موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

ولا يجوز له على فرض عدم الفسخ مطالبة الغير المتبرّع له بالعوض ، سواء أكان جاهلاً بالحال أو عالماً ، لأنّ المؤجر هو الذي أتلف المنفعة عليه دون ذلك الغير وإن كان ذلك الغير آمراً له بالعمل ، إلّا إذا فرض على وجه يتحقّق معه صدق الغرور (*) (١) ،

______________________________________________________

كان هو الآمر بالعمل له ، إذ المتلف إنّما هو الأجير نفسه ، فلا موجب لضمان غيره بعد أن كان موجبه منحصراً في الإتلاف أو التلف تحت اليد المضمونة غير الصادق شي‌ء منها على المتبرّع له. وأمّا الأمر بالإتلاف فليس هو بنفسه من موجبات الضمان ، فلو أمر زيداً أن يتلف مال عمرو فأتلفه باختياره لم يكن الآمر ضامناً بلا إشكال.

نعم ، الأمر مع الاستيفاء فيما إذا كان المال للمتلف نفسه وإن استوجب الضمان بالسيرة العقلائيّة كما لو آمره بإتلاف مال نفسه بالإعطاء لأحد أو بالإلقاء في البحر لغايةٍ ما كالمحافظة على السفينة من الغرق ، إلّا أنّه خاصّ بما إذا لم يأمره بالإتلاف مجّاناً وبقصد التبرّع ، أمّا الأمر به بهذا العنوان كما لو أمر الخبّاز أن يدفع رغيفاً للفقير تبرّعاً وتصدّقاً فلا شبهة في عدم اقتضائه للضمان.

والمفروض في المقام أنّ الآمر أمر العامل بالعمل له تبرّعاً وبلا عوض ، ولم يقصد الأجير اجرةً من عمله المتبرّع فيه ، فلم يكن في البين أيّ موجب لضمانه.

(١) استثنى (قدس سره) من عدم ضمان الآمر المتبرّع له ما إذا كان غارّاً

__________________

(*) ليس للمستأجر الرجوع على الآمر حتى مع صدق الغرور ، فإنّ المغرور هو الأجير دون المستأجر والأجير أيضاً لا يرجع إليه إذا كان متبرّعاً بعمله كما هو المفروض. نعم ، إذا لم يكن متبرّعاً كما إذا غرّه الآمر وادّعى أنّ المستأجر قد أذن بالعمل له فعمل له كان للأجير أن يرجع إليه بأُجرة المثل.

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

فيتّجه عندئذٍ رجوع المستأجر إليه بقاعدة الغرور.

وفيه بعد الغضّ عن عدم تماميّة هذه القاعدة في حدّ نفسها ، وعدم أساس لها بقول مطلق وإن تداولت على ألسنة الفقهاء كما تقدّم البحث حولها قريباً (١) ، وبعد تصوير الغرور وتحقّقه في المقام كما ستعرف ـ : أنّ مقتضاها رجوع المغرور إلى الغارّ ، لا أنّ كلّ أحد تلف ماله يرجع إليه ، ومن المعلوم أنّ المغرور في المقام إنّما هو الأجير لا المستأجر ، فلا مقتضي لرجوعه إليه. فلو فرضنا أنّ زيداً غرّ عمرواً في إتلافه مال بكر فإنّ بكراً لا يرجع ابتداءً إلى زيد الغارّ ، وإنّما يرجع إلى المتلف وهو عمرو ، غايته أنّ عموراً يرجع بعدئذٍ إلى الغارّ بمقتضى قاعدة الغرور لو قلنا بها.

وعلى ذلك فلا موجب لرجوع المستأجر إلى الآمر بوجه لا من جهة الاستيفاء ولا من ناحية الغرور ، بل لو صحّ الرجوع فإنّما يتّجه بالإضافة إلى الأجير فحسب كما عرفت.

وأمّا تطبيق الغرور على المقام فيمكن تصويره بأحد وجهين :

أحدهما : فرضه على نحو لا ينافي اتّصاف الأجير بكونه متبرّعاً بقولٍ مطلق ، غير أنّ التلبّس بهذا الوصف كان مستنداً إلى الإغراء فكان مغروراً في تبرّعه ، كما لو قال له : تبرّع لي لعلي ارضي المالك بعد ذلك ، أو أنّه لا مانع من تبرّعك شرعاً وإن لم يكن المالك راضياً ، ونحو ذلك من التعابير الحاوية لحثّ الأجير وترغيبه في إقدامه على التبرّع وإلغائه احترام ماله ، أي ماله الطبيعي وإلّا فهو لغيره حسب الفرض.

وفي هذا الفرض لا نرى أيّ موجب لضمانه ورجوع المغرور إليه بعد أن لم يكن عمله محترماً بمقتضى إقدامه على التبرّع وعدم مطالبته بشي‌ء.

__________________

(١) في ص ٢٥٦.

٣٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : ما إذا لم يقدم على التبرّع من كيسه وإن أقدم على أن لا يأخذ منه اجرة فكان تبرّعاً إضافيّاً لا حقيقيّا ، كما لو غرّه الآمر فأخبره كذباً بأنّ المالك هو الذي رخّصك في أن تعمل لي هذا العمل تبرّعاً.

وحينئذٍ لا ينبغي الشكّ في الضمان ، إذ بعد انكشاف الحال وتغريم المالك الأجير وخروجه أي الأجير عن عهدة الضمان بأداء البدل يتّصف ذاك العمل المتبرّع فيه بكونه ملكاً للأجير ومحسوباً له ، والمفروض أنّه لم يأت به مجّاناً وملغياً لاحترامه وقد صدر بأمر الغارّ حسب الفرض واستوفى هذه المنفعة ، فلا جرم يكون ضامناً ، لا لأجل قاعدة الغرور ، بل لأجل استيفائه منفعة لم يعملها العامل مجّاناً ، بل سلّمها بتخيّل صدور الإذن ممّن بيده الإذن.

نظير ما لو كان مال زيد عند عمرو فقال له بكر : إنّ صاحب المال أذن لك في إتلافه أو إلقائه في البحر ، ففعل استناداً إلى إخبار هذا الكاذب الغارّ ، فإنّه بعد تغريم المالك إيّاه وخروجه عن عهدة الضمان وأداء البدل يفرض مالكاً لذلك المال المعدوم في اعتبار العقلاء ، فإذا كان مالكاً وقد أتلفه بأمر هذا الكاذب لا مجّاناً فلا جرم كان الآمر ضامناً. فإذا كان هذا هو الحال في الأموال ففي الأعمال أيضاً كذلك بمناط واحد ، وهما من هذه الجهة شرع سواء.

وعلى الجملة : فيفرق بين فرضي الغرور ، أي بين ما إذا أتلفه المتلف مجّاناً وملغياً لاحترام ماله دون أن يطالب المتبرّع له بشي‌ء فلا يكون هناك ضمان حتى مع الأمر ، وبين ما إذا لم يتبرّع على سبيل الإطلاق بل سلّمه بعنوان أداء مال الغير إليه فكان تبرّعاً إضافيّاً ، أي لا يطالبه بشي‌ء باعتبار أنّه سلّمه مال المالك الذي اعتقد أنّه أذن بذلك ، فإنّه بعد أن خرج عن عهدة الضمان فبما أنّ مال المسلم محترم لا يذهب هدراً صحّ له مراجعة الآمر المستوفي الضامن لذلك حسبما عرفت.

٣٠٣

وإلّا فالمفروض أنّ المباشر للإتلاف هو المؤجر ، وإن كان عمل للغير بعنوان الإجارة أو الجعالة (١) فللمستأجر أن يجيز ذلك ويكون له الأُجرة المسمّاة في تلك الإجارة أو الجعالة ، كما أنّ له الفسخ والرجوع إلى الأُجرة المسمّاة ، وله الإبقاء ومطالبة عوض المقدار الذي فات فيتخيّر بين الأُمور الثلاثة.

______________________________________________________

(١) هذا هو ثالث الفروض المتقدّمة.

وبما أنّ الإجارة الثانية قد وقعت على ما وقعت عليه الإجارة الاولى فلا جرم قد وردت على ملك المستأجر فتكون صحّتها منوطة بإجازته ، فإن أجازها استحقّ الأُجرة المسمّاة في تلك الأُجرة ، وإن ردّها بطلت وكان بالخيار بين فسخ الإجارة الأُولى واسترجاع المسمّاة فيها ، وبين الإمضاء والمطالبة بأُجرة المثل للمنفعة الفائتة.

فهو إذن مخيّر بين الأُمور الثلاثة. وبذلك افترق هذا عن الفرض السابق ، حيث كان التخيير هناك بين الأخيرين فحسب كما تقدّم.

ثمّ إن موضوع كلامه (قدس سره) وقوع الإجارة الثانية على ما وقعت عليه الإجارة الأُولى كما عرفت.

وأمّا إذا وقعت على ما في الذمّة المغاير لمورد الإجارة السابقة حيث إنّها تعلّقت بالمنافع الخارجيّة وهذه بعمل مقرّر في الذمّة كما فرض في كلمات بعضهم فكان المملوك في إحدى الإجارتين غير ما هو المملوك في الإجارة الأُخرى.

ففي مثل ذلك قد يقال بأنّ الإجارة الثانية وإن لم تقع على مال الغير إلّا أنّها

٣٠٤

وإن كانت الإجارة على الوجه الثاني وهو كون منفعته الخاصّة للمستأجر فحاله كالوجه الأوّل (١) ، إلّا إذا كان العمل للغير على وجه الإجارة أو الجعالة ولم يكن من نوع العمل المستأجر عليه كأن تكون الإجارة واقعة على منفعة

______________________________________________________

باعتبار وقوعها على ما ينافي حقّ الغير كانت صحّتها منوطة بإجازته ، فإذا أجاز صحّت الإجارة الثانية للمستأجر الثاني دون الأوّل المجيز كما لا يخفى.

ولكن الظاهر بطلان الإجارة المزبورة وعدم قبولها للصحّة حتى بالإجازة ، وليس للمستأجر إلّا فسخ الإجارة الأُولى أو إمضاءها.

والوجه فيه : أنّ الأجير بعد ما آجر نفسه بجميع منافعه كما هو المفروض فلا يعتبره العقلاء وقتئذٍ مالكاً لشي‌ء في ذمّته كي يتمكّن من تمليكه بالإجارة ، لحرمانه عن تطبيق ما في ذمته في الخارج ، وعدم السبيل لصرف منافعه في غير ما استؤجر له أوّلاً.

وإن شئت فقل : كل ما يمكن صدوره من الأجير ممّا هو قابل للملك فهو مملوك للمستأجر بمقتضى الإجارة الأُولى المفروض صحّتها ، فعمله للغير محرّم ، لكونه تصرّفاً في ملك الغير. إذن فلا يسعه تمليك ما في ذمّته لشخص آخر ، لعجزه عن التسليم خارجاً بعد أن لم يكن له أيّ عمل مباح ، فهو في إجارته الثانية قد ملّك ما ليس له حق التمليك ، فلا جرم تقع باطلة في نفسها بمثابةٍ لا تنفع الإجازة في تصحيحها ، ضرورة أنّها لا توجب قلب ما وقع عمّا وقع ولا تخرجه عن كونه إجارة لما يتعذّر تسليمه ولا يمكنه تمليكه المحكوم بالفساد من أوّل الأمر حسبما عرفت ، فكيف يمكن تصحيح مثل هذه الإجارة بالإجازة؟!

(١) فيجري فيه جميع ما مرّ في الوجه الأوّل من الفروض المتقدّمة بأحكامها

٣٠٥

الخياطي فآجر نفسه للغير لكتابة أو عمل الكتابة بعنوان الجعالة فإنّه ليس للمستأجر إجازة ذلك ، لأنّ المفروض أنّه مالك لمنفعة الخياطي فليس له إجازة العقد الواقع على الكتابة ، فيكون مخيّراً بين الأمرين من الفسخ واسترجاع الأُجرة المسمّاة والإبقاء ومطالبة عوض الفائت.

______________________________________________________

ما عدا الفرض الأخير ، أعني : ما لو عمل لغيره بإجارة أو جعالة وكان مغايراً لسنخ العمل المستأجر عليه كما لو استؤجر لمنفعة الخياطة فآجر نفسه لمنفعة الكتابة ، فيفترق الوجهان في أنّ المستأجر ليست له الإجازة هنا ، وإن كانت له هناك كما مرّ لكونه أجنبياً عن الإجارة الثانية بعد اختصاص ملكيّته بغير موردها.

بل هي محكومة بالبطلان ولا تنفعها الإجازة بوجه ، نظراً إلى أنّها لمّا كانت في ظرفها مفوّتة لحقّ الغير لمكان المزاحمة فقد وقعت على وجه غير مشروع ، إذ هو وإن كان مالكاً لتلك المنفعة المضادّة إلّا أنّه من أجل كونه محكوماً بوجوب الوفاء بالإجارة الأُولى فهو بطبيعة الحال ممنوع شرعاً من تسليم هذه المنفعة ، فكان ما صدر منه من العمل على طبق الإجارة الثانية محرّماً في ظرفه لا محالة ، وهو مانع عن كونه مشمولاً لدليل وجوب الوفاء آن ذاك ، ومن الضروري أنّ الإجازة اللاحقة لا تستوجب قلب ما وقع عمّا وقع ولا تغيّره عمّا هو عليه بوجه.

بل لنفرض أنّه من الآن أسقط حقّه وأبرأ الأجير عن ضمان ما ارتكبه ، إلّا أنّ هذا كلّه لا يجدي في قلب الواقع ، ولا يجعل ما وقع في ظرفه على وجه غير مشروع متّصفاً بالمشروعيّة ليشمله دليل الوفاء بالعقد.

اللهمّ إلّا أن يصدر منه الإذن قبل صدور العمل ، وإلّا فالإجازة اللاحقة لا تنفع في تصحيح العمل الصادر على طبق الإجارة السابقة الفاسدة كما لا يخفى.

٣٠٦

وإن كانت على الوجه الثالث فكالثاني ، إلّا أنّه لا فرق فيه في عدم صحّة الإجازة بين ما إذا كانت الإجارة أو الجعالة واقعة على نوع العمل المستأجر عليه أو على غيره (١) ، إذ ليست منفعة الخياطة مثلاً مملوكة للمستأجر حتى يمكنه إجازة العقد الواقع عليها ، بل يملك عمل الخياطة في ذمّة المؤجر. وإن كانت على الوجه الرابع وهو كون اعتبار المباشرة أو المدّة المعيّنة على وجه الشرطيّة (٢) لا القيديّة ففيه وجهان (*) ، يمكن أن يقال بصحّة العمل للغير بعنوان الإجارة أو الجعالة من غير حاجة إلى الإجازة وإن لم يكن جائزاً من حيث كونه مخالفة للشرط الواجب العمل ، غاية ما يكون أنّ للمستأجر

______________________________________________________

(١) لتغاير مورد الإجارتين على التقديرين :

أمّا على الثاني فظاهر.

وكذا على الأوّل ، لأنّ مورد كلّ إجارة حصّة مغايرة مع الحصّة الأُخرى وإن اشتركتا في السنخ ، فلا أثر لإجازة المستأجر الأوّل بعد كونه أجنبيّا عن مورد الإجارة الثانية على التقديرين ، بل هو مخيّر بين فسخ الإجارة الأُولى واسترجاع المسمّاة أو الإمضاء والمطالبة بعوض المنفعة الفائتة حسبما عرفت.

(٢) أي الالتزام في ضمن الالتزام ، الذي عرفت منعه في المقام ، وأنّه ليس إلّا قيداً بصورة الشرط.

__________________

(*) الأوجه الثاني.

٣٠٧

خيار تخلّف الشرط. ويمكن أن يقال بالحاجة إلى الإجازة ، لأنّ الإجارة أو الجعالة منافية لحقّ الشرط ، فتكون باطلة بدون الإجازة.

______________________________________________________

ولكن على تقدير التصوير فقد أفاد (قدس سره) أنّ في صحّة العمل حينئذٍ للغير بعنوان الإجارة أو الجعالة وجهين ، وقد ذكرهما في المتن.

وقد اتّضح ممّا أسلفناك أنّ الأظهر بطلان الإجارة الثانية ، فإنّ الشرط وإن لم يترتّب على مخالفته ما عدا الخيار إلّا أنّ مفاده في المقام لمّا كان وجوب المباشرة فالأمر بالوفاء به لا يجامع الأمر بالوفاء بالإجارة الثانية المقتضية لعدم المباشرة ، فالتضادّ الواقع بين المدلولين يمنع عن الالتزام بالجمع بين نفوذ كلّ من الشرط والعقد ، وحيث إنّ الأوّل وقع في ظرفه صحيحاً وشملة دليل نفوذ الشرط بلا مزاحم فلا يبقى معه مجال لشمول دليل وجوب الوفاء بالعقد للإجارة الثانية. اللهمّ إلّا إذا أذن المستأجر الأوّل من الأوّل بأن أسقط حقّه وألغى شرطه ، وهذا معنى الإجازة ، فتصحّ الإجارة الثانية وقتئذٍ ، لارتفاع المانع وانتفاء المزاحم ، فلا مانع حينئذٍ من الحكم بصحّة الإجارة الثانية ، وإلّا فالإجازة المتأخّرة لا تكاد تنفع في تصحيح الإجارة السابقة المعمول بها في ظرفها ، لعدم قلب الواقع عمّا وقع عليه بسبب الإجازة حسبما تقدّم.

فما ذكره في المتن من الوجه الثاني هو الصحيح بعد تفسير الإجازة بما عرفت.

وعلى الجملة : فبما أنّ الإجارة الثانية غير مشروعة ما لم يأذن المستأجر بها لكونها مفوّتة لحقّ الغير ، فمع فرض الحكم بصحّة الشرط كيف يمكن الحكم بصحّتها؟! ومن البديهي أنّ مجرّد ثبوت الخيار للشارط لا يسوّغ الإجارة الثانية ، فلا مناص من الحكم ببطلانها.

٣٠٨

[٣٣٢٢] مسألة ٥ : إذا آجر نفسه لعمل من غير اعتبار المباشرة ولو مع تعيين المدّة ، أو من غير تعيين المدّة ولو مع اعتبار المباشرة ، جاز عمله للغير ولو على وجه الإجارة قبل الإتيان بالمستأجر عليه (١) ، لعدم منافاته من حيث إمكان تحصيله لا بالمباشرة أو بعد العمل للغير ، لأنّ المفروض عدم تعيين المباشرة أو عدم تعيين المدّة ، ودعوى أنّ إطلاق العقد من حيث الزمان يقتضي وجوب التعجيل ممنوعة (*) (٢) ، مع أنّ لنا أن نفرض الكلام فيما لو كانت قرينة على عدم إرادة التعجيل.

______________________________________________________

(١) إذ على التقديرين لا تنافي بين الإجارتين كما هو واضح.

(٢) قد يقال بأنّ هذا المنع ينافي ما تقدّم منه (قدس سره) في المسألة الخامسة من الفصل الأوّل من الاعتراف باقتضاء الإطلاق للتعجيل (١).

ويمكن الذبّ عنه بأنّ المعترف به هو التعجيل العرفي كما صرّح (قدس سره) به هناك ، والذي يحاول إنكاره في المقام إنّما هو التعجيل الحقيقي على ما تقتضيه ظاهر عبارته ، فلا تناقض.

وبالجملة : مقتضى إطلاق العقد ما لم يصرّح بالخلاف هو البدار إلى الوفاء بمقدار لا يتحقّق معه التواني والتسامح المعبّر عنه بالاستعجال العرفي ، لعدم الدليل على الحقيقي منه بوجه ، فله المكث بضع ساعات لاستراحته أو قضاء

__________________

(*) لعلّه أراد من التعجيل التعجيل الحقيقي لا العرفي ، فإنّ دعوى وجوبه لا تكون ممنوعة ، وإلّا لكان العقد غرريّاً ، وعليه فلا يكون منافياً لما تقدّم منه (قدس سره) من أنّ إطلاق العقد يقتضي التعجيل العرفي.

(١) في ص ٦١.

٣٠٩

[٣٣٢٣] مسألة ٦ : لو استأجر دابّة لحمل متاع معيّن شخصي أو كلّي على وجه التقييد فحمّلها غير ذلك المتاع أو استعملها في الركوب لزمه الأُجرة المسمّاة وأُجرة المثل لحمل المتاع الآخر أو للركوب (١) ، وكذا لو استأجر عبداً للخياطة فاستعمله في الكتابة ،

______________________________________________________

بعض حوائجه الضروريّة ، فلو أنشأ خلال هذه الفترة اليسيرة عقداً آخر ووفى به بحيث لم يكن مصادماً لصدق التعجيل العرفي بالإضافة إلى الوفاء بالعقد الأوّل لم يكن به بأس أبداً.

(١) ومن هذا القبيل : ما لو استأجر الدابّة للركوب إلى مكان خاصّ كالذهاب إلى كربلاء فخالف وركبها إلى الحلّة.

والضابط : أن تتعلّق الإجارة بمنفعة خاصّة فتستوفي من العين منفعة أُخرى بدلاً عمّا وقعت الإجارة عليه.

والوجه في استحقاق الأُجرتين : أنّ الأُجرة المسمّاة قد استحقّها المؤجر بنفس العقد المفروض وقوعه صحيحاً ، ومن البيّن أنّ تفويت المستأجر تلك المنفعة بعدم استيفائها خارجاً لا يستوجب السقوط بعد أن أدّى المؤجر ما عليه من تسليم العين.

وأمّا استحقاقه لُاجرة المثل فلأجل استيفاء المنفعة الأُخرى التي هي أيضاً مال محترم للمؤجّر ، ولا يذهب مال المسلم هدراً ولا سيّما إذا كانت الأُجرة الثانية أزيد من الاولى ، فلا مناص إذن من دفع الأُجرتين معاً : إحداهما بنفس العقد ، والأُخرى بسبب الاستيفاء الخارجي.

إلّا أنّه ربّما يشكل عليه بما أشار إليه في المتن من أنّ العين الواحدة لا تتحمّل

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

في زمان واحد أكثر من منفعة واحدة ، لامتناع قيام منفعتين متضادّتين بها في عرض واحد ، إذن فلا يعقل أن يكون المالك مالكاً لكلتا المنفعتين كي يستحقّ الأُجرتين ، ومن الواضح أنّ الجمع بين الضمانين متفرّع على إمكان اجتماع الملكيّتين في عرض واحد.

وممّا يكشف عن ذلك وضوح أنّ غاصب العين لا يكون ضامناً لتمام المنافع ، فلو كانت كلّها مملوكة لكانت كلّها مضمونة بطبيعة الحال ، وحيث لا ضمان جمعاً فلا ملكيّة عرضاً ، وإنّما المملوك من هاتيك المنافع المتضادّة هو الجامع القابل للانطباق على أيّ منفعة شاءها المالك ، ففي الحقيقة لا يملك إلّا منفعة واحدة على البدل مخيّراً في التطبيق على أيّ فرد شاء.

ولكن التحقيق إمكان ملكيّة المنافع المتضادّة في عرض واحد.

والوجه فيه : أنّ مركز التضادّ إنّما هو ذات المنافع بأنفسها ، فلا تجتمع منفعة الركوب مع منفعة الحمل ، ولا كتابة العبد حال خياطته ، ولا سير الدابّة شرقيّاً حال سيرها غربيّاً ، ونحوها من المنافع المتضادّة الممتنع اجتماعها في حالة واحدة.

وأمّا الملكيّة المتعلّقة بها : فبما أنّها أمر اعتباري والاعتبار خفيف المئونة وقوامه بيد المعتبر ، فلا تضادّ بين ملكيّة وأُخرى ، فيعتبر من بيده الاعتبار ملكيّة أحدٍ لمنفعة ويعتبره في عين الحال مالكاً لمنفعة أُخرى مضادّة لها ، إذ لا مانع من الجمع بين هذين الاعتبارين بعد عدم وجود أيّ مقتضٍ لسراية التضادّ إليهما من المتعلّقين ، أعني : نفس المنفعتين.

وعلى الجملة : التضادّ الحاصل بين المنفعتين لملاكٍ في البين لا يكاد يسري إلى التضادّ بين الاعتبارين ، فلا مانع من اجتماعهما على صعيد واحد.

ودعوى أنّ الاعتبار لا بدّ من تعلّقه بأمر مقدور ، وإلّا لأصبح لغواً محضاً ، ولا قدرة على المنافع المتضادّة.

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

مدفوعة بأنّ الملكيّة الاعتباريّة انحلاليّة ، فكلّ ملكيّة تستدعي في مقام اعتبارها مقدورية متعلّقها بنفسه لا بضميمة متعلّق ملكيّة اخرى. ولا شك في أنّ كلّ واحدة من هاتيك المنافع المتعلّقة للاعتبارات مقدورة في حدّ أنفسها ، وما هو موصوف بعدم القدرة إنّما هو الجمع بينها. ومن الضروري عدم اعتبار الملكيّة لمجموع تلك المنافع حتى يقال بأنّ المجموع غير قابل للوقوع خارجاً ، بل الملكيّة إنّما تعلّقت بكلّ واحدة واحدة ممّا هو مقدور في نفسه كما عرفت.

وإن شئت مزيد التوضيح فأمعن النظر في الإباحة الشرعيّة ، ثمّ أعطف عليها الملكيّة الاعتبارية فإنّهما من وادٍ واحد وبمناطٍ فأرد.

فإنّ الإباحة المزبورة كغيرها من الأحكام الخمسة لا تكاد تتعلّق إلّا بأمر مقدور ، ضرورة عدم موقع لتعلّق الحكم الشرعي من التكليفي أو الترخيصي نحو أمر غير مقدور.

ولا شكّ أنّ المتضادّين ولا سيّما فيما لا ثالث له كالحركة والسكون كلّ منهما محكوم بالإباحة الشرعيّة ، فتستباح الحركة كما يستباح السكون. ومن المعلوم أنّ الإباحة إنّما تتعلّق بكلّ منهما بخصوصه. وأمّا الجامع بينهما أو بين أحد الأضداد فيما له ثالث فهو ضروري التحقّق ، فلا معنى لكونه مورداً لأيّ حكم شرعي ، كما أنّ الجمع بينهما مستحيل التحقّق ، لعدم القدرة عليه ، فلا معنى لإباحته أيضاً ، بل كلّ منهما مباح في حدّ نفسه ، والجمع بين الإباحتين لا يستلزم إباحة الجمع بين المتضادّين بالضرورة.

وعلى الجملة : فرق واضح بين كون الجمع متعلّقاً بالإباحة أو متعلّقاً لها ، وإن شئت فقل : بين تعلّق الجمع بالإباحة أو تعلّق الإباحة بالجمع ، فإنّ الممتنع إنّما هو الثاني الذي هو أمر غير مقدور ، وأمّا الأوّل الذي هو جمع بين الإباحتين فلا ضير فيه ، لعدم التضادّ بين إباحة وإباحة ، فهناك إباحتان مجتمعتان ، والاجتماع

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وصف لنفس الإباحة ، لا أنّ الإباحة متعلّقة بالمجتمع وعلى صفة الانضمام.

نظير ما ذكرناه في بحث الترتّب من أنّ الأمرين مجتمعان معاً ، لا أنّ الأمر متعلّق بالجمع ، فهو جمع في الأمر لا أمر بالجمع.

وإذ قد عرفت الحال في الإباحة فالملكيّة تجري على ضوئها وتحذو حذوها ، لاشتراكهما في امتناع التعلّق نحو أمر غير مقدور كالمتضادّين ، فكما أنّ هذا الامتناع لا يقدح في اتّصاف كلّ منهما بالإباحة حسبما عرفت فكذلك لا يقدح في الاتّصاف بالمملوكيّة.

والسرّ : تعلق كلّ من الاعتبارين أعني : الإباحة والملكيّة بكلّ واحد من الضدّين بحياله ومنعزلاً عن غيره ، لا بصفة الاجتماع والانضمام ليتوهّم امتناعه من أجل التعلّق بغير المقدور فكم فرق بين الجمع بين الاعتبارين والجمع بين المعتبرين ، والممتنع إنّما هو الثاني دون الأوّل ، إذ لا مضادّة بين اعتبار واعتبار آخر وإن تعلّق بضدّه ، لعدم المقتضي لسراية التضادّ من المعتبر إلى الاعتبار بوجه.

إذن فعدم إمكان استيفاء المنفعتين المتضادّتين معاً خارجاً لا يقتضي عدم إمكان اعتبار الملكيّة لكلّ واحدة منهما بحيالها ، ضرورة أنّ كلّ واحدة منهما قابلة في نفسها للتحقّق في الخارج ، فهي قابلة لأن تتعلّق بها الملكيّة.

فإن قلت : ما هي الفائدة في الجمع بين هذين الاعتبارين بعد امتناع الجمع بين المعتبرين المتضادّين ، وهل هذا إلّا من اللغو الممتنع صدوره من الحكيم؟

قلت : كلّا ، فإنّ المالك وإن لم يكن قادراً على الجمع ، ولا يمكنه استيفاء تمام المنافع المتضادّة ، إلّا أنّ ثمرة اعتبار ملكيّته لكلّ منهما تظهر في مثل المقام ، حيث إنّه بعد أن ملك واحدة منها للغير وأخرجها عن ملكه بالإجارة فخروجها لا يستلزم خروج الباقي ، فلو تمكّن الغير من التصرّف فيه ولو لأجل أنّ

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المستأجر لم يصرف العين فيما استؤجرت له سواء أكان هو المستأجر أم شخص غيره ، ضمن اجرة المثل لمالك العين ، لكونه من التصرّف في المنفعة التي هي ملك الغير. وكفى هذا المقدار فائدة لاعتبار الملكيّة للمنافع المتضادّة وإن لم يتمكّن المالك من استيفائها بتمامها حسبما عرفت ، بل لم يكن له هذا التصرّف كما لا يخفى.

وقد اتّضح لك أنّ إمكان ملكيّة المنافع المتضادّة مطابق لمقتضى القاعدة ولا حاجة إلى ما ذكره (قدس سره) في المتن من أنّ : المستأجر بتفويته واستعماله في غير ما يستحقّ كأنه حصل له منفعة أُخرى. الذي لا محصّل له ، بل هو بالخطابة أشبه كما لا يخفى ، فإنّ المنفعة الأُخرى كانت مملوكة للمالك من الأوّل لا أنّها حصلت بالتفويت ، وإلّا فكيف صارت ملكاً له بعد ذلك؟! ومن هنا لو فرضنا أنّ المتصرّف كان شخصاً آخر غير المستأجر كان ضامناً للمالك ، باعتبار أنّه استوفى منفعة للغير بغير إذنه.

وبعد البناء على الإمكان المزبور فما ذكره في المتن من استحقاق الأُجرتين معاً هو الصحيح الحقيق بالقبول.

وغير بعيد أن يكون هذا هو المرتكز في أذهان العقلاء ، فإنّ احتمال ضمان المستأجر لخصوص المنفعة المستوفاة كما نسب إلى جماعة بعيد جدّاً ، إذ ما هو الموجب للانفساخ ليلتزم بسقوط الأُجرة المسمّاة؟! وهل ترى أنّ الاستيفاء المزبور من أسباب السقوط؟ فلو فرضنا أنّه لم يستوفها كما لم يستوف المنفعة المستأجرة إلى أن انقضت المدّة فإنّه لا ريب في ضمانه حينئذٍ للمسمّاة ، باعتبار أنّه هو الذي فوّت المنفعة على نفسه بعد أن تسلّم العين من المؤجر ، فإذا كان التفويت من دون أن يستفيد موجباً لضمان الأُجرة المسمّاة فهل يحتمل أن يكون استيفاء منفعة أُخرى موجباً لسقوطها؟! كما أنّ احتمال اشتغال ذمّته بخصوص الأُجرة المسمّاة وعدم ضمانه للمنفعة

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المستوفاة ولا سيّما إذا كانت أُجرتها أكثر لا وجه له أيضاً ، وكيف يذهب مال المسلم هدراً؟! فلا مناص إذن من الالتزام بكلتا الأُجرتين ، جمعاً بين الحقّين.

ويمكن أن يستأنس لما ذكرناه من مقتضى القاعدة بصحيحة أبي ولّاد (١) وجعلها مؤكّدة لها ومعاضدة ، حيث إنّه صرّح فيها بالضمان بالنسبة إلى المنافع المستوفاة التي هي خارجة عن مورد الإجارة على خلاف فتوى أبي حنيفة (٢) ساكتة عن التعرض للأُجرة المسمّاة سؤالاً وجواباً ، بحيث يظهر أنّ استحقاقها كأنه أمر مفروغ عنه لم يحتج إلى النزاع والجدال ، ولم يقع مورداً للسؤال ، سيّما ولعلّ المتعارف دفعها إلى المؤجر المكاري من أوّل الأمر ، ولم ينكر ذلك أبو حنيفة ولا غيره من الأطراف المعيّنة ، فالإعراض عن ذكرها ولو كانت ساقطة لكانت حريّة بالتعرّض جدّاً يورث قوّة ظهور لها في ثبوتها ، وقد عرفت صراحتها في ثبوت الأُجرة الأُخرى أيضاً ، فهي مطابقة إذن لمقتضى القاعدة في الدلالة على استحقاق كلتا الأُجرتين حسبما عرفت.

وربّما يقال : إنّ الالتزام بملكيّة المنافع المتضادّة يقتضي المصير إلى ضمان الغاصب لجميع هاتيك المنافع ، التي ربّما تزيد على قيمة العين ، وهذا شي‌ء لا يمكن الالتزام به ، بل هو مقطوع البطلان.

ويندفع : بمنع الاقتضاء ، فإنّ الضمان حكم شرعي يستند إلى سبب خاصّ ، ولا يكون جزافاً ، وسببه منحصر في أحد أُمور ثلاثة : إمّا الاستيفاء ، أو التلف تحت اليد العادية ، أو الإتلاف. وشي‌ء منها غير متحقّق في المقام.

ضرورة أنّ الغاصب لا يستوفي في وقت واحد إلّا منفعة واحدة ، فلا مقتضي

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١١٩ / كتاب الإجارة ب ١٧ ح ١.

(٢) حكاه عنه في المغني ٦ : ٨٩.

٣١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لضمان الباقي من ناحية الاستيفاء.

وأمّا من ناحية التلف أو الإتلاف فكذلك ، بداهة عدم صدق شي‌ء منها بعد عدم قبول تلك المنافع للوجود خارجاً على صفة الاجتماع فلم يتلف على المالك ما عدا منفعة واحدة ، أمّا البقيّة المتضادّة فهي غير قابلة للتحقّق عرضاً في حدّ أنفسها ، سواء أكانت تحت يد الغاصب أم المالك ، فكيف يصحّ إطلاق التلف أو الإتلاف عليها؟! بل هي تالفة في طبعها وذاتها ، سواء أغصبها الغاصب أم لا.

وبالجملة : الغصب وعدمه بالإضافة إلى عدم وجود بقيّة المنافع على حدٍّ سواء ، فكيف يصحّ إسناد عدمها إلى الغاصب ليكون ضامناً؟! وإنّما يتّجه ضمانه بالنسبة إلى خصوص ما استوفاه أو ما أتلفه وإن لم يستوفه ، كما لو كانت الدابّة المغصوبة مستعدّة للإيجار لحمل متاع أُجرته كذا فإنّه يصحّ عرفاً أن يقال : إنّ الغاصب أتلف هذه المنفعة ولو لم يستوفها ، سواء أصرف الدابّة في اجرة زهيدة أم لم يستفد منها شيئاً أبداً ، فإنّه على التقديرين صحّ القول بأنّه أتلفها باعتبار قابليّتها للوجود فيكون ضامناً لها لا محالة. وأمّا جميع المنافع فلم يتلفها الغاصب ، فلا موجب لضمانه لها.

وأين هذا من محلّ الكلام؟! الذي فرض فيه أنّ المستأجر ملك منفعة خاصّة واستحقّ المؤجر عليه المسمّاة بمقتضى الإجارة الصحيحة ولكنّه لم يستوفها واستوفى بدلها منفعة أُخرى مضادّة هي ملك للمالك ، فإنّ مثله طبعاً يضمن ضمانين : أحدهما بالعقد ، والآخر بالاستيفاء حسبما عرفت بما لا مزيد عليه.

هذا كلّه بناءً على ما هو التحقيق من إمكان ملكيّة المنافع المتضادّة.

وأمّا بناءً على عدم الإمكان كما لعلّه المعروف والمشهور ، فيدور الأمر وقتئذٍ بين وجوه ثلاثة :

أحدها : الالتزام بأنّ المالك إنّما يملك المنفعة الكلّيّة أعني : الجامع بين تلك

٣١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المنافع المتضادّة مخيّراً في التطبيق على أيّ فرد منها شاء ، فإذا طبّقه على منفعة خاصّة ، كما لو آجر الدابّة للحمل مثلاً فلم يبق له في مدّة الإجارة أيّ ملك في الدابّة ما عدا ذات العين.

وعليه ، فلو استعملها المستأجر في جهة أُخرى فبما أنّ تلك الجهة لم تكن مملوكة فطبعاً لم يكن هو ضامناً لأيّ أحد. ونتيجة ذلك هو القول بعدم ضمان المستأجر لما عدا الأُجرة المسمّاة.

ولكن هذا شي‌ء لا يمكن الالتزام به قطعاً ، وذلك لأنّ مقتضاه جواز استيفاء المنفعة العظمى بدلاً عمّا وقعت عليه الإجارة من المنفعة الضئيلة بإزاء أُجرة زهيدة ، كما لو استعمل العبد الذي استأجره للكتابة أو الدابّة المستأجرة لإدارة الرَّحَى في حمل صخرة كبرى ونحو ذلك من الأعمال الشاقّة التي ربّما تعادل أُجرتها أضعاف الأُجرة المسمّاة. وهذا شي‌ء لا يمكن الإفتاء به من متفقّة فضلاً عن فقيه ، وإنّما يشبه فتاوى أبي حنيفة وأضرابه ، مضافاً إلى مخالفته لصحيحة أبي ولّاد الصريحة في ضمان المنافع المستوفاة.

ثانيها : الالتزام بأنّ المستأجر لمّا لم يستوف المنفعة المستأجرة واستوفى بدلها منفعة أُخرى مضادّة ، اقتضى ذلك انفساخ عقد الإجارة وفساده ، ومن ثمّ لم يضمن ما عدا اجرة المثل بالنسبة إلى ما استوفاه ويفرض العقد كأن لم يكن ، نسب ذلك إلى العلّامة (١) وغيره.

وقد يقال : إنّ هذا هو المستفاد من صحيحة أبي ولّاد ، بدعوى أنّ الاقتصار على التعرّض لُاجرة المنافع المستوفاة والسكوت عن دفع الأُجرة المسمّاة يكشف عن أنّ الواجب إنّما هو اجرة المثل فحسب.

__________________

(١) انظر القواعد ٢ : ٣٠٤.

٣١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه أوّلاً : أنّه لم يتّضح أيّ موجب للانفساخ وسقوط الأُجرة المسمّاة ، فإنّا لو فرضنا أنّ المستأجر أبقى العين عنده معطّلة حتى انقضت المدّة ولم يستوف منها أيّة منفعة ، أفلا يكون ضامناً للأُجرة المسمّاة؟ وحينئذٍ أفهل ترى أنّ انتفاعه منفعة أُخرى يستوجب السقوط وبطلان الإجارة الاولى ، لا ينطبق ذلك على أيّة قاعدة فقهيّة أو رواية ولو ضعيفة.

وأمّا الصحيحة المزبورة فقد مرّ البحث حولها قريباً ، فلاحظ ولا نعيد (١).

وثانياً : إنّ لازم ذلك براءة ذمّة المستأجر عمّا اشتغلت به حين العقد من غير أيّ مقتضٍ لها فيما لو استوفى بدلاً عن المنفعة المستأجرة منفعة أُخرى ضئيلة أُجرتها يسيرة ، كما لو استأجر الدابّة إلى كربلاء بدينار فاستعملها في إدارة الرّحَى التي أُجرتها نصف دينار مثلاً فإنّ مقتضى هذا الوجه براءة ذمّة المستأجر عن الفرق بين الأُجرتين ، الذي كان ثابتاً في ذمّته بمقتضى عقد الإيجار من غير أيّ سبب لها. وهذا كما ترى شي‌ء لا يمكن الالتزام به جزماً.

هذا ، ولأجل وضوح فساد الوجهين المزبورين ذهب جماعة منهم شيخنا الأُستاذ (قدس سره) (٢) إلى اختيار :

ثالث الوجوه : وهو التفصيل بين ما إذا كانت أُجرة المنفعة المستوفاة مساوية للأُجرة المسمّاة أو أقلّ ، وبين ما إذا كانت أكثر ، فعلى الأوّل لا يستحقّ إلّا المسمّاة ، وعلى الثاني يستحقّها بضميمة الزيادة ، فيجب حينئذٍ دفع الفرق بين الأُجرتين زائداً على دفع الأُجرة المسمّاة.

وفيه : أنّ المنفعة المستوفاة إن كانت ملكاً لمالك العين استحقّ حينئذٍ على المستوفي تمام اجرة المثل زائداً على الأُجرة المسمّاة كما ذكرناه لا خصوص

__________________

(١) في ص ٣١٥.

(٢) تعليقة النائيني على العروة الوثقى ٥ : ٨٧ (تحقيق جماعة المدرسين).

٣١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الفرق بين الأُجرتين ، وإن لم تكن ملكاً له كما هو مبنى القول بعدم ملكيّة المنفعتين المتضادّتين لم يستحقّ شيئاً زائداً على المسمّاة حتى المقدار الفارق ، إذ بماذا يستحقّ الزائد بعد أن لم تكن المنفعة المستوفاة مملوكة له؟! وما هو الموجب لضمان ما به التفاوت ولم يطرأ تلف أو تصرّف في ملكه؟! فهذا الوجه يتلو سابقيه في الضعف بعد عرائه عن أيّ مستند صحيح.

إذن لا محيص عن المصير إلى ما اخترناه تبعاً للمتن من استحقاق كلتا الأُجرتين ، خلافاً لأبي حنيفة المنكر لضمان المنفعة المستوفاة ، زعماً منه أنّ الخراج بالضمان (١) ، كما يظهر من صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة.

نعم ، ما ذكروه في الوجه الثالث من ضمان الزيادة يتّجه فيما إذا كانت النسبة بين المنفعتين نسبة الأقلّ إلى الأكثر ، لا نسبة التضادّ التي هي محلّ الكلام ، كما لو استأجر دابّة لحمل بضاعة وزنها خمسون كيلو غراماً فحمّلها ما يعادل ستّين ، فإنّ المستأجر يضمن لا محالة لهذه الزيادة إضافةً على ضمانه للأُجرة المسمّاة ، إذ لا موجب لذهاب تلك المنفعة التي هي باقية على ملك المالك هدراً ، وقد كانت قابلة لأن يستوفيها المالك من الأوّل بأن يؤاجر الدابّة لحمل الستّين بدلاً عن الخمسين.

والظاهر أنّه لا خلاف هنا في ضمان اجرة المثل لتلك الزيادة ، ولا يقاس ذلك بالمنافع المتضادّة ، لعدم كونه منها حسبما عرفت.

ولكن أبا حنيفة خالف في هذه المسألة أيضاً على ما في الفقه على المذاهب الأربعة (٢) ، بدعوى أنّ المستأجر غاصب في تلك الزيادة ، والغاصب لا يضمن المنافع.

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١١٩ / كتاب الإجارة ب ١٧ ح ١.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ٣ : ١٢٤.

٣١٩

بل وكذا لو استأجر حرّا لعمل معيّن في زمان معيّن وحمله على غير ذلك العمل مع تعمّده وغفلة ذلك الحرّ (*) (١) واعتقاده أنّه العمل المستأجر عليه.

ودعوى أنّ ليس للدابّة في زمان واحد منفعتان متضادّتان ، وكذا ليس للعبد في زمان واحد إلّا أحد المنفعتين من الكتابة أو الخياطة فكيف يستحقّ أُجرتين؟!

مدفوعة بأنّ المستأجر بتفويته على نفسه (**) واستعماله في غير ما يستحقّ كأنه حصل له منفعة أُخرى.

______________________________________________________

وكيفما كان ، فلا ينبغي الشكّ عندنا في الضمان قولاً واحداً حسبما بيّناه.

(١) ما أفاده (قدس سره) من مشاركة استئجار الحرّ مع المملوك من عبد أو دابّة في استحقاق الأُجرتين وإن كان وجيهاً لوحدة المناط المتقدّم ، إلّا أنّ تخصيصه الحكم بجهل الحرّ وعلم المستأجر الآمر بلا مخصّص ، بل ينسحب الحكم في عكسه أيضاً أعني : علم الحرّ وجهل المستأجر بمناط واحد ، وضابطه : أنّه في كلّ مورد صدر الأمر من الآمر لا بقصد التبرّع والعمل من العامل لا بعنوان المجّان فإنّه يستوجب الضمان ، سواء أكانا عالمين أم جاهلين أم مختلفين ، فتثبت اجرة المثل لأجل العمل المحترم الصادر بموجب الأمر ، والأُجرة المسمّاة بسبب العقد حسبما تقدّم.

__________________

(*) بل الأمر كذلك مع التفات الحرّ وغفلة المستأجر إذا لم يكن الأجير قاصداً للإتيان بالعمل مجّاناً.

(**) بل مدفوعة بعدم المانع من ملكيّة المنفعتين المتضادّتين على ما حقّقناه في محلّه.

٣٢٠