موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

مسألة ٤٢٧ : من وجب عليه المبيت بمنى لا يجب عليه المكث فيها نهاراً بأزيد من مقدار يرمي فيه الجمرات (١) ولا يجب عليه المبيت في مجموع اللّيل ، فيجوز له المكث في منى من أول الليل إلى ما بعد منتصفه ، أو المكث فيها قبل منتصف الليل إلى الفجر (٢).

______________________________________________________

فرعان أحدهما : لو نفر قبل الغروب ثم رجع إلى منى بعد الغروب لحاجة ونحوها فهل يجب عليه المبيت أم لا؟ الظاهر العدم ووجهه ظاهر ، لأن موضوع الحكم بوجوب المبيت ليلة الثالث عشر مَن أدركه المساء أو جاءه الليل وهو في منى كما في صحيح الحلبي ومعاوية بن عمار ، وأمّا لو أدركه الغروب والليل وهو في غير منى فلا يشمله الدليل ، فالتخيير ثابت وباق له.

ثانيهما : لو نفر بعد الزوال ورجع قبل الغروب فغربت عليه الشمس بها فهل يجب عليه المبيت أم لا؟ وجهان ، الأقرب الوجوب ، لأنه برجوعه يستكشف أنه لم ينفر حقيقة ، ولا عبرة بمجرد الخروج من منى بعد الزوال ، وإطلاق الخبرين مِن إدراك المساء وهو بمنى أو مجي‌ء الليل يشمله ، فالنفر الأول ليس بنفر حقيقة بل ذهاب ومجي‌ء فما قرّبه العلّامة من الوجوب في هذه الصورة (١) هو الصحيح.

(١) لعدم الدليل على وجوب البقاء في النهار في منى ، وإنما الواجب عليه رمي الجمار في النهار ، فاللازم عليه البقاء بمقدار يتحقق منه الرمي ، ثم يذهب حيث شاء ، سواء ذهب إلى مكة أو إلى غيرها من البلدان ، وسواء اشتغل بالعبادة أم لا.

(٢) لا كلام في عدم وجوب البيتوتة تمام الليل في منى ، وإنما يجب عليه البقاء من أول الغروب إلى نصف الليل ثم يجوز له الخروج بعد الانتصاف بلا إشكال ، ويدلُّ عليه النصوص منها : صحيحة معاوية بن عمار «وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تبيت في غير منى» (٢) ومنها صحيحة العيص «وإن زار بعد أن انتصف الليل أو

__________________

(١) لاحظ التذكرة ٨ : ٣٧٥ ، المنتهي ٢ : ٧٧٦ السطر الأخير وورد فيهما «لم يلزمه المقام».

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٥١ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١.

٣٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

السحر فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكة» (١).

إنما الكلام في أن وجوب البقاء من الغروب إلى انتصاف الليل وجوب تعييني كما هو المشهور كما حكى عنهم في الرياض بأن ظاهر الأصحاب انحصار المبيت في النصف الأوّل ، فأوجبوا عليه الكون بها قبل الغروب إلى النصف الثاني (٢) أو وجوب تخييري كما نسب إلى الحلبي (٣) فلا فرق بين النصف الأول أو الثاني ، فيجوز له الخروج قبل الغروب من منى ويبقى في خارجها ويرجع إليها عند انتصاف الليل ويبقى إلى الفجر ولكن المشهور كما حكي عنهم خصوا الوجوب بالنصف الأول ولم يجوّزوا له الخروج اختياراً في أول الليل إلّا إذا اشتغل بالعبادة في مكة.

وما ذكروه لا تساعد عليه الأدلة ولم يرد في الروايات اختصاص البيتوتة بالنصف الأوّل ، ولم يرد منع عن اختيار النصف الثاني ، إلّا أن يقال بأن المنصرف من البيتوتة والمبيت بقاء مجموع الليل وتمامه في منى ، ولكن خرجنا عن ذلك بجواز الخروج بعد انتصاف الليل. وبعبارة اخرى : مقتضى ظاهر الأدلة وجوب البقاء من أول الغروب إلى آخر الليل ، خرجنا عن ذلك بجواز الخروج بعد نصف الليل ، فيبقى الباقي على الوجوب.

وهذا الكلام في نفسه لا بأس به ، لأن المنصرف من البيتوتة بقاء تمام الليل واستيعابه ويساعده اللغة (٤) وكثير من موارد استعمالاته ، ولكن نخرج عن ذلك بالنص ، فان الظاهر الاكتفاء بالمبيت بأحد النصفين وتساوي النصفين في تحصيل الامتثال ، ففي صحيحة معاوية بن عمار «فان خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلّا وأنت في منى إلى أن قال وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تصبح في غيرها» (٥) فان المستفاد منها التخيير بين النصفين.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٥٢ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٤.

(٢) الرياض ٧ : ١٢٠.

(٣) الكافي لأبي الصلاح : ١٩٨.

(٤) لسان العرب ٢ : ١٦.

(٥) الوسائل ١٤ : ٢٥٤ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٨.

٣٨٢

والأولى لمن بات النصف الأول ثم خرج أن لا يدخل مكة قبل طلوع الفجر (١).

مسألة ٤٢٨ : يستثني ممن يجب عليه المبيت بمنى عدة طوائف :

الاولى : المعذور كالمريض والممرّض ، ومن خاف على نفسه أو ماله من المبيت بمنى (٢).

______________________________________________________

وأصرح منها صحيحة جعفر بن ناجية «إذا خرج الرجل من منى أوّل الليل فلا ينتصف له الليل إلّا وهو بمنى ، وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها» (١) فالنتيجة هي التخيير بين النصف الأول أو الثاني.

(١) ثم إنه بعد البناء على جواز الخروج من منى بعد ما بات فيها نصف الليل ، هل يجوز له الدخول في مكة قبل طلوع الفجر ، أم لا يدخل مكة إلّا بعد طلوع الفجر فينام ويبقى في الطريق ، ثم يدخل مكة بعد طلوع الفجر؟

نسب إلى جماعة من الأكابر منهم الشيخ (٢) والحلي (٣) وابن حمزة (٤) عدم جواز الدخول إلى مكة إلّا بعد طلوع الفجر ، ولكن لم نعرف لهم مستنداً ، بل مقتضى إطلاق صحيح معاوية بن عمار «وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تبيت في غير منى» وصريح صحيح العيص (٥) «فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكة» جواز الدخول إلى مكة قبل طلوع الفجر. فما ذكروه مخالف للنصوص. مضافاً إلى أنه لا دليل عليه كما في الجواهر (٦).

(٢) لا ينبغي الإشكال في عدم وجوب المبيت في جميع موارد الضرورة كالضرر

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٥٧ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٢٠.

(٢) المبسوط ١ : ٣٧٨.

(٣) السرائر ١ : ٦٠٤.

(٤) الوسيلة : ١٨٨.

(٥) المتقدمين في الصفحة ٣٨١.

(٦) الجواهر ٢٠ : ٩.

٣٨٣

الثانية : من اشتغل بالعبادة في مكة تمام ليلته أو تمام الباقي من ليلته إذا خرج من منى بعد دخول الليل (١).

______________________________________________________

والحرج ، لارتفاع الأحكام والتكاليف الشرعية في موارد الضرر والحرج.

(١) وتدل عليه عدّة من النصوص المعتبرة :

منها : صحيحة معاوية بن عمار «عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر ، فقال : ليس عليه شي‌ء كان في طاعة الله عزّ وجلّ» (١) والمستفاد منها الاشتغال بالعبادة ولو بغير الطّواف والسعي ، فلا خصوصية لهما ، لأن الظاهر من التعليل كون الشخص مشغولاً بالعبادة وبطاعة الله تعالى ، فلا يفرق بين كونه مشغولاً بالطواف أو بالصلاة أو بقراءة القرآن ونحو ذلك ، ففي الحقيقة يجوز تبديل عبادة إلى أُخرى ، ولو كان الأمر مختصاً بالطواف والسعي فلا وجه للتعليل.

ثم إنه لا يلزم في الاشتغال بالعبادة أن يكون مشغولاً بالعبادة من أول الليل إلى آخره ، بل يجوز له الخروج من منى بعد العشاء ويشتغل بالعبادة بقية الليل ، وإن مضى شطر من الليل وهو في منى ، ويدلُّ على ذلك صحيحة معاوية بن عمار لقوله : «فان خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلّا وأنت في منى إلّا أن يكون شغلك نسكك» (٢) فإنه يظهر من هذا بوضوح أنه يجوز له الخروج في الليل قبل النصف ، وأنه لو خرج قبل النصف واشتغل بقية الليل بالعبادة ، فليس عليه شي‌ء ، وإنما الممنوع أن يخرج ولا يرجع قبل النصف ولا يشتغل بالعبادة ، وأمّا إذا خرج في الليل ورجع قبل النصف أو لم يرجع ولكن اشتغل بالعبادة فليس عليه شي‌ء ، وأيضاً يستفاد هذا المعنى من صحيحة أُخرى لمعاوية بن عمار «وسألته عن الرجل زار عشاء فلم يزل في طوافه ودعائه وفي السعي بين الصفا والمروة حتى يطلع الفجر؟ قال : ليس عليه شي‌ء كان في

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٥٥ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٣.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٥٤ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٨.

٣٨٤

ما عدا الحوائج الضرورية كالأكل والشرب ونحوهما (١).

الثالثة : من طاف بالبيت وبقي في عبادته ثم خرج من مكة وتجاوز عقبة المدنيين فيجوز له أن يبيت في الطريق دون أن يصل إلى منى. ويجوز لهؤلاء التأخير في الرجوع إلى منى إلى إدراك الرمي في النهار (٢).

______________________________________________________

طاعة الله» (١) فان المتفاهم منه بقي مقداراً من الليل إلى زمان العشاء في منى ثم خرج من منى وقت العشاء لزيارة البيت ، فحكم (عليه السلام) بأنه ليس عليه شي‌ء فهو في الحقيقة مزج مبيته بين البقاء في منى وبين البقاء في مكة للاشتغال بالعبادة.

(١) فإن العبرة بالصدق العرفي ، ولا يلزم الاستيعاب تمام الليل ، فالفصل العادي بمقدار المتعارف ولو للاستراحة ولقضاء الحوائج الضرورية غير مضر.

(٢) إذا خرج الناسك من منى قاصداً مكة المكرمة لزيارة البيت مثلاً سواء خرج في النهار وبقي إلى الغروب ، أو خرج في الليل ولكن ينوي الخروج من مكة للمبيت بمنى ، فخرج من مكة قاصداً المبيت بمنى فنام في الطريق فلم يدرك البقاء في مكة ، ولم يصل إلى منى ، ففي جملة من الروايات أنه لا بأس عليه ، ففي صحيحة جميل «مَن زار فنام في الطريق ، فان بات بمكة فعليه دم ، وإن كان قد خرج منها فليس عليه شي‌ء وإن أصبح دون منى» (٢).

ولا يخفى أن هذه الرواية صحيحة على طريق الشيخ (٣) ، وقد رواها الكليني عن جميل مرسلاً (٤) فلم يعلم أن الرواية مسندة أو مرسلة فلا يمكن الاعتماد عليها ، وقد تقدم نظير ذلك في غير مورد من الاختلاف بين الشيخ والكليني في إسناد الرواية وإرسالها.

وفي صحيحة هشام «إذا زار الحاج من منى فخرج من مكة فجاوز بيوت مكة

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٥٤ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٩.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٥٦ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٦.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٥٩ / ٨٨١.

(٤) الكافي ٤ : ٥١٤ / ٣.

٣٨٥

مسألة ٤٢٩ : من ترك المبيت بمنى فعليه كفارة شاة عن كل ليلة (١).

______________________________________________________

فنام ثم أصبح قبل أن يأتي منى فلا شي‌ء عليه» (١).

وصحيحة معاوية بن عمار «لا تبت ليالي التشريق إلّا بمنى ، فان بتّ في غيرها فعليك دم ، فان خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلّا وأنت بمنى ، إلّا أن يكون شغلك نسكك أو قد خرجت من مكة» (٢) ومحل الاستشهاد هو الجملة الأخيرة ، وفي جميعها ورد الخروج من مكة ولم يصل إلى منى.

وفي رواية معتبرة جعل العبرة بالتجاوز عن عقبة المدنيين لا بمجرد الخروج من مكة «في الرجل يزور فينام دون منى ، فقال : إذا جاز عقبة المدنيين فلا بأس أن ينام» (٣) فان كان موضع عقبة المدنيين حد مكة ، يعني إذا وصل إلى العقبة فقد خرج من مكة فالروايات متوافقة ويكون المراد من الخروج من مكة والتجاوز من بيوت مكة والجواز من عقبة المدنيين معنى واحداً ، وإن قلنا بأن عقبة المدنيين اسم لموضع آخر فاصل بين مكة ومنى فتقيد هذه المعتبرة الروايات السابقة ، فتكون العبرة بالتجاوز عن عقبة المدنيين قبل الوصول إلى منى وبعد الخروج من مكة.

(١) يدل على ذلك صحيحة صفوان قال : «قال أبو الحسن (عليه السلام) سألني بعضهم عن رجل بات ليلة من ليالي منى بمكة ، فقلت : لا أدري ، فقلت له : جعلت فداك ما تقول فيها؟ فقال (عليه السلام) : عليه دم إذا بات» (٤) وهي صريحة في ثبوت الدم لكل ليلة من ليالي منى ، وصاحب الوسائل نقلها «بات ليالي منى بمكة» وهو اشتباه ، والمذكور في التهذيب (٥) والاستبصار (٦) وكل من روى عنهما نقلها كما ذكرنا.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٥٦ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٧.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٥٤ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٨.

(٣) الوسائل ١٤ : ٢٥٦ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٥.

(٤) الوسائل ١٤ : ٢٥٢ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٥.

(٥) التهذيب ٥ : ٢٥٧ / ٨٧١.

(٦) الاستبصار ٢ : ٢٩٢ / ١٠٣٨.

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ومعتبرة جعفر بن ناجية على طريق الصدوق «عمن بات ليالي منى بمكة ، فقال : عليه ثلاث من الغنم يذبحهنّ» (١) وهي أيضاً صريحة في ذلك ، وجعفر بن ناجية ثقة لأنه من رجال كامل الزيارات ، وصاحب الوسائل رواها عن أبي جعفر بن ناجية وهو رجل مجهول لا وجود له في الرواة ولا في الرجال ، ولكن لا ريب أن نسخة الوسائل غلط ، وكذلك نسخة من لا يحضره الفقيه المطبوع في الهند (لكنهو) فان الموجود في الفقيه المطبوع في إيران الذي علّق عليه علي أكبر الغفاري ، والمطبوع متناً لروضة المتّقين (٢) والمطبوع في النجف الأشرف ، وكذا في الحدائق (٣) ، والوافي (٤) إنما هو جعفر بن ناجية فمن المطمأن به أنّ نسخة الوسائل وكذلك نسخة الفقيه المطبوع في الهند غلط.

وقيل بإزائها روايات تعارض الروايات الدالّة على ثبوت الشاة ، ففي خبر عبد الغفار الجازي «عن رجل خرج من منى يريد البيت قبل نصف الليل فأصبح بمكة ، قال : لا يصلح له حتى يتصدق بها صدقة أو يهريق دماً» (٥) فإنه يدل على التخيير بين الصدقة والشاة فلم تكن الشاة متعينة ، ولكن الرواية من الشواذ ولم يعمل بها أحد فيما نعلم ويمكن حملها على الصدقة فيما إذا لم يتمكن من الشاة ، لما تقدم في الكفارات أن الصدقة بدل عن الكفارة ، فيكون الحكم بالصدقة والشاة تقسيماً للحكم بحسب أفراد المكلفين باختلاف حالاتهم من التمكّن والعجز ، نظير قوله تعالى : «مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِين» (٦) يعني يثبت الحلق لجماعة ويثبت التقصير لطائفة أُخرى. مضافاً إلى أن الخبر ضعيف بالنضر بن شعيب ، فإنه مع كثرة رواياته في الكتب الأربعة لم يذكر في كتب الرجال غير أنّ البرقي عدّ النضر بن شعيب المحاربي من أصحاب الصادق (عليه السلام) (٧)

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٥٣ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٦ ، الفقيه ٢ : ٢٨٦ / ١٤٠٦.

(٢) روضة المتّقين ٥ : ١٣٠.

(٣) الحدائق ١٧ : ٣٠١.

(٤) الوافي ١٤ : ١٢٥٢.

(٥) الوسائل ١٤ : ٢٥٦ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٤.

(٦) الفتح ٤٨ : ٢٧ ونصّها «مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ».

(٧) راجع معجم الرجال ٢٠ : ١٧٣.

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ويحتمل اتحاد النضر بن شعيب مع النضر بن شعيب المحاربي ، وعلى كل حال لم يرد فيه توثيق ، وقد جزم القهبائي في مجمع الرجال (١) ، باتحاده مع النضر بن سويد الذي هو من الأجلاء والثقات ، وهو غريب إذ لا مقتضي لاحتمال الاتحاد فضلاً عن الجزم به ، وكونهما في طبقة واحدة لرواية محمد بن الحسين الخطاب عنهما لا يدل على الاتحاد فالرواية ضعيفة.

بقي في المقام روايتان :

الأُولى : معتبرة سعيد بن يسار «فاتتني ليلة المبيت بمنى من شغل ، فقال : لا بأس» (٢).

الثانية : معتبرة العيص «عن رجل فاتته ليلة من ليالي منى ، قال : ليس عليه شي‌ء وقد أساء» (٣) فان المستفاد منهما عدم لزوم الكفارة عليه ، فتعارضان ما دلّ على الثبوت.

والصحيح أنه لا معارضة في البين ، أمّا عدم البأس في خبر سعيد بن يسار فالمراد به عدم البأس في حجته ، فلا دلالة فيه على نفي الكفارة ، ولو دل فالجواب عنه ما نجيب عن خبر العيص فيقال بأن دلالته على نفي الكفارة بالإطلاق ، فلا ينافي ثبوت الكفارة عليه بشاة ، فالجمع بينه وبين ما دل على الكفارة يقتضي أن يقال إنه لا شي‌ء عليه إلّا الشاة ، وقد ورد نظير ذلك في بعض الروايات كقوله : «لا يضر الصائم إذا اجتنب ثلاث أو أربع : الأكل والشرب والجماع والارتماس» (٤) مع أن المفطرات عشرة فإن الإطلاق المستفاد من ذلك أقوى إطلاق في البين ومع ذلك يقيد بمفطرات أُخر.

ومع الإغماض عن ذلك وفرضنا التصريح بعدم الكفارة لا على نحو الإطلاق فيتحقق التعارض ، فلا بدّ من رفع اليد عنهما لموافقتهما للعامّة ، والعبارة المذكورة في صحيح العيص عين العبارة المحكية عن أحمد كما عن المغني (٥).

__________________

(١) مجمع الرجال ٦ : ١٨٠.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٥٥ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٢.

(٣) الوسائل ١٤ : ٢٥٣ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٧.

(٤) الوسائل ١٠ : ٣١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١ ح ١ وغيره.

(٥) المغني لابن قدامة ٣ : ٤٨٢.

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا يؤكد الحمل على التقية صحيحة صفوان المتقدمة (١) من أنه (عليه السلام) لما سأله بعض العامة فلم يجبه وقال (عليه السلام) لا أدري.

ومن الغريب جدّاً ما صنعه الشيخ (قدس سره) من حمل الروايتين على المشتغل بالعبادة بمكة أو على من خرج من منى بعد نصف الليل (٢) إذ لا يخفى فسادهما ، أمّا فساد الثاني فواضح جدّاً ، لأنه إذا خرج من منى بعد انتصاف الليل فقد عمل بما هو عليه فكيف قال (عليه السلام) «وقد أساء» على أنه كيف يصح التعبير بأنه فاتته ليلة من ليالي منى. وأمّا فساد الأول فلأن المشتغل بالعبادة بمكة لا يقال في حقه فاته المبيت. وأيضاً لا يصح أن يقال إنه أساء ، لأن الفوت والإساءة بترك الواجب والوظيفة مع أنه لو كان مشتغلاً بالعبادة فقد أتى بالوظيفة.

فالصحيح في الجواب أن يقال كما ذكرنا إن دلالتهما بالإطلاق ، فيقيدان بما دلّ على ثبوت الدم أو يحملان على التقية ، فالصحيح وجوب الكفارة عليه بالشاة عن كل ليلة.

وقد احتمل شيخنا الأُستاذ في مناسكه ثبوت الكفارة على المبيت في مجموع الليل وتمامه خارج منى ، فمن خرج بعد أول الليل من منى وبات في مكة غير مشتغل بالعبادة يكون آثماً لترك المبيت في منى وعدم اشتغاله بالعبادة ، ولكن لا تجب عليه الكفارة لأن الكفارة إنما تثبت فيما إذا بات تمام الليل خارج منى (٣).

وفيه : أن المستفاد من النص أنه لو رجع إلى منى بعد انتصاف الليل يثبت عليه الكفارة ، مع أنه لم يبت تمام الليل خارج منى كصحيحة معاوية بن عمار «فان بت في غيرها فعليك دم ، فان خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلّا وأنت في منى إلّا أن يكون شغلك نسكك» (٤) فان المستفاد منه إن رجع بعد انتصاف الليل إلى منى ولم

__________________

(١) في ص ٣٨٦.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٥٨.

(٣) دليل الناسك (المتن) : ٤٣٤.

(٤) الوسائل ١٤ : ٢٥٤ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٨.

٣٨٩

والأحوط التكفير فيما إذا تركه نسياناً أو جهلاً منه بالحكم أيضاً. والأحوط التكفير للمعذور من المبيت (١).

______________________________________________________

يكن شغله نسكه يجب عليه الدم ، وكذلك من صحيحته الأُخرى لقوله : «عن الرجل زار عشاء فلم يزل في طوافه ودعائه وفي السعي بين الصفا والمروة حتى يطلع الفجر قال : ليس عليه شي‌ء كان في طاعة الله» (١) فإنه صريح في أنه إذا زار عشاءً أي مضى شطر من الليل في منى وزار عشاء ، فان كان في طاعة الله فليس عليه شي‌ء ، وأمّا إذا لم يكن في طاعة الله فعليه الكفارة ، وكذلك يستفاد من خبر جميل المتقدم (٢) لقوله : «من زار فنام في الطريق فان بات بمكة فعليه دم» لإمكان أن يزور البيت بعد أوّل الليل وقبل انتصافه ، ولكن الرواية كما عرفت لم يثبت كونها مسندة بل نحتمل إرسالها كما رواها الكليني مرسلة (٣) فتصح للتأييد.

(١) ذكر في الجواهر أن إطلاق النص والفتوى يقضي بعدم الفرق في ثبوت الكفارة بين العالم والجاهل والناسي بل المضطر (٤) وعن بعضهم استثناء المضطر من ثبوت الكفارة كما عن بعض آخر استثناء الجاهل.

وأمّا الناسي فأولى بالخروج ، وربما ادعي الإجماع على ثبوت الكفارة مطلقاً.

ولا ريب أن الإجماع غير تام والقول بعدم وجوب الكفارة في جميع الموارد المزبورة هو الصحيح.

أمّا بالنسبة إلى الاضطرار فلحديث الرفع ، فإنه لا يختص بمجرد التشريع ، بل يرفع كل ما يترتب على الفعل المضطر إليه إلّا إذا قام دليل خاص على الخلاف.

وكذلك الحال بالنسبة إلى الجهل كما في صحيحة عبد الصمد «أيّ رجل ركب أمراً

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٥٤ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٩.

(٢) في ص ٣٨٥.

(٣) الكافي ٤ : ٥١٤ / ٣.

(٤) الجواهر ٢٠ : ٦.

٣٩٠

ولا كفارة على الطائفة الثانية والثالثة ممن تقدم (١).

______________________________________________________

بجهالة فلا شي‌ء عليه» (١) ولذا ذكرنا أنه لا كفارة على الجاهل في باب الصوم (٢) ، فإذا كان يرى جواز المبيت خارج منى فليس عليه شي‌ء بمقتضى صحيح عبد الصمد المتقدم.

وهكذا في مورد النسيان ، فإنه يرتفع في مورده كل حكم مترتب على الفعل ، فكأن الفعل الصادر من الناسي لم يقع وهو في حكم العدم ، والأحوط ثبوت الكفارة في هذه الموارد خروجاً عن شبهة الخلاف.

(١) أمّا عدم ثبوتها على المشتغل بالعبادة فلصحاح معاوية بن عمار المتقدمة (٣) وأمّا عدم وجوبها على من تجاوز عقبة المدنيّين ونام بعد الخروج من مكة فيدل عليه صحيح هشام وصحيح محمد بن إسماعيل المتقدمين (٤) ويؤيدهما خبر جميل (٥) وبإزائها رواية علي ، أي علي بن أبي حمزة البطائني عن أبي إبراهيم (عليه السلام) «سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم رجع فغلبته عينه في الطريق فنام حتى أصبح ، قال : عليه شاة» (٦).

وهي ضعيفة بعلي بن أبي حمزة المعروف بالوقف والكذب. على أنها مطلقة من حيث النوم قبل الخروج من مكة أو بعده ، ففي هذين الفرضين لا كفارة فيهما.

بقي الكلام في استثناء الرعاة والسقاة ، فقد صرح جماعة ومنهم شيخنا الأُستاذ النائيني بعدم وجوب الفدية عليهما (٧).

ولكن لا يمكن المساعدة على ما ذهبوا إليه. أمّا الرعاة فاستثناؤهم لعلّه غفلة من

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٨٨ / أبواب تروك الإحرام ب ٤٥ ح ٣.

(٢) في فصل في كفّارة الصوم قبل المسألة [٢٤٧٠].

(٣) في ص ٣٨٤.

(٤) الوسائل ١٤ : ٢٥٧ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٧ ، ١٥.

(٥) الوسائل ١٤ : ٢٥٦ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٦.

(٦) الوسائل ١٤ : ٢٥٤ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١٠.

(٧) دليل الناسك (المتن) : ٤٣٧.

٣٩١

مسألة ٤٣٠ : من أفاض من منى ثم رجع إليها بعد دخول الليل في الليلة الثالثة عشر لحاجة لم يجب عليه المبيت بها (١).

رمي الجمار

الثالث عشر من واجبات الحج : رمي الجمرات الثلاث الاولى ، والوسطى ، وجمرة العقبة ، ويجب الرمي في اليوم الحادي عشر والثاني عشر (٢).

______________________________________________________

الأعلام ، لأن الراعي شغله وعمله في النهار وأمّا في الليل فحاله وحال بقية الناس سواء ، ولذا استثني الراعي من الرمي في النهار.

نعم ، قد يضطر الراعي من المبيت خارج مكة لحفظ أغنامه وهذا عنوان آخر يدخل بذلك في عنوان المضطر إلى المبيت خارج منى لحفظ نفسه أو ماله ، ويؤكد ما ذكرنا أنه لم يذكر استثناء الرعاة في شي‌ء من الروايات.

وأمّا السقاة فلا وجه لاستثنائهم أيضاً ، فإنه لم يرد في رواياتنا استثناؤهم وإخراجهم عن هذا الحكم. نعم ، ورد من طرقنا أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) رخّص لعمه العباس المبيت بمكة ليالي منى من أجل سقاية الحاج كما في خبر مالك بن أعين (١) ولكن ذلك قضية شخصية في واقعة رخّص النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعمه وهو ولي الأمر وله أن يرخّص لكل أحد ، فالتعدي إلى كل مورد مشكل ، ولا يستفاد من ترخيصه (صلّى الله عليه وآله وسلم) لعمه العباس تعميم الترخيص لجميع السقاة.

(١) لأنّ المستفاد من الأدلة وجوب المبيت على من غربت الشمس عليه وهو في منى ، وأمّا إذا خرج منها قبل غروب الشمس ورجع في الليل فلا تشمله الأدلّة.

(٢) لا خلاف بيننا بل بين المسلمين كافة في وجوب رمي الجمار الثلاث في اليوم الحادي عشر والثاني عشر ، وما عن بعضهم أنه من المسنون يراد به ثبوت وجوبه

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٥٨ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ٢١.

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالسنّة في قبال فريضة الكتاب لا الاستحباب المصطلح ، وتدل على ذلك السيرة القطعية من جميع المسلمين ، ويستفاد الوجوب أيضاً من النص حيث عدّ فيه رمي الجمار من الحج الأكبر وقرنه بالوقوف بعرفة (١) وذلك يكشف عن شدّة الاهتمام بذلك. مع أنه ليس من أجزاء الحج وأركانه ، ويدلُّ على وجوبه أيضاً النصوص الدالة على أنّ من تركه يرجع ويرمي (٢).

وفي هذه الروايات وإن لم يذكر الرمي في اليوم الحادي عشر والثانية عشر ولكن السيرة تدل على ذلك ، ويستفاد أيضاً من بعض الروايات كصحيحة ابن سنان الواردة في رمي جمرة العقبة قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أفاض من جمع حتى انتهى فعرض له عارض فلم يرم حتى غابت الشمس ، قال : يرمي إذا أصبح مرّتين ، مرّة لما فاته والأُخرى ليومه الذي يصبح فيه» (٣) فإنه يستفاد منه وجوب الرمي في اليوم الحادي عشر.

وأمّا الرمي في اليوم الثاني عشر فيدل عليه مضافاً إلى السيرة ما ورد في من نسي الرمي كله أنه يرجع فيرميها متفرقاً يفصل بين كل رميتين بساعة (٤) نظير خبر ابن سنان المتقدم الآمر بالفصل بين الرميين ، بمعنى لا يرمي جمرة العقبة ولاءً وبلا فصل ، بل يفرّق بينهما ، يكون أحدهما بكرة وهي للأمس والأُخرى عند زوال الشمس لهذا اليوم ، وهكذا المستفاد من روايات نسيان رمي الجمار ، فقد أمر (عليه السلام) بالفصل بين كل رميتين بساعة ، فيعلم وجوب رمي الجمار في اليوم الحادي عشر والثاني عشر.

وأيضاً يدل على وجوب الرمي في اليوم الحادي عشر والثاني عشر صحيح معاوية ابن عمار «ارم في كل يوم عند زوال الشمس وقل كما قلت حين رميت جمرة العقبة» (٥)

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٦٣ / أبواب العود إلى منى ب ٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٦١ / أبواب العود إلى منى ب ٣.

(٣) الوسائل ١٤ : ٧٢ / أبواب رمي جمرة العقبة ب ١٥ ح ١.

(٤) الوسائل ١٤ : ٢٦١ / أبواب العود إلى منى ب ٣.

(٥) الوسائل ١٤ : ٦٨ / أبواب رمي جمرة العقبة ب ١٢ ح ١.

٣٩٣

وإذا بات ليلة الثالث عشر في منى وجب الرمي في اليوم الثالث عشر أيضاً على الأحوط (١).

______________________________________________________

فإنه يدل بوضوح على أن المراد بكل يوم غير اليوم العاشر ، وأنّ كل يوم من اليوم الحادي عشر والثاني عشر له رمي.

وبالجملة المستفاد من مجموع هذه الروايات وجوب الرمي في اليومين الحادي عشر والثاني عشر. ويؤيد ذلك خبر بريد العجلي قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي رمي الجمرة الوسطى في اليوم الثاني ، قال : فليرمها في اليوم الثالث لما فاته ولما يجب عليه في يومه» (١) فإنه صريح في وجوب الرمي في اليوم الحادي عشر والثاني عشر ، ولكن في سنده اللؤلؤي وهو ممن لم تثبت وثاقته ، فإن النجاشي وإن وثقه (٢) ولكنه معارض بتضعيف غيره كابن الوليد والصدوق وأبي العباس بن نوح (٣).

(١) لا ريب ولا خلاف في عدم وجوب الرمي في اليوم الثالث عشر إذا لم يبت ليلته في منى ونفر بعد زوال النهار من اليوم الثاني عشر ، فلا يجب عليه الرجوع قطعاً في اليوم الثالث عشر إلى منى للرمي ، فالمراد من قول المحقق في الشرائع ويجب أن يرمي كل يوم من أيام التشريق (٤) وجوب الرمي في اليوم الثالث عشر إذا بات ليلته في منى ، فيكون اليوم الثالث عشر حينئذ كيوم الثاني عشر.

وبالجملة قد تسالموا على أن من بات ليلة الثالث عشر في منى يجب عليه الرمي في اليوم الثالث عشر أيضاً ، فإن تم في البين إجماع فهو ، وإلّا فإثباته بدليل مشكل جدّاً إذ لا يوجد دليل على وجوب الرمي في اليوم الثالث عشر على من أقام ليلته في منى.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٧٣ / أبواب رمي جمرة العقبة ب ١٥ ح ٣.

(٢) رجال النجاشي : ٤٠ / ٨٣.

(٣) راجع منتهى المقال ٢ : ٣٧١ ، معجم الرجال ٥ : ٢٩٧.

(٤) الشرائع ١ : ٣١٥.

٣٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

واستدلّ صاحب الجواهر بإطلاق بعض النصوص (١) ولم نعثر على نص معتبر يدل بإطلاقه على وجوب ذلك وهو أعرف بما قال. نعم ورد في الفقه الرضوي (٢) ودعائم الإسلام (٣) الأمر بالرمي في اليوم الثالث عشر على نحو الإطلاق وإن لم يبت ليلته في منى ، ولم يقل أحد من الفقهاء بذلك أصلاً ، وإنما قالوا بالوجوب على من بات ليلة الثالث عشر ، فما التزم به الأصحاب لا دليل عليه ، وما دل عليه الكتابان لم يلتزموا بمضمونهما ، مضافاً إلى ضعف الروايات المذكورة في الكتابين.

أضف إلى ذلك : أنه يستفاد من بعض النصوص عدم الوجوب وهو صحيح معاوية ابن عمار قال : «إذا نفرت في النفر الأول إلى أن قال إذا جاء الليل بعد النفر الأوّل فبت بمنى فليس لك أن تخرج منها حتى تصبح» (٤) فإنه إذا جاز النفر عند الإصباح أي بعد طلوع الفجر ، فلا يتمكن من الرمي ، لأن وقته ما بين طلوع الشمس إلى الغروب ، فتجويز النفر عند الإصباح يستلزم تجويز ترك الرمي كما لا يخفى.

فالحكم بوجوب الرمي يوم الثالث عشر لمن بات ليلته في منى مبني على الاحتياط.

ثم إن الخبر المتقدم لا ريب في صحته ، وإنما وقع الكلام في المراد بمحمد بن إسماعيل الذي روى عنه الكليني وروى هو عن الفضل بن شاذان وتبلغ رواياته عن محمد بن إسماعيل ٧٦١ رواية ، فربما احتمل بعضهم أنه محمد بن إسماعيل بن بزيع ، وهذا بعيد جدّاً ، لاختلاف الطبقة وعدم إمكان رواية الكليني عنه بلا واسطة ، لأن محمد بن بزيع من أصحاب الرضا (عليه السلام) والفصل بينهما كثير جدّاً ، فرواية الكليني عنه بلا واسطة أمر غير ممكن.

واحتمل بعضهم أنه محمد بن إسماعيل البرمكي صاحب الصومعة ، وهذا أيضاً

__________________

(١) الجواهر ٢٠ : ١٦.

(٢) فقه الرضا : ٢٢٥.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ٣٢٤.

(٤) الوسائل ١٤ : ٢٧٧ / أبواب العود إلى منى ب ١٠ ح ٢.

٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بعيد ، فان طبقته متقدمة على طبقة الكليني ، فان الكليني يروي عنه بواسطة شيخه. على أن محمد بن إسماعيل البرمكي لم يرو عن الفضل بن شاذان ولا في مورد واحد فيتعين أن يكون محمد بن إسماعيل النيسابوري الذي روى عنه الكشي بلا واسطة وهو يروي عن الفضل بن شاذان والكليني قريب الطبقة للكشي ، فيمكن رواية الكليني عن محمد بن إسماعيل النيسابوري بلا واسطة ، وهو وإن لم يوثق في كتب الرجال ولكن يحكم بوثاقته لوقوعه في أسناد كامل الزيارات ، ويؤيد وثاقته إكثار الكليني الرواية عنه.

بقي الكلام في روايتين :

الاولى : ما رواه الكليني بسند صحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «إذا أردت أن تنفر في يومين فليس لك أن تنفر حتى تزول الشمس وإن تأخرت إلى آخر أيام التشريق وهو يوم النفر الأخير فلا شي‌ء عليك أيّ ساعة نفرت ورميت قبل الزوال أو بعده» الحديث (١) فيستفاد من ذلك ثبوت الرمي في اليوم الثالث عشر.

ورواه الشيخ مثله (٢) وكذا في رواية الصدوق (٣) ونسخ الكافي المطبوعة التي بأيدينا حتى في مرآة العقول (٤) مشتملة على كلمة «رميت» وكل من حكى عن الكافي كالوافي (٥) والحدائق (٦) والجواهر (٧) ذكروها مع قوله «ورميت» إلّا أن صاحب الوسائل رواها عن الكافي بدون كلمة «ورميت» وهو ملتفت إلى وجود هذه الكلمة في رواية الشيخ والصدوق ، ويذكر رواية الشيخ والصدوق مع الاشتمال على ذكر هذه الكلمة ، فعدم

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٧٤ / أبواب العود إلى منى ب ٩ ح ٣ ، الكافي ٤ : ٥٢٠ / ٣.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٧١ / ٩٢٦.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٨٧ / ١٤١٤.

(٤) مرآة العقول ١٨ : ٢١٣.

(٥) الوافي ١٤ : ١٢٦٩ / ١.

(٦) الحدائق ١٧ : ٣٢٦.

(٧) الجواهر ٢٠ : ٤٢.

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ذكرها في رواية الكليني ليس غفلة واشتباهاً منه (قدس سره).

فيعلم أن نسخة الكافي الموجودة عند صاحب الوسائل كانت غير مشتملة على ذكر كلمة «ورميت» ولو لا القرينة الخارجية لقلنا بأن نسخة الكافي الموجودة عند صاحب الوسائل غير صحيحة وكانت غلطاً ، وإن من المطمأن به وجود هذه الكلمة في الكافي ، ولكن القرينة القطعية الخارجية قائمة على أن نسخة الكافي الموجودة عند صاحب الوسائل هي الصحيحة ، وكلمة «ورميت» غير موجودة في الكافي ، لأن العبارة لو كانت هكذا «فلا شي‌ء عليك أيّ ساعة رميت ونفرت قبل الزوال أو بعده» لأمكن تصديقها ، ولكن العبارة المذكورة في الرواية هكذا «فلا شي‌ء عليك أيّ ساعة نفرت ورميت قبل الزوال أو بعده» ولا معنى للرمي بعد الزوال أو قبله ، ولم يتوهم أحد أن الرمي يجب إيقاعه قبل الزوال أو يجب إيقاعه بعد الزوال ، وإنما الرواية في مقام الفرق بين النفرين وأن النفر الأول يجب أن يتحقق بعد الزوال ، وأمّا النفر الثاني فمخير بين أن ينفر قبل الزوال أو بعده ، وأمّا الرمي قبل الزوال وبعده فمما لا محصل له ، ولا أقل من الشك في وجود هذه العبارة «ورميت» في الكافي وعدمه ، فلا يمكن الاستدلال به والاعتماد عليه ، ولم يستدل أحد من العلماء بهذه الرواية فيما نعلم ، وهذا كاشف ظني أو قطعي عن عدم وجود هذه الكلمة في الرواية ، وإنما استدل صاحب الجواهر لوجوب الرمي في اليوم الثالث عشر بإطلاق بعض النصوص ، وقد عرفت أنه لم نجد إطلاقاً يدل على ذلك.

الثانية : صحيحة معاوية بن عمار الحاكية لحج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأنه حلق وزار البيت ورجع إلى منى فأقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيام التشريق ثم رمى الجمار ونفر حتى انتهى إلى الأبطح الحديث (١) فإنه يدل على ثبوت الرمي في اليوم الثالث عشر ، إلّا أنه لا يدل على الوجوب ، لأن أكثر ما ذكر قبله وبعده ليس بواجب قطعاً ، وإنما هو مستحب كالتوقف بالأبطح والإقامة ليلة الثالث عشر وغيرهما مما لم يقل أحد بالوجوب ، فلا يمكن استفادة الوجوب من مجرد فعل النبيّ

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢١٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢ ح ٤.

٣٩٧

ويعتبر في رمي الجمرات المباشرة فلا تجوز الاستنابة اختياراً (١).

مسألة ٤٣١ : يجب الابتداء برمي الجمرة الاولى ثم الجمرة الوسطى ثم جمرة العقبة (٢). ولو خالف وجب الرجوع إلى ما يحصل به الترتيب (٣). ولو كانت المخالفة عن جهل أو نسيان (٤).

______________________________________________________

(صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(١) لظهور نفس الأمر بالمباشرة ، ونيابة الغير تحتاج إلى الدليل ، على أنه ورد في الكسير والمبطون والمريض أنه يرمى عنهم (١) فيعلم من ذلك أن الرمي واجب مباشرة وإنما تسقط المباشرة بالعذر.

(٢) يدل عليه الأمر به في صحيحة معاوية بن عمار ، وظاهر الأمر هو الوجوب «قال : وابدأ بالجمرة الأُولى فارمها عن يسارها من بطن المسيل وقل كما قلت يوم النحر إلى أن قال ثم افعل ذلك عند الثانية ثم قال ثم تمضي إلى الثالثة» الحديث (٢).

ويستفاد وجوب الترتيب أيضاً من النصوص الدالة على الإعادة إذا رمى الجمار منكوسة (٣) فإنها واضحة الدلالة على لزوم الترتيب وإلّا فلا معنى للأمر بالإعادة إذا رمى منكوسة.

(٣) تحصيلاً للشرط ، وقد ورد الأمر بالرجوع والإعادة إذا نكس وخالف الترتيب (٤).

(٤) هل يعم الحكم بالترتيب للجاهل والناسي أم يختص بالعامد؟ ذكر الفقهاء أنه لا فرق بين ذلك ، والأمر كما ذكروه لأن الاكتفاء بالخلاف لأحد أمرين :

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٧٤ / أبواب رمي جمرة العقبة ب ١٧.

(٢) الوسائل ١٤ : ٦٥ / أبواب رمي جمرة العقبة ب ١٠ ح ٢.

(٣) الوسائل ١٤ : ٢٦٥ / أبواب العود إلى منى ب ٥.

(٤) الوسائل ١٤ : ٢٦٥ / أبواب العود إلى منى ب ٥.

٣٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : أن صحيحة جميل وصحيحة محمد بن حمران المتقدمتين (١) تدلّان على الاجتزاء إذا قدّم ما حقه التأخير وأخّر ما حقه التقديم.

والجواب عنهما أوّلاً : أن الصحيحتين وردتا في أفعال الحج وأجزائه ولا تشملان كل عمل وفعل إذا كان خارجاً من أعمال الحج كطواف النساء وأعمال منى في أيام التشريق.

وثانياً : لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بشمول الصحيحين لغير أعمال الحج أيضاً ، فنخرج عنهما بالصحيحة الواردة الآمرة بالإعادة فيما إذا نسي الترتيب ، ويلحق الجاهل بالناسي جزماً ، فتكون هذه الصحيحة تخصيصاً لخبر جميل وابن حمران ، وهي صحيحة مسمع «في رجل نسي رمي الجمار يوم الثاني فبدأ بجمرة العقبة ثم الوسطى ثم الأُولى ، يؤخر ما رمى بما رمى ، فيرمي الوسطى ثم جمرة العقبة» (٢).

ثانيهما : حديث رفع النسيان فإنه يرفع الجزئية والشرطية ، فخلاف الترتيب الواقع منه غير ضائر وكأنه لم تكن مخالفة.

والجواب عن ذلك : أن الحديث ينفي الحكم ولا يدل على إثباته ، فالرفع يرفع الحرمة ، وكذلك يرفع الأثر المترتب على الفعل لولا النسيان كالكفارة ، فيجعل الفعل الصادر منه كأن لم يقع ولا يترتب عليه الأثر ، وأمّا الحكم بالصحة وأن الفاقد صحيح فلا يستفاد من الرفع ، فلو نسي الصائم وشرب أو أكل يحكم بأنه لم يرتكب معصية ولم يترتب على شربه إذا نسيه الكفارة ، وأمّا كون الصوم صحيحاً فلا يتكفله حديث الرفع ، بل يحتاج إلى الدليل ، فلو لم يكن دليل خارجي على الصحة والاكتفاء به لكان مقتضى القاعدة عدم الاكتفاء لمخالفته للمأمور به ، وأمّا حديث الرفع فيرفع العقاب والآثار المترتبة على الفعل كالكفارة ونحوها ولا يثبت صحة العمل المأتي به وتمام الكلام في محله (٣). مضافاً إلى أنّ النص دلّ على الفساد والتدارك كما عرفت.

__________________

(١) في ص ٣٢١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٦٥ / أبواب العود إلى منى ب ٥ ح ٢.

(٣) مصباح الأُصول ٢ : ٤٦٢.

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يقال : إن حديث رفع النسيان كما يرفع الحكم التكليفي يرفع الحكم الوضعي ولا يختص الرفع بالحكم التكليفي ، بل يشمل كل ما تناله يد الجعل تكليفاً ووضعاً والجزئية والشرطية والمانعية من الأحكام الشرعية الوضعية ، فإذا كانت جزئية شي‌ء لشي‌ء منسية أو شرطيته له أو مانعيته له ، تكون مرفوعة بحديث رفع النسيان ، فاذا كانت الجزئية مرفوعة أو الشرطية أو المانعية فطبعاً يحكم بصحة الباقي ، لأن هذا الجزء المنسي ليس بجزء في حال النسيان أو أنه ليس بشرط أو ليس بمانع ، فلا موجب للحكم بفساد الباقي ، ولذا نحكم بصحة الصلاة في صورة الجهل بوجوب جزء من أجزائها كالسورة ونحوها من الأجزاء غير الركني.

والجواب : أن الأمر وإن كان كذلك وأن الرفع لا يختص بالأحكام التكليفية بل يرفع الأحكام الوضعية أيضاً ، لأن أمرها بيد الجاعل المقدس وضعاً ورفعاً ، ولكن الجزئية والشرطية والمانعية ليست من المجعولات الابتدائية ولا تنالها يد الجعل ابتداء ولا يمكن أن يقال ابتداء أن الشي‌ء الفلاني جزء أو شرط أو عدمه مانع لأمر آخر ، وإنما هذه الأُمور الثلاثة انتزاعية من الأمر بالمركب من شي‌ء وشي‌ء آخر أو من الأمر المقيد بشي‌ء آخر أو من المقيد بعدم الشي‌ء الآخر ، فإذا أمر المولى بشي‌ء منضماً إلى شي‌ء آخر ينتزع من ذلك الجزئية ، وإذا أمر بشي‌ء مقيداً بشي‌ء آخر ينتزع من ذلك الشرطية ، وإذا أمر بشي‌ء مقيداً بعدم شي‌ء آخر ينتزع منه مانعية ذلك الشي‌ء فالجزئية والشرطية والمانعية لا تنالها يد الجعل ابتداء إلّا بجعل المركب من أُمور أو المقيد بشي‌ء أو المقيد بعدم شي‌ء ، فلو قيل بأن السورة ليست واجبة عند الضيق معناه أن السورة ليست بجزء ، أو إذا قيل إن الشي‌ء الفلاني غير شرط للصلاة معناه أن الأمر لم يتقيّد بذلك ، وإذا قيل بأنّه غير مانع عن الواجب معناه أنّ الأمر بالواجب لم يتقيّد بعدمه وإلّا فالجزئية والشرطية والمانعية في نفسها غير قابلة للجعل ، فمعنى الرفع للجزء المنسي أنه في حال النسيان لم يأمر بالمركب منه ومن غيره ولم يأمر بالمقيد منه فالأمر بالنسبة إلى المركب منه ومن غيره ساقط غير مجعول ، وأمّا أن الباقي له الأمر فحديث الرفع لا يتكفله ويحتاج إلى دليل آخر.

٤٠٠