موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

فهذه الأعيان المستجدّة وإن كانت مملوكة للمستأجر في هذه الموارد ، لكن ملكيّتها لم تنشأ في عقد الإيجار ليتنافى مع مفهوم الإجارة كما توهّم ، بل المنشأ ليس إلّا ملكيّة المنفعة فحسب ، وإنّما هذه تملك بتبع ملكيّة المنفعة. وعلى ذلك جرت السيرة العقلائية في أمثال هذه الإجارات ، بل أنّ إجارة البساتين بل مطلق الأراضي والدور لا تنفكّ عن ذلك ، لعدم خلوّها غالباً عن الآبار للزراعة أو الشرب سيّما في الأزمنة السابقة ، فيكون الماء المستقي منها مملوكاً للمستأجر مع أنّ الإجارة لم تتعلّق إلّا بالبئر أو الأرض ، والسرّ ما عرفت من تبعيّته للمنفعة في الملكيّة.

فالذي ينافي مفهوم الإجارة تعلّق التمليك بالعين ابتداءً ، وأمّا بتبع ملكيّة المنفعة فلا ضير ولا محذور فيه أبداً.

هذا ، وربّما (١) يفصّل في الصحّة في هذه الموارد بين ما كان من قبيل إجارة الشاة للحلب ، وبين إجارة الشجر لأجل الثمر ، فيلتزم بالصحّة في الأوّل دون الثاني ، نظراً إلى صدق التبعيّة في الأوّل لما يرتكبه المستأجر من عمليّة الحلب ، فتكون العين تابعة لانتفاع المستأجر بمثل الحلب أو النزح ونحوهما ، وأمّا في الثمر فليس ثمّة أيّ عمل من ناحية المستأجر وإنّما الشجر يثمر بنفسه.

ولكنّك خبير بصدق التبعيّة في كلا الموردين من غير إناطة بصدور عمل منه كما تقدّم من التمثيل بشبكة الصيّاد ، فلو استأجر الشبكة المعدّة للصيد وبعدئذٍ وقعت فيها سمكة من دون أيّ عمل من المستأجر ملكها بالتبع ، فالعين تابعة لملكيّة المنفعة لا للتصدّي للانتفاع.

وعلى الجملة : فكلّ من كان مالكاً لمنفعة الشبكة أو الشجرة ، أي قابليّتها

__________________

(١) كما عن المحقّق الأصفهاني في بحوث في الفقه (الإجارة) : ١٧٨ ـ ١٨١.

٣٦١

[٣٣٣٧] مسألة ٨ : إذا كانت الامرأة المستأجرة مزوجة (١)

______________________________________________________

للاصطياد أو الإثمار ، فطبعاً كان مالك القابليّة مالكاً للفعليّة أيضاً بالتبعيّة ، فإنّ خروج الثمر مثلاً فعليّةٌ لذاك الاستعداد ، وتحقّقٌ عيني لتلك القابليّة ، وخروجٌ من القوّة إلى مرحلة الفعليّة من غير توقّف على صدور أيّ عمل منه.

فتحصّل : أنّ الأظهر صحّة الإجارة في جميع تلك الموارد كما سيذكره الماتن في المسألة المشار إليها ، وإن كان تعليله بكون تلك الأعيان تعدّ من منافع العين المستأجرة في نظر العرف لا يخلو من المسامحة ، بل هو تطويل لا حاجة إليه أبداً.

والصحيح ما عرفت من كونها مملوكة بتبع ملكيّة الحيثيّة القائمة بالعين المطّردة في جميع تلك الأمثلة حسبما تقدّم.

(١) تعرّض (قدس سره) في هذه المسألة لحكم استئجار المرأة المزوجة وفي المسألة الآتية لحكم عكسها ، أعني : ما لو كانت خليّة فاستؤجرت للإرضاع ثمّ تزوّجت.

فذكر (قدس سره) هنا أنّه لا مانع من ذلك فيما إذا لم تكن هناك مزاحمة لحقّ الاستمتاع الثابت للزوج من دون حاجة إلى الاستئذان منه ، بل نصّ بعضهم على جوازه حينئذٍ حتى مع منع الزوج ، إذ ليس له منعها عمّا لا ينافي حقّه مكاناً ولا زماناً بعد أن كانت هي حرّة مالكة لأمرها ومسلّطة على منافعها من الخدمات التي منها الإرضاع ، ولذلك جاز لها أخذ الأُجرة من زوجها على إرضاعها لولده ، سواء أكان منها أو من غيرها ، فلا يجب عليها الإرضاع مجّاناً بعد أن لم يكن اللبن له ، ومن البيّن أنّ الإطاعة الواجبة عليها خاصّة بما يعود إلى الاستمتاع والتمكين فحسب.

وعلى الجملة : فلا تأمّل في صحّة الإجارة في صورة عدم المزاحمة حتى مع منعه فضلاً عن الحاجة إلى إذنه. وهذا واضح لا غبار عليه.

٣٦٢

لا يعتبر في صحّة استئجارها إذنه ما لم يناف ذلك لحقّ استمتاعه ، لأنّ اللبن ليس له فيجوز لها الإرضاع من غير رضاه ، ولذا يجوز لها أخذ الأُجرة من الزوج على إرضاعها لولده ، سواء كان منها أو من غيرها. نعم ، لو نافى ذلك حقّه (١) لم يجز إلّا بإذنه ، ولو كان غائباً فآجرت نفسها للإرضاع فحضر في أثناء المدّة وكان على وجه ينافي حقّه انفسخت الإجارة بالنسبة (*) إلى بقيّة المدّة.

______________________________________________________

(١) وأمّا في صورة المنافاة والمزاحمة فلا إشكال أيضاً فيما لو أذن في الإجارة أو أجازها بعد وقوعها ، إذ لا تفويت لحقّ الغير بعد إسقاطه بنفسه.

وأمّا إذا لم يأذن بحيث استقرّت المنافاة بين الأمرين أعني : الإرضاع والقيام بحقّ الزوج فالمعروف والمشهور حينئذٍ بطلان الإجارة ، بل لعلّه لم يستشكل فيه أحد عدا ما يظهر من بعض مشايخنا المحقّقين في رسالته المدوّنة في الإجارة من عدم الدليل على البطلان وإن كان هو موافقاً للاحتياط.

والصحيح ما عليه المشهور. والوجه فيه : ما ذكرناه في كتاب الحجّ عند التعرّض لنظير هذه المسألة (١) أعني : استئجار المستطيع للنيابة عن الغير من عدم السبيل إلى تصحيح الإجارة المزاحمة مع واجب آخر أهمّ وهو الحجّ عن نفسه ، أو إطاعة الزوج في المقام ، إلّا من ناحية الالتزام بالخطاب الترتّبي بأن يؤمر بالوفاء بالإجارة على تقدير عصيان الأهمّ.

__________________

(*) على تقدير عدم الإجازة من الزوج.

(١) شرح العروة ٢٧ : ١١.

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والترتّب وإن صحّحناه في محلّه ، بل ذكرنا أنّ إمكانه مساوق لوقوعه على ما أشبعنا البحث حوله في الأُصول (١) ، إلّا أنّه خاصّ بالأحكام التكليفيّة ولا ينسحب إلى الوضعيّة كما في محلّ الكلام.

فإنّ ملخّص الوجه فيه : أنّ القدرة شرط في التكليف ، وأهمّيّة أحد الواجبين المتزاحمين تستدعي صرف القدرة في امتثاله ، ومعه كان عاجزاً عن الآخر ، فلا يكون التكليف به فعليّاً ، لامتناع التكليف بالمتضادّين معاً ، وأمّا مع عدم الصرف فهو قادر على المهمّ في هذا التقدير ، فلا مانع من تعلّق الخطاب به ، ومع عدم المانع كان إمكانه مساوقاً لوقوعه.

وبعبارة اخرى : المزاحمة لا تستدعي إلّا سقوط إطلاق الخطاب بالمهمّ لا أصله ، فالتكليف به مقيّداً بظرف عدم الإتيان بالأهمّ لا مقتضي لسقوطه ، فإنّ المقتضي إنّما هو العجز وهو خاصّ بصورة الإتيان بالأهمّ ، وأمّا مع عصيانه فكلّا. وهذا التقدير كما ترى خاصّ بباب التكليف.

وأمّا الوضع أعني : الصحّة في باب العقود والإيقاعات فإن قام دليل عليه من الخارج فهو ، وإلّا فالقاعدة لا تقتضي الصحّة من باب الترتّب.

وتوضيحه : أنّه إذا زاحم الوفاء بالعقد واجب آخر أهمّ كالحجّ عن نفسه أو تمكين الزوج كما في المقام فإمّا أن يحكم بصحّة العقد مطلقاً ، أو على تقدير عصيان الأهمّ لا سبيل إلى الأوّل ، فإنّه من التكليف بالضدّين في مرتبة واحدة وزمان واحد كما هو واضح.

وأمّا الثاني : فهو وإن كان ممكناً بأن يُقال : حجّ عن نفسك ، أو أطيعي زوجك

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ١٣٤.

٣٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وإلّا فيجب الوفاء بعقد الإيجار ، إلّا أنّه لا دليل عليه ، ضرورة أنّ أدلّة صحّة العقود لم تكن تأسيسيّة ابتدائيّة وإنّما هي إمضاء لما ينشؤه المتعاقدان ، ومن الواضح أنّ المُنشأ إنّما هو العقد بقول مطلق لا معلّقاً على تقدير ، وقد عرفت عدم قبوله للصحّة ، فما هو قابل للإمضاء لم يكن مُنشأ ، وما هو المُنشأ غير قابل للإمضاء.

ولو فرضنا أحياناً أنّ الإنشاء من الأوّل كان مقيّداً ومعلّقاً على العصيان فآجرت نفسها للإرضاع مثلاً معلّقاً على مخالفة الزوج بطل أيضاً ، لكونه من التعليق في العقود المبطل لها بلا كلام.

فلا يقاس الوضع بالتكليف كي يجري الترتب فيه بمقتضى القاعدة ، بل كلّ عقد أو إيقاع كان الوفاء به مزاحماً لواجب آخر حكم ببطلانه ما لم يقم دليل آخر على صحّته.

إذن فما ذكره المشهور من بطلان إجارة المزوجة على الإرضاع لدى المنافاة لحقّ الزوج ما لم يأذن هو الصحيح الذي لا ينبغي التردّد فيه.

هذا كلّه فيما إذا كانت المنافاة حين الإيجار.

وأمّا لو حدثت بعد ذلك ، كما لو كان الزوج غائباً آن ذاك ثمّ حضر أثناء المدّة ، فقد حكم في المتن بالانفساخ بالنسبة إلى بقيّة المدّة.

وعبارته (قدس سره) وإن كانت مطلقة إلّا أنّ الظاهر أنّه يريد صورة الردّ وعدم الإجارة ، إذ لا مقتضي للانفساخ معها ، بل قد عرفت صحّة الإجارة بإذنه مع التنافي من الأوّل فضلاً عن حدوث المنافاة في الأثناء.

٣٦٥

[٣٣٣٨] مسألة ٩ : لو كانت الامرأة خليّة فآجرت نفسها للإرضاع أو غيره من الأعمال ثمّ تزوّجت قدّم حقّ المستأجر على حقّ الزوج في صورة المعارضة (١) حتى أنّه إذا كان وطؤه لها مضرّاً بالولد مُنِعَ منه.

______________________________________________________

(١) لأنّها حينما كانت خليّة كان لها تمليك منفعتها إلى الغير بإجارة ونحوها ، فإذا ملكها المستأجر بإجارة صحيحة فليس لها ولا لزوجها تفويت هذا الحقّ ، فلا جرم يتمحّض حقّ الزوج في غير هذه المنفعة ويكون ذلك نظير بيع العين مسلوبة المنفعة ، وهذا واضح لا سترة عليه.

غير أنّه (قدس سره) ترقّى في ذيل العبارة عن ذلك بقوله : حتى أنّه إذا كان وطؤه لها مضرّاً ، إلخ. ولم يتّضح وجهه ، بل لم يعرف مقصوده.

فإنّه (قدس سره) إن أراد كون الوطء منافياً لحقّ المستأجر بحيث يستلزم تفويت ما يملكه الغير فلا ريب في عدم جوازه ، سواء أكان مضرّاً بحال الولد أم لا ، فلا خصوصيّة للإضرار في تعلّق هذا الحكم.

وإن أراد كون الوطء مضرّاً بحال الولد لجهةٍ من الجهات من دون أن يكون منافياً لحقّ المستأجر ، كما لو استؤجرت للإرضاع ليلاً فأراد وطأها في النهار ، فذاك مطلب آخر أجنبي عمّا نحن بصدده ولا يرتبط بمحلّ الكلام كي يصحّ الترقّي منه إليه ، بل يندرج تحت كبرى أُخرى مقرّرة في محلّها ذات بحث طويل الذيل ، وهي أنّ التصرّف في الملك لو استلزم تضرّر الغير كأن يبني جداراً عالياً في داره يضرّ بحال جاره ، أو يطأ زوجته فيتصرّف في حقّه كما في المقام ولكنّه يستتبع ضرراً بحال الولد المرتضع منها سواء أكانت مستأجرة أم لا فهل يسوغ مثل هذا التصرّف أو لا؟ والمسألة كما عرفت خلافيّة ، ولا شكّ في

٣٦٦

[٣٣٣٩] مسألة ١٠ : يجوز للمولى إجبار أمته على الإرضاع (١) إجارةً أو تبرّعاً ، قنّة كانت أو مدبرة أو أُمّ ولد ، وأمّا المكاتبة المطلقة فلا يجوز له إجبارها ، بل وكذا المشروطة ، كما لا يجوز في المبعّضة ، ولا فرق بين كونها ذات ولد يحتاج إلى اللبن أو لا ، لإمكان إرضاعه من لبن غيرها.

______________________________________________________

عدم الجواز فيما إذا كان الضرر مؤدّياً إلى الهلاك أو ما يشبهه ممّا يعلم بعدم رضا الشارع بوقوعه ، وأمّا غير البالغ هذا الحدّ ففيه كلام مذكور في محلّه لا يسعه المجال. وعلى أيّ حال ، فهي جهة أُخرى أجنبيّة عمّا نحن بصدده من المزاحمة لحقّ الغير.

(١) إذ له السلطنة الكاملة على مملوكه في جميع شؤونه التي منها الإرضاع ، وحاله حال سائر أمواله من حيوان أو غيره في أنّ له الانتفاع كيفما شاء من دون توقّف على رضا المملوك نفسه الذي هو عاجز لا يقدر على شي‌ء ، من غير فرق في ذلك بين أقسام الأمة كعدم الفرق بين كونها ذات ولد محتاج إلى اللبن وعدمه بعد إمكان الإرضاع من لبن غيرها.

نعم ، تستثني من ذلك المبعّضة ، لقصور سلطنة المولى وقتئذٍ بعد أن كان بعضها حرّا.

وكذلك المكاتبة مطلقة كانت أو مشروطة ، إذ بعد تحقّق الكتابة التي هي في قوّة شراء نفسها من المولى بشي‌ء في ذمّتها تسعى في تحصيله فقد أصبحت كالمالكة أمر نفسها وخرجت عن تلك السلطنة المطلقة ، بل انقطعت سلطنة المولى عن مال المكاتب إلّا من ناحية استيفاء مال الكتابة كما هو محرّر في محلّه.

٣٦٧

[٣٣٤٠] مسألة ١١ : لا فرق في المرتضع بين أن يكون معيّناً أو كلّيّاً (١) ، ولا في المستأجرة بين تعيين مباشرتها للإرضاع أو جعله في ذمّتها ، فلو مات الصبي في صورة التعيين أو الامرأة في صورة تعيين المباشرة انفسخت الإجارة ، بخلاف ما لو كان الولد كلّيّاً (٢) أو جعل في ذمّتها فإنّه لا تبطل بموته أو موتها إلّا مع تعذّر الغير من صبي أو مرضعة.

______________________________________________________

(١) لا فرق في صحّة استئجار المرأة للإرضاع بين أن يكون المرتضع صبيّاً خاصّاً معيّناً أو عنواناً كلّيّاً ، كما لا فرق في المرأة المستأجرة بين استئجارها للتصدّي لعمليّة الإرضاع مباشرةً أو لجعله في ذمّتها ولو كان على سبيل التسبيب. كلّ ذلك لعمومات الصحّة.

نعم ، في فرض الاختصاص أو التقييد بالمباشرة تنفسخ الإجارة بموت الصبي في الأوّل ، أو المرأة في الثاني.

أمّا الأخير : فظاهر ، لكشف الموت عن عدم كونها مالكة لمنفعة الإرضاع كي تملّكه كما هو الحال في غيره من الأعمال كالخياطة ونحوها ممّا تؤجر نفسها لها فتموت قبل مضيّ زمان صالح للقيام بها ، لعدم كونها مالكة لمنافعها ما بعد الموت.

وكذلك الأوّل ، إذ الصبي الميّت غير قابل للرضاع ، فيكشف موته عن عدم كون المرأة قادرة على إرضاعه فلا ملكيّة من الأوّل ، فلا جرم يحكم بالبطلان. وهذا واضح.

(٢) وهل تنفسخ الإجارة بموت أحدهما أيضاً فيما إذا كان الولد كلّيّاً أو لم تقيّد المرأة بالمباشرة؟

لا ينبغي الإشكال بل لم يستشكل أحد في عدم الانفساخ في الأوّل بموت

٣٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الصبي المعيّن ، إذ لا مقتضي له بعد عدم كونه بخصوصه مورداً للإجارة ، فلترضع صبيّاً آخر بعد أن كان الكلّي المستأجر عليه قابلاً للانطباق عليه.

وهذا كما لو استأجر دابّة لمطلق الركوب أو الحمل ، فإنّ تعذّر فرد لا يمنع عن الاستيفاء ضمن فرد آخر.

نعم ، يتّجه الانفساخ لو كان الكلّي منحصراً في هذا الفرد الذي عرضه الموت ، لامتناع الرضاع حينئذٍ ، فإنّ الموجود منه قد مات وغيره غير موجود حسب الفرض ، فيلحق هذا بالصورة السابقة.

وأمّا في الثاني أعني : ما لو ماتت المرأة وقد كانت الإجارة واقعة على الأعمّ من التسبيب ـ : فربّما يقال بالبطلان وانفساخ الإجارة ، نظراً إلى عدم قابليّة المرأة بعد موتها للإرضاع لا مباشرة ولا تسبيباً ، فلم تكن مالكة لهذه المنفعة لتملّك بعد أن لم تكن قادرة عليها.

ويندفع : بقدرتها عليه بالتسبيب إليه قبل الموت ، إمّا بالاستئجار أو بالإيصاء والإخراج من تركتها ، فالإرضاع مقدور لها بفرديه حال الحياة ، وبخصوص التسبيب الحاصل من ذي قبل بلحاظ ما بعد الموت ، فإذا ماتت ولم تأت بشي‌ء من الفردين كان العمل طبعاً ديناً في ذمّتها يخرج من تركتها قبل الإرث ، فيجب على الوصي أو الوارث استئجار امرأة أُخرى ولا موجب للحكم بالانفساخ ، اللهمّ إلّا أن يفرض انحصار المرضعة بها وعدم وجود ما سواها فيتّجه الانفساخ حينئذٍ كما لا يخفى.

هذا ، وقد نُسِبَ إلى العلّامة إخراج قيمة الإرضاع من التركة والإعطاء إلى المستأجر (١).

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢٩٢.

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ولم يتّضح وجهه ، بداهة أنّه مع التمكّن من دفع نفس العمل المشتغلة به الذمّة باستئجار الغير فكيف ينتقل إلى بدله وهو القيمة كما هو الحال في سائر الأعمال المستأجر عليها؟! فلو آجر نفسه للخياطة الأعمّ من المباشرة والتسبيب فمات قبل الوفاء بقي العمل ديناً في ذمّته يخرج من تركته قبل الإرث ، فلا بدّ وأن يستأجر أحد لها ، إلّا أن يتراضيا بإقالة ونحوها ، وإلّا فالواجب أوّلاً إعطاء نفس الدين ، والدين هو العمل لا القيمة.

فالنتيجة : أنّه لا موجب للانفساخ بالموت ، بل العمل ثابت في ذمّته لا بدّ من أدائه بنفسه.

ومن هذا القبيل ما لو استؤجر للصلاة عن الميّت سنة مثلاً فعرضه الموت بعد مضيّ زمان صالح لوقوع العمل فيه ، فإنّه لا موجب حينئذٍ لانفساخ الإجارة ، بل يبقى العمل ديناً في ذمّته يجب على الوارث تفريغها عنه ، فيؤدّي نفس العمل باستئجار شخص آخر لو كان المستأجر عليه أعمّ من المباشرة والتسبيب كما يؤدّي قيمته الفعليّة لا السابقة لو كان مقيّداً بالمباشرة ، لأنّ العمل المباشري بعد أن كان متعذّر التسليم بعد الموت ينتقل إلى بدله ، وأمّا الأعمّ من التسبيب فهو ممكن التسليم بنفسه حسبما عرفت. ففي كلّ مورد كانت الإجارة صحيحة وضابطه مضيّ زمان صالح لوقوع العمل فيه فكان العمل ثابتاً في الذمّة لا بدّ من الخروج عن عهدته ولو بعد الموت إمّا بأداء نفسه أو بدله حسب الاختلاف بين موردي التقييد بالمباشرة وعدمه ، ولا موجب للانفساخ بعروض الموت.

٣٧٠

[٣٣٤١] مسألة ١٢ : يجوز استئجار الشاة للبنها والأشجار للانتفاع بأثمارها والآبار للاستقاء ونحو ذلك ، ولا يضرّ كون الانتفاع فيها بإتلاف الأعيان ، لأنّ المناط في المنفعة هو العرف (١) ، وعندهم يعدّ اللبن منفعةً للشاة ، والثمر منفعةً للشجر ، وهكذا ، ولذا قلنا بصحّة استئجار المرأة للرضاع وإن لم يكن منها فعل بأن انتفع بلبنها في حال نومها أو بوضع الولد في حجرها وجعل ثديها في فم الولد من دون مباشرتها لذلك. فما عن بعض العلماء من إشكال الإجارة في المذكورات لأنّ الانتفاع فيها بإتلاف الأعيان ، وهو خلاف وضع الإجارة لا وجه له (*).

______________________________________________________

(١) قدّمنا شطراً من الكلام حول هذه المسألة في المسألة السابعة.

وقد تصدّى (قدس سره) هاهنا لدفع الإشكال عن صحّة الإجارة في أمثال هذه الموارد ممّا تكون المنفعة عيناً خارجيّة كاللبن والثمر والماء في استئجار الشاة أو الشجر أو البئر للانتفاع بهاتيك الأعيان.

وملخّص الإشكال : أنّ شأن الإجارة إنّما هو تمليك المنفعة في مقابل البيع الذي هو لتمليك العين ، فالالتزام بملكيّة العين في هذه الموارد مخالف لما استقرّ عليه وضع الإجارة ومنافٍ للأثر المرغوب منها ، فكيف ينطبق عليها عنوان الإيجار؟! فعالج المشكلة بأنّ العبرة في تشخيص المنفعة إنّما هو بالصدق العرفي ، ولا شكّ أنّ هذه الأعيان تعدّ لديهم منافع لتلك الأعيان المستأجرة ، فيرون اللبن

__________________

(*) بل له وجه وجيه بالنسبة إلى الأعيان الموجودة من المنافع. نعم ، لا بأس بالإجارة بالإضافة إلى ما يتكوّن منها فيما بعد.

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

منفعة للشاة ، والثمر للشجر ، وهكذا ، فلا يقدح كونها عيناً بعد عدّها من المنافع عرفاً.

وهذا الجواب كما ترى محطّ نظر ، بل منع ، فإنّ للمنفعة إطلاقين كلاهما عرفيّان :

أحدهما : ما يقابل الخسران ويرادف الربح وما يستفيده الإنسان في تجارة ونحوها ، وبهذا الاعتبار ينطبق على الأعيان ، فلو باع داره وربح كذا يقال : إنّ الألف ديناراً مثلاً منفعة هذا البيع ، أو إنّ الألف منافعه في هذه السنة.

ومنه إطلاق المنفعة على الأعيان المزبورة أعني : اللبن والثمر والماء ونحوها فإنّه متّخذ من هذا الإطلاق ، وهو صحيح لا يعتريه الإنكار.

ثانيهما : ما يقابل العين ، وهو المراد من تفسيرهم الإجارة بتمليك المنفعة في قبال تفسير البيع بتمليك العين ، فالمنفعة لدى وقوعها في مقابلة العين يراد بها الأعمال أو ما يكون من قبيل العوارض كالسكنى والركوب ونحوهما ممّا لا يكون من قبيل الأجسام والأعيان الخارجيّة.

إذن فلا تصحّ إجارة الشجر بلحاظ ما عليه من الثمر ، لعدم كونه منفعة له بهذا المعنى وإن كان نفعاً بمقتضى الإطلاق الأوّل الأجنبي عمّا نحن بصدده ، فلو أُريد نقل الثمر الموجود على الشجر لم يكن بدّ من التصدّي لعقد آخر من بيع أو صلح ونحوهما ، وإلّا فالإجارة غير وافية بهذا الهدف بعد أن لم تكن صادقة على المقام.

إذن فالإشكال المزبور وجيه جدّاً ، بل لا مدفع عنه ولا محيص عن الإذعان به بالنسبة إلى الأعيان الموجودة من المنافع حال العقد ، كإجارة الشجر للثمر الموجود فيه ، أو الشاة للّبن المحتلب خارجاً ، وهكذا ، فإنّ هذا من تمليك العين وبمعزل عن عنوان الإجارة كما ذكر.

٣٧٢

[٣٣٤٢] مسألة ١٣ : لا يجوز الإجارة لإتيان الواجبات (*) العينيّة كالصلوات الخمس (١) ،

______________________________________________________

نعم ، لا بأس بالإجارة بلحاظ ما سيتكوّن فيها فيما بعد أعني : تمليك حيثيّة الاستعداد وقابليّة الإنتاج فإنّ للشجر مثلاً حيثيّتين : إحداهما ذاتيّة وهي كونه جسماً من الأجسام ، والأُخرى عرضيّة وهي صلاحيّته لأن يخرج منه الثمر ، ولمالك الشجر تمليك هذه الحيثيّة للغير بالإيجار ، فإنّها منفعة قائمة بالعين وليست بنفسها من الأعيان ، غير أنّ هذه الملكيّة تستتبع ملكيّة عين أُخرى لدى تحقّقها وتكوّنها أعني : الثمر فالمؤجر لم يملك الثمر ، بل هو أيضاً لم يكن مالكاً له قبل وجوده ، وإنّما ملك الحيثيّة القائمة بالشجر التي من شأنها أنّ من يملكها فهو يملك بالتبع العين المستخرجة منها والمتحصّلة بسببها ، كما مثّلنا له بإيجار آلة الصيد كالشبكة المنصوبة لصيد السمك مثلاً التي من شأنها ملكيّة كلّ سمكة تقع فيها ، فالمملوك بالإجارة إنّما هو هذه الحيثيّة لا الثمر ولا اللبن ولا السمك ، فلم تتعلّق الملكيّة إلّا بالمنفعة ، وملكيّة العين تابعة لهذه الملكيّة ، فلا إشكال.

وبالجملة : يفصّل بين الأعيان الموجودة وغير الموجودة حال العقد ، وتصحّ الإجارة بلحاظ الثاني دون الأوّل ، فلا تغفل.

(١) ينبغي أوّلاً تحرير محلّ النزاع :

فنقول : إنّ محلّ الكلام في المقام ما إذا لم يثبت من الخارج بناء العمل على

__________________

(*) وجوب الشي‌ء كفائيّاً عينيّاً لا ينافي جواز أخذ الأُجرة عليه ما لم يثبت من الخارج لزوم الإتيان به مجّاناً ، كما ثبت في كثير من المذكورات في المتن ، بل في جميعها على الأحوط.

٣٧٣

والكفائيّة كتغسيل الأموات وتكفينهم والصلاة عليهم ، وكتعليم القدر الواجب من أُصول الدين وفروعه ، والقدر الواجب من تعليم القرآن كالحمد وسورة منه ، وكالقضاء والفتوى ونحو ذلك ، ولا يجوز الإجارة على الأذان. نعم ، لا بأس بارتزاق القاضي والمفتي والمؤذّن من بيت المال ، ويجوز الإجارة لتعليم الفقه والحديث والعلوم الأدبيّة وتعليم القرآن ما عدا المقدار الواجب ونحو ذلك.

______________________________________________________

صدوره على صفة المجّانيّة ، وإلّا فلا كلام في عدم جواز أخذ الأُجرة عليه ، وهذا كما في الأذان على ما سبق البحث عنه في محلّه ، وكذلك تجهيز الميت من غسله وكفنه ودفنه ، فإنّ دعوى كونه من هذا القبيل غير بعيدة ، وأنّه يعلم من الخارج ومن بعض الروايات أنّ هذا حقّ من حقوق المؤمن على أخيه المؤمن اعتبره الشارع مجّاناً وألغى ماليّته.

وبالجملة : فما أُحرز لزوم حصوله مجّاناً سواء أكان واجباً كالتجهيز أم مستحبّاً كالأذان لم يجز أخذ الأُجرة عليه البتّة ، ومثله خارج عن محلّ الكلام.

كما أنّ محلّ الكلام ما إذا كان العمل المستأجر عليه ذا منفعة عائدة إلى المستأجر لتتّصف الإجارة بكونها عقلائيّة وتندرج تحت أدلّة الوفاء بالعقد مع الغضّ عن كونه واجباً وإلّا لأصبح من اللغو العبث اعتبار ملكيّة المستأجر لما لا يستفيد منه أبداً ، سواء أكان واجباً عباديّاً أم لا ، كأن يستأجره لأن يأكل أو ينام ونحو ذلك ممّا لا ينتفع منه المستأجر ولا يرتبط به بوجه ، فإنّ مثل هذه المعاملة باطلة في حدّ ذاتها.

وبالجملة : فلا بدّ من فرض استجماع شرائط الصحّة من سائر الجهات ما عدا حيثيّة وجوبه أو عباديّته ، ليتمحّض البحث في المقام في التكلّم من هذه

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الناحية فحسب.

إذا عرفت هذا فنقول : يقع الكلام :

تارةً : في أخذ الأُجرة على الواجب من جهة وجوبه ، وأنّ هذه الحيثيّة هل تمنع عن أخذ الأُجرة ، أو لا؟

وأُخرى : من جهة اعتبار قصد القربة فيه ، وأنّ حيثيّة العباديّة سواء أكان العمل العبادي واجباً أم مستحبّاً هل تجتمع مع أخذ الأُجرة ، أم أنّها تضادّه وتنافيه؟ فلو ثبت التضادّ لم يكن إذن فرق بين الواجب والمستحبّ وشملهما الحكم بمناط واحد.

فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في أخذ الأُجرة على الواجب بما هو واجب مع الغضّ عن عباديّته.

وقد نُسِبَ إلى المحقّق الثاني دعوى الإجماع على عدم الجواز (١) ، مستشكلاً على فخر المحقّقين حيث إنّه نسب إلى الأصحاب التفصيل بين الواجب العيني والكفائي (٢) ، حسبما نقل شيخنا الأنصاري (قدس سره) عبارته في كتاب المكاسب معترضاً عليه بأنّ الفخر أعرف بكلمات الأصحاب ومقاصدهم (٣).

وكيفما كان ، فالظاهر عدم ثبوت الإجماع في المقام ، وعلى تقدير ثبوته فلم يكن إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) بعد وضوح مدرك المسألة وما استند إليه القوم ممّا ستعرف ، كما نصّ عليه الشيخ الأعظم (قدس سره) أيضاً ، فالتعويل على الإجماع والحالة هذه كما ترى.

__________________

(١) جامع المقاصد ٧ : ١٨١ ـ ١٨٢.

(٢) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٣) المكاسب ٢ : ١٣٤.

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إذن فلا بدّ من اتّباع دليل آخر ، وقد استُدلّ بعدّة (١) وجوه بعضها واضح الدفع وغير قابل للتعرّض ، والعمدة منها وجوه ثلاثة :

أحدها : ما ذكره الشيخ (قدس سره) من أنّ إيجاب العمل يستوجب صيرورته ملكاً لله سبحانه ، وما كان مملوكاً للغير ولو كان هو الله سبحانه لا يجوز تمليكه من شخص آخر ، إذ المملوك الواحد لا يملكه على سبيل الاستقلال إلّا مالك واحد كما هو ظاهر (٢).

ويندفع : بأنّه إن أُريد من ملكيّته سبحانه إلزامه بالعمل واستحقاق العقاب على مخالفته فمنافاته مع التمليك من شخص آخر بحيث تكون له المطالبة أيضاً بما أنّه مالك أوّل الدعوى ، فهذه مصادرة واضحة.

بل لا ينبغي التأمّل في أنّ وجوب الشي‌ء من حيث هو لا يمنع عن تعلّق حقّ الغير به بحيث يستحقّ المطالبة أيضاً.

ومن ثمّ لم يستشكل أحد من الفقهاء فيما نعلم في جواز جعل الواجب شرطاً في ضمن العقد وإلزام المشروط عليه بالوفاء به ، فلا تنافي بين الوجوب وبين المملوكيّة للغير.

وإن أُريد به الملكيّة التكوينيّة أعني : إحاطته التامّة لعامّة الأشياء وأنّه مالك لكلّ موجود فمن البديهي عدم التنافي بين هذه الملكيّة وبين الملكيّة الاعتباريّة المجعولة لشخص آخر ، فإنّ المباحات أيضاً وكلّ ما يفرض في العالم من الممكنات فهي تحت قدرته وسلطنته ، وهو مالك الملوك ، فلا فرق بين الواجبات وغيرها من هذه الجهة.

وإن أُريد به الملكيّة الاعتباريّة فهي غير قابلة للذكر وواضحة الاندفاع.

__________________

(١) أنهاها شيخنا المحقّق في كتاب الإجارة ص ١٧٥ إلى وجوهٍ سبعة.

(٢) المكاسب ٢ : ١٣٠.

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيها : ما ذكره الشيخ (قدس سره) أيضاً من أنّ العمل إذا كان واجباً على الأجير جاز مطالبته ، بل إلزامه وإجباره بإيقاعه ولو من غير رضاه حتى قبل وقوعه مورداً للإجارة ، لفرض وجوبه عليه شرعاً ، ومعه كيف تصحّ الإجارة وما هي فائدتها والأثر المترتّب عليها من هذه الجهة لكي يعتبر المستأجر مالكاً للعمل (١)؟! وأنت خبير بأنّ هذا الوجه واضح الاندفاع وإن ذكره الشيخ (قدس سره) ، فإنّ الإجبار من الأوّل وإن كان ثابتاً فيما إذا كان العمل واجباً عيناً وتعييناً ، إلّا أنّه حقّ نوعي من باب الأمر بالمعروف ثابت لعامّة المكلّفين لدى استجماع الشرائط ، لا حقّ شخصي من باب المطالبة بالملك القابل لعرضه على المحاكم الشرعيّة والقانونيّة ، فالمطالبة بما أنّه مالك لا بما أنّه آمر بالمعروف لا تثبت إلّا بالإجارة.

ثالثها : ما ذكره شيخنا الأُستاذ (قدس سره) ، وحاصله : أنّه لا ريب في اعتبار القدرة في متعلّق الإجارة ، وبما أنّها متقوّمة بالطرفين أي له أن يفعل وأن لا يفعل فكما أنّ التحريم الشرعي سالب لها من ناحية الفعل ومن ثمّ لا تصحّ الإجارة على المحرّمات ، فكذلك الإيجاب الشرعي سالب لها من ناحية الترك ، فلا تصحّ الإجارة على الواجبات أيضاً بعين المناط ، لما عرفت من تقوّم القدرة وتعلّقها بالطرفين ، فلا الحرام مقدور شرعاً الذي هو في قوّة الممنوع عقلاً ، ولا الواجب بملاك واحد ، فإذا كان الأجير مسلوب القدرة فلا جرم كانت الإجارة باطلة.

ويندفع : بأنّ القدرة المفسّرة بتساوي الطرفين لم ينهض أيّ دليل على اعتبارها في صحّة الإجارة.

__________________

(١) المكاسب ٢ : ١٣١ ـ ١٣٥.

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن ثمّ ساغ جعل الواجب شرطاً في ضمن العقد مع أنّ القدرة معتبرة في الشروط أيضاً ، وكذلك النذر والعهد واليمين فإنّها تتعلّق بالواجبات مع اعتبار القدرة في متعلّقاتها بلا إشكال ، ولم يحتمل أحدٌ بطلان النذر المتعلّق بالواجب.

وإنّما المعتبر في صحّة الإجارة : القدرة بمعنى التمكّن من التسليم خارجاً عقلاً وشرعاً ، فإذا لم يتمكّن عقلاً بطلت ، لعدم اعتبار الملكيّة العقلائيّة بالإضافة إلى غير المقدور ، وكذلك شرعاً فيما إذا كان حراماً ، لعجزه عن التسليم حينئذٍ ، بخلاف ما إذا كان واجباً ، لقدرته عندئذٍ على التسليم عقلاً كما هو واضح ، وكذا شرعاً فإنّه بأمره يؤكّد التسليم والإتيان خارجاً لا أنّه يمنع عنه.

نعم ، القدرة بالمعنى المتقدّم أعني : تساوي الطرفين مفقودة ، لكن لا دليل على اعتبارها بهذا المعنى حسبما عرفت.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : عدم استقامة شي‌ء من الوجوه التي استدلّ بها على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجبات.

وعلى تقدير التنازل وتسليم دلالة شي‌ء منها أو جميعها ، أو الإذعان بقيام الإجماع التعبّدي ، فإنّما يستقيم البطلان فيما إذا كان العمل المستأجر عليه واجباً تعيينيّاً على الأجير ، فلا مانع من صحّة الإيجار المتعلّق بأحد الفردين فيما إذا كان الواجب تخييريّاً ، لوضوح تغاير المتعلّقين ، فإنّ الواجب إنّما هو الجامع بين الفردين ، ومورد الإجارة خصوص أحدهما المباح اختياره للمكلّف ، فلم يكن من أخذ الأُجرة على الواجب ولا ينسحب إليه شي‌ء من وجوه المنع المتقدّمة كما لا يخفى.

كما لا مانع من صحّته فيما إذا كان الواجب كفائيّاً ، لأنّ موضوع الوجوب إنّما هو طبيعي المكلّف كما أنّ متعلّقه هو الطبيعي في الواجب التخييري لا

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

خصوص هذا الفرد ، ومن ثمّ يسقط التكليف بامتثال واحد وإن أثم الكلّ بترك الجميع ، فالشخص بما هو شخص لا يجب عليه شي‌ء ، فلا مانع له من أخذ الأُجرة.

كما لا مانع من صحّته أيضاً في الواجب العيني التعييني فيما إذا كانت له أفراد طوليّة أو عرضيّة وقد وقعت الإجارة على اختيار صنف خاصّ منها ، لما عرفت من تعلّق الوجوب بالجامع ، وكون المكلّف مخيّراً في التطبيق على أيّ منها شاء بالتخيير العقلي لا الشرعي والمفروض تعلّق الإجارة بحصّة خاصّة ، فحصل التغاير بين المتعلّقين ولم يجتمعا في مورد واحد ، فينحصر مورد الإشكال بما إذا كان الواجب عينيّاً تعيينيّاً وكان متعلّق الإجارة هو متعلّق الوجوب على سعته ، أو بما إذا لم يكن له فرد إلّا ما تعلّقت به الإجارة. وهذا نادر التحقّق جدّاً ، بل هو نادر في نادر.

فالصحيح أنّه في كلّ مورد علم من مذاق الشرع لزوم صدور العمل على صفة المجّانيّة كما عرفت في الأذان ولا يبعد في التجهيز ، بل هو كذلك في الإفتاء والقضاء ، حيث إنّ الظاهر أنّهما من شؤون تبليغ الرسالة وقد قال الله تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) (١) إلخ ، فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه ، وإلّا ساغ عملاً بعمومات صحّة الإجارة السليمة عمّا يصلح للتخصيص حسبما عرفت.

المقام الثاني : في منافاة أخذ الأُجرة لقصد القربة وحيثيّة العبادة ، سواء أكان العمل المستأجر عليه واجباً أم مستحبّاً.

قد يقال بذلك ، نظراً إلى أنّ حيثيّة العباديّة والاتّصاف بالمقرّبيّة يستدعي الانبعاث عن أمر إلهي ومحرّك قربي وبداعي الامتثال عن نيّة خالصة ، فالإتيان بداعي أخذ المال واستحقاق الأُجرة يضادّ عنوان العبادة وينافيه كما في سائر

__________________

(١) الأنعام ٦ : ٩٠.

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الدواعي المنضمّة إلى قصد الأمر.

وبالجملة : يعتبر في العبادة أن يكون المحرّك نحو العمل هو الداعي الإلهي على سبيل الاستقلال ، ولا يصحّ ضمّ داعٍ آخر فضلاً عن أن يكون مستقلا في الدعوة في عرض داعي القربة ، لمنافاته للخلوص المعتبر في صحّة العبادة.

والجواب عن هذا لعلّه ظاهر ، إذ لا ينبغي التأمّل في أنّ استحقاق الأُجرة أو جواز أخذها وكذا التصرّف فيها كلّ ذلك من آثار الملكيّة المتحقّقة بنفس العقد من دون مدخليّة لصدور العمل الخارجي في ترتيب شي‌ء من هذه الآثار ، فإنّ عقد الإجارة بعد ما افترض وقوعه صحيحاً استحقّ كلّ من الطرفين ما ملّكه للآخر من اجرة أو عمل ، وساغ له الأخذ لو أعطاه ، كما جاز تصرّفه فيه ، فإنّه من تصرّف المالك في ملكه ، ولا يناط شي‌ء من هذه الأحكام بتحقّق العمل المستأجر عليه خارجاً ، غاية الأمر أنّ للمستأجر الفسخ لو لم يتحقّق.

إذن فلا يكون الداعي على إيجاد العمل والباعث على إتيانه استحقاق الأُجرة لثبوته في مرتبة سابقة ، وإنّما الداعي والمحرّك هو وجوب الوفاء بالعقد وتسليم ما يملكه الغير إلى مالكه ، ودفع مال الغير إلى صاحبه ، ونتيجة ذلك : أنّ العبادة الواقعة مورداً للإجارة تعرضها صفة الوجوب لو لم تكن واجبة في نفسها ، وإلّا فيتأكّد وجوبها التعبّدي بالوجوب التوصّلي الناشئ من قبل الإجارة من غير أن يعارضها الوقوع في حيّز الإجارة لو لم يكن معاضداً لها.

وبالجملة : توهّم التنافي نشأ من تخيّل أنّ الداعي على العمل هو أخذ المال ، وليس كذلك ، لجواز أخذه بل ومطالبته ولو من غير حقّ من دون أن يعمل أصلاً ، بأن يخبر كذباً أنّه قد فعل أو يعمل باطلاً حتى إذا كان بمرأى من المستأجر ومسمع ، بأن يأتي بصورة الصوم أو الصلاة أو الحجّ من دون نيّة ، أو أن ينوي قضاءً عن نفسه أو عن أبيه ، لعدم السبيل لاستعلام الضمير وما ينويه

٣٨٠