موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

لعدم ارتفاع الغرر بالوصف ، ولذا لا يصحّ السلم فيها. وفيه : أنّه يمكن وصفها على وجهٍ يرتفع ، فلا مانع منها إذا كان كذلك.

[٣٣٣١] مسألة ٢ : يجوز استئجار الأرض لتعمل مسجداً (*) ، لأنّه منفعة محلّلة (١) وهل تثبت لها آثار المسجد من حرمة التلويث ودخول الجنب والحائض ونحو ذلك؟ قولان ، أقواهما العدم. نعم ، إذا كان قصده عنوان المسجديّة لا مجرّد الصلاة فيه وكانت المدّة طويلة كمائة سنة أو أزيد لا يبعد ذلك ، لصدق المسجد عليه حينئذ.

______________________________________________________

يرتفع بها الغرر ، فكما يجوز في العين الخارجيّة يجوز في الكلّي أيضاً بمناطٍ واحد. فلا موقع للاستشكال في ذلك.

(١) ينبغي التكلّم :

تارة : فيما لو كان المقصود من الاستئجار المزبور مجرّد كون الأرض معبداً ومحلّاً للصلاة من غير قصد كونه مسجداً.

وأُخرى : مع قصد التلبّس والاتّصاف بهذا العنوان.

أمّا الأوّل : فلا ينبغي الشكّ في صحّة الإجارة وجواز العمل المذكور ، لأنّه كما ذكره من المنافع المحلّلة ، كما يجوز أن يجعل ملك نفسه كذلك أي معبداً ومصلّى ، أو مسكناً للزوّار ، أو لغير ذلك من وجوه البرّ والخير كما هو واضح.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم جريان أحكام المسجد حينئذٍ عليه ، لأنّه مجرّد معبد محض ، وليس بمسجد حسب الفرض ، فلا موقع لتوهّم جريان تلك

__________________

(*) فيه إشكال بل منع ، نعم يجوز استئجارها مدّة معيّنة لجعلها مصلّى أو معبداً ، ولا تجري عليها أحكام المسجد بذلك.

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

الأحكام الخاصّة التي موضوعها عنوان المسجد ، لا كلّ ما يمكن أن يتقرّب فيه إلى الله تعالى ، فلا مجال للتردّد في ذلك أبداً ، بل ينبغي القطع بالعدم.

وأمّا الثاني : فعلى تقدير صحّة الإجارة وجواز جعل الأرض المستأجرة مسجداً مدّة الإجارة فلا ينبغي الشكّ في جريان أحكام المسجد حينئذٍ ، لعدم قصور في شمول الإطلاقات ، فإنّ هذا مسجد حسب الفرض ولا يجوز تنجيس المسجد ولا دخول الجنب وهكذا ، فبعد ضمّ الصغرى إلى الكبرى تترتّب الأحكام بلا كلام.

إلّا أنّ الإشكال في صحّة مثل هذا الإيجار وجواز الجعل المزبور ، والظاهر العدم ، نظراً إلى أنّ عنوان المسجد المساوق لعنوان كون هذا المكان لله وبيتاً من بيوته سبحانه ليس كبقيّة الأوقاف التي قد تكون ملكاً لجهة أو لجماعة ، بل هو عنوان التحرير ، نظير العتق في الإنسان ، وهذا شي‌ء يعتبر فيه الدوام والتأييد ولا يكاد يجتمع مع التوقيت الملحوظ في مورد الإجارة ، ولذلك لا تزول الوقفيّة بخراب المسجد ، بخلاف بقيّة الأوقاف المعنونة بعناوين خاصّة ، فإنّها تزول بزوال العنوان وترجع الرقبة إلى ملك الواقف.

وهذا مضافاً إلى كونه أمراً مغروساً ومرتكزاً في أذهان عامّة المتشرّعة يمكن استفادته من بعض الأدلّة الأُخرى أيضاً. ففي الآية المباركة (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١) ، وظاهره أنّ المسجد مختصّ به تعالى وبيت من بيوته ، فإذا كان ملكاً له سبحانه فلا يكون بعد ذلك ملكاً لأحد ، إذ لا يكون مؤقّتاً بوقت ولا محدوداً بحدّ.

وقد روى الحميري في قرب الإسناد بسند معتبر عن الحسين بن علوان ،

__________________

(١) الجنّ ٧٢ : ١٨.

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عن جعفر ، عن أبيه «أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : من تصدّق بصدقة فردّت عليه فلا يجوز له أكلها ، ولا يجوز له إلّا إنفاقها ، إنّما منزلتها بمنزلة العتق لله ، فلو أنّ رجلاً أعتق عبداً لله فردّ ذلك العبد لم يرجع في الأمر الذي جعله لله ، فكذلك لا يرجع في الصدقة» (١).

ونحوها ما رواه الشيخ بسنده الصحيح عن طلحة بن زيد ، عن جعفر ، عن أبيه (عليه السلام) «قال : من تصدّق بصدقة ثمّ ردّت عليه فلا يأكلها ، لأنّه لا شريك لله عزّ وجلّ في شي‌ء ممّا جعل له ، إنّما هو بمنزلة العتاقة لا يصلح ردّها بعد ما يعتق» (٢).

وهما كما ترى واضحتا الدلالة على أنّ ما جعل لله فليس فيه رجوع ، ولا ريب أنّ من أبرز مصاديقه جعل المكان مسجداً ، فالمسجديّة لا بدّ وأن تكون أبديّة ، ولا يجرى فيها التوقيت كما لا يجوز فيها التخصيص بجماعة كعشيرته دون أُخرى ، إذ المساجد لله ، فلا تختصّ بأحد ، ولعلّ هذا هو المتسالم عليه بينهم كما عرفت.

ولا يفرق الحال في ذلك بين كون الزمان المؤقّت فيه قليلاً كيوم أو يومين ، أو كثيراً كمائة سنة المذكورة في المتن ، فإنّ عنوان المسجد إن كان قد أُخذ فيه الدوام والتأييد كما هو الظاهر ممّا دلّ على أنّ المساجد لله وأنّ ما كان لله لا رجوع فيه ، وأنّ حاله حال العتق مضافاً إلى الارتكاز حسبما عرفت فلا يجوز التوقيت حينئذٍ من غير فرق بين طول الزمان وقصره بمناط واحد.

وإن لم يؤخذ فيه ذلك وبنينا على أنّ عنوان المسجد كعنوان المعبد قابل

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٤٢٢ / أبواب الصدقة ب ٢٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١٩ : ٢٠٥ / كتاب الوقوف والصدقات ب ١١ ح ٣ ، التهذيب ٩ : ١٥٢ / ٦٢٢.

٣٤٣

[٣٣٣٢] مسألة ٣ : يجوز استئجار الدراهم والدنانير للزينة أو لحفظ الاعتبار أو غير ذلك من الفوائد التي لا تنافي بقاء العين (١).

______________________________________________________

للتوقيت لم يكن فرق أيضاً بين الأمرين ، فتفصيل الماتن بينهما لم يعرف له وجه صحيح.

وقد عرفت أنّ الأظهر هو الأوّل المتسالم عليه بينهم ظاهراً حسبما هو مذكور في أحكام المساجد من كتاب الطهارة (١).

وعليه ، فتكون مثل هذه الإجارة باطلة ، لعدم قابليّة الأرض لتلك المنفعة المؤقّتة.

(١) لكون العبرة في الصحّة باشتمال العين المستأجرة على المنفعة المحلّلة القابلة للاستيفاء خارجاً ، المنطبق عليهما بلحاظ ما ذكر من المنفعتين ونحوهما.

هذا ، وقد ذكر جماعة بطلان وقف الدرهم والدينار ، كما ذكر جماعة أُخرى عدم ضمان الغاصب لهما للمنافع وأنّه لا يجب عليه ما عدا ردّ العين ، فربّما يتخيّل منافاة ذلك لصحّة الإجارة بلحاظ ما ذكر من المنفعتين.

ويندفع : بابتناء الوقف على اشتمال العين على المنافع الغالبة المتعارفة بحيث يتحقّق معها تحبيس العين وتسبيل المنفعة ، ولا شكّ أنّ الدرهم والدينار فاقدان لمثل ذلك ، لتوقّف الانتفاع بهما غالباً على الصرف والإعدام خارجاً. كما أنّ ضمان المنافع أيضاً كذلك ، فإنّ العبرة فيها بالمنافع العاديّة المتعارفة العقلائيّة بحيث يصدق عرفاً أنّها تلف تحت اليد ، أو أنّ الغاصب أتلفها على المالك.

وأمّا المنافع النادرة الاتّفاقيّة التي ربّما تمسّ الحاجة إليها أحياناً كالمنفعتين

__________________

(١) شرح العروة ٦ : ٣٣٤ ، ٣٣٥.

٣٤٤

[٣٣٣٣] مسألة ٤ : يجوز استئجار الشجر لفائدة الاستظلال ونحوه (١) كربط الدابّة به أو نشر الثياب عليه.

______________________________________________________

المزبورتين أعني : التزيين وحفظ الاعتبار فليست هي مناطاً لا للضمان ولا للوقف ، فمن ثمّ لا يجريان في مثل الدرهم والدينار كما أُفيد.

وأمّا الإجارة فمناط صحّتها الاشتمال على المنفعة المحلّلة ولو كانت نادرة وغير متعارفة ، أخذاً بإطلاق الأدلّة.

إذن فعدم صحّة الوقف أو عدم ضمان المنافع أجنبي عن محلّ الكلام ، ولا موجب لقياس المقام بهما بعد اختلاف المناطين.

ومن ثمّ لو فرض قيام التعارف في قطر أو بلد على التزيين بهما أو الاقتناء لحفظ الاعتبار لم يكن مانع ثمّة من الالتزام بصحّة الوقف ، بل الحكم بالضمان أيضاً ، كما هو الحال في المصوغ منهما ممّا يتعارف لبسه للنساء كالحليّ ، حيث يحكم حينئذٍ بضمان المنافع بعد أن كانت العين مشتملة على المنفعة المحلّلة المتعارفة.

وعلى الجملة : فصحّة الإجارة لا يعتبر فيها إلّا وجود منفعة قابلة للاستيفاء ولو لحاجة شخصيّة ، وحيث فرض وجودها في المقام كما ربّما يتّفق في زماننا أيضاً بالنسبة إلى المسافرين في بعض الأوقات فلا مانع من الالتزام بصحّة الإجارة.

(١) لكونها من المنافع المحلّلة القابلة للتمليك بعوض ، ومنه يظهر الحال في المسألة الآتية.

فإن قلت : كيف تصحّ الإجارة بناءً على جواز الاستظلال بشجر الغير أو حائطه بدون إذنه؟

قلت : يمكن فرض المسألة فيما لو بادر المالك في الاستظلال بحيث لم يبق

٣٤٥

[٣٣٣٤] مسألة ٥ : يجوز استئجار البستان لفائدة التنزّه (١) ، لأنّه منفعة محلّلة عقلائيّة.

[٣٣٣٥] مسألة ٦ : يجوز الاستئجار لحيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش والاستقاء (٢) ، فلو استأجر من يحمل الماء له من الشطّ مثلاً ملك ذلك الماء بمجرّد حيازة (٣) السقاء ،

______________________________________________________

مجال لاستظلال غيره وهو بحاجة إليه في تلك الساعة ، أو لو أراد المالك قطع الشجرة فطالب منه المستأجر عدم القطع لكي يستظلّ بها ، فيصحّ ما في المتن ولو في الجملة وبنحو الموجبة الجزئيّة.

(١) كما عرفت آنفاً.

(٢) ونحوها الاصطياد وغيره ممّا يتحقّق به الاستيلاء على شي‌ء من المباحات الأصليّة.

ورتّب عليه ، أنّه إذا حاز الأجير كان المحوز ملكاً للمستأجر بحيث لو أتلفه متلف بعد الحيازة وقبل الإيصال ضمن قيمته للمستأجر.

هذا ، واستقصاء الكلام في المقام يستدعي التكلّم في جهات :

(٣) الجهة الاولى : في صحّة مثل هذه الإجارة في نفسها ، وأنّ الحيازة هل تملّك بالإجارة كي يترتّب عليه ما ذكره من أنّ المتلف لو أتلفه يكون ضامناً للمستأجر دون الحائز؟

استشكل فيها جماعة ، ولم نجد أيّ مقتضٍ للاستشكال عدا دعوى أنّ الحيازة سبب قهري لملكيّة الحائز المباشر ، سواء أقصد التملّك لنفسه أم لغيره أم لم يقصد. وعليه ، فلا أثر للحيازة بالنسبة إلى المستأجر ولا ينتفع منها بوجه ،

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فاعتبار ملكيّتها له بالإجارة لغو محض ، فإنّه أشبه شي‌ء بأن يستأجر أحداً لكي يأكل أو ينام أو يشتري لنفسه شيئاً وغير ذلك ممّا لا يعود فيه أيّ نفع للمستأجر ويكون هو أجنبيّا عن المنفعة بالكلّيّة.

ولكنّك خبير بأنّ دعوى السببيّة القهريّة بحيث يتملّك الحائز حتى مع مملوكيّة الحيازة للغير بمراحل عن الواقع.

فإنّا لم نعثر بعد الفحص التامّ على رواية تدلّ على الملكيّة في حيازة المباحات الأصليّة ما عدا (١) رواية واحدة ، وهي معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في رجل أبصر طيراً فتبعه حتى وقع على شجرة فجاء رجل فأخذه ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : للعين ما رأت ، ولليد ما أخذت» (٢).

فالعمدة هي هذه الرواية ، مضافاً إلى السيرة العقلائيّة القائمة على ذلك إلى زماننا هذا ، من غير فرق بين المتشرّعة وغيرهم ، فإنّهم لا يزالون يستملكون المباحات بعد الاستيلاء عليها من غير رادع ولا منازع.

غير أنّ من الواضح الضروري أنّ مورد هذه السيرة بل الرواية ما إذا كانت الحيازة لنفس الحائز. وأمّا إذا كانت عمليّة الحيازة مملوكة للغير فكان الأخذ لذلك الغير كما هو أمر شائع متعارف بين الناس ولا سيّما في مثل الاستئجار لصيد الأسماك فإنّ بناء العرف والعقلاء مستقرّ وقتئذٍ على اعتبار ملكيّة المحوز لمالك الحيازة لا للحائز المباشر ، فيعتبرون المستأجر مالك السمكة دون صائدها.

__________________

(١) احتمل (دام ظلّه) جواز الاستدلال له بقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة ٢ : ٢٩] على تأمّل فيه ، فليتأمّل.

(٢) الوسائل ٢٣ : ٣٩١ / أبواب الصيد ب ٣٨ ح ١.

٣٤٧

فلو أتلفه متلف قبل الإيصال إلى المستأجر ضمن قيمته (١) له (*) ،

______________________________________________________

وكذلك الاستئجار للاستقاء من الشطّ أو لأخذ التراب والأحجار وحملها من البرّ.

وعلى الجملة : لم تجر السيرة العقلائيّة على ملكيّة الحائز للمحوز مطلقاً ، بل في خصوص ما إذا كانت الحيازة له دون ما إذا كانت لغيره.

وكذلك الحال في الرواية المتقدّمة (١) ، فإنّها ظاهرة في تبعيّة الملكيّة للآخذ وسببيّته لها ، وأنّ الآخذ بوصف أنّه آخذ هو المالك لا بذاته ، وحيث إنّ الأخذ في مورد الاستئجار ملك للمستأجر فلا جرم كان هو الآخذ في الحقيقة وكان المباشر بمثابة آلة محضة.

ومن ثمّ لم يشكّ أحد في أنّ ما يحوزه العبد فهو لمولاه لا لنفسه حتى على القول بأنّ العبد يملك ، نظراً إلى أنّ أفعاله ومنها الأخذ والحيازة مملوكة لمولاه.

وعليه ، فإذا لم يكن المأخوذ ملكاً للمباشر في مثل هذه الصورة المساوق لإنكار السببيّة القهريّة للحيازة لم يكن أيّ مانع من الالتزام بصحّة الإجارة بعد أن كانت للأجير منفعة محلّلة قابلة للاستيفاء حسبما عرفت.

فلا ينبغي الإشكال في صحّة الإجارة والحكم بأنّ المحوز ملك للمستأجر ، ويترتّب عليه ما ذكره في المتن من ضمان المتلف له لو أتلفه قبل الإيصال إليه ، لعدم اعتبار القبض في ملكيّته وتحقّقها بمجرّد الحيازة.

(١) لعلّه سهو من قلمه الشريف ، ضرورة أنّ الماء مثلي لا قيمي ، وإنّما يتّجه

__________________

(*) الظاهر أنّ ضمان الماء التالف بالمثل لا بالقيمة.

(١) على تأمّل في دلالتها يأتي التعرّض إليه في الجهة الثالثة.

٣٤٨

وكذا في حيازة الحطب والحشيش. نعم ، لو قصد المؤجر كون المحوز لنفسه (١) فيحتمل القول بكونه له ويكون ضامناً للمستأجر عوض ما فوّته عليه من المنفعة ، خصوصاً إذا كان المؤجر آجر نفسه على وجهٍ يكون تمام منافعه في اليوم الفلاني للمستأجر ، أو تكون منفعته من حيث الحيازة له ، وذلك لاعتبار النيّة في التملّك بالحيازة ، والمفروض أنّه لم يقصد كونه للمستأجر بل قصد نفسه ، ويحتمل القول بكونه للمستأجر ، لأنّ المفروض أنّ منفعته من طرف الحيازة له ، فيكون نيّة كونه لنفسه لغواً ، والمسألة مبنيّة على أنّ الحيازة من الأسباب القهريّة لتملّك الحائز ولو قصد الغير ، ولازمه عدم صحّة الاستئجار لها ، أو يعتبر فيها نيّة التملّك ودائرة مدارها ، ولازمه صحّة الإجارة وكون المحوز لنفسه إذا قصد نفسه وإن كان أجيراً للغير ، وأيضاً لازمه عدم حصول الملكيّة له إذا قصد كونه للغير من دون أن يكون أجيراً له أو وكيلاً عنه وبقاؤه على الإباحة ،

______________________________________________________

ضمان القيمة في مثل الحطب والحشيش ونحوهما.

(١) الجهة الثانية : بعد ما عرفت من صحّة الإجارة فلو كان أجيراً في عامّة المنافع أو خصوص منفعة الحيازة فخالف وحاز لنفسه ، فهل يكون المحوز له ، ويضمن للمستأجر قيمة ما أتلفه عليه من منفعة الحيازة المملوكة له نظراً إلى أنّه يعتبر في التملّك بالحيازة قصد التملّك وحيث لم يقصد إلّا نفسه فلا جرم كان المحوز له؟

أو أنّه يكون للمستأجر باعتبار أنّه هو المالك للحيازة بمقتضى الإجارة فيلغو نيّة كونه للحائز نفسه؟

٣٤٩

إلّا إذا قصد بعد ذلك كونه له ، بناءً على عدم جريان التبرّع في حيازة المباحات والسبق إلى المشتركات وإن كان لا يبعد جريانه ، أو أنّها من الأسباب القهريّة لمن له تلك المنفعة ، فإن لم يكن أجيراً يكون له وإن قصد الغير فضولاً ، فيملك بمجرّد قصد الحيازة ، وإن كان أجيراً للغير يكون لذلك الغير قهراً وإن قصد نفسه أو قصد غير ذلك الغير ، والظاهر عدم كونها من الأسباب القهريّة مطلقاً. فالوجه الأوّل غير صحيح ، ويبقى الإشكال في ترجيح (*) أحد الأخيرين ، ولا بدّ من التأمّل.

______________________________________________________

فيه وجهان ، وقد توقّف الماتن ولم يرجّح أحدهما على الآخر.

أقول : يقع الكلام تارةً في اعتبار قصد التملّك في حدّ نفسه ، وأُخرى في أنّه على تقدير الاعتبار فهل يعتبر أيضاً قصد من تكون الملكيّة له؟ أو أنّه يكفي في الحيازة قصد التملّك في الجملة في مقابل عدم القصد رأساً.

ربّما يقال باعتبار قصد التملّك في حيازة المباحات فلا ملكيّة بدونه ، ويستدلّ له بما ثبت بالنصّ والفتوى من أنّ من اشترى سمكة فأخرج من جوفها درّة فهي للمشتري دون البائع (١).

قالوا : إنّ في ذلك دلالة واضحة على اعتبار القصد المزبور ، وإلّا لكانت للبائع ، فإنّه الذي استخرج السمكة وحازها كيف يكون ما في جوفها للمشتري؟ بَيْدَ أنّه لمّا لم يقصد تملّك الدرّة لدى اصطياد السمكة لأجل غفلته عن وجودها وقد تملّكها المشتري المستولي عليها ، فمن ثمّ كانت ملكاً له دون البائع ، فيستكشف

__________________

(*) لا يبعد أن يكون الوجه الأخير هو الأرجح.

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٥٣ / كتاب اللقطة ب ١٠ ح ٢.

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

من ذلك اعتبار قصد التملّك في ملكيّة المباحات لدى حيازتها.

وربّما يجاب عن ذلك : بأنّ البائع قد ملك الدرّة بحيازة السمكة ولكنّه ببيعه نقل إلى المشتري تمام ما جاز وإن أخطأ في التطبيق وتخيّل أنّ تمامه هي السمكة وحدها ، فملكيّة المشتري لها لا يكشف عن اعتبار القصد المزبور بوجه.

ولكنّك خبير بما في هذا الجواب ، ضرورة أنّ البائع بعد أن لم يكن ملتفتاً إلى وجود الدرّة كيف يصحّ القول بأنّه قصد بيعها ولو تبعاً؟! بل أنّه لم يقصد إلّا بيع السمكة وحدها سيّما بعد وضوح أنّ ما في الجوف من المجهول المطلق الذي لم يعلم وجوده ولا ماهيته ، فكيف يمكن القول بأنّه ملّك المشتري تمام ما حازه؟! كما أنّ المشتري لم يشتر إلّا السمكة خاصّة ، فلم يتعلّق قصد للمعاملة بالإضافة إلى ما في الجوف لا من ناحية البائع ولا المشتري.

فالمقام نظير ما لو ورث من أبيه صندوقاً فيه جوهرة ثمينة لم يعلم بها فباع الصندوق بزعم أنّها فارغة ، أفهل يمكن القول بانتقال الظرف والمظروف معاً إلى المشتري بدعوى أنّه باع تمام ما ورثه مع عدم تعلّق القصد ببيع المظروف بوجه من الوجوه؟! بل الصحيح في الجواب أن يقال : إنّ النصّ المشار إليه لا دلالة فيه على اعتبار قصد التملّك ، بل قصارى ما يدلّ على اعتبار قصد الحيازة ، وبما أنّ الصائد البائع لم يعلم بما في الجوف فهو طبعاً لم يقصد حيازته ، ولا بدّ من قصد الحيازة في تملّك المباحات ، فلو استولى على مباح حال نومه فحازه لم يكف في تملّكه قطعاً ، وذاك بحث آخر غير مسألة اعتبار قصد التملّك الذي نحن بصدده.

ففرقٌ بين أن تكون الحيازة مقصودة وأن يكون التملّك مقصوداً ، وكلامنا في الثاني ، أمّا الأوّل فلعلّه لا ينبغي الاستشكال فيه وهو أجنبي عن محلّ الكلام.

وعليه ، فلا مقتضي لردّ المشتري الدرّة إلى البائع ، لعدم كونه مالكاً لها بعد

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

أن لم يكن قاصداً لحيازتها ولو لأجل غفلته عن تحقّقها ، فهي باقية بعد على إباحتها الأصليّة ، وبما أنّ المشتري استولى عليها وحازها فلا جرم كان هو المالك لها.

إذن فالظاهر عدم الدليل على اعتبار قصد التملّك في ملكيّة المباحات بالحيازة ، بل هي بنفسها بعد القصد إليها سبب قهري ولو من دون القصد المزبور.

ويرشدك إلى ذلك مضافاً إلى إطلاق معتبرة السكوني المتقدّمة (١) ملاحظة السيرة العقلائيّة ، فلو شاهد أحدٌ صيداً من طير أو غزال فتخيّل أنّه ملك زيد قد طار من وكره أو هرب من مقرّه فأخذه بقصد الردّ إلى صاحبه فظهر خطؤه وأنّه مباح لم يسبقه إليه أحد ، أفهل يحتمل التردّد في استقرار السيرة على ملكيّته له بشبهة أنّه لم يأخذه بقصد التملّك بل بقصد الردّ إلى صاحبه؟

ونحوه ما لو أخذ في طريقه شيئاً من أغصان الأشجار المباحة لا بقصد التملّك ، بل لأجل قضاء حاجته الوقتيّة في سفره من جعلها سريراً لمنامه مثلاً ثمّ طرحها في البيداء ، أفهل يمكن القول بعدم ملكيّته لها لمجرّد عدم قصد التملّك؟ فلو أخذها منه غيره لم يكن به بأس ، لبقائها على إباحتها الأصليّة ، ليس الأمر كذلك قطعاً ، بل من الضروري قيام السيرة العقلائيّة على ملكيّته لها قهراً بمجرّد قصد الاستيلاء عليها وأن تكون تحت سلطانه ولو مؤقّتاً ، سواء أقصد التملّك أيضاً أم لا.

ثمّ إنّا لو تنازلنا وسلمنا اعتبار قصد التملّك فغايته اعتبار أصل القصد في مقابل عدمه وأمّا خصوصيّة من قصد له التملّك فلا مدخل لها ولم يقم أيّ دليل على اعتبارها ، فلو حاز بقصد التملّك لابنه أو جاره أو صديقه كان ملكاً لنفس الحائز المباشر وإن لم يقصد نفسه آخذاً ، بإطلاق المعتبرة كإطلاق السيرة ،

__________________

(١) في ص ٣٤٧.

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّهما يقتضيان عدم اعتبار ذلك كما لا يخفى.

فالمقام أشبه شي‌ء بما ذكرناه تبعاً للشيخ في بحث المكاسب (١) من أنّ البيع متقوّم بمبادلة مال بمال ولا يعتبر في مفهومه قصد من يقع البيع له ، بل ينتقل الثمن إلى ملك من ينتقل عنه المثمن أيّاً من كان ، فقصد البائع أن يكون البيع لفلان أو عن نفسه أجنبي عن حريم صحّة البيع بتاتاً.

ومن ثمّ يحكم بصحّة بيع الغاصب عند تعقّبه بالإجازة من المالك ، وأنّ قصد الغاصب البيع عن نفسه لا أثر له ولا مدخل له في الصحّة ، بل هو لغو محض ، وإنّما الإجازة تتعلّق بنفس البيع.

والملكيّة في المقام شبيهة بما ذكر ، حيث إنّها تترتّب على نفس الحيازة ، أي الأخذ بقصد التملّك ، وأمّا خصوصيّة مَن قصد له فلا مدخل لها في سببيّة الحيازة ، بل مقتضى إطلاق المعتبرة والسيرة سببيّتها لملكيّة الآخذ الحائز وإن قصد غيره فإنّ هذا القصد يلغى ولا أثر له.

ونتيجة ذلك : أنّه في محلّ الكلام لا أثر لقصد من استؤجر للحيازة التملّك لنفسه ، إذ بعد أن كانت الحيازة ملكاً للمستأجر بمقتضى صحّة الإجارة فلا جرم كان هو الآخذ والحائز ، وإنّما الأجير كآلة محضة على ما سبق ، وقد عرفت تبعيّة الملكيّة للحيازة ، وبما أنّ المستأجر هو الحائز فطبعاً يكون هو المالك للمحوز ، وقصد الأجير عن نفسه يصبح لغواً محضاً.

ثمّ إنّ محلّ الكلام على ما يظهر من جملة من عباراته (قدس سره) ما إذا كان المستأجر مالكاً للحيازة الخارجيّة ، إمّا بأن يكون مورد الإجارة جميع المنافع ، أو خصوص منفعة الحيازة ، فيملك على الأجير شخص المنفعة الصادرة منه خارجاً من صيد أو احتطاب أو استقاء ونحوها كما هو المتعارف في مثل الإجارة

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٧ وما بعدها.

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

على البناية ، فيستأجره على نفس هذه المنفعة الخاصّة القائمة به في هذا اليوم مثلاً.

وأمّا لو آجر نفسه على كلّي في الذمّة ، كأن يستقي في هذا اليوم خمسين دلواً من البئر الفلانيّة ، أو يأتي بقربتين من الشطّ ، أو حملين من الحطب ، وهكذا ممّا هو كلّي طبيعي مستقرّ في الذمّة قابل للانطباق على أفراد عديدة ، فلا ينبغي الشكّ حينئذٍ في دخالة القصد في تعيين مالك المحوز ، لكون أمر التطبيق بيد الحائز المباشر بعد أن لم تكن عمليّة الحيازة مملوكة لغيره ، فله الاستقاء مثلاً لغيره وفاءً عمّا في ذمّته ، المترتّب عليه كون الماء المحوز ملكاً حينئذٍ للمستأجر ، كما أنّ له الاستقاء لنفسه قبل تفريغ ذمّته ، المترتّب عليه كون المحوز له ، وبعد ذلك إن استقى للمستأجر فهو ، وإلّا كان ضامناً من أجل تفويت مورد الإجارة ، أو أنّه يحكم ببطلانها على الخلاف المتقدّم.

وعلى الجملة : فموضوع البحث في المقام ومفروض الكلام ما إذا كانت الحيازة الخارجيّة بذاتها ملكاً للمستأجر وقد قصد الحائز التملّك لنفسه. وهذا هو الذي قلنا فيه : إنّ قصده يلغى ولا أثر له ، باعتبار أنّ الحيازة لمّا كانت ملكاً للمستأجر فما يترتّب عليه أيضاً ملك له بالسيرة العقلائيّة ، وقصد الخلاف لا قيمة له.

أمّا إذا كانت الإجارة واقعة على كلّي الحيازة الذي موطنه الذمّة ولم يقصد بفعله التطبيق ، فهو مشغول الذمّة له بالكلّي ، وأمّا هذا الفرد الخاصّ من الحيازة فهو ملك للحائز ، وما يترتّب عليه من الملك أيضاً ملك له بلا إشكال ، وليس هذا مبنيّاً على اعتبار قصد الملكيّة في الحيازة كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : قد عرفت صحّة الاستئجار لحيازة المباحات والعمدة ، في مستندها قيام السيرة العقلائيّة حسبما تقدّم.

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا معتبرة السكوني : «للعين ما رأت ولليد ما أخذت» (١) فالاستدلال بها وإن سبق منّا أيضاً لكنّه قابل للخدش ، نظراً إلى أنّها مسوقة لبيان تشخيص المالك من حيث تردّده بين من أبصر ومن أخذ ، لا من حيث تردّده بين من تقوم به الحيازة ومن تكون له ، فإنّها ليست بصدد البيان من هذه الجهة ، فلا ينعقد لها إطلاق نافع للمقام ليدلّ على أنّه المالك الآخذ وإن لم يكن مباشراً.

وبعبارة واضحة : المتعارف الخارجي في مورد الرواية تردّد الطير المتنازع فيه بين كونه لمن أبصر أو لمن أخذ ، الظاهر ولو بحكم الانصراف فيما إذا كان المباشر قد أخذه لنفسه ، فإطلاقها لما إذا كان الآخذ مملوكاً للغير بالاستئجار لتدلّ على كون المأخوذ لمالك الآخذ لا لمن يقوم به الأخذ على خلاف منصرفها كما لا يخفى.

وكيفما كان ، فتكفينا السيرة العقلائيّة سواء تمّت دلالة الرواية أيضاً أم لا ، ومقتضاها صحّة الإجارة حسبما عرفت.

الجهة الرابعة : في حكم الوكالة أو النيابة في الحيازة أو الجعالة عليها أو الأمر بها فهل يصحّ شي‌ء من ذلك كما صحّت الإجارة ويكون المحوز ملكاً للموكّل أو المنوب عنه ، أو الجاعل أو الآمر كما كان ملكاً للمستأجر ، أو لا؟

أمّا الوكالة فقد تقدّم غير مرّة أنّها لا تجري إلّا في الأُمور الاعتباريّة وما يلحق بها من القبض والإقباض.

فإنّ معنى الوكالة جعل الوكيل بمثابة الموكّل بحيث إنّ الفعل الصادر منه مستند إليه حقيقةً ومن دون أيّة عناية ، غاية الأمر أنّه صادر منه بالتسبيب لا بالمباشرة ، وهذا مطّرد في كافّة الأُمور الاعتباريّة ، فيقال لزيد الذي وكّل عمرواً

__________________

(١) المتقدمة في ص ٣٤٧.

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

في بيع داره أو طلاق زوجته : إنّ زيداً هو الذي باع داره أو طلّق زوجته وإن كان الإنشاء قائماً بغيره ، إذ لا تعتبر المباشرة في الأُمور الاعتباريّة.

وكذلك الحال في القبض والإقباض الملحقين بها ببناء العقلاء ، ومن ثمّ تفرغ ذمّة المدين بمجرّد الإقباض لوكيل الدائن ، حيث إنّ قبضه قبض الموكّل حقيقةً ومن غير أيّ مسامحة.

وأمّا غير ذلك من سائر الأُمور الخارجيّة التكوينيّة من النوم والأكل والشرب ونحوها ومنها الحيازة فلا تجري الوكالة في شي‌ء منها ، إذ لا يستند الفعل التكويني إلى غير فاعله بالمباشرة وإن قصد غيره ، فلا يقال : إنّ الموكّل هو الذي نام أو أكل ، وهكذا.

وعليه ، فالتوكيل في الصيد أو الاحتطاب وغيرهما من سائر أقسام الحيازة غير صحيح ، لعدم قبولها للوكالة.

وأمّا النيابة : فقد سبق التعرّض للفرق بينها وبين الوكالة في كتاب الزكاة (١) ، حيث قلنا بأنّ العمل في مورد النيابة قائم بنفس النائب ولا يستند إلى المنوب عنه ، فلا يقال : إنّ زيداً المنوب عنه صلّى أو حجّ حتى بنحو التسبيب ، كما كان كذلك في مورد الوكالة حسبما مرّ وبهذه العناية كانت النسبة بينهما التباين غاية الأمر أنّ نتيجة العمل ترجع إليه فتفرغ ذمّته باعتبار أنّ النائب يأتي بعمل المنوب عنه إمّا بتنزيل نفسه منزلته كما لعلّه المشهور ، أو بقصده امتثال الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بتفريغ ذمّة الغير.

وعلى أيّ تقدير فالعمل قائم بالنائب والأثر عائد إلى المنوب عنه ، نظير أداء دين الغير ، ولا شكّ أنّ هذا على خلاف مقتضى القاعدة ، يفتقر الإذعان به إلى قيام دليل قاطع ، ولم ينهض عليه أيّ دليل في مثل المقام لا من الشرع ولا

__________________

(١) شرح العروة (كتاب الزكاة ٢) : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ من المخطوط.

٣٥٦

[٣٣٣٦] مسألة ٧ : يجوز استئجار المرأة للإرضاع (١) ، بل للرضاع بمعنى

______________________________________________________

من بناء العقلاء ، بل لم يقم دليل على جواز النيابة عن الأحياء في غير باب الحجّ.

وعليه ، فلو صاد سمكة أو حاز عرصة نيابةً عن غيره لم تقع له ، إذ لا دليل على صحّة هذه النيابة ، فلا جرم تقع عن نفسه باعتبار أنّه هو الذي استولى على المباح وأخذه.

وأمّا الجعالة بأن قرّر جعلاً لمن حاز له مباحاً ، أو الأمر بالحيازة على نحوٍ يستتبع الضمان بأن لم يقصد به المجّان وإلّا فمع قصده رجع إلى استدعاء النيابة تبرّعاً ، وقد عرفت الحال فيها آنفاً فالظاهر أنّ حكمهما حكم الإجارة.

والوجه فيه : أنّ الجاعل أو الآمر وإن لم يملك على المأمور أو المجعول له شيئاً قبل تصدّيه للعمل ، إلّا أنّه بعد التصدّي والإتيان به خارجاً المستوجب لاستحقاق العامل الجعل أو اجرة المثل فالعمل المزبور يقع وقتئذٍ ملكاً له أي للجاعل أو الآمر لا محالة ، وينتج نتيجة الإجارة ، غايته أنّ الملكيّة فيها تسبّبت عن نفس العقد ، وهنا عن العمل الخارجي ، فإذا كان العمل ملكاً له كانت نتيجة العمل وما يترتّب عليه أعني : نفس المحوز ملكاً له أيضاً كما في الإجارة.

وعلى الجملة : إذا صحّت الإجارة على عمليّة الحيازة بالسيرة العقلائيّة صحّت الجعالة والأمر بمناط واحد ، ويكون ما يترتّب على هذا العمل ملكاً للجاعل أو الآمر كما كان ملكاً للمستأجر حسبما تقدّم.

(١) يقع الكلام :

تارةً : في إجارة المرأة نفسها للإرضاع. ولا ينبغي الشكّ في صحّتها ، فإنّ الإرضاع عمل محترم مرغوب فيه عند العقلاء يبذل بإزائه المال ، فتكفينا

٣٥٧

الانتفاع بلبنها وإن لم يكن منها فعل مدّة معيّنة. ولا بدّ من مشاهدة الصبي الذي استؤجرت لإرضاعه ، لاختلاف الصبيان ، ويكفي وصفه على وجهٍ يرتفع الغرر. وكذا لا بدّ من تعيين المرضعة شخصاً أو وصفاً على وجهٍ يرتفع الغرر. نعم ، لو استؤجرت على وجهٍ يستحقّ منافعها أجمع التي منها الرضاع لا يعتبر حينئذٍ مشاهدة الصبي أو وصفه. وإن اختلفت الأغراض بالنسبة إلى مكان الإرضاع ، لاختلافه من حيث السهولة والصعوبة والوثاقة وعدمها ، لا بدّ من تعيينه أيضاً.

______________________________________________________

العمومات مضافاً إلى التصريح في الكتاب العزيز ، قال سبحانه في المطلّقات (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (١).

واخرى : في استئجارها للرضاع ، وهذا يتصوّر على قسمين :

فتارةً : تؤجر نفسها للانتفاع بلبنها على سبيل الارتضاع وإن لم يصدر منها أيّ فعل خارجي ، وربّما يرتضع الصبي وهي نائمة فتقع هي مورداً للإجارة بلحاظ منفعة الارتضاع ، كوقوع الدار مورداً للإيجار بلحاظ منفعة السكنى.

ولا ينبغي الشكّ في صحّتها أيضاً ، فإنّ حيثية كون المرأة قابلة للارتضاع كحيثيّة كون الدار قابلة للسكنى منفعة محلّلة قابلة لأن تملك بالإيجار كما هو واضح.

وتارةً أُخرى : تؤجر نفسها للانتفاع بلبنها ولو بغير الارتضاع بأن يحلب اللبن فيشربه المريض أو الصبي ، نظير استئجار الأشجار للانتفاع بأثمارها والشاة بلبنها والآبار للاستقاء ونزح مياهها ونحو ذلك ممّا تكون مصاديق المنفعة أعياناً

__________________

(١) الطلاق ٦٥ : ٦.

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

خارجيّة.

وقد وقع الكلام في صحّة الإجارة في أمثال هذه الموارد حسبما سيشير إليه الماتن في المسألة الثانية عشرة الآتية.

فربّما يقال بالبطلان في جميعها ، نظراً إلى تقوّم الإجارة بتعلّق الملكيّة فيها بالمنفعة ، وبذلك تفترق عن البيع وهي قد تعلّقت في هذه الموارد بالأعيان ، فلا ينطبق عليها العنوان ، وبما أنّها غير موجودة ، بل غير معلومة كمّاً وكيفاً ، فلا يصحّ بيعها أيضاً.

أضف إلى ذلك : أنّ الانتفاع في هذه الموارد إنّما هو بإتلاف الأعيان ، ولا بدّ في الإجارة من أن تكون العين باقية ، فهي مخالفة لما استقرّ عليه وضع الإيجار.

أقول : قد ذكرنا في أوّل كتاب الإجارة (١) : أنّ ملكيّة الأعيان تستتبع ملكيّة المنافع القائمة بها وإن تأخّرت واستمرّت ، من غير فرق بين الملكيّة الأصليّة الأوّلية الناشئة من حيازة المباحات التي تنتهي إليها كافّة الأملاك ، أو الثانويّة المسبوقة بمثلها الحاصلة من سبب ناقل اختياري أو غيره من بيع أو إرث أو توالد ونحو ذلك. فكلّ من ملك عيناً فهو يملك منفعتها بتبع هذه الملكيّة. ثمّ إنّه قد يبقي العين لنفسه ويملّك المنفعة لغيره ، وقد يعكس ، وربّما يملّكهما معاً على نحو ما ملك. ومن ذلك ينتزع البيع والإجارة والبيع مسلوب المنفعة.

وكيفما كان ، فكما أنّ المنافع تتبع الأعيان في الملكيّة على ما هو الشائع الذائع ، فكذلك ربّما تنعكس فتكون ملكيّة العين تابعة لملكيّة المنفعة كما في الموارد المتقدّمة.

فإنّ من منافع الشاة مثلاً حيثيّة كونها قابلة للحلب ، كما أنّ من منافع

__________________

(١) في ص ٤.

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الأشجار حيثيّة استعدادها للإثمار ، وكذا الآبار لنزح المياه وهكذا ، وهذه الحيثيّات التي هي أعراض قائمة بذوات الأعيان المستأجرة من الشاة والشجر والبئر ونحوها تستتبع لدى استيفائها وخروجها عن القوّة والاستعداد إلى مرحلة الفعليّة أعياناً أُخر كاللبن والثمر ، ولا شكّ أنّها مملوكة لمن يملك المنفعة بتبع ملكيّته للمنفعة ، فالثمر مثلاً مملوك تبعاً لمن يملك حيثيّة أثمار الشجر الذي قد يكون هو مالك العين الاولى أعني : ذات الشجر كما في مورد البيع ونحوه ، وقد يكون غيره كما في مورد الإيجار ، فيكون الثمر حينئذٍ ملكاً للمستأجر لا المؤجر بتبع ملكيّته للمنفعة.

وهكذا الحال في سائر الأمثلة التي من جملتها الآلات المعدّة للصيد ، كما هو المتعارف من جعل الشبكة ووضعها بمثابةٍ تصلح لصيد السمكة ، فإنّ مالك الشبكة مالك لهذه المنفعة أعني : حيثيّة قابليّتها لأن يصاد بها السمك فإذا وقعت بعدئذٍ سمكة فيها فلا جرم كانت مملوكة تبعاً لمالك تلك الحيثيّة الذي ربّما يكون شخصاً آخر غير مالك ذات الشبكة ، كما لو كانت مستأجرة حسبما عرفت.

وعلى الجملة : الذي يعتبر في مورد الإجارة ويتقوّم بها مفهومها تعلّق الملكيّة بالمنفعة لا بالعين الواقعة مورداً للإجارة ، بل هي باقية تحت ملكيّة المؤجر.

ولا منافاة بين هذا وبين ملكيّة المستأجر لعين اخرى غير ما وقعت عليه الإجارة ستوجد فيما بعد ويملكها المستأجر بتبع ملكيّته للمنفعة كما كان يملكها نفس مالك العين قبل الإيجار وحينما كان مالكاً للمنفعة ، حيث عرفت أنّ هذه العين مملوكة تبعاً لمن يملك الحيثيّة القائمة بالعين ، أعني : استعدادها للحلب أو الإثمار مثلاً التي هي قابلة للنقل إلى الغير بالإجارة ، كما يمكن العكس فيبقى المالك هذه الحيثيّة لنفسه ويبيع العين مسلوبة المنفعة ، المستلزم لكون الثمر أو اللبن له حينئذٍ لا للمشتري.

٣٦٠