً في ذمّة الآخر.

فاشتراط النفقة في المقام نظير وجوب الإنفاق على الأقارب من العمودين أو الأولاد لدى غناه وفقرهم في أنّه لا يتضمّن إلّا حكماً تكليفيّاً محضاً ، غاية الأمر أنّ الوجوب هنا ثبت بسبب الشرط وجعله من المتعاقدين وهناك في أصل التشريع ، فكما لا استحقاق لمطالبة العوض هناك مع وجود الباذل ، فكذا في المقام بمناط واحد ، وهو انتفاء موضوع الإنفاق بعد افتراض وجود الباذل المتبرّع ، فلا مقتضي بعدئذٍ لبقاء الوجوب ، فلا مجال لمطالبة العوض في شي‌ء من الموردين.

نعم ، يتّجه ذلك فيما إذا كانت النفقة الواجبة مملوكة أيضاً ، كما في نفقة الزوجة ، حيث إنّها تملكها على زوجها فلها المطالبة بالعوض حتى مع وجود الباذل ، لكونه مديناً لها بما تملكه عليه.

وعلى الجملة : إنّما يجب على المستأجر الإنفاق وفاءً بشرطه ما دام الموضوع باقياً ، فإذا ارتفع لقيام شخص آخر بالنفقة فلا يحتاج الأجير إليها ، ومعه لا مقتضي لمطالبة عوضها إلّا إذا كان مالكاً للنفقة ، وقد عرفت انتفاء الملكيّة في المقام.

٤١١

[٣٣٥٤] مسألة ٢٥ : يجوز أن يستعمل الأجير مع عدم تعيين الأُجرة وعدم إجراء صيغة الإجارة (١) فيرجع إلى أُجرة المثل ، لكنّه مكروه ، ولا يكون حينئذٍ من الإجارة المعاطاتيّة كما قد يُتخيّل ، لأنّه يعتبر في المعاملة المعاطاتيّة اشتمالها على جميع شرائط تلك المعاملة عدا الصيغة ، والمفروض عدم تعيين الأُجرة في المقام ،

______________________________________________________

(١) الظاهر أنّ الجواب المزبور ممّا لا إشكال ولا خلاف فيه بين الفقهاء ، ولا بدّ وأن يكون كذلك ، إذ لا موجب لعدم الجواز بوجه ، فإنّ الاستعمال أي أمر شخص آخر بعمل محلّل ليس بنفسه من المحرّمات ، سواء أكان ممّا له عوض أم لا ، وسواء أكان على سبيل المجّان الراجع إلى استدعاء التبرّع أم مع بذل العوض. كما أنّ عمل الشخص الآخر أيضاً لا شبهة في جوازه بعد أن كان الناس مسلّطين على أموالهم وأعمالهم ، فله الاختيار في أن يعمل مجّاناً أو بعوض أو أن لا يعمل ، فلا مقتضي لتوهّم الحرمة في المقام أصلاً.

عدا ما ربّما يتوهّم من دلالة رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملنّ أجيراً حتى يعلم ما أجره» (١).

ولكنّها محمولة على الكراهة ، لورود مثل هذا التعبير فيما لا يحتمل حرمته ، كقوله (عليه السلام) : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتنّ إلّا بوتر» كما في صحيحة زرارة (٢) ، فلا يكشف هذا اللسان إلّا عن مزيد العناية وشدّة الاهتمام من غير أن يكون الوتر واجباً ، ولا الاستعمال في المقام حراماً.

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٠٥ / كتاب الإجارة ب ٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٩٤ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٢٩ ح ١.

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا يرشدك إلى عدم الحرمة ولزوم حمل الرواية على الكراهة أوّلاً : ما عرفت من التسالم وعدم الخلاف ، إذ لا تأمّل في أنّ هذه من المسائل العامّة البلوى الكثيرة الدوران ، فلو كانت الحرمة في مثلها ثابتة لكانت واضحة وشائعة ذائعة ، مع أنّه لم يوجد خلاف في عدمها ولم يُنسَب القول بها إلى أيّ أحد كما سمعت.

وثانياً : معتبرة سليمان بن جعفر الجعفري ، قال : كنت مع الرضا (عليه السلام) في بعض الحاجة فأردت أن أنصرف إلى منزلي فقال لي : «انصرف معي فبت عندي الليلة» فانطلقت معه فدخل إلى داره مع المغيب فنظر إلى غلمانه يعملون في الطين أواري الدواب وغير ذلك ، وإذا معهم أسود ليس منهم «فقال : ما هذا الرجل معكم؟» قالوا : يعاوننا ونعطيه شيئاً «قال : قاطعتموه على أُجرته؟» قالوا : لا ، هو يرضى منّا بما نعطيه ، فأقبل عليهم يضربهم بالسوط وغضب لذلك غضباً شديداً ، فقلت : جعلت فداك ، لِمَ تدخل على نفسك؟ «فقال : إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة أن يعمل معهم أحد (أجير. يب) حتى يقاطعوه على أُجرته ، واعلم أنّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثمّ زدته لذلك الشي‌ء ثلاثة أضعاف على أُجرته إلّا ظنّ أنّك قد نقصته أُجرته ، وإذا قاطعته ثمّ أعطيته أُجرته حمدك على الوفاء ، فإن زدته حبّة عرف ذلك لك ورأى أنّك قد زدته» (١).

فإنّ الاستئجار من غير المقاطعة لو كان حراماً لم يكن وجه لتعجّب الراوي عن غضبه (عليه السلام) وسؤاله عن منشئه ، فيعلم أنّ الفعل في نفسه لم يكن محرّماً في الشريعة ، وإنّما غضب (عليه السلام) لمخالفتهم لنهيه الشخصي المبني

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٠٤ / كتاب الإجارة ب ٣ ح ١. والإرية : الاخية ، وهي عروة تربط إلى وتد مدقوق وتشدّ فيها الدابّة ، وربّما قيل للمعلف المصباح المنير : ٨.

٤١٣

بل عدم قصد الإنشاء منهما ولا فعل من المستأجر (١) ، بل يكون من باب العمل بالضمان ، نظير الإباحة بالضمان ، كما إذا أذن في أكل طعامه بضمان العوض ، ونظير التمليك بالضمان كما في

______________________________________________________

على الحكمة التي أشار (عليه السلام) إليها من تخيّل الأجير عدم دفع تمام الأُجرة مع ترك المقاطعة ولو كان دافعاً أضعافها ، وعرفانه الزيادة مع المقاطعة ولو كانت حبّة ، وهذه الحكمة ظاهرة الدلالة على الكراهة كما لا يخفى.

(١) يعني : ولا بدّ في الإجارة المعاطاتيّة من الإنشاء وصدور فعل منهما ، من أحدهما الإيجاب ومن الآخر القبول.

وتوضيح مراده (قدس سره) : أنّ المعاملة المعاوضيّة من إجارة ونحوها متقوّمة بإنشاء المعاوضة من الطرفين ، سواء أكان المبرز له لفظاً مركّباً من إيجاب وقبول أم كان فعلاً وهو المعبّر عنه بالمعاطاة.

وهذه الضابطة غير منطبقة على المقام ، إذ الصادر من الأجير ليس إلّا العمل الخارجي من خياطة ونحوها غير قاصد به أيّ شي‌ء ما عدا وقوعه للآمر ، كما أنّ المستأجر لم يصدر منه إلّا الطلب فقط ، فلم يصدر من أيّ منهما قول أو فعل يقصد به التمليك المعاوضي ، ولا شكّ أنّ مقتضى الإجارة المتحقّقة بقول أو فعل ملكيّة المستأجر للعمل ، وكذا الأجير للأُجرة قبل صدور العمل خارجاً ، فيكون كلّ منهما قد قصد التمليك وأنشأه إزاء ما ينشئه الآخر ، ويكون العمل الخارجي وفاءً بهذا الإنشاء ، ولم يتحقّق في المقام ما عدا طلب وعمل كما مرّ من غير أيّ قصد لإنشاء التمليك المعاوضي ولا إبرازه بمبرز ، ومعه كيف تتحقّق الإجارة المعاطاتيّة؟! بل الصحيح ما أفاده (قدس سره) من خروج الاستعمال المزبور عن باب

٤١٤

القرض على الأقوى من عدم كونه معاوضة. فهذه الأُمور عناوين مستقلّة غير المعاوضة ، والدليل عليها السيرة ، بل الأخبار أيضاً (١) ، وأمّا الكراهة فللأخبار أيضاً (٢).

[٣٣٥٥] مسألة ٢٦ : لو استأجر أرضاً مدّة معيّنة فغرس فيها أو زرع ما لا يدرك في تلك المدّة فبعد انقضائها للمالك أن يأمره

______________________________________________________

المعاملة والمعاوضة ، لعدم تعلّق القصد بإنشاء المعاوضة من أيّ منهما ، وإنّما هو مندرج في باب العمل بالضمان في مقابل العمل المجّان ، نظير الإباحة بعوض أو التمليك بالضمان ، كما في القرض ، حيث ذكرنا في بحث البيع (١) تبعاً للشيخ (٢) في مقام الفرق بينه وبين البيع : أنّ القرض لا يتضمّن أيّ معاوضة وإنّما هو تمليك على سبيل الضمان ، أي نقل للعين إلى الذمّة على وجه يتمكّن الآخذ في مقام الأداء من ردّ نفس هذا المال ، كما هو الحال في سائر موارد الضمان ، غايته أنّ السبب هنا اختياري وهو فعل المقرض.

وكيفما كان ، فالاستعمال في المقام بمثابة القرض ، غير أنّ مورد التمليك هو العمل لا العين ، فيطلب الآمر العمل من العامل مضموناً عليه لا مجّاناً وهو يجيبه إلى ذلك. وهذا أمر عقلائي قد جرت عليه السيرة ، وليس ذاك من باب الإجارة المعاطاتيّة في شي‌ء ، وهو محكوم بالجواز وإن كان مكروهاً ، والتعبير عنه بالصحّة أيضاً لا وجه له كما لا يخفى.

(١) وهي في المقام الروايتان المتقدّمتان.

(٢) كما عرفت.

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٢ : ٦٩.

(٢) المكاسب ٣ : ١٥.

٤١٥

بقلعها (١) ، بل وكذا لو استأجر لخصوص الغرس أو لخصوص الزرع ، وليس له الإبقاء ولو مع الأُجرة ولا مطالبة الأرش مع القلع ، لأنّ التقصير من قبله. نعم ، لو استأجرها مدّة يبلغ الزرع فاتّفق التأخير لتغيّر الهواء أو غيره أمكن أن يقال (*) بوجوب الصبر على المالك مع الأُجرة ، للزوم الضرر ، إلّا أن يكون موجباً لتضرّر المالك.

______________________________________________________

(١) فصّل (قدس سره) فيمن غرس أو زرع في أرض مستأجرة لخصوص هذه المنفعة أو للأعمّ بين ما لا يدرك ولا يبلغ الحاصل في المدّة المقرّرة في الإجارة ، وبين ما يدرك عادةً ، وإنّما حصل التأخير من باب الاتّفاق لاشتداد البرد أو انقطاع المطر ونحو ذلك من الآفات والعوارض.

فحكم (قدس سره) في الأوّل بجواز القلع للمالك بعد انتهاء المدّة ولا أرش عليه ، ولا يحقّ للمستأجر إجباره على الإبقاء ولو مع الأُجرة ، لأنّه باختياره فرّط فكان التقصير مستنداً إليه.

وهذا بخلاف الثاني ، فيجب فيه الصبر ، ولا يسوغ القلع ، لأنّه ضرر لم يقدم عليه المستأجر ، غايته أخذ الأُجرة عليه رعايةً لاحترام المال ، إلّا إذا تضرّر المالك أيضاً بالصبر ، فيتعارض الضرران ، ولا مانع حينئذٍ من القلع من دون أن يضمن الأرش.

وملخّص ما أفاده (قدس سره) في الفرق بين المسألتين : أنّ مقتضى قاعدة لا ضرر عدم جواز إلزام الغارس أو الزارع بالقلع إلّا في صورتين :

إحداهما : أن يكون الإقدام على الضرر من قبل الغارس نفسه ، فإنّ مثله

__________________

(*) ولكنّه بعيد.

٤١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

غير مشمول لحديث نفي الضرر.

ثانيتهما : أن يكون الضرر المزبور مزاحماً بتضرّر المالك ، فعورض ضرر القلع بضرر الصبر ، وبعد تعارض الضررين من غير ترجيح في البين المانع حينئذٍ من التمسّك بالقاعدة يرجع إلى قاعدة السلطنة التي مفادها جواز إلزام الغارس بالتخلية.

أقول : تفصيل الكلام على نحوٍ تتّضح صور الضرر في المقام يستدعي التكلّم في جهات :

الاولى : لا ينبغي التأمّل في أنّه لا يسوغ لأحد أن يكون في مقام الإضرار بالغير وبصدد ورود النقص عليه ، ولعلّ هذا يستفاد من عدّة أخبار مضافاً إلى عدم الخلاف فيه :

منها قوله (عليه السلام) : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، فإنّ «ضرار» مصدر باب المفاعلة كقتال ، وهذا الباب يدلّ على الأظهر على قيام الشخص مقام إيجاد المادّة في الخارج سواء أوجدت أم لا ، فإنّ معنى قولك : قاتلت زيداً أو كاتبته ، أنّك تصدّيت لقتله أو الكتابة إليه ، وقمت في هذا المقام سواء أوقع القتل أو وصل الكتاب إليه خارجاً أم لا.

ويستفاد هذا بوضوح من قوله تعالى (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ) (١) إلخ ، فإنّ المخادعة معناها : القيام مع الغير مقام الخديعة ، وأمّا أنّها هل تقع خارجاً أو لا؟ فهو أمر آخر ، ومن ثمّ قال تعالى (وَما يَخْدَعُونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ).

وعلى هذا فلا تكرار في قوله (عليه السلام) : «لا ضرر ولا ضرار» ، فإنّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٩.

٤١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المراد بالثاني كما يفصح عنه مورد الحديث أعني : قصّة سمرة الذي أراد الإضرار بالأنصاري عدم جواز القيام مقام إضرار الغير الذي هو غير نفي الضرر كما لا يخفى.

الجهة الثانية : من يعمل عملاً يترتّب عليه ضرر الغير قهراً ومن دون قصد الإضرار به يتصوّر على قسمين :

أحدهما : أن يكون ذلك الضرر تلفاً في عين ماله أو في وصفه أو كيفيّته المستوجب طبعاً نقصاً في ماليّته ، كما لو ترتّب على حفر البئر أو البالوعة تضرّر الجار من نقص ماء بئره أو رطوبة سردابه ونحو ذلك.

وهذا أيضاً غير جائز ، لا لدليل نفي الضرر ، بل لدلالة النصوص الخاصّة ، التي منها المعتبرة الواردة فيمن جعل رحاه على نهر غيره بإذنه ، وبعدئذٍ أراد صاحب النهر تغيير مسيره الموجب طبعاً لسقوط الرحى عن حيّز الانتفاع ، فمنعه (عليه السلام) عن ذلك (١).

وما ورد في العيون والآبار من عدم جواز الحفر أخفض ممّا للجار بحيث يستوجب نقصان الماء أو نضوبه.

والظاهر عدم الفرق في المنع بين ما لو تضرّر من عدم الحفر أو لا ، إذ ليس مستنده حديث نفي الضرر ليدّعى تعارض الضررين ، بل المستند النصوص الشامل إطلاقها لكلتا الصورتين.

وربّما يتوهّم شمول الحديث للمقام ، نظراً إلى أنّ الإضرار بالجار وإن كان محرّماً في نفسه لكن الحرمة لمّا كانت ضرريّة فهي مرفوعة بالحديث.

وفيه ما لا يخفى ، لوضوح ورود الحديث في مقام الامتنان ، فلا يشمل ما إذا

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٣١ / كتاب إحياء الموات ب ١٥ ح ١.

٤١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

استلزم نفي الضرر عن أحدٍ إيراد الضرر على شخص آخر.

وبالجملة : لا مسرح لحديث لا ضرر في المقام ، ومقتضى إطلاق النصوص الخاصّة قصر السلطنة وعدم جواز التصرّف في ماله متى ما ترتّب عليه تضرّر الغير ، فلو تصرّف وترتّب الضرر كان ضامناً لما أتلف.

ثانيهما : أن يترتّب الضرر من غير أن يستوجب تلفاً في عين ماله أو نقصاً في وصفه أو كيفيّته ، كمن استورد مالاً للاتّجار أو بنى داراً للإيجار أو طبع كتاباً ففعل غيره مثله لا بقصد الإضرار وإن تضرّر من فعله بطبيعة الحال.

وهذا النوع من الإضرار لا دليل على حرمته ، فإنّ الروايات المشار إليها قاصرة الشمول له ، لاختصاص مواردها بالضرر المتضمّن لإيراد تلف أو نقص في العين ، فهي منصرفة عن الضرر من جهة أُخرى بلا نقص في نفس العين أصلاً كما لا يخفى ، ولا دليل آخر على حرمته.

الجهة الثالثة : مقتضى إطلاق حديث لا ضرر الحاكم على الأدلّة الأوّلية والموجب لاختصاصها بموارد عدم الضرر عدمُ الفرق بين الضرر الحاصل من باب الاتّفاق وبين ما لو كان المكلّف بنفسه هو السبب في تحقّقه ، كما لو شرب دواءً أو خرج باختياره إلى مكان بارد جدّاً بحيث يمرض لو توضّأ حينئذٍ أو اغتسل ، فإنّه لا سبيل إلى إلزامه بالطهارة المائيّة بزعم أنّه هو الذي أوقع نفسه في الضرر ، وإن ورد به نصّ في الغسل وأنّه إذا أجنب نفسه يغتسل وإن ترتّب عليه ما ترتّب.

وعلى الجملة : فأيّ حكم إلزامي تضمّن امتثاله الضرر ولو كان المكلّف هو السبب في ترتّبه فهو مرفوع في الشريعة المقدّسة بمقتضى إطلاق الحديث ، الذي هو كدليل نفي الحرج ناظرٌ إلى الأحكام التكليفيّة وحاكم عليها وموجب لارتفاع تلك الأحكام إذا ترتّب على امتثالها ضرر أو حرج.

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الجهة الرابعة : بعد ما عرفت كبرى أقسام الضرر وأحكامها فاعلم أنّ مفاد دليل نفي الضرر نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر حسبما عرفت ، لا تشريع حكم يتدارك به الضرر الموجود أو المتوقّع حصوله ، كما في خيار الغبن ، حيث استند جماعة في ثبوته إلى دليل نفي الضرر بدعوى أنّ لزوم العقد ضرري فيرتفع بالحديث ويلزمه ثبوت الخيار ، وهو كما ترى ، لعدم نشوء الضرر من اللزوم ، وإنّما حصل بنفس العقد الذي أقدم إليه المغبون وأمضاه الشارع ، فإنّ الضرر هو النقص في المال وقد تحقّق بنفس افتراض صحّة العقد قبل أن يحكم عليه باللزوم ، غاية الأمر أنّ للشارع تدارك هذا الضرر وجبر الخسران بجعل الخيار ، وقد عرفت أنّ حديث لا ضرر لا ينهض لتدارك الضرر المفروض ، بل مفاده نفي حكم ينشأ منه الضرر لا غير.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّا إذا فرضنا أنّ المدّة كانت وافية وحصل التأخير من باب الاتّفاق فضلاً عمّا إذا لم تكن وافية من الأوّل ، فبعد انقضاء المدّة كان الغرس أو الزرع في معرض القلع ، فالمستأجر متضرّر وقتئذٍ لا محالة ، غير أنّ هذا الضرر قابل للتدارك بإلزام المالك بالصبر ، لولا أنّ الحديث ناظر إلى نفي الضرر لا إلى تدارك الضرر الموجود كما عرفت ، فلا يجب على المالك إمهال المستأجر ، لعدم الدليل عليه.

وربّما يتوهّم عدم كون المقام من باب التدارك ، بل هو من قبيل نفي الحكم الضرري ، نظراً إلى أنّ إبقاء المستأجر غرسه أو زرعه في أرض الغير بغير إذنه محرّم ، وحيث إنّ هذه الحرمة من أجل ترتّب الفساد على القلع ضرريّة فهي مرفوعة بحديث نفي الضرر ، فالصبر وإن لم يجب على المالك لما ذكر من عدم لزوم التدارك إلّا أنّ المستأجر لو تمكّن من إجبار المالك على الإبقاء ساغ له ذلك شرعاً ، لعدم حرمة التصرّف في ملك الغير في حقّه بمقتضى الحديث.

٤٢٠