موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

قبل أن يستأنس منهم الرشد.

وأمّا بالنسبة إلى نفسه بأن يكون أجيراً لغيره : ففي جوازه كلام وإشكال ، ولا يبعد المنع ، وسيأتي تفصيله في المسألة الثانية.

وأمّا إجراؤه العقد وكالةً عن غيره : فلا ينبغي الاستشكال فيه ، إذ لم يدلّ دليل على كونه مسلوب العبارة حتى يكون عقده كلا عقد.

وأمّا الاختيار : فلا شكّ في عدم نفوذ عقد المكره فيما يرجع إلى نفسه من ماله أو عمله ، لحديث الرفع وغيره ممّا هو مذكور في محلّه.

وأمّا لو كان مكرهاً في إجراء العقد على مال الغير وكالةً ، فهل يحكم ببطلانه؟

الظاهر : لا ، ضرورة عدم ترتّب أيّ أثر على هذا العقد بالنسبة إلى العاقد المكره لكي يدّعى ارتفاعه بحديث الرفع ، وإنّما الأثر مترتّب على من يقع العقد له وهو الأصيل ، وهذا مجرّد آلة محضة والمفروض أنّ الأصيل غير مكره عليه.

وبعبارة اخرى : هذا العقد من حيث انتسابه إلى المباشر ليس له أيّ أثر ليرتفع بالإكراه ، ومن حيث انتسابه إلى المكره لم يرتفع أثره بعد أن عقد باختياره ، ولم يكن مكرهاً ، فالمكرَه بالفتح لا أثر له ، ومن له الأثر لم يكن مكرهاً ، فلا مقتضي للبطلان بوجه.

وأمّا اعتبار البلوغ الذي هو المهم في المقام : فلا ينبغي التأمّل في عدم نفوذ تصرّفات الصبي في أمواله على سبيل الاستقلال بحيث يكون هو البائع أو المؤجر ونحوهما ولو كان ذلك بإذن الولي فضلاً عن عدم الإذن ، لقوله سبحانه (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (١) ، دلّت على أنّ دفع المال مشروط بأمرين : البلوغ والرشد ، فلا يدفع لغير البالغ

__________________

(١) النساء ٤ : ٦.

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

ماله وإن كان رشيداً ، كما لا يدفع لغير الرشيد أي السفيه وإن كان بالغاً ، ومعلوم أنّه لا بدّ من اختباره قبل البلوغ ، لإحراز الرشد منه كي لا يمنع عن ماله بعد ما بلغ حتى آناً ما.

ويستفاد ذلك أيضاً من عدّة أخبار دلّت على أنّ الصبي لا يؤخذ بشي‌ء من أعماله وأقواله ، فإذا لم يكن مؤاخذاً فطبعاً يكون عقده كلا عقد.

وتدلّ عليه أيضاً رواية عبد الله بن سنان التي أوردها شيخنا الأنصاري (قدس سره) في المكاسب واستدلّ بها (١) عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم ، متى يجوز أمره؟ قال : «حتى يبلغ أشدّه» قال : وما أشدّه؟ «قال : احتلامه» (٢).

وهي واضحة الدلالة على أنّ نفوذ أمره الذي منه عقده متوقّف على البلوغ ، فلا ينفذ قبله وإن أذن الولي بمقتضى الإطلاق.

وأمّا من حيث السند فقد رواها الصدوق في الخصال بسنده المعتبر ، عن أبي الحسين الخادم بيّاع اللؤلؤ ، عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق (عليه السلام) ، وقد سقطت كلمة «عبد الله بن سنان» في نسخة الوسائل.

هذا ، ولم يعنون أبو الحسين الخادم بيّاع اللؤلؤ بهذا العنوان في كتب الرجال ، فبطبيعة الحال يكون مجهولاً كما قيل.

ولكن الظاهر أنّه هو آدم بن المتوكّل الثقة الذي روى بعنوان آدم بن المتوكّل بيّاع اللؤلؤ عن عبد الله بن سنان في غير هذا الموضع. فالظاهر أنّ الرواية معتبرة.

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٧٧.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤١٢ / كتاب الحجر ب ٢ ح ٥ ، الخصال : ٤٩٥ / ٣.

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه في تصرّف الصبي مستقلا.

وأمّا تصدّيه لمجرّد إجراء الصيغة إمّا في ماله أو في مال الغير وكالةً عنه فليس في الآية ولا الرواية ما يدلّ على عدم نفوذه :

أمّا الآية المباركة : فهي ناظرة إلى دفع المال إليه وعدمه ، ولا تعرّض فيها لعقده الصادر منه على نحوٍ لا شأن له عدا مجرّد إجراء الصيغة.

وهكذا الرواية ، إذ السؤال فيها عن نفوذ أمر الغلام الظاهر في الاستقلال ، لا ما إذا كان التصرّف منسوباً إلى الولي والصبي مجرٍ للصيغة فقط.

ولكنّه مع ذلك قد نسب إلى المشهور عدم الجواز ، تمسّكاً بحديث رفع القلم عن الصبي ، وبما ورد في صحيح ابن مسلم من أنّ «عمد الصبي وخطؤه واحد» (١) فكما أنّ أحداً لو تلفّظ خطأً بكلمة «بعت» مثلاً لا يكون نافذاً لعدم القصد ، فكذا الصبي ، لأنّ عمده بمنزلة خطأ غيره ، فلا أثر لقصده بمقتضى هذه الصحيحة.

والجواب : أمّا عن الحديث فظاهر ، إذ هو ناظر إلى رفع ما على الصبي من الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة أيضاً كما اخترناه ، فلا يلزم الصبي بشي‌ء من أعماله من كلتا الناحيتين. وأمّا العقد في محلّ البحث فليس فيه أيّ شي‌ء على الصبي من تكليف أو وضع ، ولم يؤاخذ بعبارته بتاتاً لكي يرفع عنه ، وإنّما هو راجع إلى غيره أو إلى الولي ، وهذا مجرّد مجرٍ للصيغة وآلة محضة ، فحديث الرفع أجنبي عن الدلالة على إلغاء إنشاء الصبي وفرضه كأن لم يكن كما لعلّه واضح جدّاً.

وأمّا الصحيحة : فهي وإن كانت مطلقة في ظاهر النصّ ولم تقيّد بمورد الجناية كما قيّدت به موثّقة إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام)

__________________

(١) الوسائل ٢٩ : ٤٠٠ / أبواب العاقلة ب ١١ ح ٢.

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

«أنّ علياً (عليه السلام) كان يقول : عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة» (١) ، ومعلوم أنّه لا تنافي بين الدليلين بعد كونهما مثبتين لكي يتصدّى لعمليّة الإطلاق والتقييد ، فمن الجائز مساواة عمده مع الخطأ في غير الجنايات أيضاً من العقود والإيقاعات ، ونتيجتها اعتبار البلوغ في العاقد كما يقتضيه إطلاق الصحيحة.

إلّا أنّ الظاهر أنّها في نفسها قاصرة الشمول لمثل ذلك ، فلم ينعقد لها الإطلاق من الأوّل بالإضافة إلى غير مورد الجنايات ، لا أنّ الإطلاق موجود ويقيّد حتى يعترض بعدم المجال للتقييد حسبما عرفت.

والوجه فيه : أنّ الوارد في الصحيحة لو كان هكذا : عمد الصبي كلا عمد ، لتمّ الاستدلال ، لدلالتها حينئذٍ على أنّ الفعل الصادر منه عن عمد بمثابة عدم العمد وكأنّه لم يقصد فلا يترتّب عليه الأثر ، لكن المذكور فيها هكذا : «عمد الصبي وخطؤه واحد» فتضمّنت تنزيل العمد منزلة الخطأ لا منزلة عدم العمد. وظاهر هذا التعبير مشاركة هذين العنوانين فيما يترتّب عليهما من الأحكام وأنّ كلّ حكم يترتّب على الخطأ في غير الصبي ، فهو مترتّب على العمد بالإضافة إلى الصبي ، إذ التنزيل في مثل ذلك إنّما هو بلحاظ الحكم.

وهذا يقتضي فرض الكلام في موردٍ يكون كلّ من عنواني العمد والخطأ بحياله موضوعاً لحكم مستقلّ بإزاء الآخر وهو خاصّ بباب الجنايات ، حيث إنّ في صورة العمد يثبت القصاص أو الدية حسب اختلاف الموارد ، وفي صورة الخطأ تكون الدية على العاقلة. هذا في البالغين ، فيراد من التنزيل المزبور أنّ عمد الصبي بمثابة خطأ البالغ فلا تترتّب عليه إلّا الدية على العاقلة على ما نطقت به موثّقة إسحاق المتقدّمة.

__________________

(١) الوسائل ٢٩ : ٤٠٠ / أبواب العاقلة ب ١١ ح ٣.

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا في غير باب الجنايات كالعقود والإيقاعات فلم يترتّب ثَمّة أيّ أثر على الخطأ ، وإنّما الأثر خاصّ بالعمد ، ومع عدمه يرتفع طبعاً ، لا لأجل الخطإ ، بل لانتفاء موضوع الأثر وهو العمد. فلو أراد بيع داره فتلفّظ خطأً بالفرس بدلاً عن الدار ، لم يقع بيع الفرس ، لعدم القصد إليه وانتفاء العمد ، لا لخصوصيّة في الخطأ ، بل وجوده وعدمه سيّان من هذه الجهة.

وممّا يرشدك إلى عدم إمكان الأخذ بإطلاق الصحيحة : أنّ لازم ذلك الحكم بعدم بطلان صوم الصبي بالإفطار العمدي ولا صلاته بالتكلّم العمدي. وكلاهما كما ترى. فلا مناص من الاختصاص بباب الجنايات وما يلحق بها ممّا يكون لكلّ من عمده وخطئه حكم مستقلّ كبعض كفّارات الحجّ على ما قيل ، ولا يكاد يشمل مثل العقود والإيقاعات بوجه.

إذن فالظاهر جواز تصدّي الصبي لإجراء صيغة العقد كآلة لها في ماله أو مال الغير من غير حاجة إلى إجازة الولي.

وأمّا استقلاله في معاملة لم تتعلّق بماله ، كما لو كان وكيلاً عن شخص آخر في بيع أو شراء له على وجه الاستقلال لا مجرّد آلة في إجراء الصيغة ، كما لعلّ السيرة جارية عليه خارجاً ، حيث إنّ البقّال أو العطّار يجعل مكانه صبيّاً فطناً يبيع له ويشتري في غيابه. فظاهر كلمات الفقهاء على ما نسب إليهم عدم الجواز هنا أيضاً.

ولكنّه أيضاً غير واضح ، لعدم نهوض دليل يعوّل عليه :

أمّا الآية الكريمة : فالنظر فيها معطوف إلى مال الصبي نفسه ، ولا تعرّض لها بالإضافة إلى مال الغير بوجه كما هو ظاهر.

وأمّا صحيحة ابن سنان المتقدّمة : فكذلك ، إذ السؤال فيها عن نفوذ أمر الغلام ، وهذه المعاملة لو تمّت فهي مرتبطة بشخص آخر هو العاقد في الحقيقة

٢٥

الثالث : العوضان ، ويشترط فيها أُمور (١) :

الأوّل : المعلوميّة ، وهي في كلّ شي‌ء بحسبه بحيث لا يكون هناك غرر (١) ، فلو آجره داراً أو حماراً من غير مشاهدة ولا وصف رافع للجهالة بطل ، وكذا لو جعل العوض شيئاً مجهولاً.

______________________________________________________

أعني : الموكّل ولا علاقة لها بالغلام لتعدّ نفوذاً لأمره.

وبعبارة أُخرى : الصحيحة مسوقة سؤالاً وجواباً لبيان النفوذ بالإضافة إلى الصبي لا بالإضافة إلى شخص آخر. ومن الواضح أنّ هذه المعاملة باعتبار توكيل المالك مضافة إليه ، فهو البائع حقيقةً ، وهذا واسطة في تحقّقه ، فلا يشمله قوله : متى يجوز أمره ، إذ ليس هذا من أمر الغلام بعد أن لم يكن يلزم بشي‌ء لا تكليفاً ولا وضعاً ، وإنّما هو من أمر شخص آخر هو البائع ، فكأنّ السائل بعد ما يرى أنّ بقيّة الناس يبيعون ويتّجرون يسأل عن أنّ الغلام متى يجوز له ذلك حتى يكون حاله كحالهم ، ولم ينقدح في ذهنه السؤال عن معاملته في مال شخص آخر وكالةً عنه ، فهي منصرفة عن مثل ذلك البتّة ، وقد عرفت جريان السيرة على ذلك في الكسبة فيقيمون أبناءهم المميّزين مقامهم لدى استئناس الرشد منهم ، ويبعد جدّاً أن تكون السيرة مستحدثة ، بل الظاهر اتّصالها بزمن المعصومين (عليهم السلام).

وعليه ، فالظاهر الصحّة هنا وإن لم يلتزم بها المشهور.

(١) فلا تضرّ الجهالة إلّا ما أدّت منها إلى الغرر ، ولا يعتبر الأزيد من ذلك ،

__________________

(١) بعض هذه الشروط راجع إلى الصحّة وبعضها راجع إلى النفوذ فيتوقّف نفوذ العقد الفاقد للشرط على إجازة من له الإجازة.

٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ويختلف حسب اختلاف الموارد كما ذكره (قدس سره) ، فقد يكون ارتفاع الغرر بالكيل ، وأُخرى بالوزن ، وثالثة بالعدّ ، ورابعة بالمشاهدة. هذا في الأُجرة. وأمّا المنفعة فبتحديدها بحسب الزمان ونحوه ، وفي العمل ببيان نوعه وهكذا.

وكيفما كان ، فيستدلّ لهذا الشرط الذي عليه المشهور :

تارةً : بما ورد من نهي النبي (صلّى الله عليه وآله) عن بيع الغرر (١).

وأُخرى : بالنبوي الذي رواه الصدوق من أنّه (صلّى الله عليه وآله) نهى عن الغرر (٢).

أمّا الثانية : فلم توجد لا في كتبنا ولا في كتب العامّة ، وقد تتبّعنا وفحصنا عنها في مظانّها فلم نعثر عليها ، فلا أساس لهذه المرسلة التي تفرّد بنقلها الصدوق ، ومعه لا يحتمل استناد المشهور إليها ليدّعى الانجبار.

وأمّا الأُولى : فهي وإن رويت بعدّة طرق وقد رواها الصدوق بأسانيد متعدّدة ، إلّا أنّها بأجمعها ضعاف ، غير أنّها منجبرة بعمل المشهور لو سلّمنا كبرى الانجبار فيمكن القول بذلك في البيع خاصّة ، إلّا أن يدّعى القطع بعدم الفرق.

هذا ، ولا يبعد أن يقال : إنّ أساس المعاملات العقلائيّة من البيع والإجارة ونحوهما مبني على التحفّظ على أُصول الأموال والتبدّل في أنواعها ، فلدى التصدّي لتبديل عين أو منفعة بعوض يرون التساوي بين ماليّة العوضين كشرط أساسي مرتكز قد بنى عليه العقد بمثابة يغني وضوحه عن التصريح به في متنه. وعلى هذا الشرط الارتكازي يبتني خيار الغبن كما هو موضح في محلّه.

وعليه ، فالمعاملة على المجهول المتضمّنة للغرر ، كبيع جسم أصفر مردّد بين

__________________

(١) مسند أحمد ٢ : ١٤٤.

(٢) الوسائل ١٧ : ٣٥٨ / أبواب عقد البيع وشروطه ب ١٢ ح ١٣ ، معاني الأخبار : ٢٧٨.

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الذهب وغيره ، أو جعله اجرة ، خارج عن حدود المعاملات الدارجة بين العقلاء ، وما هذا شأنه لا يكون مشمولاً لدليل النفوذ والإمضاء من وجوب الوفاء بالعقود وحلّيّة البيع ونحو ذلك ، فإنّ دعوى انصراف هذه الأدلّة عن مثل ذلك غير بعيدة كما لا يخفى.

وكيفما كان ، فإن تمّت هذه الدعوى والظاهر أنّها تامّة عمّ مناطها الإجارة ، إذ لا فرق بينها وبين البيع إلّا في كون أحد طرفي المعاوضة فيها هي المنفعة وقد تكون كليهما ، وهذا لا يستوجب فرقاً من الجهة المزبورة بالضرورة ، وإلّا فيكفينا الاتّفاق والتسالم على اعتبار هذا الشرط في الإجارة والبيع معاً ، المعتضد بما ورد في البيع من اعتبار الكيل والوزن بعد وضوح أنّه لا خصوصيّة لهما وإنّما اعتبرا بمناط رفع الجهالة والضرر.

ويمكن الاستدلال على ذلك في خصوص الإجارة بما رواه الشيخ بإسناده عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن أرض يريد رجل أن يتقبّلها ، فأيّ وجوه القبالة أحل؟ «قال : يتقبّل الأرض من أربابها بشي‌ء معلوم إلى سنين مسمّاة فيعمّر ويؤدّي الخراج» إلخ (١).

فإنّ قوله : «بشي‌ء معلوم» قرينة على إرادة الإجارة من القبالة ، دون المزارعة ، إذ لا معلوميّة فيها ، وإنّما يكون تقبّل الأرض فيها بإزاء الكسر المشاع من النماء ، وقد دلّت على اعتبار معلوميّة المدّة كمعلوميّة الأُجرة ، فهي واضحة الدلالة على اعتبار العلم بهما في صحّة الإجارة.

وإنّما الكلام في السند ، والظاهر أنّه معتبر ، إذ ليس فيه من يغمز فيه عدا الراوي الأخير أعني : أبا الربيع الشامي حيث إنّه لم يوثّق في كتب الرجال ،

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٦٠ / كتاب المزارعة ب ١٨ ح ٥ ، التهذيب ٧ : ٢٠١ / ٨٨٧.

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا أنّه مذكور في إسناد تفسير علي بن إبراهيم ، وقد بنينا على وثاقة كلّ من وقع في هذا السند.

نعم ، المذكور فيه أبو الربيع من غير تقييد بالشامي ، ولأجله قد يحتمل أنّ المراد به شخص آخر.

ولكنّه يندفع بأنّه لم يذكر في شي‌ء من الروايات الواردة في الكتب الأربعة من يكون معروفاً بهذه الكنية ما عدا الشامي المزبور الذي هو معروف مشهور له روايات كثيرة ، وله كتاب ذكره النجاشي (١) وغيره ، ولم يوجد مكنّى بهذه الكنية غيره إلّا في رواية واحدة أوردها في الكافي بعنوان أبي الربيع القزّاز (٢) ، فإن كان هو هذا الشخص فلا كلام ، وإلّا فهو رجل مجهول غير معروف ، ولا شكّ أنّ اللفظ ينصرف عند الإطلاق إلى المعروف الذي له كتاب وروايات كثيرة.

وممّا يؤكّد ذلك ويدلّ عليه : أنّ الصدوق حينما يذكر طريقه إليه في المشيخة بعنوان أبي الربيع الشامي (٣) وهو طريق صحيح تراه قد أطلقه في الفقيه ولم يقيّده بالشامي ، فقد روى عنه في موارد ومنها مواضع ثلاثة متتالية من كتاب الإجارة (٤) ولم يقيّده به. وهذا دليل قاطع على الانصراف الذي ذكرناه.

ثمّ إنّ الصدوق رواها بطريق آخر صحيح عن خالد بن جرير عن أبي عبد الله (عليه السلام) بلا واسطة (٥) ، وعليه تكون الرواية صحيحة بلا إشكال ، لكنّها

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤٥٥ / ١٢٣٣.

(٢) الكافي ١ : ٣٤٠ / ٤.

(٣) الفقيه ٤ : ٩٨.

(٤) لاحظ الفقيه ٣ : ١٥٦ ، ١٥٧ / ٦٨٧ ـ ٦٨٩.

(٥) الفقيه ٣ : ١٥٦ / ٦٨٧.

٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لم تثبت ، فإنّ طريق الصدوق يشترك مع طريق الشيخ في روايتهما عن ابن محبوب عن خالد بن جرير ، وإنّما يفترقان في أنّ الشيخ ذكر السائل الذي هو الواسطة بينه وبين الإمام (عليه السلام) ، والصدوق لم يذكره ، بل اقتصر على قوله : سُئل. ولا يحتمل أنّ ابن جرير سمع الجواب عن الإمام مرّة بلا وساطة ابن أبي الربيع وأُخرى بواسطته ونقله بالنحوين لابن محبوب فهو موجود في سند الحديث لا محالة ، ولا أقلّ من الاحتمال المسقط لها عن درجة الاعتبار وصلاحيّة الاستدلال لولا ثبوت وثاقة أبي الربيع الشامي.

وكيفما كان ، فالمسألة ممّا لا إشكال فيها.

نعم ، إنّ المقدار الثابت من هذه الرواية المعتبرة وممّا عرفت من الاتّفاق والتسالم هو ما ذكره في المتن من اعتبار المعلوميّة بمقدارٍ يرتفع به الغرر الذي قد يتوقّف على الكيل أو الوزن أو العدّ ، سيّما في مثل الذهب المبني أمره على التدقيق ، وأُخرى يكتفى بمجرّد المشاهدة حسب اختلاف الموارد ، فلا دليل على اعتبار المعلوميّة بعد اندفاع الغرر بشي‌ء من ذلك وإن كان مقتضى الجمود على ظاهر المعتبرة هو ذلك كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هناك جملة من الروايات قد يستفاد منها جواز الإجارة مع الجهالة ، وهي ما وردت في قبالة الأرض بخراجها الذي ربّما يزيد وربّما ينقص ، حيث حكم (عليه السلام) بالجواز الكاشف عن عدم اعتبار معلوميّة الأُجرة.

ويندفع بأنّها على طائفتين :

إحداهما : ما وردت في تقبيل الأرض بإزاء شي‌ء معيّن كمائتي درهم في السنة مشروطاً بأداء الخراج ، كصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الرجل تكون له الأرض عليها خراج معلوم وربّما زاد وربّما نقص ، فيدفعها إلى رجل على أن يكفيه خراجها ويعطيه مائتي درهم في السنة

٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

«قال : لا بأس» (١).

وهذه كما ترى لا دلالة فيها على ما ذكر بوجه ، لوضوح أنّ جعل الخراج على المستأجر إنّما هو من باب الشرط ، وأمّا الأُجرة فهي المبلغ المعيّن أعني : مائتي درهم ولا ضير في زيادة هذا الشرط أي الخراج ونقيصته أحياناً بعد أن كانت له كمّيّة متعارفة مضبوطة غالباً. وهذا نظير إجارة الدار بأُجرة معيّنة مشروطاً بأن تكون الضريبة التي لها حدّ متعارف على المستأجر وإن كانت قد تزيد عليه بشي‌ء وقد تنقص ، فإنّ هذه الجهالة غير العائدة إلى الأُجرة غير قادحة في شي‌ء من الموردين كما لا يخفى.

الثانية : ما ورد في التقبيل لا بعنوان الإيجار ، مثل ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي بردة بن رجاء ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القوم يدفعون أرضهم إلى رجل فيقولون : كلها وأدِّ خراجها «قال : لا بأس به إذا شاءوا أن يأخذوها أخذوها» (٢).

وعدم الدلالة في هذه أوضح ، فإنّها خارجة عن محلّ الكلام ، لعدم افتراض الإجارة بتاتاً ، وإنّما هي إباحة مشروطة بأداء الخراج ، كما يكشف عنه تذييل نفي البأس بقوله : «إذا شاءوا» إلخ ، الذي هو بمثابة التعليل ، إيعازاً إلى أنّها إباحة جائزة لا إجارة لازمة فلا تقدح الجهالة.

وهناك رواية أُخرى رواها الكليني ، وكذا الكشّي في رجاله ، عن الفيض بن المختار ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : جعلت فداك ، ما تقول في أرض أتقبّلها من السلطان ثمّ أُؤاجرها أكرتي على أنّ ما أخرج الله منها من شي‌ء كان

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٥٧ / كتاب المزارعة ب ١٧ ح ١.

(٢) الوسائل ١٩ : ٥٨ / كتاب المزارعة ب ١٧ ح ٣ ، التهذيب ٧ : ٢٠٩ / ٩١٨.

٣١

الثاني : أن يكونا مقدوري التسليم (١) ، فلا تصحّ إجارة العبد الآبق ،

______________________________________________________

لي من ذلك النصف أو الثالث بعد حقّ السلطان «قال : لا بأس به ، كذلك أُعامل أكرتي» (١).

فيستفاد منها جواز الجهل بالأُجرة ، لعدم انضباط الكمّيّة التي يخرجها الله من الأرض.

ولكنّها مضافاً إلى ضعف سندها ب : أبي نجيح ، فإنّه مجهول قاصرة الدلالة ، لخروجها عن باب الإجارة وإن تضمّنت لفظها ، ضرورة لزوم كون الأُجرة شيئاً مملوكاً بالفعل للمستأجر ليتمكّن من تمليكها للمؤجّر إزاء تملّك المنفعة منه ، وما يستخرجه الله من الأرض لا وجود له الآن ليملكه المستأجر فكيف يملّكه للمؤجّر ويجعله اجرة؟! فمن المقطوع به أنّها ناظرة إلى باب المزارعة وأجنبيّة عن محلّ الكلام ، وقد ورد في أخبار باب المزارعة ما عبّر فيه بالإجارة ، لما بينهما من المشابهة في التسلط على العين والانتفاع منها.

فتحصّل : أنّه ليست لدينا رواية تدلّ على عدم قدح الجهالة في باب الإجارة ، بل أنّ معتبرة أبي الربيع دالّة على القدح حسبما عرفت.

(١) لا إشكال في اعتبار هذا الشرط في باب البيع ، لدلالة النصّ مضافاً إلى الوجوه الأُخر المذكورة في محلّها.

وأمّا في باب الإجارة فالأمر فيه أوضح بحيث ينبغي الجزم به حتى لو فرضنا إنكاره في البيع ، نظراً إلى أنّ المنفعة كسكنى الدار مثلاً لم تكن من الأُمور القارّة الباقية وإنّما هي أمر تدريجي الحصول توجد وتنصرم كنفس

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٥٢ / كتاب المزارعة ب ١٥ ح ٣ ، الكافي ٥ : ٢٦٩ / ٢ ، رجال الكشي : ٣٥٤ / ٦٦٣.

٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الزمان ، فهي تتلف شيئاً فشيئاً حسب مرور الزمان ، سواء استوفاها مالكها أم لا.

وعليه ، فإذا كان المالك مسيطراً عليها صحّ اعتبار ملكيته لها ، وأمّا إذا لم تكن قابلة للاستيفاء خارجاً لإباقٍ أو مرض ونحوهما فهي آناً فآناً تنعدم ، ومعه كيف يكون المالك مالكاً لهذه المنفعة التي تتلف بنفسها حتى يملّكها للآخر؟! فإنّ العقلاء لا يعتبرون الملكيّة بالإضافة إلى تلك المنافع ، فليست هي مملوكة لمالك العين فكيف يملّكها للغير بالإجارة؟! وعلى الجملة : تعذّر التسليم مانع عن صدق عنوان التمليك المتعلّق بالمنفعة المأخوذ في مفهوم الإجارة ، فلا محيص من اعتبار القدرة عليه تمهيداً لتحقّق العنوان المزبور.

وهكذا الحال في إجارة الأعمال ، فإنّها كما في الأموال بمناط واحد ، بل الأمر فيها أوضح كما لا يخفى ، فمن كان عاجزاً عن عمل فليس هو مسلّطاً عليه ومالكاً له حتى يملّكه للغير.

هذا ، وقد يستدلّ للمقام بما رواه الصدوق من نهي النبي (صلّى الله عليه وآله) عن الغرر ، نظراً إلى أنّ استئجار متعذّر التسليم معاملة غرريّة.

ويجاب بعدم ورود الرواية هكذا لا من طرقنا ولا من طرق العامّة ، وإنّما الوارد نهيه (صلّى الله عليه وآله) عن بيع الغرر ، ويحتاج التعدّي من البيع إلى غيره إلى الدليل.

أقول : أمّا حديث نهيه (صلّى الله عليه وآله) عن بيع الغرر فقد ورد من طرقنا ومن طرق العامّة ، حيث رووه في أكثر الصحاح وغيرها ، كما أنّ الصدوق رواه بأسانيد غير أنّها بأجمعها ضعاف كما مرّت الإشارة إليه ، فيبتني التصحيح على القول بانجبار الضعيف بعمل المشهور ، وحيث إنّ الأظهر عدم الجبر

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فيحتاج إثبات الحكم حتى في البيع إلى التمسّك بدليل آخر ، وقد مرّت الإشارة إليه قريباً (١).

وأمّا حديث نهيه (صلّى الله عليه وآله) عن الغرر الذي ذكره الشهيد وكذا الشيخ في الخلاف في كتاب الشركة (٢) فيمكن أن يكون نظرهما في ذلك إلى روايتين :

إحداهما : وردت من طرق العامّة ، وهي التي رواها أحمد في مسنده (٣) من أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نهى عن بيع السمك في الماء لأنّه غرر.

حيث يظهر من التعليل أنّ النهي قد تعلّق بالغرر على سبيل الإطلاق ، وأنّ التطبيق على البيع من باب تطبيق الكبرى على الصغرى ، فيصحّ أن يقال : إنّه (صلّى الله عليه وآله) نهى عن الغرر مطلقاً وإن كان مورده هو البيع.

والثانية : وردت من طرقنا ، وهي التي رواها الصدوق في معاني الأخبار بإسناد متّصل إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة إلى أن قال : وهذه بيوع كان أهل الجاهليّة يتبايعونها فنهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عنها لأنّها غرر كلّها (٤).

لدلالة التعليل عليه بالتقريب المتقدّم.

وعلى الجملة : فتصحّ مقالة الشهيد من أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نهى عن الغرر استناداً إلى هاتين الروايتين ، غير أنّ سنديهما ضعيف فلا يمكن التعويل

__________________

(١) في ص ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) غاية المراد ٢ : ٣٥٥ ، الخلاف ٣ : ٣٣٠.

(٣) مسند أحمد ١ : ٣٨٨.

(٤) الوسائل ١٧ : ٣٥٨ / أبواب عقد البيع وشروطه ب ١٢ ح ١٣ ولها ذيل يدلّ على المطلوب أيضاً مذكور في ص ٣٥٢ ب ١٠ ح ٢ ، معاني الأخبار : ٢٧٨.

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على شي‌ء منهما. والعمدة في الاستدلال ما عرفت.

هذا كلّه في متعذّر التسليم المقطوع به.

وأمّا المشكوك فيه : فإن وقعت الإجارة مطلقة من غير تقييد بالقدرة على الاستيفاء خارجاً فلا ينبغي الشكّ في فسادها حينئذٍ ، إذ ما لم تثبت القدرة على التسليم لم ينتزع عنوان الملكيّة بالإضافة إلى المنفعة الواقعة في حيّز الإجارة حسبما تقدّم فطبعاً يكون مورد الإجارة مردّداً بين المال وما لا ماليّة له ، المستلزم لوقوع الأُجرة حينئذٍ بلا عوض ، وما هذا شأنه محكوم بالفساد ، لعدم إحراز المبادلة والمعاوضة المعتبرة في مفهوم الإجارة.

وأمّا تخصيص الصحّة بفرض القدرة بمعنى : أنّ الإجارة وإن أُنشئت مطلقة إلّا أنّ صحّتها مراعى بإمكان الاستيفاء فإن تمكّن من استيفاء المنفعة خارجاً صحّت وإلّا فلا فهو وإن كان ممكناً ثبوتاً إلّا أنّ الدليل على الصحّة قاصر إثباتاً ، نظراً إلى أنّ أدلّة النفوذ والإمضاء تتبع كيفيّة الإنشاء سعةً وضيقاً بمناط تبعيّة العقود للقصود ، والمفروض في المقام تعلّق الإنشاء بالإجارة على صفة الإطلاق ومن غير تقييد بالقدرة ، فما قصده المتعاملان غير قابل للإمضاء والنفوذ ، وما هو قابل غير مقصود. فلا مناص من الالتزام حينئذٍ بالفساد حسبما عرفت.

وإن وقعت مقيّدة بالقدرة على التسليم فقال مثلاً ـ : آجرتك هذا إن أمكن حصول المنفعة خارجاً ، فقد يقال حينئذٍ بالفساد من وجهين :

أحدهما : أنّه غرر ، حيث لم يعلم وجود المنفعة خارجاً.

وفيه : أنّ الغرر هو الخطر لا مجرد الجهل ، ولا خطر في المقام بوجه ، لاستلام المنفعة على تقدير حصولها واسترداد الأُجرة على التقدير الآخر ، فلا مخاطرة بتاتاً ، غايته الجهل ولا دليل على قدحه ، بل لا يبعد صحّة ذلك في البيع أيضاً.

٣٥

وفي كفاية ضمّ الضميمة هنا كما في البيع إشكال (١).

______________________________________________________

فلو كان الموكّل شاكّاً في بيع الوكيل فباع ماله على تقدير عدم خروجه عن ملكه ببيع الوكيل صحّ فيما لو انكشف عدم البيع.

ثانيهما : من جهة التعليق المجمع على بطلانه في العقود وإن حصل المعلّق عليه خارجاً.

ويندفع بأنّ مورد الإجماع إنّما هو التعليق على أمر أجنبي عن العقد أو الإيقاع كنزول المطر والقدوم من السفر ، أمّا التعليق على ما يتوقّف عليه العقد سواء علّق أم لم يعلّق كقوله : بعتك هذا إن كان ملكي ، أو أنت طالق إن كنت زوجتي فلا يكون مثله قادحاً.

والمقام من هذا القبيل ، لما عرفت من دخل القدرة على التسليم في تحقّق الملكيّة ، فمرجع التعليق في المقام إلى قوله : آجرتك إن كانت المنفعة ملكاً لي ، فلا يضرّ مثل هذا التعليق.

والمتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ الدخيل في الصحّة إنّما هو واقع القدرة على التسليم لا إحرازها ، فلا مانع من الإجارة في صورة الشكّ لو صادفت حصول القدرة خارجاً.

(١) نظراً إلى اختصاص دليل الكفاية وهو موثّق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الرجل يشتري العبد وهو آبق عن أهله «قال : لا يصح إلّا أن يشتري معه شيئاً آخر ، ويقول : أشتري منك هذا الشي‌ء وعبدك بكذا وكذا ، فإن لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى منه» (١) بالبيع.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٥٣ / أبواب عقد البيع ب ١١ ح ٢.

٣٦

الثالث : أن يكونا مملوكين ، فلا تصحّ إجارة مال الغير (١) ولا الإجارة بمال الغير إلّا مع الإجازة من المالك.

الرابع : أن تكون العين المستأجرة ممّا يمكن الانتفاع بها مع بقائها ، فلا تصحّ إجارة الخبز للأكل مثلاً ـ (٢) ولا الحطب للإشعال ، وهكذا.

______________________________________________________

وليس قوله (عليه السلام) : «فان لم يقدر» إلخ ، تعليلاً ليتعدّى إلى غيره ، وإنّما هو تفريع محض مترتّب على تقدير عدم القدرة على العبد ، فهو بيان لحكم تعذّر الآبق لا لعلّة الحكم ومناطه ، وبما أنّ الحكم مخالف للقاعدة لتعلّق الإنشاء بوقوع الثمن بإزاء المجموع فتخصيصه في فرض عدم القدرة بالبعض تعبّد محض ، فلا جرم يقتصر على مورد قيام النصّ وهو بيع العبد الآبق ، فلا يتعدّى إلى بيع غيره كالفرس الشارد فضلاً عن التعدّي إلى غير البيع كالإجارة ، للزوم الاقتصار في الحكم المخالف للقاعدة على مورد الدليل.

(١) هذا واضح ، وذلك لعدم المقتضي للصحّة أوّلاً ، ضرورة أنّ كلّ أحد مخاطب بوجوب الوفاء بالعقد الواقع على مال نفسه أو بمال نفسه لا مال الغير ، فلا نفوذ بالإضافة إليه لا من ناحية العقلاء ولا الشارع.

ولوجود المانع ثانياً ، وهو ما دلّ على المنع من التصرّف في مال الغير وعدم حلّيّته إلّا بإذنه.

وأمّا صحّة هذه الإجارة الفضوليّة بإجازة المالك أو إذنه السابق ووقوعها له فهو أمر آخر ، وسيجي‌ء منه التعرّض له فيما بعد إن شاء الله تعالى (١).

(٢) أو الماء للشرب ، أو الدرهم للصرف ، ونحو ذلك ممّا يتوقّف الانتفاع

__________________

(١) في ص ٤٦ ـ ٤٨.

٣٧

الخامس : أن تكون المنفعة مباحة (١) ، فلا تصحّ إجارة المساكن لإحراز المحرّمات ، أو الدكاكين لبيعها ، أو الدوابّ لحملها ، أو الجارية للغناء ، أو العبد لكتابة الكفر ، ونحو ذلك ، وتحرم الأُجرة عليها.

______________________________________________________

على إعدام العين وإفنائها ، لخروج ذلك عن حقيقة الإجارة ، لما تقدّم من تقوّم مفهومها بتمليك المنفعة المنوط بإبقاء العين والمحافظة عليها لكي تستوفى منها المنافع ، التي هي حيثيّات وشؤون للعين تدريجاً ، ومن الواضح أنّ مثل الخبز فاقد لهذا الشأن ، فإنّ أكله إتلافه لا أنّه استيفاء شأن من شؤونه. ففي الحقيقة يعدّ هذا الأمر من مقوّمات الإجارة لا من شرائطها.

(١) فلا تتعلّق الإجارة بالمنافع المحرّمة كالأمثلة المذكورة في المتن. ويستدلّ لهذا الاشتراط :

تارةً : بما ذكره شيخنا الأُستاذ (قدس سره) من أنّ المنفعة المحرّمة غير مملوكة ، فلا يملكها مالك العين حتى يملّكها بالإجارة المتقوّمة بتمليك المنفعة وتملّكها. قال (قدس سره) في تعليقته الأنيقة ما لفظه : إنّ اشتراط مملوكيّة المنفعة يغني عن هذا الشرط ، فإنّ المنفعة المحرّمة غير مملوكة (١).

فالملكيّة حسب الاعتبار الشرعي تختصّ بالمنافع المحلّلة التي يمكن أن يستوفيها المالك بنفسه فيملّكها للغير بالإيجار ، دون المحرّمة التي لا سلطنة له عليها ، ومن ثمّ كان اشتراط الملكيّة مغنياً عن هذا الشرط.

ويندفع : بأنّ هذا إنّما يتّجه بالإضافة إلى إجارة الأعمال ، فلو آجر نفسه لعمل محرّم من قتل أو ضرب أو كذب أو نقل الخمر من مكان إلى آخر ونحو

__________________

(١) تعليقة النائيني على العروة الوثقى ٥ : ١١ (تحقيق جماعة المدرسين).

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك من المحرّمات الإلهيّة لم يصحّ ، نظراً إلى عدم السلطنة له على هذه الأعمال بعد النهي الشرعي ، فلا تعتبر ملكيّته لما هو ممنوع عنه ، ولم يكن تحت اختياره ، فليس له إذن التمليك للغير كما أفاده (قدس سره).

وأمّا بالنسبة إلى إجارة الأعيان فكلّا ، إذ المحرّم إنّما هو فعل المستأجر من إحراز المسكر أو بيع الخمر ونحو ذلك ، لا الحيثيّة القائمة بالمال التي هي مناط صحّة الإيجار حسبما مرّ.

حيث قد عرفت عند التكلّم حول مفهوم الإجارة أنّ العين المستأجرة كالدار للسكنى تتضمّن حيثيّتين : إحداهما قائمة بالعين وهي قابليتها للانتفاع وكونها معرضاً للسكنى ، أي حيثيّة المسكونيّة. والأُخرى قائمة بالمستأجر ومن إعراضه ، وهي حيثيّة الساكنيّة. ومناط صحّة الإجارة إنّما هي الحيثيّة الأُولى التي هي ملك للمؤجّر وتحت اختياره وسلطانه ، دون الثانية التي هي من أفعال المستأجر وليست مملوكة للمؤجّر حتى يملكها المستأجر.

ومن الواضح أنّ المحكوم بالحرمة إنّما هي الثانية دون الأُولى ، فإنّ الحرام هو إحراز الخمر أو بيعه أو حمله على الدابّة ونحو ذلك ممّا هو فعل المستأجر ، لا قابليّة الدار أو الدكّان أو الدابّة لهذه الأُمور ، فإنّ هذه القابليّة المملوكة لمالك العين نسبتها إلى المحلّلات والمحرّمات على حدٍّ سواء في عدم معنى محصّل لاتّصافها بالحرمة ، فما هو قابل للتحريم غير مملوك للمؤجّر ، وما هو مملوك له غير قابل للتحريم.

وعليه ، فلا يغني اشتراط الملكيّة عن هذا الشرط بالنسبة إلى المنافع وإن تمّ ذلك بالإضافة إلى الأعمال حسبما عرفت.

وممّا يرشدك إلى أنّ تلك القابليّة مملوكة حتى فيما لو صرفت في الحرام أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ من غصب داراً فأحرز فيها الخمر ، أو دكّاناً فباعها فيه ،

٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أو دابّة فحملها عليها من مكان إلى آخر ، فإنّه يضمن لمالك العين اجرة المثل ، لما استوفاها من المنافع جزماً ، ولا سبيل إلى القول بعدم الضمان بدعوى عدم ماليّتها بعد كونها محرّمة.

وهذا بخلاف ما لو أجبر حرّا على عمل محرّم من كذب أو ضرب أو حمل الخمر ونحو ذلك ، فإنّه لا يضمن هذه المنافع ، إذ الحرام لا ماليّة له في شريعة الإسلام ، فلا يكون الحرّ مالكاً لذاك العمل حتى يكون الغاصب ضامناً لما أتلفه.

ويستدلّ له اخرى بعدم القدرة على التسليم بعد أن كان الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً ، وقد تقدّم أنّ القدرة عليه من شرائط الصحّة.

وفيه : ما تقدّم من أنّ القدرة المزبورة لم تكن شرطاً بعنوانها ، وإنّما اعتبرت بمناط أنّ المنفعة التي يتعذّر تسليمها بما أنّها تنعدم وتتلف شيئاً فشيئاً فلا يمكن انتزاع عنوان الملكيّة بالإضافة إليها لكي تقع مورداً للإجارة المتقوّمة بالتمليك للغير. ومن الضروري أنّ المنع الشرعي لا يستوجب سلب اعتبار الملكيّة بالإضافة إلى تلك المنفعة القائمة بالعين ، فهي بهذه الحيثيّة التي هي مناط صحّة الإجارة كما مرّ مملوكة للمالك وإن حرم عليه تسليمها ، لعدم التنافي بين المملوكيّة وبين الحرمة الشرعيّة ، ولذا ذكرنا أنّ الغاصب لو انتفع من العين تلك المنفعة المحرّمة كما لو حمّل الدابّة المغصوبة خمراً ضمن للمالك مقدار اجرة المثل.

وبالجملة : الممنوع شرعاً إنّما يكون كالممتنع عقلاً بالإضافة إلى تسليم المنفعة المحرّمة لا إلى ملكيّتها ، لعدم المضادّة بين ممنوعيّة التسليم شرعاً وبين الملكيّة. وهذا بخلاف ممنوعيّته تكويناً وعدم القدرة عليه عقلاً ، فإنّه منافٍ لاعتبار الملكيّة وقتئذٍ كما عرفت.

٤٠