موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

مسألة ٣٦٤ : الأحوط أن لا يطوف المتمتع بعد إحرام الحج قبل الخروج إلى عرفات طوافاً مندوباً ، فلو طاف جدّد التلبية بعد الطّواف على الأحوط (١).

______________________________________________________

والظاهر أن إشكاله في بطلان الحج بذلك في محله ، إذ لا دليل على لزوم الإحرام من زوال يوم عرفة حتى على من لا يجب عليه الوقوف لعذر من الأعذار ، فيجوز له تأخير الإحرام إلى أن يقف في المشعر أو في الموقف الاضطراري لعرفة ، فان الإحرام إنما يجب لأجل الوقوف بعرفة ، فإذا فرضنا سقوط الوقوف بعرفة عنه لعدم تمكنه منه فلا يجب عليه الإحرام من الزوال ، وحكم المشهور بالفساد بترك الإحرام عمداً غير ناظر إلى هذه الصورة ، وإنما نظرهم إلى من وجب عليه الوقوف وترك الإحرام عمداً.

(١) الطّواف بعد إحرام الحج حرام أم مكروه؟ وعلى تقدير الحرمة هل يترتب عليه شي‌ء من تجديد التلبية بعد الطّواف أم لا؟

نسب إلى الشيخ (١) وغيره بل إلى المشهور المنع ، وما ذكروه أحوط ولكنه غير ممنوع ، والوجه في ذلك : أن ما دل على عدم جواز الطّواف إنما هو صحيحتان :

الأُولى : صحيحة الحلبي قال : «سألته عن الرجل يأتي المسجد الحرام وقد أزمع بالحج ، يطوف بالبيت؟ قال : نعم ما لم يُحرم» (٢).

الثانية : صحيحة حماد في حديث قال : «ودخل ملبياً بالحج فلا يزال على إحرامه فإن رجع إلى مكة رجع محرماً ولم يقرب البيت حتى يخرج مع الناس إلى منى على إحرامه» (٣). فإن النهي عن قرب البيت كناية عن الطّواف.

وبإزائهما معتبرة إسحاق قال : «وسألته عن الرجل يحرم بالحج من مكة ، ثم يرى البيت خالياً فيطوف به قبل أن يخرج ، عليه شي‌ء؟ فقال : لا» (٤) واحتمال رجوع

__________________

(١) التهذيب ٥ : ١٦٩.

(٢) الوسائل ١٣ : ٤٤٧ / أبواب الطّواف ب ٨٣ ح ٤.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٠٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ٦.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٨١ / أبواب أقسام الحج ب ١٣ ح ٧.

١٨١

الوقوف بعرفات

الثاني من واجبات حج التمتّع : الوقوف بعرفات بقصد القربة ، والمراد بالوقوف هو الحضور بعرفات من دون فرق بين أن يكون راكباً أو راجلاً ساكناً أو متحركاً (١).

______________________________________________________

حرف «لا» إلى الطّواف فيدل على المنع عنه بعيد جدّاً ، بل الظاهر رجوعه إلى قوله : «عليه شي‌ء» فالمعنى أنه لا شي‌ء عليه.

ويؤيد برواية عبد الحميد بن سعيد عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال : «سألته عن رجل أحرم يوم التروية من عند المقام بالحج ، ثم طاف بالبيت بعد إحرامه وهو لا يرى أن ذلك لا ينبغي ، أينقض طوافه بالبيت إحرامه؟ فقال : لا ، ولكن يمضي على إحرامه» (١) والرواية ضعيفة بعبد الحميد بن سعيد فإنه لم يوثق.

وأمّا تجديد التلبية بعد الطّواف فلا بأس به لذكره في كلمات الفقهاء ولكن لم يرد فيه أيّ نص ، وإنما ورد في حج الافراد والقران (٢).

(١) لا خلاف بين المسلمين كافّة في وجوب الوقوف بعرفات ، ويدلُّ عليه النصوص المتواترة (٣) ومن جملة النصوص ما ورد في كيفية حج النبي (صلّى الله عليه وآله) (٤) فلا ريب في هذا الحكم فإنه من الواضحات بل من الضروريات.

فيقع البحث في جهات أُخر نذكرها في مسائل :

الأُولى : يعتبر في الوقوف قصد القربة ، وهذا أيضاً مما لا خلاف فيه ، ويدلُّ عليه مضافاً إلى المرتكز الشرعي قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (٥) فإن ما كان لله

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٤٤٧ / أبواب الطّواف ب ٨٣ ح ٦.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٨٥ / أبواب أقسام الحج ب ١٦.

(٣) الوسائل ١٣ : ٥٤٨ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ١٩.

(٤) الوسائل ١١ : ٢١٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢.

(٥) البقرة ٢ : ١٩٦.

١٨٢

مسألة ٣٦٥ : حد عرفات من بطن عرنة وثوية ونمرة إلى ذي المجاز ، ومن المأزمين إلى أقصى الموقف ، وهذه حدود عرفات وخارجة عن الموقف (١).

مسألة ٣٦٦ : الظاهر أن الجبل موقف (٢) ، ولكن يكره الوقوف عليه ويستحب الوقوف في السفح من ميسرة الجبل.

______________________________________________________

لا بدّ أن يؤتى به على وجه الطاعة ، وذلك لا يتحقق إلّا بقصد التقرّب إليه تعالى.

الثانية : أن المراد بالوقوف هو الكون والحضور بعرفات وأن لا يتجاوز عن ذلك المكان ، ومنه وقوف الماء ، أي الماء الراكد مقابل الجاري ، ومنه أيضاً وقف الأعيان أي لا يتجاوز عمّا حدّده الواقف ، فان الوقوف لغة هو الكون (١) ومنه الموقوف ، فليس المراد به الوقوف مقابل الجلوس ، نعم ، لو قيل وقف على قدميه يفهم منه القيام ، وأمّا مجرّد الوقوف فلا يتفاهم منه القيام. فلا فرق بين أنحاء الكون من النوم أو القيام أو الجلوس أو الركوب. مضافاً إلى السيرة المستمرة القطعية.

نعم ، لا ريب أن الوقوف بمعنى القيام يكون أفضل.

(١) الثالثة : في بيان حدود عرفة وهي مكان معروف قد حدد في الروايات من بطن عرنة وثوية ونمرة إلى ذي المجاز ، ومن المأزمين إلى أقصى الموقف ، كما في صحيحة معاوية بن عمار وأبي بصير (٢) والمرجع في معرفة ذلك هو أهل الخبرة وسكنة تلك البلاد.

(٢) وإن كان الأفضل الوقوف في ميسرته كما في النصوص الحاكية لحج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) (٣).

__________________

(١) لم نعثر على هذا المعنى فيما بأيدينا من الكتب اللغوية.

(٢) الوسائل ١٣ : ٥٣١ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ١٠ ح ١ ، ٢.

(٣) الوسائل ١٣ : ٥٣٤ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ١١ ، وكذا في الوسائل ١١ : ٢١٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢.

١٨٣

مسألة ٣٦٧ : يعتبر في الوقوف أن يكون عن اختيار ، فلو نام أو غشي عليه هناك في جميع الوقت لم يتحقق منه الوقوف (١).

مسألة ٣٦٨ : الأحوط للمختار أن يقف في عرفات من أول ظهر التاسع من ذي الحجة إلى الغروب ، والأظهر جواز تأخيره إلى بعد الظهر بساعة تقريباً والوقوف في تمام هذا الوقت وإن كان واجباً يأثم المكلف بتركه إلّا أنه ليس من الأركان ، بمعنى أن من ترك الوقوف في مقدار من هذا الوقت لا يفسد حجّه ، نعم لو ترك الوقوف رأساً باختياره فسد حجّه. فما هو الركن من الوقوف هو الوقوف في الجملة (٢).

______________________________________________________

(١) الجهة الرابعة : أن الواجب من الوقوف هي الحصة الاختيارية ، فلا بدّ من صدوره عن قصد واختيار ، وقد ذكرنا في بحث التعبّدي والتوصّلي من مباحث علم الأُصول (١) أن ما وجب على المكلف لا بد من صدوره عنه بالاختيار حتى إذا كان توصلياً فضلاً عما إذا كان عباديا ، وإلّا فلا يصح استناد الفعل إليه ، فلو وقف غافلاً في تمام المدّة أو نام أو غشي عليه في جميع الوقت من الزوال إلى الغروب فان الوقوف منه لم يتحقق.

نعم ، لو أفاق أو انتبه في بعض الوقت اجتزأ به ، لأن الواجب الركني الذي يفسد الحج بتركه هو مسمى الوقوف لإتمام الوقت ، فإن الزائد عن المسمى وإن كان واجباً مستقلا يأثم بتركه عمداً ولكن لا يفسد الحج بتركه.

(٢) يقع الكلام في مبدأ الوقوف بعرفات ومنتهاه ، أمّا المنتهي : فلا خلاف في أنه يجب الوقوف إلى الغروب ، وأمّا الروايات ففي بعضها ورد غروب الشمس وفي بعضها إلى أن وقع القرص قرص الشمس وفي بعضها إذا ذهبت الحمرة من ها هنا ، وأشار بيده إلى المشرق وإلى مطلع الشمس (٢) وجميع ذلك يرجع إلى معنى واحد كما ذكرنا ذلك في باب أوقات الصلاة (٣) وهو استتار القرص

__________________

(١) راجع محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٣٩ وما بَعدها.

(٢) الوسائل ١٣ : ٥٥٧ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ٢٢ ، ٢٣.

(٣) في أوقات اليومية والنوافل ذيل المسألة [١١٨٠].

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا عبرة بالحمرة الباقية في السماء بعد غروب الشمس والتي توجد في وسط السماء من قمة الرأس ، بل العبرة بزوال الحمرة من المشرق ، وهي تحصل باستتار القرص قطعاً كما هو المشاهد.

وأمّا المبدأ : فالمشهور أنه من الزوال ، بل قال في المدارك (١) واعتبر الأصحاب في النية وقوعها عند تحقق الزوال ليقع الوقوف الواجب وهو ما بين الزوال والغروب بأسره بعد النية ، ولكن الأخبار الواردة في المسألة لا تعطي ذلك ، بل ربما يظهر من بعضها خلافه كما صرح بذلك في المدارك أيضاً ، بل لم نعثر على رواية تدل على الأمر بالوقوف من الزوال ، ولذا نسب إلى جماعة من القدماء وإلى جملة من المتأخرين جواز التأخير عن الزوال بمقدار الاشتغال بالغسل وصلاة الظهرين.

ففي صحيحة معاوية بن عمار الواردة في صفة حج النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه انتهى إلى نمرة وهي بطن عرنة بحيال الأراك ، فضربت قبّته ، وضرب الناس أخبيتهم عندها ، فلما زالت الشمس خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه قريش (٢) وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم ثم صلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين ثم مضى إلى الموقف فوقف به (٣).

وفي صحيحة أُخرى لمعاوية بن عمار في حديث قال «فاذا انتهيت إلى عرفات فاضرب خباءك بنمرة ، ونمرة هي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة ، فاذا زالت الشمس يوم عرفة فاغتسل وصل الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين ، فإنما تعجل العصر وتجمع بينهما لتفرغ نفسك للدعاء ، فإنه يوم دعاء ومسألة» (٤).

وفي موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «لا ينبغي الوقوف تحت الأراك ، فأمّا النزول تحته حتى تزول الشمس وينهض إلى الموقف فلا بأس به» (٥) فان

__________________

(١) المدارك ٧ : ٣٩٣.

(٢) في منتقى الجمان [٣ : ٣٤٤] «ومعه فرسه» بدل «قريش».

(٣) الوسائل ١١ : ٢١٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢ ح ٤.

(٤) الوسائل ١٣ : ٥٢٩ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ٩ ح ١.

(٥) الوسائل ١٣ : ٥٣٣ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ١٠ ح ٧.

١٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المستفاد من هذه النصوص جواز التأخير بمقدار الاشتغال بالغسل وأداء الظهرين واستماع الخطبة.

بل المستفاد من النصوص استحباب التأخير بمقدار أداء هذه الأعمال تأسياً بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وللأمر به في بعض النصوص المعتبرة ، ولا ينافي ذلك كون التقديم والوقوف من أول الزوال أحوط ، فإن ذلك نظير الإتمام والقصر في أماكن التخيير من كون الإتمام أفضل والقصر أحوط.

نعم ، لا يبعد اعتبار الاشتغال بالعبادة في هذه المدة في صورة التأخير ، فالتأخير عمداً من دون أن يشتغل بعبادة مشكل. وهذه الأُمور تشغل مقدار ساعة من الزمان تقريباً.

وذكر في الحدائق أنه يشتغل بالوقوف ومقدماته من الغسل أوّلاً ثم الصلاة الواجبة والخطبة واستماعها كما ورد في كيفية حج النبي (صلّى الله عليه وآله) ثم يأتي الموقف (١) ولكنّ الأحوط خروجاً عن مخالفة المشهور هو الوقوف من أول زوال يوم عرفة فيأتي بهذه الأعمال في عرفات.

وما احتمله صاحب الجواهر من إمكان إرادة إتيان هذه المقدمات والأعمال كلها في عرفات من النصوص (٢) بعيد جدّاً ، لتصريح النص بأنه يأتي بها بنمرة وهي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة. وقد احتمل أيضاً أن المسجد الذي صلى فيه النبي (صلّى الله عليه وآله) غير المسجد الموجود الآن بنمرة المسمى بمسجد إبراهيم (عليه السلام) ولكنه غير ثابت.

وكيف كان فلا خلاف في أن الواجب الركني هو مسمي الوقوف والزائد عليه واجب غير ركني يأثم بتركه ويصح حجّه ، وتدل على ذلك الروايات الدالة على أن من أفاض قبل الغروب عليه بدنة (٣) فان ذلك يكشف عن الاكتفاء بالوقوف ولو

__________________

(١) الحدائق ١٦ : ٣٧٧.

(٢) الجواهر ١٩ : ٢٣.

(٣) الوسائل ١٣ : ٥٥٨ / أبواب إحرام الحج والوقوف ب ٢٣.

١٨٦

مسألة ٣٦٩ : من لم يدرك الوقوف الاختياري الوقوف في النهار لنسيان أو لجهل يعذر فيه أو لغيرهما من الأعذار لزمه الوقوف الاضطراري الوقوف برهة من ليلة العيد وصح حجّه ، فان تركه متعمداً فسد حجّه (١).

______________________________________________________

آناً ما ، وعدم فساد الحج بالإفاضة قبل الغروب ولو عمداً كما صرح في النص بأنه لو كان متعمداً فعليه بدنة ، هذا من ناحية المنتهي.

وأمّا من حيث عدم لزوم الوقوف من أوّل الزوال فيدل عليه صحيح جميل الدال على جواز إتيان عمرة التمتّع إلى زوال الشمس من يوم عرفة (١) ومن المعلوم أن عرفات تفصل عن مكة بأربعة فراسخ ، فاذا فرغ المكلف من عمرته عند الزوال وسار إلى عرفات يفوت عنه الوقوف من أوائل الزوال قطعاً. وأوضح من ذلك ما دل على جواز إتيان عمرة التمتّع في يوم عرفة إلى أن يدرك الناس بعرفة وما لم يخف فوت الموقفين (٢) وإطلاق ذلك يقتضي كفاية درك الوقوف ولو ساعة ما ، فلا ريب أن المسمّى هو الركن والذي يوجب فساد الحج وبطلانه هو ترك الوقوف بالمرّة ، وتدل على ذلك أيضاً الروايات الدالّة على أن أصحاب الأراك الذين يقفون تحت الأراك لا حجّ لهم (٣) وذلك لأن الأراك ليس من عرفات ، فالبطلان مستند إلى عدم الوقوف في الموقف.

(١) إذا فاته الوقوف الاختياري من عرفة الوقوف في النهار فان كان مستنداً إلى العمد فسد حجّه بلا إشكال ، وإن كان مستنداً إلى العذر فقد يكون عذراً خارجياً كالمرض وشدة البرد أو شدة الحر ونحو ذلك من الأعذار الخارجية ، فالواجب عليه الوقوف الاضطراري الوقوف برهة من ليلة العيد وصح حجّه ، وهذا هو القدر المتيقن من الروايات (٤).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ١٥.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩١ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠.

(٣) الوسائل ١٣ : ٥٣٢ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ١٠ ح ٣ ، ١١.

(٤) الوسائل ١٤ : ٣٥ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٢.

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن لم يتمكّن من الوقوف الاضطراري أيضاً فحينئذ يسقط عنه الوقوفان الاختياري والاضطراري من عرفة ويتعين عليه الوقوف في المشعر ويصح حجّه «فان الله تعالى أعذر لعبده ، فقد تم حجّه إذا أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشمس» كما في صحيح الحلبي (١).

والحكم بالصحة في هذا الفرض هو القدر المتيقن من الإدراك ، فإذا ترك ذلك عمداً بطل حجّه.

وقد يكون العذر جهله بالموضوع كما إذا تخيل أن يوم عرفة غير هذا اليوم أو جهله بالحكم صح حجّه أيضاً كالصورة السابقة ، وتشمله الروايات الواردة في المقام وعمدتها صحيحتا معاوية بن عمار (٢) ومضمونهما أنه إذا أدرك الناس بالمشعر فقد تم حجّه.

وقد ذكرنا في كتاب الصلاة أن الإدراك إنما يتحقق فيما إذا فاته الواجب من دون اختيار ولا يشمل الفوت الاختياري العمدي (٣).

ولو ترك الوقوف بعرفة نسياناً للحكم أو للموضوع فهل يشمله هذا الحكم من الاكتفاء بالموقف الاضطراري إذا فاته الموقف الاختياري عن عذر أم لا؟ وأن الروايات هل تشمل النسيان أم لا؟

ذهب المشهور إلى شمول الروايات للناسي ، وخالف صاحب الحدائق وقال : إن الروايات خالية عن ذكر الناسي ، وأمّا قوله (عليه السلام) : «إن الله أعذر لعبده» فلا يشمل النسيان فإنه من الشيطان وما كان من الشيطان لا يجري فيه العذر. وأمّا في مورد الجهل فإنما نقول بهذا الحكم للنص وهو غير شامل للنسيان ، ولا بأس بتغاير حكم الجاهل والناسي كما في باب الصلاة بالنسبة إلى نسيان النجاسة والجهل ، بها

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٦ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣٦ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٢ ح ١ ، ٤.

(٣) لم يخطر في بالي عاجلاً أنه ذَكَره في أيّ موضع ، نعم تعرّض لقاعدة مَن أدرك في ذيل المسألة [١١٩٠] فلاحظها.

١٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنه يحكم بالفساد في صورة النسيان ويحكم بالصحة في فرض الجهل بها (١).

ويرد عليه : أنه لا ريب في أن النسيان عذر بل من أقوى الأعذار ، لعدم تمكنه من الامتثال وعدم صحة توجه التكليف إليه ، ولذا ذكروا أن الرفع في مورد النسيان رفع واقعي فقوله (عليه السلام) : «الله أعذر لعبده» يشمل النسيان أيضاً.

على أنه لو لم تكن هذه الجملة مذكورة في الصحيحة لكانت نفس الصحيحة كافية في معذورية الناسي ، لقوله : «عن الرجل يأتي بعد ما يفيض الناس من عرفات» (٢) فإن إطلاقه يشمل الناسي والجاهل ولا يختص بالعاجز والجاهل إذ لم يذكر سبب التأخير في الرواية.

وقد يتوهم أن إطلاقه يشمل العامد في التأخير أيضاً وهو غير مراد قطعاً فلا يمكن الأخذ بالإطلاق.

وفيه أوّلاً : أنه لا إطلاق له بالنسبة إلى العامد ، لانصراف الرواية عن العامد ، فان قوله : «الله أعذر لعبده» ظاهر في الاختصاص بالمعذور وغير العامد.

وثانياً : لو فرض له الإطلاق يقيد بما دل على الفساد في صورة العمد من النصوص (٣) والإجماع.

وبما ذكرنا يعلم الحال في الجاهل المقصّر فإنه غير معذور فلا مجال لمناقشة الحدائق.

فتحصل : أن كل من كان معذوراً بعذر خارجي كالمرض وشدة البرد أو الحر أو كان الترك مستنداً إلى الجهل عن قصور أو إلى النسيان يجب عليه الوقوف ليلاً إن تمكن ، وإلّا فيقف بالمشعر.

ثم إنّ الروايات التي دلّت على الاكتفاء بالوقوف الاضطراري أي ليلة العيد أو

__________________

(١) الحدائق ١٦ : ٤٠٥.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣٦ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٢ ح ٢.

(٣) المرويّة في الوسائل ١٣ : ٥٤٨ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ١٩.

١٨٩

مسألة ٣٧٠ : تحرم الإفاضة من عرفات قبل غروب الشمس عالماً عامداً لكنها لا تفسد الحج ، فاذا ندم ورجع إلى عرفات فلا شي‌ء عليه ، وإلّا كانت عليه كفارة بدنة ينحرها في منى ، فان لم يتمكن منها صام ثمانية عشر يوماً ، والأحوط أن تكون متواليات. ويجري هذا الحكم في من أفاض من عرفات نسياناً أو جهلاً منه بالحكم فيجب عليه الرجوع بعد العلم أو التذكر ، فان لم يرجع حينئذ فعليه الكفارة على الأحوط (١).

______________________________________________________

الاكتفاء بالوقوف في المشعر (١) تدل على الاكتفاء بالإحرام ليلة العيد أو بالإحرام عند الوقوف في المشعر ، فلا يجب عليه الإحرام من زوال يوم عرفة ، لأن الإحرام إنما وجب عليه لإدراك الموقف والمفروض عدم الوجوب عليه فلا موجب للإحرام ، فلو أخّر الإحرام إلى ليلة العيد يكتفى به.

وممّا ذكرنا يظهر صحة إشكال الشيخ النائيني في وجوب الإحرام حينئذ (٢) فان تركه عمداً لا يفسد الحج ، فان من يجزئه الموقف الاضطراري لا يجب عليه تقديم الإحرام ، وما دل على لزوم الإحرام قبل الزوال أو بعده أو عنده فإنما هو لمن وجب عليه الوقوف في النهار ، فاذا فرضنا أن الوقوف في النهار غير واجب عليه فلا مقتضي للإحرام من الزوال ، فيجوز له تأخيره إلى زمان يجب عليه الوقوف الاضطراري.

(١) قد عرفت (٣) أن مبدأ الوقوف من يوم عرفة لم يعيّن في الروايات ، وإنما تعرّضت إليه الروايات الحاكية لصفة حجّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وحجّ إبراهيم (عليه السلام) (٤) ويظهر من هذه الروايات جواز التأخير عن الزوال بمقدار ساعة تقريباً للاشتغال بالاغتسال وصلاة الظهر والعصر واستماع الخطبة ، ولكن الأحوط هو

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٥ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٢.

(٢) دليل الناسك (المتن) : ٣١٣.

(٣) في ص ١٨٤.

(٤) الوسائل ١١ : ٢١٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢ ح ٤ ، ٢٤ وغيرهما.

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الوقوف من الزوال ، لذهاب المشهور إلى وجوبه ، وأمّا من حيث المنتهي فقد عرفت أيضاً أنه إلى الغروب واستتار القرص ، ولكن الوقوف في تمام هذه المدّة من المبدإ إلى المنتهي واجب تكليفي فقط ، والركن منه الذي بتركه يفسد الحج هو مسمّى الوقوف وحيث ثبت أن الواجب هو الوقوف إلى الغروب فلو خالف وأفاض قبل الغروب ، فان كان بعنوان الإفاضة بحيث يكون بانياً على عدم الرجوع ولم يرجع ، فتارة يكون ذلك مستنداً إلى العلم والعمد ، وأُخرى عن الجهل وثالثة عن النسيان.

أمّا الجهل فلا يجب عليه شي‌ء ، لأنه معذور لا يترتب أثر على فعله ، وتدل عليه معتبرة مسمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في رجل أفاض من عرفات قبل غروب الشمس قال : إن كان جاهلاً فلا شي‌ء عليه ، وإن كان متعمداً فعليه بدنة» (١).

وأمّا النسيان فالأصحاب جعلوا حكمه حكم الجهل وأنه لا شي‌ء عليه ، ولكن صاحب الحدائق استشكل هنا كما في المسألة السابقة من أن حكم الناسي غير مذكور في الروايات وإلحاقه بالجاهل مما لا دليل عليه ، ولا بأس باختصاص الحكم بالجاهل لأنه أعذر ، والناسي بسبب علمه سابقاً وغفلته لاحقاً لا يساوي الجاهل الذي لا علم له أصلاً ، ولهذا ورد النص على وجوب قضاء الصلاة على ناسي النجاسة دون جاهلها (٢).

ويرد عليه : ما تقدّم (٣) من أن الناسي أولى بالعذر من الجاهل البسيط ، لسقوط التكليف في مورد النسيان دون الجهل. ومع الإغماض يكفينا في سقوط الكفارة عن الناسي حديث الرفع ، فان مقتضاه أن الفعل الذي وقع عن نسيان كأنه لم يقع ولم يترتب عليه أيّ أثر.

مضافاً إلى ذلك : أن نفس معتبرة مسمع كافية في أنه لا شي‌ء على الناسي ، وذلك لأنه ذكر المتعمد في قبال الجاهل ، والمراد من المتعمد من يقصد المخالفة والناسي غير

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٥٥٨ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ٢٣ ح ١.

(٢) الحدائق ١٦ : ٣٨٣.

(٣) في الصفحة السابقة.

١٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

قاصد بالمخالفة وإن كان قاصداً لذات الفعل.

وبعبارة اخرى : الكفارة تترتب على من يرتكب المخالفة ويأتي بخلاف الوظيفة المقرّرة له ، وهذا العنوان غير صادق على الناسي.

وكيف كان ، لو خالف وأفاض قبل الغروب متعمداً صح حجّه ولكن عليه بدنة ، وتدل عليه معتبرة مسمع المتقدمة ، ومعتبرة ضريس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «سألته عن رجل أفاض من عرفات قبل أن تغيب الشمس ، قال : عليه بدنة ينحرها يوم النحر ، فان لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكة أو في الطريق أو في أهله» (١).

ونقل عن الصدوقين والشيخ (٢) أن الكفارة دم ، والدم متى أُطلق ينصرف إلى الشاة ، بل جعل الدم مقابلاً للبدنة والبقرة في بعض الروايات كما في صحيحة عمران الحلبي (٣).

ولا مستند لهم إلّا الفقه الرضوي (٤) وقد عرفت غير مرة أنه لا يعتمد على هذا الكتاب. على أن الدم مطلق يحمل على البدنة لصحيح ضريس. هذا كله إذا أفاض قبل الغروب ولم يرجع.

وأمّا إذا ندم ورجع بحيث غربت الشمس عليه وهو في عرفات ، فذهب جماعة إلى لزوم الكفارة أيضاً لحصول الإفاضة المحرمة المقتضية للزوم الدم ، ولكن الظاهر العدم لأن المذكور في النص عنوان الإفاضة وهو غير صادق على من رجع وغربت الشمس عليه وهو في عرفات ، وثبوت الكفارة يحتاج إلى دليل ولا دليل في خصوص المقام.

ثم إنه لو خرج بعنوان الإفاضة نسياناً ثم تذكر ورجع فالأمر كما تقدم ، ولو تذكر ولم يرجع فلا ريب أن بقاءه خارج عرفات محرم ، وهل تجب عليه الكفارة حينئذ أم لا؟ ذهب جماعة إلى وجوب الكفارة. والظاهر عدم وجوبها ، لأن الكفارة مترتبة

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٥٥٨ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ٢٣ ح ٣.

(٢) المقنع : ٢٧٠ ، المختلف ٤ : ٢٥٩ ، الخلاف ٢ : ٣٣٨.

(٣) الوسائل ١٣ : ١٣١ / أبواب كفارات الاستمتاع ب ١٣ ح ٥.

(٤) فقه الرضا : ٢٢٤.

١٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

على الإفاضة لا على الكون المحرم ، والمفروض أن إفاضته وخروجه من عرفات عن نسيان فلا يترتب عليه شي‌ء.

ثم إن البدنة تنحر يوم العيد في منى ، لقوله «ينحرها يوم النحر» فان المراد به هو اليوم الذي تنحر الناس فيه الإبل ، ومن المعلوم أن الناس ينحرون الإبل في منى يوم العيد.

ولو لم يقدر على البدنة فالواجب عليه صيام ثمانية عشر يوماً كما في معتبرة ضريس ، وهل يعتبر التوالي في صيام ثمانية عشر يوماً أم لا؟

يمكن أن يقال باعتبار التوالي ، لأن المتفاهم عرفاً من الأمر بشي‌ء خلال ساعات أو أيام هو التوالي وعدم جواز التلفيق ، كما لو أمر الطبيب المريض بالمشي ساعة ، أو أمر المولى عبده بالجلوس والانتظار في مكان خمس ساعات ، فان العرف يفهم من ذلك التوالي ولا يكتفي بالتلفيق.

ولذا ذهب المحقق في الشرائع بلزوم التتابع في كل صوم واجب إلّا أربعة : صوم النذر المجرّد عن التتابع ، وصوم القضاء ، وصوم جزاء الصيد ، وصوم السبعة في بدل الهدي (١) ، وأمضاه صاحب الجواهر وأيّده (٢).

ولكن لا دليل على لزوم التتابع سوى انصراف الاتصال من الإطلاق ، إلّا أن الجزم بالانصراف لا يمكن ، ولعل الانصراف بدوي وغير موجب للظهور العرفي ، فإن الميزان بالظهور ، فمقتضى الأصل عدم اعتبار التوالي ، ومع الإغماض يكفينا في عدم اعتبار التوالي صحيح ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «كل صوم يفرّق إلّا ثلاثة أيام في كفارة اليمين» (٣). فالحكم بالتوالي مبني على الاحتياط.

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٣٦.

(٢) الجواهر ١٧ : ٦٧.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٨٢ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ١٠ ح ١.

١٩٣

مسألة ٣٧١ : إذا ثبت الهلال عند قاضي أهل السنة وحكم على طبقه ، ولم يثبت عند الشيعة ففيه صورتان :

الاولى : ما إذا احتملت مطابقة الحكم للواقع ، فعندئذ وجبت متابعتهم والوقوف معهم وترتيب جميع آثار ثبوت الهلال الراجعة إلى مناسك حجّه من الوقوفين وأعمال منى يوم النحر وغيرها. ويجزئ هذا في الحج على الأظهر ، ومن خالف ما تقتضيه التقية بتسويل نفسه أن الاحتياط في مخالفتهم ، ارتكب محرماً وفسد وقوفه.

والحاصل : أنه تجب متابعة الحاكم السني تقية ، ويصح معها الحج ، والاحتياط حينئذ غير مشروع ولا سيما إذا كان فيه خوف تلف النفس ونحوه كما قد يتفق ذلك في زماننا هذا.

الثانية : ما إذا فرض العلم بالخلاف وأنّ اليوم الذي حكم القاضي بأنه يوم عرفة هو يوم التروية واقعاً ، ففي هذه الصورة لا يجزئ الوقوف معهم ، فان تمكن المكلف من العمل بالوظيفة والحال هذه ولو بأن يأتي بالوقوف الاضطراري في المزدلفة دون أن يترتب عليه أيّ محذور ولو كان المحذور مخالفته للتقية عمل بوظيفته ، وإلّا بدّل حجّة بالعمرة المفردة ولا حج له ، فان كانت استطاعته من السنة الحاضرة ولم تبق بعدها سقط عنه الوجوب إلّا إذا طرأت عليه الاستطاعة من جديد (١).

______________________________________________________

(١) أمّا الصورة الأُولى : فيقع البحث في متابعة القاضي السني تقيّة ، تارة من حيث الحكم التكليفي وأُخرى من حيث الحكم الوضعي.

أمّا الأوّل : فلا خلاف ولا إشكال في وجوب المتابعة ومخالفتهم محرمة ، والأخبار في ذلك بلغت فوق حدّ التواتر ، كقولهم (عليهم السلام) : «ولا دين لمن لا تقيّة له» أو «إنّ التقيّة ديني ودين آبائي» أو «إنه لو قلت : إنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

صادقاً» وغير ذلك من الروايات الدالة على وجوب التقية بنفسها وجوباً تكليفياً (١).

وأمّا الثاني : فهل يحكم بصحة ما أتى به تقية؟ وهل يجزئ عن الواقع ويسمّى بالواقعي الثانوي أم لا؟

ربما يقال : كما قيل بأن أدلّة التقية متكفلة للحكم التكليفي والوضعي معاً ، وأنها تفي بإلغاء جزئية الشي‌ء الفلاني أو شرطيته.

ولكن إثبات ذلك مشكل جدّاً ، فان المستفاد من الأدلّة العامة للتقية ليس إلّا وجوب متابعتهم وجوباً تكليفياً ، وأمّا سقوط الواجب وسقوط الجزء عن الجزئية والشرط عن الشرطية بحيث تسقط الإعادة والقضاء فلا يستفاد من الأدلة.

نعم ، في خصوص الوضوء والصلاة بالنسبة إلى الأُمور المتعارفة التي وقع الخلاف فيها بيننا وبينهم تدل روايات خاصة على الصحة ، كمسألة غسل اليدين منكوساً في الوضوء وغسل الرجلين ، والتكتف في الصلاة وقول آمين ونحو ذلك ، وقد ورد الحكم بالصحة في خصوص بعض الموارد.

على أنّ عدم أمرهم (عليهم السلام) بالقضاء والإعادة في الموارد التي يكثر الابتلاء بها يكفي في الحكم بالصحة.

وأمّا الموارد النادرة فلا دليل على الصحة ، كما إذا ابتلي بطلاق زوجته من دون حضور العدلين ، لأن الأدلّة لا تفي بإلغاء الشرط ، بل المستفاد منها كما عرفت أن التقية بعنوانها واجب ، وأمّا ترتيب آثار الطلاق على الطلاق الواقع من دون حضور العدلين تقية فيحتاج إلى دليل آخر. وكذا لو اقتضت التقية غسل الثوب بالنبيذ باعتبار أن بعض العامّة يرون طهارته والغسل به (٢) فإن الأدلّة لا تقتضي طهارة الثوب ، فوجوب التقيّة في مورد لا يلازمه الحكم بالصحة ، ولا يستكشف من عدم حكمهم بالاجتزاء في أمثال هذه الموارد التي يقل الابتلاء بها الحكم بالصحة والاكتفاء بما صدر منه تقيّة

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٠٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ، ح ٣ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٤ ، وص ٢١١ ح ٢٧.

(٢) راجع المجموع ١ : ٩٣ ، بداية المجتهد ١ : ٣١ ، فتح العزيز ١ : ١٥٨.

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فمقتضى الأدلّة الأولية هو الفساد وعدم الاكتفاء به.

وأمّا الوقوف في عرفات تبعاً للعامة في مورد الشك وعدم القطع بالخلاف فيدخل تحت الكبرى المتقدمة ، وهي أن الوقوف في عرفات في الصورة المفروضة مما كثر الابتلاء به قريب مائتي سنة في زمن الأئمة (عليهم السلام) ولم نر ولم نعهد في طول هذه المدّة أمرهم (عليهم السلام) بالوقوف في اليوم الآخر وحكمهم بعدم الاجزاء فيعلم أن الوقوف معهم مجزئ.

ودعوى أن ذلك من جهة عدم تمكن المؤمنين من الوقوف الثاني ولذا لم يصدر الأمر من الأئمة (عليهم السلام) بالوقوف ثانياً ، غير مسموعة ولا يمكن تصديقها ، للتمكن من الوقوف برهة من الزمان ولو مرّة واحدة في طول هذه المدة ولو بعنوان أنه يبحث عن شي‌ء في تلك الأرض المقدّسة ، فالسيرة القطعية دليل قطعي على الاجزاء والصحة كما هو الحال بالنسبة إلى الصلاة ، فلا عبرة باستصحاب عدم دخول يوم عرفة.

هذا مضافاً إلى رواية أبي الجارود الواردة في الشك ، فإنها دالة على الصحة ، فإن المستفاد منها لزوم متابعتهم وعدم جواز الخلاف والشقاق بيننا وبينهم ، قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) إنّا شككنا في عام من تلك الأعوام في الأضحى ، فلما دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وكان بعض أصحابنا يضحي ، فقال : الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس والصوم يوم يصوم الناس» (١) والسند معتبر ، فإن أبا الجارود قد وثّقه المفيد ومدحه مدحاً بليغاً (٢) مضافاً إلى أنه من رجال تفسير علي بن إبراهيم ورجال كامل الزيارات ولا يضر فساد عقيدته بوثاقته. فمقتضى السيرة القطعية وخبر أبي الجارود لزوم ترتيب جميع الآثار من الوقوف وسائر الأعمال كمناسك منى.

ثم إنه لو وقف تقية وأراد الاحتياط ووقف ثانياً ، فان كان الوقوف الثاني مخالفاً

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٣٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٧ ح ٧.

(٢) راجع منتهى المقال ٣ : ٢٨٣.

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

للتقية فهو محرّم ولكن لا تسري حرمته إلى ما أدّاه من وظيفته ، ويصح حجّه ويعتبر الوقوف الأول من أعمال حجّه ، وإن كان الوقوف الثاني غير مخالف للتقية كما إذا وقف في عرفة بعنوان اتخاذ الموقف طريقاً له ، أو بعنوان أنه يبحث عن شي‌ء في تلك الأراضي فلا يكون بمحرّم ولكنه عمل لغو لا يتصف بالوجوب ولا بالحرمة.

وأمّا إذا لم يقف معهم ولم يتابعهم ، فان لم يقف في اليوم الثاني أيضاً فلا إشكال في فساد الحج لتركه الوقوف بالمرة ، ولو قيل بأن أدلّة التقية متكفلة للصحة فإنما تدل على سقوط الشرط وعدم لزوم كون الوقوف في اليوم التاسع ولا دلالة فيها على سقوط أصل الوقوف ، نظير السجود على الأرض إذا كان مخالفاً للتقية فإن التقية تقتضي سقوط وجوب السجود على الأرض ولا توجب ترك السجود رأساً ، فإن الضرورات تقدّر بقدرها ، فأدلّة التقية تقتضي ترك الوقوف في اليوم التاسع ولا تقتضي ترك الوقوف رأساً.

وأمّا لو لم يقف معهم ووقف في اليوم اللّاحق ، فان كان الوقوف الثاني مخالفاً للتقية فوقوفه محرّم جزماً ولا يصلح للجزئية ، فان الحرام لا يصلح أن يكون جزءاً للعبادة فوقوفه في حكم العدم فيفسد حجّه قطعاً.

وأمّا إذا لم يكن الوقوف الثاني مخالفاً للتقية ، كما إذا تمكن من الوقوف بالمقدار اليسير بحيث لا يخالف التقية ، فهل يكفي ذلك في الحكم بصحة حجّه أم لا؟

الظاهر هو عدم الكفاية ، لأن هذا الموقف غير مأمور به ، ووجه ذلك : أن الواجب على المكلف هو الوقوف في يوم عرفة وجداناً أو شرعاً ، والوقوف الذي صدر منه في اليوم الثاني لا دليل عليه ولا حجّة له إلّا الاستصحاب ، أي استصحاب عدم دخول اليوم التاسع ، ولكنه غير جار في المقام ، لعدم ترتّب الأثر عليه ، فان الاستصحاب إنما يجري فيما إذا ترتب عليه حكم شرعي ، وأمّا إذا لم يترتب عليه حكم وأثر شرعي فلا يجري الاستصحاب ، وما نحن فيه كذلك ، لأن هذا الاستصحاب لا يقتضي وجوب الوقوف في اليوم اللّاحق ، لأنّا نعلم بعدم وجوب الوقوف في هذا اليوم ، لأن الواجب

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

حسب أدلّة التقية هو الوقوف في اليوم الذي يوافقهم فلا أثر لهذا الاستصحاب ، فحينئذ يشك في أن الوقوف الثاني هو الوقوف في يوم عرفة اليوم التاسع أو أن وقوفه هذا في اليوم العاشر ، لأن كلامنا فعلاً في الصورة الأُولى وهي ما إذا احتملت مطابقة حكمهم للواقع ، فالشك شك في الامتثال.

وبالجملة : الشاك وظيفته منحصرة بالمتابعة ، فمن ترك الوقوف معهم يفسد حجّه ، سواء وقف في اليوم اللّاحق أم لا ، وسواء كان وقوفه في اليوم اللّاحق مخالفاً للتقيّة أم لم يكن مخالفاً لها ، ففي جميع الصور يبطل حجّه.

الصورة الثانية : وهي ما إذا فرض العلم بالخلاف فلا سيرة على الاكتفاء بالوقوف معهم ولا نص في المقام ، وأمّا أدلّة التقية فقد عرفت أنها لا تفي بالإجزاء ، وإنما مفادها وجوب التقية بعنوانها وجوباً تكليفياً ، ولو فرضنا دلالتها على الإجزاء فإنما يتم في فرض الشك لا في مورد القطع بالخلاف ، فإن العامّة لا يرون نفوذ حكم حاكمهم حتى عند القطع بالخلاف ، فالعمل الصادر منه لا يكون مصداقاً للتقية.

وبعبارة اخرى : الحكم بالصحة في هذه الصورة مبني على أمرين : الأول : دلالة الأخبار على سقوط الجزئية أو الشرطية في مورد التقية ، الثاني : لزوم متابعتهم وتنفيذ حكمهم حتى مع العلم بالخلاف ، وشي‌ء منهما لم يثبت.

والذي يسهّل الخطب أن القطع بالخلاف نادر التحقق جدّاً أو لا يتحقق ، وعلى تقدير التحقق فوظيفته أن يأتي بالوقوف الاضطراري في المزدلفة من دون أن يترتب عليه أيّ محذور ولو كان المحذور مخالفة التقية وإن لم يتمكّن المكلف من ذلك أيضاً فهو ممّن لم يتمكّن من إدراك الوقوفين لمانع من الموانع فيعدل إلى العمرة المفردة ولا حج له ، فان كانت هذه السنة أول استطاعته ولم تبق إلى السنة الآتية فينكشف عدم استطاعته للحج أصلاً وأنه لم يكن واجباً عليه ، وأمّا إذا بقيت استطاعته أو حصل على استطاعة جديدة بعد ذلك فيجب عليه الحج في السنة الآتية ، وكذا يجب عليه الحج في السنة القابلة إذا كان الحج عليه مستقرّاً.

١٩٨

الوقوف في المزدلفة

وهو الثالث من واجبات حج التمتّع ، والمزدلفة اسم لمكان يقال له المشعر الحرام وحدّ الموقف من المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسّر ، وهذه كلها حدود المشعر وليست بموقف إلّا عند الزحام وضيق الوقت فيرتفعون إلى المأزمين. ويعتبر فيه قصد القربة (١).

______________________________________________________

(١) لا خلاف بين المسلمين كافة في أن الوقوف بالمشعر من واجبات الحج ويدلُّ عليه الكتاب العزيز (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) (١) ولذا أُطلق عليه الفريضة في النصوص (٢) باعتبار ذكره في القرآن ، وتدل عليه الروايات الكثيرة :

منها : الروايات البيانية الحاكية لحج النبي (صلّى الله عليه وآله) (٣) وفي جملة من النصوص : أن من فاته الوقوف بالمشعر فلا حج له وفاته الحج (٤).

إنما يقع الكلام في بعض الخصوصيات :

منها : أن حد الموقف من المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسر كما في النصوص المعتبرة (٥) وأمّا نفس الحدود فهي خارجة عن الموقف ، ولا يجوز الوقوف فيها اختياراً إلّا إذا كان هناك زحام وحرج فيجوز الوقوف في المأزمين (٦) خاصة كما في موثق

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٨.

(٢) الوسائل ١٤ : ١٠ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٤.

(٣) الوسائل ١١ : ٢١٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢.

(٤) الوسائل ١٤ : ٣٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٢٣.

(٥) الوسائل ١٤ : ١٧ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٨.

(٦) المأزم : الطريق الضيق بين جبلين ، ويقال للموضع الذي بين عرفة والمشعر مأزمان. مجمع البحرين ٦ : ٧.

١٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

سماعة قال «قلت لأبي عبد الله عليه السلام إذا كثر الناس بجمع وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ قال : يرتفعون إلى المأزمين» (١).

لكن الأصحاب جوّزوا الارتفاع إلى الجبل حتى المحقق في الشرائع (٢) ولذا اعترض عليهم صاحب الحدائق بأن النص تضمّن جواز الوقوف في المأزمين عند الضيق ولم يذكر فيه الجبل ، وإنما الجبل حد آخر للمشعر ولم يرد في النص جواز الوقوف عليه (٣) وكذلك صاحب الوسائل جوّز الوقوف على الجبل ، وذكر الجبل في عنوان الباب التاسع من الوقوف بالمشعر ، واستدل بموثق محمد بن سماعة. وهذا سهو منه ، فان الجبل المذكور في هذا الموثق إنما هو جبل عرفات ، فان الشيخ روى بإسناده عن محمد بن سماعة الصيرفي عن سماعة بن مهران قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إذا كثر الناس بمنى وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ فقال : يرتفعون إلى وادي محسر ، قلت : فاذا كثروا بجمع وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ فقال : يرتفعون إلى المأزمين ، قلت : فاذا كانوا بالموقف وكثروا وضاق عليهم كيف يصنعون؟ فقال : يرتفعون إلى الجبل ، وقف في ميسرة الجبل ، فان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقف بعرفات ، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جانبها ، فنحّاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ففعلوا مثل ذلك ، فقال : أيها الناس إنه ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف ، ولكن هذا كلّه موقف ، وأشار بيده إلى الموقف وقال : هذا كلّه موقف» الحديث (٤).

وصاحب الوسائل روى هذه الرواية في أبواب الوقوف بعرفة عن محمد بن سماعة من دون أن يصفه بالصيرفي ، مع أن الموجود في التهذيب محمد بن سماعة الصيرفي عن سماعة بن مهران ، وفي الوسائل عن محمد بن سماعة عن سماعة.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ١٩ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٩ ح ١.

(٢) الشرائع ١ : ٢٩٠.

(٣) الحدائق ١٦ : ٤٣٣.

(٤) الوسائل ١٣ : ٥٣٥ / أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب ١١ ح ٤. التهذيب ٥ : ١٨٠ / ٦٠٤.

٢٠٠