موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

انفسخت الإجارة ورجعت الأُجرة إلى المستأجر. فمن ثمّ كانت الملكيّة متزلزلة لا مستقرة.

أقول : الظاهر أنّ في كلامه (قدس سره) مسامحة واضحة ، فإنّ ظاهر العبارة التفكيك بين الأُجرة والمنفعة في التزلزل وعدمه ، وأنّ الملكيّة المتزلزلة خاصّة بالأُجرة. ولا محصّل له.

فإنّ التزلزل قد يطلق في العقود الجائزة التي لم تكن مبنيّة على اللزوم ويجوز للمملك الرجوع من الأوّل ، فلم تكن مستقرّة في طبعها ، كما في الهبة غير المعوضة.

ومن الواضح عدم كون المقام من هذا القبيل ، بعد البناء على كون الإجارة من العقود اللازمة كما تقدّم ، وأنّه لا يجوز لأيّ من المؤجر والمستأجر الفسخ والتراجع في الأُجرة ولا في المنفعة ، فهما سيّان من هذه الجهة والعقد لازم من الطرفين.

وقد يطلق في العقود اللازمة لأجل عروض ما يمنع عن اللزوم ، وحينئذٍ فقد يفرض أنّ حدوث المانع عن الاستيفاء كاشف عن بطلان الإجارة من الأوّل ، كما لو حدث المانع بعد العقد وقبل أن يستوفي المستأجر المنفعة ، أو قبل أن يتصدّى الأجير للعمل ، بحيث كشف عن عدم التمكّن بتاتاً ، المستلزم للكشف عن أنّه لم يكن مالكاً ليملّك. ونتيجته : عدم ملكيّة المؤجر للأُجرة ولا المستأجر للمنفعة ، وأنّ تأثير العقد كان مجرّد خيال محض ، فلا ملكيّة رأساً من أيّ من الطرفين ، لا أنّها كانت ولم تكن مستقرّة.

وأُخرى : يفرض حدوثه في الأثناء ، كما لو استأجر الدار سنة فانهدمت بعد ستّة أشهر ، إمّا بقضاء الله وقدره ، أو بظلم ظالم ، كالوقوع في الشارع بحيث لم يمكن الانتفاع في المدّة الباقية ، فإنّ الإجارة تنفسخ لا محالة بلحاظ هذه المدّة ،

١٦١

[٣٢٨٣] مسألة ١ : لو استأجر داراً مثلاً وتسلّمها ومضت مدّة الإجارة استقرّت الأُجرة عليه ، سواء سكنها أم لم يسكنها لاختياره (١) ، وكذا إذا استأجر دابّة للركوب أو لحمل المتاع إلى مكان كذا ومضى زمان يمكن له ذلك وجب عليه الأُجرة واستقرّت وإن لم يركب أو لم يحمل بشرط أن يكون مقدّراً بالزمان المتّصل بالعقد ، وأمّا إذا عيّنا وقتاً فبعد مضيّ ذلك الوقت. هذا إذا كانت الإجارة واقعة على عين معيّنة شخصيّة في وقت معيّن (٢).

______________________________________________________

فلم تنتقل هذه المنافع من الأوّل إلى المستأجر كما لم ينتقل ما بإزائها من الأُجرة إلى المؤجر ، فحالها من هذه الجهة حال الفرض السابق.

وأمّا بلحا المدّة الماضية فبطبيعة الحال يثبت للمستأجر خيار التبعّض ، فإذا فسخ العقد رجع كلّ من العوضين إلى صاحبه ، وتفرض الإجارة كأنّها لم تكن ، فيرجع تمام الأُجرة إلى المستأجر ، وبما أنّه لا يمكن إرجاع المنفعة ، فلا جرم ينتهي الأمر إلى أُجرة المثل.

فالنتيجة : أنّ استقرار الأُجرة بالنسبة إلى هذا المقدار مشروط بعدم حدوث موجب للفسخ فيما بعد ، وإلّا فلا استقرار للملكيّة ، بلا فرق في ذلك بين الأُجرة والمنفعة. فما يظهر من كلامه (قدس سره) من انتقال المنفعة بملكيّة مستقرّة وانتقال الأُجرة بملكيّة متزلزلة لا تعرف له وجهاً محصّلاً ، بل هما سيّان حدوثاً وبقاءً ، صحّةً وفساداً ، لزوماً وجوازاً ، حسبما عرفت.

(١) إذ المؤجر قد أدّى ما كان عليه من التسليم ، والمستأجر هو الذي فوّت على نفسه المنفعة ، ومعه لا مناص من استقرار الأُجرة.

(٢) لا تخلو العبارة في هذه المسألة عن نوع من التشويش ، ولم يتّضح المراد ،

١٦٢

وأمّا إن وقعت على كلّي وعين في فرد وتسلّمه فالأقوى أنّه كذلك مع تعيين الوقت وانقضائه. نعم ، مع عدم تعيين الوقت فالظاهر عدم استقرار الأُجرة المسمّاة (*) وبقاء الإجارة وإن كان ضامناً لُاجرة المثل لتلك المدّة من جهة تفويته المنفعة على المؤجر.

______________________________________________________

فإنّ الظاهر من صدر العبارة أنّه (قدس سره) بصدد التفصيل بين تعيين الوقت وعدمه من غير فرق بين كون العين شخصيّة أو كلّيّة ، حيث إنّه (قدس سره) اختار إلحاق الكلّي بالشخصي مع تعيين الوقت.

والظاهر من الذيل أعني قوله (قدس سره) : نعم ، مع عدم تعيين الوقت ، إلخ الاختصاص بالكلّي وعدم الجريان في العين الشخصيّة. والحاصل : أنّه لم يتّضح أنّ الاستدراك بقوله (قدس سره) : نعم ، هل هو عن خصوص الكلّي ، أو الأعمّ منه ومن الشخصي؟

وعلى كلّ تقدير ، فإن أراد (قدس سره) أنّه مع عدم تعيين الوقت ومضيّ زمان يمكن فيه الاستيفاء سواء أكانت العين المستأجرة شخصيّة أم كلّيّة فالإجارة باقية ولا يستحقّ الأُجرة المسمّاة.

فهذا ينافي ما سيأتي منه (قدس سره) في المسألة الثالثة من الحكم بالاستقرار فيما لو استؤجر لقلع الضرس ومضت المدّة التي يمكن إيقاعه فيها وكان باذلاً نفسه.

__________________

(*) بل الظاهر استقرارها ، وقد التزم (قدس سره) باستقرارها في العين الشخصيّة إذ لا فرق بين الشخصيّة والكلّيّة بعد ما كان التعيين بيد المؤجر.

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن أراد التفصيل بين العين الشخصيّة والكلّيّة بالاستقرار في الأُولى دون الثانية ومن ثمّ فصّل بين المقام وبين المسألة الآتية.

فلم يتّضح أي وجه صحيح لهذه التفرقة ، إذ في الكلّي أيضاً قد سلّم العين المستأجرة بتسليم الفرد ، فإنّ الفرد هو الكلّي مع الزيادة ، حيث إنّ المستأجر إنّما تملّك الكلّي بلا خصوصيّة ، فللمؤجّر تطبيقه على أيّ فرد شاء ، كما هو الحال في البيع أيضاً ، فلو اشترى منه صاعاً من الصبرة فالمبيع وإن كان كلّيّاً إلّا أنّه لدى تسليم فرد من تلك الأصوع وتطبيق الكلّي عليه فقد سلّمه المبيع ، لوجود الكلّي الطبيعي بوجود فرده ومصداقه.

وعليه ، ففي المقام قد تحقّق تسليم العين المستأجرة بإقباض الفرد كما في العين الشخصيّة بلا فرق بينهما ، فالأقوى استقرار الأُجرة المسمّاة في كلتا الصورتين.

هذا ، ولمزيد التوضيح نقول : إنّ ما ذكره في المتن من استقرار الأُجرة لدى تسليم العين ومضيّ مدّة الإجارة سواء انتفع المستأجر خارجاً أم لا ، مطابقٌ لمقتضى القاعدة ، نظراً إلى تحقّق التسليم من قبل المؤجر وأدائه ما في عهدته ، والمستأجر هو الذي فوّت المنفعة على نفسه ، فمقتضى إطلاقات الأدلّة صحّة الإجارة ، مضافاً إلى النصّ الخاصّ الناطق باستقرار الأُجرة فيمن استأجر أرضاً للزراعة ولم يزرعها (١) ، فلو استأجر داراً ولم يسكنها ، أو دابّة لحمل المتاع ولم يحمل عليها حتى انقضت المدّة وانتهى الزمان الذي يمكن الانتفاع فيه سواء أكان متّصلاً بالعقد أم منفصلاً ، لم يقدح ذلك في صحّة الإجارة ولم يمنع عن استقرار الأُجرة حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٢٣ / كتاب الإجارة ب ١٨ ح ١.

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا في الإجارة الواقعة على العين الشخصيّة ظاهر.

وكذا في الكلّي مع تعيين الوقت ومضيّه ، كما لو آجره دابّة كلّيّة للركوب في هذا اليوم فسلّمه فرداً ولم يركب.

وأمّا إذا لم تكن ثمّة مدّة معيّنة لا متّصلة بالعقد ولا منفصلة حيث عرفت عدم اعتبار تعيين الزمان فيما لم يتوقّف تعيين المنفعة عليه ، كالإجارة على الخياطة ، أو على حمل المتاع ، لا مثل سكنى الدار ونحوها فقد حكم في المتن بعدم الاستقرار ، وقد عرفت أنّ عبارته مشوّشة ولم يتّضح مراده تحقيقاً ، وأنّه يريد التفصيل بين العين الكلّيّة والشخصيّة ، أو بين كون المدّة معيّنة أو غير معيّنة ، للتردّد في أنّ قوله : نعم ، مع عدم ، إلخ ، استدراك عن خصوص الكلّي أو الأعمّ منه ومن الشخصي.

وكيفما كان ، فإن أراد التفصيل بين المؤقّت وغيره وأنّه يحكم بالاستقرار في الأوّل وبضمان اجرة المثل في الثاني.

ففيه مضافاً إلى ما عرفت من منافاته لما سيجي‌ء منه (قدس سره) في المسألة الثالثة ، إذ لا فرق عدا كون الإجارة في المقام على العين وهناك على العمل الذي لا يصلح فارقاً بين الموردين بالضرورة ـ :

أنّه لم يتّضح أيّ وجه لهذا التفصيل ، إذ كيف يمكن القول بعدم الاستقرار بعد تسليم العين وتسلّمها؟! وهل يعتبر في صحّة الإجارة شي‌ء آخر وراء ذلك؟! ومن البديهي أنّ عدم انتفاع المستأجر بعد تسلّم العين تفويتٌ لمال نفسه باختياره ، لا لمال الغير حتى يضمن ، فلا موقع لحكمه بضمان اجرة المثل لتلك المدّة من جهة تفويته المنفعة على المؤجر.

وإن أراد التفصيل بين العين الشخصيّة والكلّيّة واختصاص الاستقرار بالأُولى ،

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

نظراً إلى صدق تسليم المنفعة بتسليم العين الشخصيّة بخلاف أداء الفرد من الكلّي ، لعدم تعلّق الإجارة به ، فما وقعت عليه الإجارة لم يتعلّق به التسليم ، وما كان مورداً للتسليم لم تتعلّق به الإجارة.

ففيه ما لا يخفى ، بل هو واضح الفساد ، ضرورة أنّ الشخصي يتضمّن الكلّي وزيادة ، فلا جرم كان تسليمه تسليمه بعد أن كان اختيار التطبيق بيد المؤجر ، فله دفع أيّ فرد شاء وفاءً عن الكلّي كما هو الحال في البيع. وعليه ، فقد تسلّم المستأجر المنفعة بتسلّم العين ، ومعه كيف يمكن القول بعدم استقرار الأُجرة؟! نعم ، لو لم يكن التسليم بعنوان الوفاء بل كانت العين في الإجارة الشخصيّة أو الكلّيّة مدفوعة إلى المستأجر بعنوان الأمانة باعتبار أنّ المنفعة لمّا لم تكن مؤقّتة بوقت خاصّ حسب الفرض ، وإنّما آجر الدابّة مثلاً لحمل متاعه خلال يوم من هذا الأُسبوع حسبما يختاره المستأجر ، فجعلها أمانة عنده لكي يستوفي المنفعة حيثما شاء. فحينئذٍ لا مقتضي للاستقرار بمضيّ زمان يمكن فيه الاستيفاء كما هو واضح ، إلّا أنّه لا مقتضي أيضاً لضمان اجرة المثل ، إذ المؤجر هو الذي فوّت المنفعة على نفسه بدفع العين أمانة وتسليط المستأجر عليها.

والحاصل : أنّ ما صنعه في المتن من الجمع بين الحكمين أعني : عدم استقرار الأُجرة والضمان لُاجرة المثل متعذّر ، لعدم ورودهما في مورد واحد.

فإنّ الدفع المزبور إن كان بعنوان الوفاء لعقد الإيجار لم يكن وجه لعدم الاستقرار ، ولا لضمان اجرة المثل ، وإن كان بعنوان الأمانة فعدم استقرار الأُجرة بمضيّ زمان يمكن فيه الاستيفاء وإن كان وجيهاً إلّا أنّه لا مقتضي عندئذٍ للحكم بضمان اجرة المثل. فهذان الحكمان لا يكاد يجتمعان في مورد واحد ، كما لعلّه واضح ، فلاحظ.

١٦٦

[٣٢٨٤] مسألة ٢ : إذا بذل المؤجر العين المستأجرة للمستأجر ولم يتسلّم حتى انقضت المدّة استقرّت عليه الأُجرة (١) ، وكذا إذا استأجره ليخيط له ثوباً معيّناً مثلاً في وقتٍ معيّن وامتنع من دفع الثوب إليه حتى مضى ذلك الوقت ، فإنّه يجب عليه دفع الأُجرة ، سواء اشتغل في ذلك الوقت مع امتناع المستأجر من دفع الثوب إليه بشغل آخر لنفسه أو لغيره أو جلس فارغاً.

[٣٢٨٥] مسألة ٣ : إذا استأجره لقلع ضرسه ومضت المدّة التي يمكن إيقاع ذلك فيها وكان المؤجر باذلاً نفسه استقرّت الأُجرة (٢) ، سواء أكان المؤجر حرّا أو عبداً بإذن مولاه.

______________________________________________________

(١) إذ التمكّن من التسلّم في حكم التسلّم الخارجي فيما هو المناط في استقرار العقد ولزومه من بذل المؤجر للعين وتمكين المستأجر من التصرّف فيها ، بحيث استند عدم الانتفاع إلى امتناع المستأجر باختياره من غير أيّ قصور من ناحية المؤجر ، إذ لا دليل على اعتبار شي‌ء آخر أزيد من ذلك.

ومنه يظهر الحال في إجارة الأعمال التي ذكرها بعد ذلك.

هذا فيما إذا كان العمل مؤقّتاً بوقت.

وأمّا إذا لم يكن له وقت معيّن فسيتعرّض له في المسألة الآتية.

(٢) تفترق هذه المسألة عن سابقتها بأنّ المفروض هنا انقضاء المدّة التي يمكن إيقاع العمل فيها من غير أيّ توقيت في البين ، وفيما مرّ انقضاء الوقت المقرّر بكامله.

وكيفما كان ، فهما يشتركان في مناط الاستقرار من تمكين الأجير وبذله نفسه للعمل في الوقت الذي له اختيار التطبيق فيه بعد أن لم يكن المستأجر مالكاً إلّا

١٦٧

واحتمال الفرق بينهما بالاستقرار في الثاني دون الأوّل (١) لأنّ منافع الحرّ لا تضمن إلّا بالاستيفاء ، لا وجه له ، لأنّ منافعه بعد العقد عليها صارت مالاً للمستحقّ ، فإذا بذلها ولم يقبل كان تلفها منه ، مع أنّا لا نسلّم أنّ منافعه لا تضمن إلّا بالاستيفاء ، بل تضمن بالتفويت أيضاً (*) إذا صدق ذلك ، كما إذا حبسه وكان كسوباً فإنّه يصدق في العرف أنّه فوّت عليه كذا مقداراً. هذا ،

______________________________________________________

لكلّي العمل من غير التحديد بوقت خاصّ بمقتضى افتراض إطلاق الإجارة من ناحية الزمان. وعليه ، فقد أدّى الأجير ما عليه من التمكين المزبور ، وكان الامتناع مستنداً إلى المستأجر نفسه ، ومثله لا يكون مانعاً عن الاستقرار.

وملخّص الكلام في جميع ما ذكرناه لحدّ الآن : أنّه بعد ما عرفت من أنّ المنفعة والأُجرة تملكان بنفس العقد ، فكلّما كان التفويت مستنداً إلى المستأجر من غير أيّ تقصير من ناحية المؤجر أو الأجير كما هو المفروض في الفروض المتقدّمة لم يمنع ذلك عن حقّ المطالبة ، بل كانت الأُجرة مستقرّة إمّا لأجل مضيّ الوقت أو لأجل مضيّ زمانٍ قابل لوقوع العمل فيه حسبما عرفت.

(١) فصّل بعضهم في المسألة بين ما إذا كان المؤجر حرّا ، أو عبداً مأذوناً ، فخصّ الاستقرار بالثاني ، لصدق الإتلاف والتفويت حسبما مرّ ، بخلاف الأوّل ، نظراً إلى أنّ منافع الحرّ قبل الاستيفاء لم تكن مملوكة له ، فليست هي من الأموال حتى يصدق الإتلاف المستوجب للضمان.

نعم ، يصحّ العقد عليها ، إلّا أنّ ذلك لا يصحّح إطلاق اسم المال ، ففي مثله لا يستحقّ الأجير الأُجرة ، لعدم كون عمله مملوكاً له.

__________________

(*) التفويت في نفسه ليس من أسباب الضمان ، وعليه فلا ضمان على الأقوى.

١٦٨

ولو استأجره لقلع ضرسه فزال الألم بعد العقد لم تثبت الأُجرة ،

______________________________________________________

وقد أجاب عنه الماتن أوّلاً : بأنّ عمل الحرّ وإن لم يكن مملوكاً قبل الإجارة إلّا أنّه مملوك بعدها لا محالة ، فإنّ المستأجر يملكه بعد العقد بالضرورة ، فالمالك وإن لم يكن مالكاً لعمل نفسه بالملكيّة الاعتباريّة إلّا أنّه مالك له بالملكيّة الحقيقيّة ، أي أنّ الحرّ له السلطنة على تمليك عمله ، فيكون عمله طبعاً مملوكاً للغير بسبب الإيجار. وعليه ، فإذا وقعت الإجارة صحيحة فلا جرم كان العمل ملكاً للمستأجر وقد فوّته على نفسه حسب الفرض بعدم الاستيفاء. ومعه كيف لا تستقرّ الأُجرة ولا يكون للمؤجّر حقّ المطالبة؟! وهذا واضح.

وعليه ، فلا فرق بين الحرّ والعبد من هذه الجهة بعد فرض وقوع الإجارة وإن افترقا قبل ذلك.

وأجاب (قدس سره) ثانياً : بالمنع عن عدم ضمان منافعه إلّا بالاستيفاء ، بل هو كالعبد في كون عمله مملوكاً.

وما يقال من أنّ حبس الحرّ لا يستوجب الضمان ، لعدم كون عمله مملوكاً له.

لا أساس له من الصحّة ، بل نلتزم بأنّ تفويت عمل الحرّ كالعبد موجب للضمان أيضاً كما إذا كان كسوباً ، فإنّ الاعتبار في الضمان بصدق التفويت ، فإذا فرضنا حرّا كسوباً يكسب كلّ يوم كذا مقداراً من المال فحبسه الحابس يصدق عرفاً أنّه فوّت عليه هذا المقدار من المال ، فيكون ضامناً له بطبيعة الحال.

وهذا الجواب كما ترى لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، لقصور أدلّة الضمان عن الشمول للمقام ، فإنّ سببه إمّا وضع اليد على مال الغير عدواناً أو إتلافه ، بمقتضى أنّ : من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، الذي هو عبارة متصيّدة من الأخبار وإن لم يرد بهذا اللفظ ، مضافاً إلى السيرة العمليّة القائمة على أنّ إتلاف

١٦٩

لانفساخ الإجارة حينئذٍ (*) (١).

______________________________________________________

المال موجب للضمان.

ومن الواضح عدم انطباق شي‌ء من ذلك على عمل الحرّ ، إذ لا يصدق عليه وضع اليد كما هو واضح ولا الإتلاف ، لأنّه متفرّع على أن يكون له مال موجود ليرد الإتلاف عليه ، ولا وجود له حسب الفرض.

نعم ، يصدق التفويت باعتبار أنّ الحابس بحبسه سدّ على الكسوب باب تحصيل المنفعة ، فهو بمنعه عن الاكتساب فوّت

المال عليه ، إلّا أنّ التفويت شي‌ء والإتلاف شي‌ء آخر ، والموجب للضمان إنّما هو الثاني المتوقّف على واجديّته لمال فعلي كما عرفت ، دون الأوّل.

ومن ثمّ لم يجب الحجّ على الحرّ القادر على الكسب وتحصيل الزاد والراحلة قولاً واحداً ، إذ لا يقال : إنّ عنده كذا مقداراً من المال ، فلو كان عمله ملكاً له وكانت أعماله أموالاً فعليّة فكيف لم يجب عليه الحجّ؟! وبالجملة : فرقٌ بين أن يكون له المال وبين أن يقدر على تحصيل المال ، والحرّ الكسوب ليس له مال فعلي وإن كان قادراً على تحصيله ، فلو تصدّى أحد لصيد غزال في البرّ فحبسه ظالم وصدّه عن المسير إليه لا يقال : إنّه أتلف ماله وإن صدق عليه التفويت وإنّه سدّ عليه باب المنفعة ومنعه عن التمليك. وعليه ، فلا مقتضي للمصير إلى الضمان في المقام. والصحيح إنّما هو الجواب الأوّل حسبما عرفت.

(١) لم يتّضح وجهٌ للانفساخ بقولٍ مطلق ، فإنّ زوال الألم لا يستوجب البطلان فيما إذا احتمل عوده ثانياً كما هو الغالب من تكرّر العود إلى أن يقلع ،

__________________

(*) في إطلاقه منع ظاهر ، بل الظاهر عدم الانفساخ مطلقاً.

١٧٠

[٣٢٨٦] مسألة ٤ : إذا تلفت العين المستأجرة قبل قبض المستأجر بطلت الإجارة ، وكذا إذا تلفت عقيب قبضها بلا فصل ، وأمّا إذا تلفت بعد استيفاء منفعتها في بعض المدّة فتبطل بالنسبة إلى بقيّة المدّة ، فيرجع من الأُجرة (*) بما قابل المتخلّف من المدّة إن نصفاً فنصف وإن ثلثاً فثلث مع تساوي الأجزاء بحسب الأوقات ،

______________________________________________________

فالزوال المزبور لا يكشف عن الانفساخ فيما إذا كان الضرس في معرض الألم بحيث لا ينتفع به بعدئذٍ. فلا تستقيم العبارة على إطلاقها.

بل يمكن أن يقال بصحّة الإجارة حتى مع العلم بعدم العود ، لعدم أيّ مقتضٍ للبطلان بعد أن لم يكن قلع الضرس بعنوانه محرّماً حتى إذا كان لغرض سفهائي فضلاً عن داعٍ عقلائي ، فغايته أنّ صاحب الضرس إذا امتنع استقرّت عليه الأُجرة ، لا أنّ الإجارة تكون باطلة.

نعم ، لو فرض عروض عنوان ثانوي محرّم ، كما لو استلزم القلع المزبور نزيفاً يشرف صاحبه على التهلكة ويوقعه في الخطر ، كشف لا محالة عن بطلان الإجارة وانفساخها ، لصيرورة المنفعة حينئذٍ محرّمة ، والمنفعة المحرّمة لا تصحّ الإجارة عليها. لكن الفرض نادر والغالب خلافه ، فالظاهر صحّة الإجارة في الفروض الغالبة ، سواء أكان الألم مرجوّ العود أم لا.

__________________

(*) هذا إذا لم يفسخ الإجارة من أصلها ، وإلّا فيرجع إلى المؤجر بتمام الأُجرة ويجب عليه دفع اجرة المثل بالإضافة إلى ما مضى.

١٧١

ومع التفاوت تلاحظ النسبة (١).

______________________________________________________

(١) ما ذكره (قدس سره) من البطلان في التلف قبل القبض أو بعده بلا فصل وكذا البطلان بالنسبة لو اتّفق التلف أثناء المدّة هو المعروف والمشهور.

ويستدلّ له :

تارةً : بما ورد من أنّ تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه ، بدعوى عدم خصوصيّة للبيع ، وعموم المناط لكافّة المعاوضات ، فيتعدّى إلى الإجارة وغيرها.

واخرى : بمطابقة الحكم المزبور لمقتضى القاعدة من غير حاجة إلى نهوض دليل بالخصوص ، نظراً إلى أنّ التسليم والتسلّم والقبض والإقباض الخارجيّين وإن لم يكونا شرطاً في صحّة العقد شرعاً في غير بيعي الصرف والسلم ، إلّا أنّهما يعدّان كمتمّمين للعقد في نظر العقلاء ، بحيث يرون من بيده المال ضامناً له حتى يوصله إلى الطرف الآخر ، فلم تكن المعاوضة عندهم مجرّد اعتبار الملكيّة محضاً ، بل هي متقوّمة بالتقابض خارجاً ، وقبله يكون من عنده المال محكوماً بالضمان ، وهو معنى البطلان.

وكلا هذين الوجهين كما ترى :

فإنّ التعدّي عن مورد البيع وإن قيل به إلّا أنّه يحتاج إلى القطع بعدم الفرق ليدّعى إلغاء خصوصيّة البيع الذي هو مورد النصّ ، وأنّى لنا به ولم يقم عليه أيّ دليل؟!

وأمّا الدعوى الثانية فهي أيضاً غير ثابتة ، بل الظاهر أنّ المال بعد أن انتقل إلى الآخر بعقدٍ صحيح وأصبح ملكاً له كما هو المفروض فلا جرم كان أمانة شرعيّة بيد من عنده المال حتى يوصله إلى صاحبه ، ولازمه كون التلف على

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

مالكه بطبيعة الحال ، ولم تتحقّق أيّ سيرة عقلائية قائمة على الضمان المدّعى في المقام.

على أنّ هاتين الدعويين لو تمّتا فغايتهما البطلان في التلف قبل القبض لا ما بعده بلا فصل فضلاً عن التلف أثناء المدّة ، كما لا يحكم به في البيع بلا إشكال.

والصحيح في وجه ذلك أن يقال : إنّ ملكيّة المنافع كما مرّ غير مرّة لم تكن ملكيّة مستقلّة وإنّما هي بتبع ملكيّة العين ، فمتى كانت العين مملوكة كانت المنافع مملوكة بتبعها ، ومتى خرجت عن الملك خرجت هي أيضاً ، ومقتضى هذه التبعيّة أنّ العين لو سقطت عن القابليّة ولم تتّصف بالملكيّة العقلائيّة كانت المنافع أيضاً كذلك.

ومن ثمّ لا ينبغي الشكّ بل لم يشكّ أحد في عدم جواز إجارة العين في أزيد من عمرها العادي وما تستعدّ فيه للبقاء ، كإجارة العبد مائة سنة ، أو الدار ألف سنة ، أو الدابّة عشرين ، وهكذا ، لعدم اعتبار العقلاء ملكيّة العين بعد تلك المدّة المديدة ، فلا تكون هي قابلة للملكيّة وقتئذٍ فكذا منافعها ، فحيث لا يعتبرونه مالكاً لتلك المنافع فلا جرم تبطل الإجارة عليها.

وعليه ، فملكيّة المالك للمنافع محدودة طبعاً ببقاء العين وإمكان الانتفاع بها ، وأمّا المنافع بعد التلف فلم تكن مملوكة له من الأوّل ، فلو آجر عبده أو دابّته أو داره فتلفت أو انهدمت قبل التسليم كشف ذلك عن أنّ تلك المنفعة لم تكن مملوكة للمالك من الأوّل حتى يسوغ له تمليكها ، فإنّ العبد الميّت أو الدابّة التالفة فاقدة للمنفعة القابلة للملكيّة ، إذ الملكيّة وإن كانت من الأُمور الاعتباريّة القابلة للتعلّق حتى بالمعدوم ، بل قد يكون المالك أيضاً معدوماً ، إلّا أنّه خاصّ بما إذا كان قابلاً للملكيّة العقلائيّة وللانتفاع في ظرفه ، ومن ثمّ لا يسوغ إجارة العبد أو الدابّة بعد الموت ابتداءً ، لعدم قيام منفعة بهما وقتئذٍ ليملكهما المؤجر فيملّكهما للمستأجر.

١٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إذن فالتلف قبل القبض بل بعد القبض بلا فصل أي قبل مضيّ زمان يمكن الانتفاع يكشف عن فساد الإجارة من الأوّل لا محالة. والتعبير بالانفساخ الواقع في بعض الكلمات المشعر بالفساد من الآن مسامحةٌ في التعبير يعنون به الصحّة ظاهراً إلى الآن ، وعند عروض التلف يستكشف البطلان من الأوّل كما لا يخفى.

هذا كلّه في التلف قبل القبض أو بعده بلا فصل.

وأمّا التلف أثناء المدّة فلا يكشف عن البطلان إلّا بالإضافة إلى المدّة الباقية ، لاختصاص انتفاء المنفعة المملوكة بها ، فيكون حالها حال التلف قبل القبض دون المدّة الماضية ، سواء استوفاها المستأجر خارجاً أم لا.

إذن فيفرق بين المدّتين من حيث الصحّة والفساد بمقتضى الانحلال المطابق لمقتضى القاعدة ، نظير بيع ما يملك وما لا يملك إذا لم يجز المالك أو ما يملك وما لا يملك كالخلّ والخمر ، فإنّ بذل الثمن بإزاء المجموع يستدعي أن يكون لكلّ جزء من المثمن جزء من الثمن فتقسّط الأُجرة بطبيعة الحال بالإضافة إلى ما مضى وما بقي بالنسبة.

هذا إذا كانت الأجزاء متساوية في القيمة.

وأمّا إذا كانت مختلفة فلا بدّ من رعاية الاختلاف ولحاظ الأُجرة من هذه الجهة أيضاً ، فقد تكون الأُجرة في أيّام الشتاء أزيد منها في أيّام الصيف ، وبالنسبة إلى الأماكن المقدّسة ربّما تكون الأُجرة في أيّام الزيارات أغلى قيمةً من غيرها ، فلا بدّ من لحاظ ذلك في مقام التقويم والتقسيط كما هو واضح. ولكنّه مع ذلك يثبت الخيار للمستأجر وإن لم يتعرّض له الماتن ، باعتبار أنّ المستأجر استأجر العين في تمام المدّة بإجارة واحدة ، وهي وإن كانت منحلّة إلّا أنّ كلّ جزء مرتبط بالآخر بمقتضى فرض وحدة الإجارة ، وحيث صحّت

١٧٤

[٣٢٨٧] مسألة ٥ : إذا حصل الفسخ في أثناء المدّة بأحد أسبابه تثبت الأُجرة المسمّاة بالنسبة إلى ما مضى ويرجع منها بالنسبة إلى ما بقي كما ذكرنا في البطلان على المشهور (١) ، ويحتمل قريباً أن يرجع تمام المسمّى (*) ويكون للمؤجّر اجرة المثل بالنسبة إلى ما مضى ، لأنّ المفروض أنّه يفسخ العقد الواقع أوّلاً ، ومقتضى الفسخ عود كلّ عوض إلى مالكه ،

______________________________________________________

الإجارة في البعض دون الآخر فلا جرم تبعّضت عليه الصفقة ، فمن أجله يثبت له خيار التبعّض من أجل تخلّف الشرط الضمني ، فله حينئذٍ فسخ العقد من أصله وفرضه كأن لم يكن ، فيرجع بتمام الأُجرة المسمّاة ، ويدفع للمؤجّر اجرة المثل لما مضى ، كي لا يذهب المال المحترم هدراً بعد امتناع استرداده ، كما أنّ له الإمضاء والتقسيط حسبما عرفت.

(١) هذا الحكم المنسوب إلى المشهور أعني : الصحّة فيما مضى المستتبعة لاستحقاق المسمّى واختصاص الفسخ بما بقي مبنى على القول بأنّ الفسخ إنّما يؤثّر من حينه.

وهذا وإن كان صحيحاً في الجملة ، بمعنى : أنّ الانفساخ إنّما يحكم به من حين تحقّق الفسخ وإنشائه خارجاً ، فلا أثر قبل حدوثه ، فإنّه سالبة بانتفاء الموضوع.

إلّا أنّ الكلام في أنّ تأثيره هل هو من الآن فيترتّب عليه انحلال العقد من حين صدور الفسخ ، أو أنّه من الأصل وبدأ انعقاد العقد ، بحيث يفرض العقد الواقع كأنه لم يكن ونتيجته استرجاع تمام الأُجرة المسمّاة؟

__________________

(*) هذا الاحتمال هو المتعيّن إلّا أن يكون الخيار ثابتاً بالاشتراط الظاهر عرفاً في تقسيط الأُجرة المسمّاة.

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا هو الأظهر ، لما عرفت فيما مرّ من أنّ مرجع جعل الخيار إمّا مطلقاً أو مشروطاً بحصول شي‌ء إلى أنّ التزامه بأصل العقد منوط ومعلّق على عدم الفسخ ، أمّا معه فلا يلتزم به من الأوّل. وعليه ، فإذا فرضنا حصول سبب الفسخ وقد فسخ المستأجر خارجاً فمعناه : أنّه لم يكن ملتزماً بالعقد الموجود بينهما من لدن حدوثه. فالإنشاء وإن كان من الآن إلّا أنّ أثره من الأوّل ، فالتأخّر إنّما هو في إنشاء الفسخ وإبراز حلّ العقد.

وهذا نظير الإجازة في العقد الفضولي ، فإنّ الإمضاء وإن كان متأخّراً إلّا أنّ متعلّقه هو البيع السابق ، فمن الآن يحكم بصحّة ما وقع في ظرفه ، فلا جرم يترتّب الأثر عليه من الأوّل.

وعليه ، فبعد الفسخ بفرض العقد كأن لم يكن ، ونتيجته استرجاع تمام الأُجرة المسمّاة كما عرفت ، ولزوم ردّ المستأجر أُجرة المثل للمنافع السابقة بعد امتناع استردادها بأنفسها وعدم ذهاب مال المسلم هدراً.

فمثلاً : لو كان المستأجر مغبوناً ففسخ من أجل تخلّف الشرط الضمني الارتكازي الذي هو المستند الصحيح في ثبوت هذا الخيار ، لا قاعدة نفي الضرر وغيرها ممّا هي مخدوشة برمّتها حسبما ذكر في محلّه ، فالفسخ المزبور على القول المشهور إنّما يؤثّر في استرجاع الأُجرة في المدّة الباقية. فلو استأجر الدار سنة كلّ شهر بمائة ، فتبيّن بعد ستّة أشهر أنّ قيمتها العادلة كلّ شهر بخمسين ، يسترجع بعد فسخه اجرة الستّة أشهر الباقية.

وأمّا على المختار فيفسخ العقد من أصله ويسترجع تمام الأُجرة المسمّاة بكاملها ويردّ إلى المؤجر أُجرة المثل للستّة أشهر الماضية ، فإنّ هذا هو مقتضى فرض العقد المزبور في عالم الاعتبار كأنه لم يقع بينهما.

ومنه تعرف أنّ ما ذكره في المتن من قوله (قدس سره) : ويحتمل قريباً إلخ ،

١٧٦

بل يحتمل أن يكون الأمر كذلك في صورة البطلان أيضاً ، لكنّه بعيد (١).

______________________________________________________

هو المتعيّن الذي لا ينبغي التردّد فيه.

نعم ، في خصوص شرط الخيار فيما لو استأجر داراً مثلاً وشرط لنفسه الخيار متى شاء ، لا يبعد قيام الارتكاز العرفي على إرادة اختصاص الفسخ بالمدّة الباقية دون ما مضى ، فإنّ الفسخ من الأصل على خلاف البناء العرفي والديدن الجاري بينهم في هذا الخيار خاصّة كما لا يخفى ، إذ العقد سنة مثلاً ينحلّ في الحقيقة إلى عقود في شهور. وشرط الخيار الناشئ غالباً من التردّد في الاستمرار لاحتمال سفرٍ أو شراء دار ونحو ذلك من دواعي جعل الخيار ناظرٌ بحسب فهم العرف بمقتضى مرتكزاتهم إلى التمكّن من الفسخ في بقيّة المدّة مع البناء منهم على إمضاء ما مضى كما مضى.

وأمّا في غير هذا النوع من الخيار مثل ما تقدّم من خيار الغبن (١) فالظاهر أنّ مقتضى الفسخ انحلال العقد من أصله حسبما عرفت.

(١) بل غير محتمل ، إذ لا موجب للانفساخ بالنسبة إلى ما مضى بعد اختصاص سبب البطلان كتلف العين في الأثناء بالمنافع الباقية ، فإنّ العقد وإن كان واحداً صورةً إلّا أنّك عرفت انحلاله في الحقيقة إلى عقود عديدة بتعدّد الشهور مثلاً والبطلانُ في المدّة الباقية من أجل استكشاف أنّ المؤجر لم يكن مالكاً للمنفعة ليملّك لا يستوجبُ البطلان في المدّة الماضية الفاقدة لهذه العلّة بوجه كما هو ظاهر جدّاً.

نعم ، قد عرفت ثبوت خيار التبعّض للمستأجر حيث لم تسلّم له تمام الصفقة

__________________

(١) في ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

١٧٧

[٣٢٨٨] مسألة ٦ : إذا تلف بعض العين المستأجرة تبطل بنسبته ويجي‌ء خيار تبعّض الصفقة (١).

[٣٢٨٩] مسألة ٧ : ظاهر كلمات العلماء أنّ الأُجرة من حين العقد مملوكة للمؤجّر بتمامها (٢) ، وبالتلف قبل القبض أو بعده أو في أثناء المدّة ترجع إلى المستأجر كلّاً أو بعضاً من حين البطلان ، كما هو الحال عندهم في تلف المبيع قبل القبض ، لا أن يكون كاشفاً عن عدم ملكيّتها من الأوّل ، وهو مشكل ، لأنّ مع التلف ينكشف عدم كون المؤجر مالكاً للمنفعة إلى تمام المدّة فلم ينتقل ما يقابل المتخلّف من الأوّل إليه ، وفرقٌ واضح بين

______________________________________________________

الواقعة بكاملها مورداً للعقد ، فإنّ وحدته المفروضة تستوجب اشتراط انضمام الأجزاء التحليليّة بطبيعة الحال ، وقد تخلّف هذا الشرط المستتبع لتعلّق الخيار قهراً ، لكن الخيار بهذا العنوان أمر آخر خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ محلّ البحث متمحّض فيما تقتضيه حيثيّة البطلان ، وقد عرفت أنّ البطلان في الأثناء من حيث هو لا يستوجب الانفساخ إلّا بلحاظ المدّة الباقية دون الماضية ، لسلامتها عن العلّة المقتضية للبطلان والانفساخ حسبما عرفت من الانحلال المزبور ، وعدم التلازم بين الصحّة والفساد.

(١) كما عرفت آنفاً.

(٢) قد عرفت اقتضاء التلف قبل القبض أو بعده بلا فصل بطلان الإجارة ، لكشفه عن عدم ملكيّة المعوّض بعد كون المنافع تابعة للعين ، فلم يكن المؤجر مالكاً للمنفعة لكي يملّكها. وهكذا الحال في التلف في الأثناء ، فإنّ الإجارة تبطل في المدّة الباقية ، لانكشاف عدم المنفعة وإن صحّت في الماضية. وعرفت ثبوت الخيار للتبعّض.

١٧٨

تلف المبيع قبل القبض وتلف العين هنا ، لأنّ المبيع حين بيعه كان مالاً موجوداً قوبل بالعوض ، وأمّا المنفعة في المقام فلم تكن موجودة حين العقد ولا في علم الله إلّا بمقدار بقاء العين ، وعلى هذا فإذا تصرّف في الأُجرة يكون تصرّفه بالنسبة إلى ما يقابل المتخلّف فضوليّاً. ومن هذا يظهر أنّ وجه البطلان في صورة التلف كلّاً أو بعضاً انكشاف عدم الملكيّة للمعوّض.

______________________________________________________

وهذا أعني : بطلان الإجارة المستتبع لرجوع الأُجرة كلّاً أو بعضاً إلى المستأجر هو الذي تقتضيه القاعدة.

وإنّما الكلام في أنّ الرجوع المزبور هل هو من حين الحكم بالبطلان بحيث كانت مملوكة منذ العقد إلى الآن للمؤجّر حتى واقعاً ، كما هو كذلك في باب البيع بلا كلام ، حيث إنّ تلف المبيع قبل القبض موجب للانفساخ من الآن مع كونه ملكاً للمشتري كالثمن للبائع قبل هذا ، حتى في الواقع ونفس الأمر؟

أو أنّ التلف كاشف عن عدم كون الأُجرة مملوكة له أي للمؤجّر من أوّل الأمر وإن تخيّل كونه مالكاً بحيث لو تصرّف فيها كان تصرّفه فضوليّاً منوطاً بإجازة المستأجر؟

ظاهر كلمات المشهور كما في المتن هو الأوّل ، حيث عبّروا كما في الشرائع (١) بانفساخ الإجارة كما عبّروا بانفساخ البيع الظاهر في صحّتها إلى الآن ، وأنّها إنّما تنفسخ من حين التلف ، والأُجرة ملك للمؤجّر قبل الانفساخ ، وتصرّفه فيها تصرّف صحيح ، لأنّه من تصرّف المالك في ملكه ، غاية الأمر أنّه بعد الانفساخ إذا لم يمكن الردّ ينتقل إلى البدل كما في البيع.

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٢١٥.

١٧٩

[٣٢٩٠] مسألة ٨ : إذا آجر دابّة كلّيّة ودفع فرداً منها فتلف لا تنفسخ الإجارة ، بل ينفسخ الوفاء (١) فعليه دفع فرد آخر.

______________________________________________________

ولكن الماتن أشكل عليهم بما هو في محلّه. وحاصل ما ذكره (قدس سره) : ثبوت الفرق الواضح بين الموردين ، فإنّ الحكم المزبور مطابق لمقتضى القاعدة في باب البيع ، نظراً إلى تعلّق الملكيّة فيه بنفس العين وبما أنّها موجودة حال البيع ، فلا جرم كان المشتري مالكاً لها بعد العقد. فلو عرض التلف بعدئذٍ كان مقتضى القاعدة الأوّلية أن يكون في مال المشتري ، لأنّه طرأ في ملكه ولكنّه من أجل السيرة العقلائيّة مضافاً إلى النصّ الناطق بالضمان والانفساخ يلتزم برجوعه آناً ما إلى البائع وكون التلف في ملكه ، ولو لا ذلك لم يكن أيّ مقتضٍ لكون التلف منه ، بل كان من المشتري ، لعروض التلف في ملكه حسبما عرفت.

وهذا بخلاف الإجارة ، فإنّ الملكيّة فيها تتعلّق بالمنفعة دون العين ، والمفروض أنّ المنافع لا وجود لها في المدّة المضروبة لمكان تلف العين وقتئذٍ ، فهي طبعاً لم تكن منتقلة إلى المشتري من الأوّل ، لأنّها بعد افتراض انعدامها لم تكن مملوكة للمؤجّر لكي يتمكّن من تمليكها للمستأجر ، لعدم قابليّة مثلها لتعلّق الملكيّة بها.

فالفرق إذن بين الموردين في غاية الوضوح. وعليه ، فلو تصرّف المؤجر في الأُجرة قبل التلف كان تصرّفه فضوليّاً لا محالة ، لكونه تصرّفاً في ملك المستأجر واقعاً وإن تخيّل أنّه تصرّف في ملكه.

(١) لعدم ورود التلف على ما وقعت الإجارة عليه لتنفسخ ، لأنّ موردها المنفعة الكلّيّة القائمة بالعين الكلّيّة وهي باقية على حالها ، فما وقعت الإجارة

١٨٠