موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم إنّ ذكر القطعة الأخيرة من هذه الموثقة في الباب التاسع من أبواب الوقوف بالمشعر سهو منه ، لما عرفت من أن المراد من الجبل المذكور فيه هو جبل عرفات لا الجبل الذي هو حد المشعر ، فما ذكره صاحب الحدائق من الاعتراض على الأصحاب هو الصحيح ، إذ لا دليل على جواز الارتفاع إلى الجبل في المشعر الذي هو حد آخر للمشعر وهو غير الجبل الواقع في المشعر ، فقد صرح في صحيح زرارة بأن الجبل حد آخر للمشعر ، فعن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال للحكم بن عتيبة «ما حد المزدلفة؟ فسكت ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : حدها ما بين المأزمين إلى الجبل إلى حياض محسر» (١).

وبالجملة : لا دليل على جواز الوقوف على الجبل الذي هو من حدود المشعر.

نعم ، لو أرادوا من الجبل المأزمين كما حمل صاحب الجواهر عبارة المحقق على ذلك (٢) فلا بأس به ، وإن كان بعيداً ، ولكن كلام صاحب الوسائل صريح في أنّ الجبل المذكور في عنوان الباب غير المأزمين ، لأنه ذكر الجبل في قبال المأزمين.

ثم إنّ بعض الأعلام (٣) استشكل في جواز الوقوف في المأزمين لخروجه عن الموقف وقال : لأن الوقوف بالمشعر من الأركان فكيف يسوغ تركه بمجرّد كثرة الناس والمضايقة.

ولا يخفى أنّ ما ذكره من أوضح موارد الاجتهاد في مقابل النص ، فإنّ الأحكام تعبّدية ولا مانع من كون الموقف موقفاً عند الإمكان وعدم الزحام ، وأمّا عند الزحام والضيق يكون الموقف أوسع ، وليس وجوب الوقوف في المزدلفة من الأحكام العقلية التي لا تقبل التخصيص.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ١٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٨ ح ٢.

(٢) الجواهر ١٩ : ٦٧.

(٣) الظاهر أنه السيد الحكيم (قدس سره) في دليل الناسك : ٣٤٠.

٢٠١

مسألة ٣٧٢ : إذا أفاض الحاج من عرفات فالأحوط أن يبيت ليلة العيد في المزدلفة وإن كان لم يثبت وجوبها (١).

______________________________________________________

(١) هل الواجب من الوقوف في المشعر هو الوقوف بين الطلوعين فقط ، أو يجب المبيت ليلة العيد في المزدلفة أيضاً وإن لم يكن تركه عمداً يوجب الفساد؟

المشهور هو الأوّل (١) واختاره صاحب الجواهر (٢) ونسبه إلى ظاهر الأكثر واستدل أوّلاً بالتأسي ، وفيه : أن التأسي لا يدل على الوجوب ، وإنما يدل على عدم المنع. واستدل ثانياً بعدة من الروايات :

منها : صحيحة معاوية بن عمار عن الحلبي «ولا تتجاوز الحياض ليلة المزدلفة» (٣) فان المستفاد منها عدم التجاوز عن الحياض ليلة العيد فيظهر منها لزوم المبيت ، وإنما المنهي التجاوز إلى الحياض.

وفيه : أن التجاوز إلى الحياض ليلة العيد بأن يذهب إلى الحياض قليلاً ثم يرجع إلى المشعر جائز بالضرورة ، ومن قال بوجوب المبيت لا يمنع عن هذا المقدار من التجاوز ، فالتجاوز إلى الحياض بعنوانه ومستقلا غير محرم قطعاً ، فحينئذ يمكن أن يكون النهي عن التجاوز لأجل درك الوقوف بالمشعر وخوف فوت الموقف.

مضافاً إلى أنه لا دلالة في الصحيحة على وجوب المبيت حتى مع قطع النظر عما ذكرنا ، وذلك فإن النهي عن التجاوز إلى الحياض لا يدل على وجوب المبيت ، إذ يمكن أن يفيض من عرفات ويبيت في الطريق قبل الوصول إلى المشعر ، فيصدق عليه أنه غير متجاوز عن الحياض.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار : «أصبح على طهر بعد ما تصلي الفجر فقف إن شئت قريباً من الجبل وإن شئت حيث شئت» الحديث (٤) فان المستفاد منها المفروغية

__________________

(١) والصحيح أن يقول : المشهور هو الثاني.

(٢) الجواهر ١٩ : ٧٣.

(٣) الوسائل ١٤ : ١٨ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٨ ح ٣.

(٤) الوسائل ١٤ : ٢٠ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١١ ح ١.

٢٠٢

مسألة ٣٧٣ : يجب الوقوف في المزدلفة من طلوع فجر يوم العيد إلى طلوع الشمس ، لكن الركن منه هو الوقوف في الجملة ، فإذا وقف مقداراً ما بين الطلوعين ولم يقف الباقي ولو متعمداً صح حجّه وإن ارتكب محرماً (١).

______________________________________________________

عن المبيت ليلة العيد.

والجواب عن ذلك لعله واضح ، وهو أن الإصباح على طهر يصدق ولو بالوصول إلى المشعر قبل الفجر بقليل ، ولا يحتاج صدق ذلك على المبيت.

والحاصل : الوقوف الواجب هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، ولا بدّ من الوقوف قبل الفجر بقليل من باب المقدمة العلمية فحينئذ يصدق عليه الإصباح بطهور في المشعر.

ومنها : خبر عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سمِّي الأبطح أبطح ، لأن آدم (عليه السلام) أُمر أن يتبطح في بطحاء جمع ، فتبطح حتى انفجر الصبح ، ثم أُمر أن يصعد جبل جمع ، وأمره إذا طلعت الشمس أن يعترف بذنبه ففعل ذلك» (١) فإنه يدل على بقاء آدم في المشعر قبل الفجر.

وفيه أوّلاً : ضعف السند بعبد الحميد بن أبي الديلم ، وبمحمد بن سنان الواقع في السند.

وثانياً : ضعف الدلالة ، لأن الأمر بالبطح (٢) حتى ينفجر الصبح يتحقق ولو بالمكث قبل الفجر بقليل ولا يحتاج إلى المبيت ، فالرواية أجنبية عن المبيت بمقدار ثلث الليل أو نصفه ، فلا دليل على لزوم المبيت وإن كان هو أحوط.

(١) لا ريب في وجوب الوقوف في المشعر فيما بين الطلوعين من يوم العيد ، وهل يجب الاستيعاب في هذه المدة بأن يقف من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، أو أن

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ١١ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٤ ح ٦.

(٢) البطح : هو الانطراح والبسط ومنه الانطراح على وجهه [لسان العرب ٢ : ٤١٢].

٢٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الواجب هو الوقوف في الجملة ، وإن لم يستوعب تمام هذه المدة؟

المعروف هو وجوب الاستيعاب ، بينما ذهب آخرون إلى عدم وجوبه ، وممّن صرح بذلك صاحب الجواهر واستدل بالأصل وإطلاق الأدلة وأنه لا دليل على التقييد (١).

فيقع البحث تارة من حيث المبدأ وأُخرى من حيث المنتهي.

أمّا من حيث المبدأ ولزوم الوقوف من طلوع الفجر ، فقد يستدل عليه بصحيح معاوية بن عمار المتقدم «أصبح على طهر بعد ما تصلي الفجر ، فقف إن شئت قريباً من الجبل ، وإن شئت حيث شئت» (٢) فان المستفاد منه لزوم الإصباح في المشعر فلا يجوز التأخر عن طلوع الفجر ، بل لو لم يكن دليل على عدم اعتبار الطهارة في الوقوف لالتزمنا بوجوب الإصباح عن طهارة ، إلّا أن الدليل قام على عدم اعتبار الطهارة في جميع الأعمال والمناسك عدا الطّواف وصلاته ، فيحمل على الاستحباب ، فما ذكره صاحب الجواهر من أنه لا يدل على وجوب الوقوف عند طلوع الفجر ، وأن الرواية في مقام بيان اختيار أيّ مكان شاء ، وليست في مقام بيان الكون في المشعر ، وإنما تدل على أن المبدأ بعد صلاة الصبح ، لا يمكن المساعدة عليه.

وأمّا من حيث المنتهي ووجوب الوقوف إلى طلوع الشمس فيدل عليه ما في ذيل صحيح معاوية بن عمار «ثم أفض حيث يشرق لك ثبير وترى الإبل مواضع أخفافها» (٣) فإن الأمر بالإضافة حتى يشرق ثبير أي يضي‌ء ثبير وهو جبل بمكة كناية عن طلوع الشمس.

وذكر صاحب الجواهر أن المراد من الإشراق الاسفار ، لرؤية الإبل مواضع أخفافها عند الإسفار ، وذلك أعم من طلوع الشمس (٤) ولكن ما ذكره مبني على حمل هذه الجملة على معناها الحقيقي وإرادة الإسفار والإضاءة من الإشراق.

__________________

(١) الجواهر ١٩ : ٧٦.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٠ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١١ ح ١.

(٣) الوسائل ١٤ : ٢٠ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١١ ح ١.

(٤) الجواهر ١٩ : ٧٦.

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه : أن الظاهر كون المراد من هذه الجملة معنى كنائياً عن طلوع الشمس ، ويقال أشرق ثبير أي طلعت الشمس كما صرح بذلك في اللغة (١) وقد فسرت هذه الجملة بطلوع الشمس في رواية معتبرة أيضاً وهي ما رواه الشيخ عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «ثم أفض حين يشرق لك ثبير وترى الإبل مواضع أخفافها ، قال أبو عبد الله (عليه السلام) كان أهل الجاهلية يقولون أشرق ثبير يعنون الشمس كيما نغير ، وإنما أفاض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) خلاف أهل الجاهلية ، كانوا يفيضون بإيجاف الخيل وإيضاع الإبل ، فأفاض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) خلاف ذلك بالسكينة والوقار والدعة» الحديث (٢) والرواية واضحة الدلالة على أن المراد بهذه الجملة هو طلوع الشمس ، فكأنه قال : ثم أفض حيث تطلع الشمس وترى الإبل مواضع أخفافها.

ولا يخفى أن الوسائل لم يذكر جملة «يعنون الشمس» ولكنها موجودة في التهذيب.

ثم إن الموجود في الوسائل المطبوع بالطبعة الجديدة شرف ، وأشرف ثبير بالفاء وهو غلط جزماً ، وكذا في الطبعة القديمة.

وأمّا من حيث السند فالظاهر أن الرواية معتبرة ، والمراد بإبراهيم الأسدي الواقع في السند الذي روى عنه موسى بن القاسم هو إبراهيم بن صالح الأنماطي الأسدي الذي وثقه النجاشي (٣) لأنه معروف وله كتاب وينصرف إبراهيم الأسدي إليه. مضافاً إلى أن الصدوق رواه في العلل بسند صحيح ليس فيه إبراهيم الأسدي (٤).

وما جاء في صحيح هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «لا تتجاوز وادي محسّر حتى تطلع الشمس» (٥). فالمراد بهذا النص عدم الدخول في

__________________

(١) أشرق ثبير كيما نَغير ، أو أشرق ونغير أي نسرع إلى النحر وندفع النفر وسميت أيام التشريق بذلك ، لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس أي تطلع. مجمع البحرين ٥ : ١٩١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٦ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٥ ح ٥ ، التهذيب ٥ : ١٩٢ / ٦٣٧.

(٣) رجال النجاشي : ١٥ / ١٣.

(٤) العلل : ٤٤٤ ب ١٩٢ ح ١.

(٥) الوسائل ١٤ : ٢٥ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٥ ح ٢.

٢٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وادي محسر وحدوده حتى تطلع الشمس ، وعدم التجاوز وعدم التعدي بالدخول في أوّل الوادي ، فبطبيعة الحال لا بدّ أن يبقى في المزدلفة إلى طلوع الشمس ، فقبل طلوع الشمس ليس له الدخول في وادي محسّر ، وعدم جواز الخروج عن وادي محسّر إلى منى قبل طلوع الشمس ، وإلّا لو كان المراد ذلك لقال لا تدخل منى حتى تطلع الشمس.

والحاصل : المنهي هو الدخول في وادي محسّر قبل طلوع الشمس.

ويؤيد : ما ورد في حج آدم (عليه السلام) وأنه أُمر أن ينبطح في بطحاء جمع فانبطح في بطحاء جمع حتى انفجر الصبح ، وأمره إذا طلعت الشمس أن يعترف بذنبه ففعل ذلك (١).

وبإزاء هذه الروايات مرسلة علي بن مهزيار «ينبغي للإمام أن يقف بجمع حتى تطلع الشمس ، وسائر الناس إن شاؤوا عجلوا وإن شاؤوا أخروا» (٢) فيسوغ لسائر الناس التعجيل والنفر إلى منى قبل طلوع الشمس.

والجواب أوّلاً : أن الرواية ضعيفة بالإرسال.

وثانياً : أن التعجيل والتأخير إنما هما بالنسبة إلى الإفاضة والشروع في النفر ، وذلك يحتاج إلى مدة من الزمان ، فمعنى الرواية أن الإمام أي أمير الحاج ليس له النفر والحركة حتى تطلع الشمس ، ولكن سائر الناس لهم أن يعجّلوا ويتوجّهوا إلى منى وذلك لا يدل على جواز الخروج قبل طلوع الشمس ، فإن الإفاضة والشروع في الحركة يحتاج إلى مدّة من الزمان كما بيناه ، وعليه أن لا يتعدّى إلى وادي محسّر.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عن موثقة إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) أيّ ساعة أحب إليك أن أفيض من جمع؟ قال : قبل أن تطلع الشمس بقليل فهو أحب الساعات إليّ ، قلت : فان مكثنا حتى تطلع الشمس؟ قال : لا بأس» (٣).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٢٧ / أبواب أقسام الحج ب ٢ ح ٢١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٦ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٥ ح ٤.

(٣) الوسائل ١٤ : ٢٥ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٥ ح ١.

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن الإفاضة والشروع في الخروج لا يلازم جواز الخروج قبل طلوع الشمس ولا يلازم عدم وجوب البقاء في المشعر ، لأن الشروع في الخروج والإفاضة يستلزم وقتاً كثيراً خصوصاً في الزحام حتى يخرج ، فما ذكره المشهور من وجوب الوقوف من طلوع فجر يوم العيد إلى طلوع الشمس على نحو الاستيعاب هو الصحيح.

ويؤيد بعدة من الروايات :

منها : ترخيص النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الضعفاء والنساء الإفاضة ليلاً (١) فان المستفاد من هذا الترخيص لهؤلاء المذكورين هو وجوب الوقوف بالمشعر فيما بين الطلوعين لغيرهم.

ومنها : معتبرة مسمع الآتية (٢).

إنما الكلام في الركن منه الذي بتركه يفسد الحج ، نسب إلى الشيخ في الخلاف (٣) وابن إدريس (٤) أن الركن هو الوقوف فيما بين الطلوعين في الجملة ، فلو أفاض قبل الفجر بطل حجّه. ونسب إلى المشهور أن الركن هو الوقوف من أول الليل إلى طلوع الشمس ، بمعنى أنه لو وقف مقداراً من الليل وأفاض قبل الفجر صح حجّه ، لأنه قد أتى بالركن وإن ترك واجباً ولكن يجبره بشاة.

أمّا الاجتزاء بالوقوف في الجملة فيما بين الطلوعين فقد دلت عليه النصوص الدالة على أن من لم يدرك المشعر فلا حج له (٥).

وأمّا بالنسبة إلى ما قبل الفجر فهل يجزئ الوقوف ليلاً ويكون حجّه صحيحاً أم يبطل؟

ذهب المشهور إلى الاجتزاء ، وأنه لو أفاض قبل الفجر عامداً بعد أن وقف قليلاً

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٨ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٧.

(٢) في الصفحة الآتية.

(٣) الخلاف ٢ : ٣٤٤ / ١٦٦.

(٤) السرائر ١ : ٥٨٩.

(٥) الوسائل ١٤ : ٣٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣.

٢٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ليلاً لم يبطل حجّه ، واستدل لهم بمعتبرة مسمع عن أبي إبراهيم (عليه السلام) «في رجل وقف مع الناس بجمع ، ثم أفاض قبل أن يفيض الناس ، قال : إن كان جاهلاً فلا شي‌ء عليه ، وإن كان أفاض قبل طلوع الفجر فعليه دم شاة» (١). فان المستفاد منها أن من أفاض قبل طلوع الفجر عالماً عامداً لا يفسد حجّه وإنما ترك واجباً يجبره بشاة.

ولا يخفي أن الاستدلال بهذه الرواية لمذهب المشهور يتوقف على أن يكون الحكم الثاني المذكور في الرواية حكماً للعالم العامد.

وأشكل عليهم صاحب الحدائق بأن الرواية غير ناظرة إلى حكم العامد وإنما نظرها إلى حكم الجاهل من حيث الإفاضة قبل الفجر وبعده ، فموضوع السؤال في الرواية أنه وقف مع الناس الوقوف المتعارف ، وهو الوقوف من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، خصوصاً أن قوله «وقف مع الناس» ظاهر جدّاً في أنه وقف معهم في هذا الوقت ، فان الناس يقفون ويجتمعون في هذا الوقت ، ولكن أفاض قبل أن يفيض الناس ، أي قبل طلوع الشمس فقال (عليه السلام) «لا شي‌ء عليه» ثم إن الإمام (عليه السلام) تدارك وذكر أنه إنما لا شي‌ء عليه إذا أفاض بعد الفجر ، وإن لم يصبر إلى طلوع الشمس ، ولكن لو أفاض الجاهل قبل الفجر فعليه دم شاة ، فالرواية في الحكمين ناظرة إلى حكم الجاهل ، وأمّا العالم العامد فالرواية ساكتة عنه ولا دليل عليه بخصوصه فاذن تشمله الروايات الدالة على أن من لم يدرك المشعر مع الناس فقد فاته الحج ، ولا أقل من إجمال رواية مسمع ، فالمرجع أيضاً تلك العمومات الدالة على بطلان الحج بترك الوقوف في المشعر ، فحاصل المعنى من الرواية بعد فرض الإفاضة في كلام السائل بعد الفجر وقبل طلوع الشمس هكذا : إن كان جاهلاً فلا شي‌ء عليه في إفاضته في ذلك الوقت ، وإن كانت إفاضته قبل طلوع الفجر فعليه شاة (٢).

وما ذكره (قدس سره) متين جدّاً ، فاذن لا دليل على الصحة فيما إذا أفاض قبل الفجر عمداً ، فالصحيح ما ذهب إليه ابن إدريس والشيخ في الخلاف ، من أن الركن

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٦ ح ١.

(٢) الحدائق ١٦ : ٤٤٠.

٢٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

من الوقوف هو الوقوف في الجملة فيما بين الطلوعين.

وممّا يؤيد أن رواية مسمع موردها خصوص الجاهل : صحيحة علي بن رئاب أن الصادق (عليه السلام) قال «من أفاض مع الناس من عرفات فلم يلبث معهم بجمع ومضى إلى منى متعمداً أو مستخفاً فعليه بدنة» (١). فان وجوب البدنة على المتعمد يكشف عن أن وجوب الشاة كما في رواية مسمع في مورد الجاهل ، وإلّا فكيف يحكم في مورد واحد تارة بأنه عليه شاة وأُخرى بأنه عليه بدنة.

ثم إنّ شيخنا الأُستاذ النائيني (قدس سره) بعد ما اختار مذهب المشهور من أن الركن مسمّى الوقوف في جزء من الليل إلى طلوع الشمس ، ذكر أنه لو أفاض قبل طلوع الشمس صح حجّه مطلقاً ، أي ولو كان عمداً ، ولكن الأحوط أن يجبره بشاة (٢).

والظاهر أنه لا وجه لهذا الجبر ، فإنّ رواية مسمع إنما دلت على الجبر فيما إذا أفاض قبل طلوع الفجر ولم يدرك الفجر في المشعر ، وأمّا إذا أفاض بعد الفجر وقبل طلوع الشمس فلا دليل على الجبر. إلّا الفقه الرضوي (٣) الذي لم يثبت كونه رواية فضلاً عن اعتباره.

فالمتحصل من جميع ما تقدم : أن الواجب الركني الذي يفسد الحج بتركه هو الوقوف في الجملة فيما بين الطلوعين ، وإن كان الواجب هو الاستيعاب من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وأمّا المبيت ليلاً فغير واجب لعدم الدليل عليه ، ولو أفاض قبل الفجر جهلاً منه بالحكم صح حجّه ولكن عليه شاة ، ولو أفاض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس جهلاً فلا شي‌ء عليه ، وأمّا لو أفاض في الليل قبل طلوع الفجر عمداً ، وترك الوقوف فيما بين الفجر وطلوع الشمس رأساً فقد فسد حجّه.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٤٨ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٦ ح ١.

(٢) دليل الناسك (المتن) : ٣٤٤.

(٣) فقه الرضا : ٢٢٤.

٢٠٩

مسألة ٣٧٤ : من ترك الوقوف فيما بين الفجر وطلوع الشمس رأساً فسد حجّه ويستثني من ذلك النساء والصبيان والخائف والضعفاء كالشيوخ والمرضى فيجوز لهم حينئذ الوقوف في المزدلفة ليلة العيد والإفاضة منها قبل طلوع الفجر إلى منى (١).

مسألة ٣٧٥ : من وقف في المزدلفة ليلة العيد وأفاض منها قبل طلوع الفجر جهلاً منه بالحكم صحّ حجّه على الأظهر ، وعليه كفارة شاة (٢).

مسألة ٣٧٦ : من لم يتمكن من الوقوف الاختياري الوقوف فيما بين الطلوعين ـ في المزدلفة لنسيان أو لعذر آخر أجزأه الوقوف الاضطراري الوقوف وقتاً ما بعد طلوع الشمس إلى زوال يوم العيد ، ولو تركه عمداً فسد حجّه (٣).

______________________________________________________

(١) لا ينبغي الريب في فساد الحج بترك الوقوف فيما بين الطلوعين رأساً للعامد المختار ، للروايات المستفيضة المعتبرة (١) مضافاً إلى عدم الخلاف.

وأمّا جواز الإفاضة ليلاً للطوائف المذكورين في المتن فللنصوص المعتبرة المستفيضة فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) رخّص لهم الإفاضة ليلاً والرمي ليلاً (٢).

(٢) قد ذكرنا حكم هذه المسألة عند البحث عن المسألة ٣٧٣ فلا نعيد.

(٣) قد عرفت أن الوقت الاختياري للمشعر من طلوع فجر يوم العيد إلى طلوع الشمس ، وأمّا الاضطراري فيمتد إلى زوال الشمس من يوم النحر ، للنصوص الكثيرة المعتبرة (٣) وحكى ابن إدريس عن السيد امتداد وقت المضطر إلى الغروب (٤) وأنكر العلّامة هذه النسبة أشدّ الإنكار (٥) وكيف كان فلا دليل على الامتداد إلى الغروب.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٨ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٧ ، ١١ : ٢١٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢ ح ٤ ، ١٤ : ٧٠ / أبواب رمي جمرة العقبة ب ١٤.

(٣) الوسائل ١٤ : ٣٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣.

(٤) السرائر ١ : ٦١٩.

(٥) المختلف ٤ : ٢٦٤.

٢١٠

إدراك الوقوفين أو أحدهما

تقدّم أن كلّاً من الوقوفين الوقوف في عرفات والوقوف في المزدلفة ينقسم إلى قسمين : اختياري واضطراري ، فإذا أدرك المكلف الاختياري من الوقوفين كليهما فلا إشكال ، وإلّا فله حالات :

الاولى : أن لا يدرك شيئاً من الوقوفين : الاختياري منهما والاضطراري أصلاً ففي هذه الصورة يبطل حجّه ويجب عليه الإتيان بعمرة مفردة بنفس إحرام الحج ويجب عليه الحج في السنة القادمة فيما إذا كانت استطاعته باقية أو كان الحج مستقراً في ذمته.

الثانية : أن يدرك الوقوف الاختياري في عرفات والاضطراري في المزدلفة.

الثالثة : أن يدرك الوقوف الاضطراري في عرفات والاختياري في المزدلفة ، ففي هاتين الصورتين يصحّ حجّه بلا إشكال.

الرابعة : أن يدرك الوقوف الاضطراري في كل من عرفات والمزدلفة ، والأظهر في هذه الصورة صحّة حجّه وإن كان الأحوط إعادته في السنة القادمة إذا بقيت شرائط الوجوب أو كان الحج مستقراً في ذمته.

الخامسة : أن يدرك الوقوف الاختياري في المزدلفة فقط ، ففي هذه الصورة يصح حجّه أيضاً.

السادسة : أن يدرك الوقوف الاضطراري في المزدلفة فقط ، ففي هذه الصورة لا تبعد صحّة الحج ، إلّا أن الأحوط أن يأتي ببقية الأعمال قاصداً فراغ ذمّته عما تعلق بها من العمرة المفردة أو إتمام الحج ، وأن يعيد الحج في السنة القادمة.

السابعة : أن يدرك الوقوف الاختياري في عرفات فقط ، والأظهر في هذه الصورة بطلان الحج فينقلب حجّه إلى العمرة المفردة ، ويستثنى من ذلك ما إذا

٢١١

وقف في المزدلفة ليلة العيد وأفاض منها قبل الفجر جهلاً منه بالحكم كما تقدّم ولكنه إن أمكنه الرجوع ولو إلى زوال الشمس من يوم العيد وجب ذلك وإن لم يمكنه صح حجّه وعليه كفارة شاة.

الثامنة : أن يدرك الوقوف الاضطراري في عرفات فقط ، ففي هذه الصورة يبطل حجّه فيقلبه إلى العمرة المفردة (١).

______________________________________________________

(١) اعلم أن لكل من الوقوفين الوقوف بعرفة والوقوف بالمشعر الحرام وقت اختياري ووقت اضطراري ، فيكون المجموع أربعة أوقات. أمّا الموقف الاختياري لعرفة فقد عرفت أنه من زوال يوم التاسع من ذي الحجة الحرام إلى الغروب ، والموقف الاضطراري منها هو الوقوف برهة من ليلة العيد ، والموقف الاختياري للمشعر من طلوع الفجر يوم العيد إلى طلوع الشمس ، والاضطراري من طلوع شمس يوم العيد إلى زواله كما في النصوص الكثيرة (١) ونسب إلى السيد المرتضى (قدس سره) امتداده إلى الغروب من يوم العيد (٢) ولا دليل عليه بل لم تثبت النسبة إليه كما تقدّم قريباً.

إذا عرفت ذلك فحاصل الأقسام المتصورة لدرك الموقفين كالآتي :

فإن المكلف قد يدرك الموقفين الاختياريين ، وقد يدرك الاضطراريين ، وقد يدركهما مختلفين ، وقد يدرك أحدهما الاختياري أو الاضطراري لكل منهما من دون أن يدرك الموقف الآخر ، فيكون الوقوف الانفرادي أربعة كما أن الوقوف الامتزاجي التركيبي بين الوقوفين أربعة ، وإذا أضفت إليها صورة عدم إدراكه لشي‌ء من الموقفين لا الاختياري ولا الاضطراري تكون الأقسام تسعة ، فنقول :

قد نفرض أن الناسك لا يدرك شيئاً من الموقفين لا الاختياري منهما ولا الاضطراري أصلاً ، ففي هذه الصورة لا ريب في بطلان حجّه ويكون ممّن فاته الحج ووظيفته

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣.

(٢) تقدم مصدره في ص ٢١٠.

٢١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الإتيان بعمرة مفردة ، وعليه الحج في السنة الآتية فيما إذا كانت استطاعته باقية أو كان الحج مستقرّاً عليه ، وتدل عليه عدّة من النصوص :

منها : صحيح الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي بعد ما يفيض الناس من عرفات إلى أن قال فان لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحج فليجعلها عمرة مفردة وعليه الحج من قابل» (١).

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار ، وغيرهما من الروايات (٢).

وقد نفرض أن الناسك يدرك الوقوف ففيه صور :

فقد يدركهما معاً الاختياريين أو الاضطراريين أو اختياري عرفة واضطراري مشعر أو بالعكس أي اضطراري عرفة واختياري مشعر فهذه أربع صور لصورة الامتزاج والتركيب بين الوقوفين.

وأمّا صور الانفراد فهي أربعة أيضاً ، لأنه قد يقف الموقف الاختياري لعرفة فقط وقد يدرك الموقف الاختياري للمشعر فقط ، وقد يدرك الوقوف الاضطراري في عرفات فقط ، وقد يدرك الموقف الاضطراري في المزدلفة فقط.

فإن أدرك المشعر الاختياري فصوره ثلاثة ، لأنه قد يدرك الموقف الاختياري لعرفة أيضاً ، وقد يدرك الموقف الاضطراري لعرفات وقد لا يدرك شيئاً من الوقوف في عرفات لا الاختياري ولا الاضطراري ، أمّا إذا أدرك الوقوفين الاختياريين فلا ريب في الصحة ، وهذه هي القدر المتيقن من الحكم بالصحة ولا حاجة إلى التكلم والبحث عنه.

وأمّا إذا ضم إليه الموقف الاضطراري لعرفة أو لم يقف في عرفات أصلاً لا الموقف الاختياري ولا الاضطراري فلا ريب في الحكم بالصحة فيهما أيضاً ، للنصوص الدالة على أن من أتى المزدلفة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الحج ولا عمرة له (٣) ،

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٦ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٤ : ٤٨ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٥ ، ٢٧.

(٣) الوسائل ١٤ : ٣٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣.

٢١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يدرك الموقف الاضطراري للمشعر فهذا أيضاً له صور ثلاث ، لأنه قد يقف في عرفات الموقف الاختياري منها وقد يقف الموقف الاضطراري لعرفة وقد لا يقف في عرفات أصلاً لا الاختياري ولا الاضطراري.

أمّا إذا وقف الموقف الاضطراري في المشعر فقط فمقتضى إطلاق جملة من الروايات المعتبرة بل الآية الكريمة بطلان الحج

إذا لم يدرك المشعر قبل طلوع الشمس كما في صحيحة الحلبي «فقد تم حجّه إذا أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشمس وقبل أن يفيض الناس ، فان لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحج فليجعلها عمرة مفردة وعليه الحج من قابل» (١) وأنه إذا أتى المشعر وقد طلعت الشمس من يوم النحر فليس له حج ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل (٢).

كما أن مقتضى إطلاق قوله تعالى (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) إلى أن قال ـ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ) (٣) وجوب درك المشعر عند ما يقف الناس فيه ويفيضون إليه ، ومن المعلوم أن الناس كانوا يقفون إلى طلوع الشمس ، فمقتضى إطلاق هذه الأدلة بطلان الحج وفساده لو لم يدرك المشعر الاختياري ، فلو كنّا نحن وهذه الأدلة لحكمنا بالفساد إلّا إذا كان في البين دليل خاص على خلافه.

ولكن قد وردت روايات كثيرة على أن من أدرك المشعر قبل زوال الشمس فقد صح حجّه وتم ، ففي صحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «من أدرك المشعر يوم النحر قبل زوال الشمس فقد أدرك الحج» (٤) فيحصل التعارض بين الطائفتين ، لأن الطائفة الأُولى تدل على أنه من لم يدرك المشعر إلى طلوع الشمس فلا حج له ، والثانية تدل على امتداد الوقت إلى زوال الشمس من يوم العيد وأنه لو أدرك

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٦ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣.

(٣) البقرة ٢ : ١٩٨.

(٤) الوسائل ١٤ : ٤٠ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣ ح ٨.

٢١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المشعر قبل زوال الشمس فقد أدرك المشعر ، ولا ينبغي الريب في عدم جواز تأخير الوقوف اختياراً إلى الزوال ، وما دل على الامتداد إلى الزوال لا يشمل المتعمد لكلمة «من أدرك» في هذه الروايات ، فان الظاهر من هذه الكلمة هو التأخير عن عذر كما ذكرنا في باب الصلاة في قوله : «من أدرك ركعة من الوقت» (١).

وأمّا التأخير عن عذر فقد عرفت أن مقتضى الطائفة الاولى من الروايات الموافقة للكتاب العزيز هو فساد الحج ، ومقتضى الثانية هو الصحة وقد ذهب المشهور إلى البطلان ، إلّا أن جماعة من القدماء كابن الجنيد (٢) والصدوق (٣) والمرتضى (٤) وجماعة من المتأخرين كصاحب المدارك (٥) والشهيد الثاني (٦) اختاروا الصحة.

فإن قلنا بالتعارض بين الطائفتين فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من الحكم بالبطلان ، لأن الترجيح بالكتاب إنما هو للطائفة الأُولى. ولكن بعد التأمل في جملة من الروايات يتبيّن أنه لا معارضة بين الطائفتين ، بيان ذلك :

إن كلّاً من الطائفتين باعتبار اشتماله على قوله «من أدرك» حيث يظهر من إحداهما امتداد الموقف إلى طلوع الشمس مطلقاً حتى للمعذور ، بينما يظهر من الأُخرى امتداد الموقف إلى زوال الشمس من يوم النحر على الإطلاق فالمعارضة بينهما ظاهرة ، ولكن عدة منها ظاهرة في امتداد الموقف إلى الزوال للمعذور وغير المتمكن ، فتكون هذه الروايات شاهدة للجمع بين الطائفتين ، بحمل الطائفة الأُولى على امتداد الموقف إلى طلوع الشمس للمختار ، وحمل الطائفة الثانية الدالة على امتداد الموقف إلى زوال الشمس من يوم العيد على المعذور وغير المتمكن ، ففي الحقيقة تكون الروايات على طوائف ثلاث :

__________________

(١) تعرّض لهذه القاعدة قاعدة من أدرك في ذيل المسألة [١١٩٠] فلاحظها.

(٢) حكاه في المختلف ٤ : ٢٦٣ / ٢١٦.

(٣) علل الشرائع : ٤٥١.

(٤) الانتصار : ٢٣٤.

(٥) المدارك ٧ : ٤٠٧.

(٦) المسالك ٢ : ٢٧٧.

٢١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولى : ما دلّت على امتداد الموقف إلى طلوع الشمس مطلقاً كصحيحة الحلبي المتقدمة.

الثانية : ما دلّت على امتداد الموقف إلى الزوال من يوم العيد على الإطلاق كصحيحة جميل المذكورة.

الثالثة : ما دلّت على امتداد الموقف إلى الزوال للمعذور كما سنذكرها ، فتكون هذه الطائفة شاهدة للجمع بين الطائفتين المتقدمتين.

فمن جملة هذه الروايات معتبرة عبد الله بن المغيرة ، قال : «جائنا رجل بمنى فقال : إني لم أُدرك الناس بالموقفين جميعاً ، فقال له عبد الله بن المغيرة : فلا حج لك ، وسأل إسحاق بن عمار فلم يجبه فدخل إسحاق بن عمار على أبي الحسن (عليه السلام) فسأله عن ذلك ، فقال : إذا أدرك مزدلفة فوقف بها قبل أن تزول الشمس يوم النحر فقد أدرك الحج» (١) فإنها واضحة الدلالة في فوت الموقفين على الرجل عن عذر وعن غير اختيار ، وصريحة في امتداد الموقف للمعذور إلى الزوال.

وأوضح من ذلك : معتبرة الفضل بن يونس ، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : «سألته عن رجل عرض له سلطان فأخذه ظالماً له يوم عرفة قبل أن يعرف ، فبعث به إلى مكة فحبسه ، فلمّا كان يوم النحر خلى سبيله كيف يصنع؟ فقال : يلحق فيقف بجمع ، ثم ينصرف إلى منى فيرمي ويذبح ويحلق ولا شي‌ء عليه» الحديث (٢).

فظهر أن الصحيح ما ذهب إليه بعض القدماء وبعض المتأخرين من الاجتزاء بالموقف الاضطراري في المزدلفة للمعذور وإن لم يدرك موقفاً آخر ، فان تم الحكم بالصحة في درك الوقوف الاضطراري في المزدلفة فقط فيتمّ الحكم بالصحة في القسمين الأخيرين بالأولوية ، وهما ما لو أدرك اضطراري عرفة أو أدرك اختياري عرفة منضماً إلى الوقوف الاضطراري للمشعر الحرام.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٩ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣ ح ٦.

(٢) الوسائل ١٣ : ١٨٣ / أبواب الإحصار والصد ب ٣ ح ٢.

٢١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فتحصل : أن من أدرك موقف المشعر الاختياري صح حجّه على جميع التقادير سواء وقف اختياري عرفة أو اضطراريها أو لم يدرك شيئاً منهما ، ولا يضرّه فوت الموقف الاختياري أو الاضطراري لعرفات. وأمّا من أدرك الوقوف الاضطراري في المشعر الحرام فقط ، فصوره كما عرفت ثلاث ، لأنه تارة يقتصر على ذلك ولم يدرك اختياري عرفة ولا الاضطراري منها ، وأُخرى يدرك اختياري عرفة أيضاً ، وثالثة : يدرك اضطراري عرفة ، وقد تقدم الكلام في الصورة الأُولى وعرفت أن المعروف بين الأصحاب هو بطلان الحج وعدم الاكتفاء بالموقف الاضطراري للمشعر وحده ، ولكن الأظهر تبعاً لجماعة آخرين من القدماء والمتأخرين هو الصحة ، وذكرنا أن الروايات وإن كانت متعارضة ولكن روايتي ابن المغيرة وابن يونس المتقدمتين تدلّان على الصحة في فرض العذر ، فتحمل روايات البطلان على صورة التمكّن ، وأمّا الصورتان الأخيرتان فيحكم عليهما بالصحة بالأولوية القطعية.

وأمّا إذا قلنا بمقالة المشهور وحكمنا بالبطلان في صورة درك الموقف الاضطراري للمشعر وحده ، فيقع الكلام في درك الوقوف الاختياري في عرفات مع درك الاضطراري للمشعر.

فالمعروف هو الحكم بالصحة ، وتدل على ذلك صحيحة معاوية بن عمار قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في رجل أفاض من عرفات فأتى منى؟ قال : فليرجع فيأتي جمعاً فيقف بها وإن كان الناس قد أفاضوا من جمع» (١) وصحيحة يونس بن يعقوب قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل أفاض من عرفات فمرّ بالمشعر فلم يقف حتى انتهى إلى منى فرمى الجمرة ولم يعلم حتى ارتفع النهار ، قال : يرجع إلى المشعر فيقف به ثم يرجع ويرمي الجمرة» (٢). فإنهما صريحان في إجزاء اختياري عرفة واضطراري المشعر منضماً.

وأمّا لو أدرك اضطراري عرفة واضطراري المشعر فقد اختلفت كلماتهم ، فذهب

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١٤ : ٣٥ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٢ ح ٢ ، ٣.

٢١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بعضهم إلى الفساد وبعضهم إلى الصحة ، وهو الحق ، لصحيح العطّار الوارد فيه بالخصوص عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «إذا أدرك الحاج عرفات قبل طلوع الفجر ، فأقبل من عرفات ولم يدرك الناس بجمع ووجدهم قد أفاضوا فليقف قليلاً بالمشعر الحرام ، وليلحق الناس بمنى ولا شي‌ء عليه» (١).

ولكن الأحوط استحباباً خروجاً من الخلاف إعادة الحج في السنة القادمة إذا بقيت شرائط الوجوب ، أو كان الحج مستقراً في ذمته.

بقي هنا فرضان آخران :

أحدهما : من لا يدرك شيئاً من الوقوف بالمشعر لا الاختياري منه ولا الاضطراري وإنما يدرك الوقوف الاضطراري في عرفات فقط ، ففي هذه الصورة لا ريب في بطلان الحج ، للروايات المتقدمة الدالّة على أنّ مَن لم يدرك المشعر إلى طلوع الشمس أو إلى زوال يوم العيد فقد فاته الحج ولا حج له ، وليس في البين ما يدل على الصحة.

ثانيهما : من أدرك اختياري عرفة خاصة ولم يدرك شيئاً من المشعر الحرام ففيه خلاف ، فعن المشهور الصحة وعن العلامة البطلان ، لأن مقتضى إطلاق من لم يدرك المشعر فقد فاته الحج هو الفساد ، ولا دليل على الاجتزاء بالوقوف الاختياري في عرفات خاصّة (٢) وما اختاره العلّامة هو الصحيح ، لانتفاء ما يدل على الصحة بدرك اختياري عرفة وحده ، والروايات صريحة في أنّ من فاته المشعر فقد فاته الحج.

نعم ، بقي هنا صورة واحدة ، وهي ما لو أدرك اختياري عرفة وأفاض من عرفات ومرّ بالمزدلفة ولم يقف فيها وأفاض منها قبل الفجر جهلاً بالحكم بوجوب الوقوف في المزدلفة أو جهلاً بالموضوع حتى أتى منى ، فان علم بعد ذلك وأمكنه الرجوع ولو إلى زوال الشمس من يوم العيد وجب كما عرفت ويكون ممن أدرك اختياري عرفة واضطراري المشعر ، وإن لم يمكنه ذلك صحّ حجّه وعليه دم شاة كما في صحيح

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٤٤ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٤ ح ١.

(٢) منتهى المطلب ٢ : ٧٢٨ السطر ١٢.

٢١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مسمع (١) ويكتفي بمجرّد المرور والعبور عن المزدلفة وإن لم يكن بقصد الوقوف.

ويدل على الصحة أيضاً ما رواه الكليني بإسناد صحيح عن محمد بن يحيى الخثعمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنه قال في رجل لم يقف بالمزدلفة ولم يبت بها حتى أتى منى ، قال : ألم ير الناس؟ ألم ينكر (يذكر) منى حين دخلها؟ قلت : فإنه جهل ذلك قال : يرجع ، قلت : إن ذلك قد فاته ، قال : لا بأس به» (٢) ويلحق بالجاهل الناسي وغيره من المعذورين ، ولا نحتمل اختصاص الحكم بالصحة في هذا الفرض بالجاهل.

ولكن في خبر محمد بن حكيم قيّد الصحة والاجتزاء بما إذا ذكر الله في المشعر الحرام (٣) إلّا أنه لا نلتزم بهذا التقييد ، لأن الرواية ضعيفة بمحمد بن حكيم ، إذ لم يرد فيه توثيق وإن كان ممدوحاً من حيث المناظرة وعلم الكلام.

ولكن هنا إشكالاً في سند رواية الخثعمي المتقدمة تقدم في روايات جميل وابن أبي نجران ، وهو أن الكليني روى الرواية عن الصادق (عليه السلام) مسنداً (٤) ورواها الشيخ مرسلاً (٥) ومن المستبعد جدّاً أن الخثعمي يروي الرواية لابن أبي عمير تارة مرسلاً عن الصادق كما في التهذيب والاستبصار (٦) وأُخرى مسنداً عن الصادق (عليه السلام) فلا نعلم أن الرواية رويت بطريق صحيح أو ضعيف. وبما ذكرنا ظهر حكم جميع الصور الثمانية.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٤٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٥ ح ٦.

(٣) الوسائل ١٤ : ٤٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٥ ح ٣.

(٤) الكافي ٤ : ٤٧٣ / ٥.

(٥) التهذيب ٥ : ٢٩٢ / ٩٩٢.

(٦) الاستبصار ٢ : ٣٠٥ / ١٠٩١.

٢١٩

منى وواجباتها

إذا أفاض المكلف من المزدلفة وجب عليه الرجوع إلى منى لأداء الأعمال الواجبة هناك وهي كما نذكرها تفصيلاً ، ثلاثة :

١ ـ رمي جمرة العقبة

الرابع من واجبات الحج : رمي جمرة العقبة يوم النحر (١)

______________________________________________________

(١) لا ريب في وجوب رمي جمرة العقبة يوم العيد ، وهو مما لا خلاف فيه بين المسلمين كافّة. ونسب ابن حمزة في الوسيلة استحبابه إلى الشيخ (١) وأنكر ابن إدريس هذه النسبة أشد الإنكار وقال فيما قال : ولا أظن أحداً من المسلمين يخالف فيه ، وقد يشتبه على بعض أصحابنا ويعتقد أنه مسنون غير واجب ، لما يجد من كلام بعض المصنفين عبارة موهمة أوردها في كتابه فإن الشيخ قال في الجمل : والرمي مسنون (٢) فظنّ من يقف على هذه العبارة أنه مندوب غير واجب ، وإنما أراد الشيخ بقوله : مسنون ، أنّ فرضه علم من السنّة لأنّ القرآن لا يدلّ على ذلك ، في قبال الفريضة الذي يعلم وجوبه من القرآن (٣).

وكيف كان ، يدل على وجوبه مضافاً إلى التسالم وقطع الأصحاب صحيح معاوية ابن عمار «خذ حصى الجمار ثم ائت الجمرة القصوى التي عند العقبة فارمها من قبل وجهها» (٤) والأمر ظاهر في الوجوب إذا لم يقترن بالترخيص الخارجي.

ويدلُّ عليه أيضاً ، جواز الإفاضة ليلاً والرمي ليلاً لطوائف خاصّة (٥) فان الترخيص

__________________

(١) الوسيلة : ١٨١.

(٢) الجمل والعقود : ٢٣٤.

(٣) السرائر ١ : ٦٠٦.

(٤) الوسائل ١٤ : ٥٨ / أبواب رمي جمرة العقبة ب ٣ ح ١.

(٥) الوسائل ١٤ : ٢٨ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ١٧.

٢٢٠