الكشف والبيان - ج ١

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٥

وفراء غرفية أثاي خوارزها

مشلشل ضيعته فبينها الكتب (١)

ويقال : كتبت البغل ، إذا حرمت من سفرتها الخلقة ، ومنه قيل للجند كتيبة ، وجمعها كتائب.

قال الشاعر :

وكتيبة جاءوا ترفل

في الحديد لها ذخر

واختلفوا في هذا (الْكِتابُ) قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل : هو القرآن ، وعلى هذا القول يكون (ذلِكَ) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) (٢) أي هذه.

وقال خفاف بن ندبه السلمي :

إن تك خيلي قد أصيب صميمها

فعمدا على عين تيممت مالكا (٣)

أقول له الرمح يأطر متنه

تأمل خفافا إنني أنا ذالكا (٤)

يريد [هذا].

وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال : معناه (ذلِكَ الْكِتابُ) الذي أخبرتك أن أوجّه إليك.

وقال عطاء بن السائب : (ذلِكَ الْكِتابُ) الذي وعدتكم يوم الميثاق.

وقال يمان بن رئاب : (ذلِكَ الْكِتابُ) الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.

وقال سعيد بن جبير : هو اللوح المحفوظ.

عكرمة : هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة.

وقال الفراء : إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الردّ ، فلمّا أنزل القرآن قال : هو الكتاب الذي وعدتك.

وقال ابن كيسان : تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة (٥) كذّب بكلها المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال : (ذلِكَ الْكِتابُ) يعني ما تقدم البقرة من القرآن.

وقيل : (ذلِكَ الْكِتابُ) الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.

__________________

(١) الصحاح : ١ / ٢٠٨.

(٢) سورة الأنعام : ٨٣.

(٣) لسان العرب : ٣ / ٣٠٢.

(٤) جامع البيان للطبري : ١ / ١٤٣.

(٥) في المخطوط : سورا.

١٤١

(لا رَيْبَ فِيهِ) : لا شكّ فيه ، إنّه من عند الله.

قال : (هُدىً) : أي هو هدى ، وتم الكلام عند قوله (فِيهِ) ، وقيل : «هو» نصب على الحال ، أي هاديا تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.

قال أهل المعاني : ظاهره نفي وباطنه نهي ، أي لا ترتابوا فيه ، كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) (١) : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى ، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان.

فصل في التقوى

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) : اعلم أنّ التقوى أصله وقى (٢) من وقيت ، فجعلت الواو تاء ، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت ، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ.

واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جماع التقوى في قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ... (٣) الآية» (٤) [٦٢].

قال ابن عباس : المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش.

وقال ابن عمر : التقوى أن لا يرى [نفسه] خيرا من أحد.

وقال الحسن : المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خير مني.

وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار : حدّثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال : نعم ، وقال : فما عملت فيه؟ قال : حذرت وتشمّرت ، فقال كعب : ذلك التقوى ، ونظمه ابن المعتز فقال :

خلّ الذنوب صغيرها

وكبيرها ذاك التقى

واضع كماش فوق أر

ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحتقرنّ صغيرة

إنّ الجبال من الحصا (٥)

وقال عمر بن عبد العزيز : ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله ، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٧.

(٢) في المخطوط : وقوي.

(٣) سورة النحل : ٩٠.

(٤) تفسير مجمع البيان : ١ / ٨٢.

(٥) تفسير القرطبي : ١ / ١٦٢.

١٤٢

وقيل لطلق بن حبيب : أجمل لنا التقوى؟ فقال : التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله ، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله.

وقال بكر بن عبد الله : لا يكون الرجل تقيا حتى يكون يتقي الطمع ، ويتقي الغضب.

وقال عمر بن عبد العزيز : المتقي لمحرم لا تحرم ، يعني في الحرم.

وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي يترك ما لا يأتمن به حذرا لما به بأس.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : إنّما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس (١).

وقال سفيان الثوري والفضيل : هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.

وقال الجنيد بن محمد : ليس المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه ، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه ، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه ، وهو عابس لم يبشّ له ، فقلت له في ذلك فقال : بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة ، فتسعون لأجلهما ، وعشرة للآخر فأحببت أن يكون له التسعون.

محمد بن علي الترمذي : هو الذي لا خصم له.

السري بن المفلّس : هو الذي يبغض نفسه.

الشبلي : هو الذي يبغي ما دون الله.

قال جعفر الصادق : أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل (٢)

الثوري : هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها.

محمد بن يوسف المقري : مجانبة كل ما يبعدك عن الله.

القاسم بن القاسم : المحافظة على آداب الشريعة.

وقال أبو زيد : هو التورّع عن جميع الشبهات.

وقال أيضا : المتقي من إذا قال قال لله ، وإذا سكت سكت لله ، وإذا ذكر ذكر لله تعالى.

الفضيل : يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١ / ٨٣.

(٢) لسان العرب : ٥ / ٣٥١.

١٤٣

وقال سهل : المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته.

وقال : التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك من حيث أمرك.

وقيل : هو الاقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات ، وبنفسك من الشهوات ، وبحلقك من اللذات ، وبجوارحك من السيئات ، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسموات.

أبو القاسم (حكيم) : هو حسن الخلق.

وقال بعضهم : يستدل على تقوى الرجل بثلاث : بحسن التوكّل فيما لم ينل ، وحسن الرضا فيما قد نال ، وحسن الصبر على ما فات.

وقيل : المتقي من اتّقى متابعة هواه.

وقال مالك : حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها : الصبر عند البلاء ، والرضا بالقضاء ، والشكر عند النعمة ، والتذلل لأحكام القرآن.

وقال ميمون بن مهران : لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.

وقال أبو تراب : بين يدي التقوى عقبات ، من لا يجاوزها لا ينالها ، اختيار الشدة على النعمة ، واختيار القول على الفضول ، واختيار الذلّ على العزّ ، واختيار الجهد على الراحة ، واختيار الموت على الحياة.

وقال بعض الحكماء : لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلّا إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق ، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها.

وقيل : التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ ، كما تزيّن علانيتك للخلق.

وقال أبو الدرداء :

يريد المرء أن يعطى مناه

ويأبى الله إلّا ما أرادا

يقول (١) المرء فائدتي وذخري

وتقوى الله أفضل ما استفادا (٢)

__________________

(١) في المخطوط : ويقول.

(٢) الدرّ المنثور : ١ / ٢٥.

١٤٤

فصل في الإيمان

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب ، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب ، ولم يكن العرب يعرفون (١) الإيمان غير التصديق ، والنقل في اللغة لم يثبت فيه ، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك ، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء.

إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم ، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه‌السلام وبنيه (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (٢) : أي بمصدق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب ، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب ، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) والدليل عليه أيضا أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [نسبه] (٣) إلى القلب فقال : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٤) ، وقال : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٥) ، وقال : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٦) ، ونحوها كثير.

فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء : كل شمس ضوء ، وليس كل ضوء شمسا (٧) ، وكل مسك طيب ، وليس كل طيب مسكا ، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا ، إذا لم يكن تصديقا ؛ لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع ، يدل عليه قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٨) من خوف السيف ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان سرا» (٩) [٦٣] وأشار إلى صدره «والإسلام علانية» (١٠) [٦٤] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر من أسلم بلسانه ، ولم يدخل الإيمان في قلبه» (١١) [٦٥].

وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان ، فأجاب في الإيمان بالتصديق ، وفي الإسلام بشرائع الإيمان ، وهو ما روى أبو بريده ، وهو يحيى بن معمر قال : أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألناه عما يقول هو : ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه والآخر عن

__________________

(١) في المخطوط : يعرف.

(٢) سورة يوسف : ١٧.

(٣) زيادة اقتضاها السياق.

(٤) سورة المائدة : ٤١.

(٥) سورة النحل : ١٠٦.

(٦) سورة المجادلة : ٢٢.

(٧) في المخطوط : شمس.

(٨) سورة الحجرات : ١٤.

(٩) تفسير مجمع البيان : ١ / ٨٦.

(١٠) تفسير مجمع البيان : ١ / ٨٦.

(١١) كنز العمّال : ٣ / ٥٨٥ ، ح ٨٠٢١.

١٤٥

شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن ويفتقرون [إلى] (١) العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر ، وأنّ الأمر أنف ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني ، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.

ثم قال : أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال : بينما نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسند ركبته إلى ركبته ، ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإسلام أن يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» ، قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدّقه! قال : فأخبرني عن الإيمان؟ قال : «أن تؤمن (بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وتؤمن بالقدر خيره وشره».

قال : فأخبرني عن الإحسان؟ قال : «أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» ، قال : فأخبرني عن الساعة؟ قال : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، قال : فأخبرني عن إماراتها؟ قال : «أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان» ، قال : ثم انطلق ، فلبث علينا ثم قال : يا عمر من السائل؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنّه جبرائيل عليه‌السلام أتاكم ليعلمكم دينكم» (٢).

ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيمانا بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة ؛ لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول : رأيت الفرح في وجه فلان ، ورأيت علم زيد في تصنيفه ؛ وإنّما الفرج والعلم في القلب ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان بضع وسبعون بابا ، أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها شهادة (٣) أن لا إله إلّا الله» [٦٦] (٤).

وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان» [٦٧] (٥).

الحسن بن علي قال : حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان» [٦٨] (٦).

__________________

(١) زيادة اقتضاها السياق.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ٢٨ ـ ٢٩ بطوله.

(٣) في المصدر : وارفعها قول.

(٤) مسند أحمد : ٢ / ٤٤٥ ، وكنز العمّال : ١ / ٣٦.

(٥) صحيح مسلم : ١ / ٤٦.

(٦) المعجم الأوسط : ٦ / ٢٢٦.

١٤٦

وعن علي بن الحسين زين العابدين قال : حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال : حدثنا أبي سيد الأوصياء قال : حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال : «الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول» [٧٢] (١).

وامّا الغيب فهو ما كان مغيّبا عن العيون محصّلا في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب ، كما قيل للصائم : صوم ، وللزائر : زور ، وللعادل : عدل.

الربيع بن أبي العالية (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال : يؤمنون (بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وجنته وناره ولقائه ، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كلّه.

عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال : بالله ، من آمن بالله فقد آمن بالغيب (٢).

سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال : الغيب : القرآن. وقال الكلبي : بما نزل من القرآن وبما لم يجيء بعد.

الضحاك : الغيب (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد : يعني بالوحي ، نظيره قوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣) وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) (٤) وقوله : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٥).

الحسن : يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني : هو ما غاب عنهم من علوم القرآن.

وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه انه قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا فقال : «أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟» قالوا : يا رسول الله الملائكة ، قال : «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم ، بل غيرهم».

قلنا : يا رسول الله الأنبياء؟ قال : «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم ، بل غيرهم» ، قلنا : يا رسول الله فمن هم؟ قال : «أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني ، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» [٧٣] (٦).

وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود : عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عبد الله بن مسعود : نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم تروه ، ثم قال عبد الله : إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه والذي لا اله الّا

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١ / ٨٦.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٣.

(٣) سورة النجم : ٣٥.

(٤) سورة الجن : ٢٦.

(٥) سورة التكوير : ٢٤.

(٦) مسند أبي يعلى : ١ / ١٤٧.

١٤٧

هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب ، ثمّ قرأ : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها ، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس ، وأقام القوم [سوقهم] (١) ولم يعطلوها قال الشاعر :

فلا تعجل بأمرك واستدمه

فما صلّى عصاك [كمستديم] (٢)

أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس ، فذكرها بلفظ الواحد ، كقوله : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) (٣) أراد الكتب ، وأصل الصلاة في اللغة : الدّعاء ، ثمّ ضمّت إليها [عبادة] سميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء.

وقال أبو حاتم الخارزمي : اشتقاقها من الصّلا وهو النار ، فأصله من الرفق وحسن المعاناة للشيء ؛ وذلك إنّ الخشبة المعوجّة إذا أرادوا تقويمها [سحنوها بالنار] قوموها [بين خشبتين] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهرا وباطنا ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ولا يعرف] قال الشاعر :

فلا تعجّل بأمرك واستدمه

فما صلّى عصاك كمستديم

أي ما قوّم أمرك كالمباني.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أعطيناهم ، والرزق عند أهل السنّة : ما صحّ الانتفاع به ، فإن كان طعاما فليتغدّى به ، وان كان لباسا فلينقى والتوقي ، وإن كان مسكنا فللانتفاع به سكنى ، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين : حلالا وحراما ، فلذلك قلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام ، [وأصل الرزق] في اللغة : هو الحظ والبخت.

(يُنْفِقُونَ) يتصدقون ، وأصل الإنفاق : الإخراج عن اليد أو عن الملك. يقال : نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه ، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها ، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه (٤) ، والنفق : سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) : أي يصدّقون (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : يا محمد يعني القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) : يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والإنجيل وغيرها.

__________________

(١) زيادة عن تفسير الطبري : ١ / ١٥٢ والمخطوط ممسوح.

(٢) تاج العروس : ٨ / ٢٩٥.

(٣) سورة البقرة : ٢١٣.

(٤) راجع كتاب العين : ٥ / ١٧٨.

١٤٨

(وَبِالْآخِرَةِ) أي بالدار الآخرة ، وسمّيت آخرة لأنّها تكون بعد الدّنيا ولأنّها أخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون.

(هُمْ يُوقِنُونَ) يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة ، ودخل (هُمْ) تأكيدا ، يسمّيه الكوفيون عمادا والبصريون فصلا.

(أُولئِكَ) أهل هذه الصفة ، وأولاء : اسم مبني على الكسر ، ولا واحد له من لفظه ، والكاف خطاب ، ومحل (أُولئِكَ) رفع بالابتداء وخبره في قوله : (عَلى هُدىً) رشد وبيان وصواب. (مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ) ابتدائان و (هُمُ) عماد (الْمُفْلِحُونَ) خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار ، وقيل : هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم.

وأصل الفلاح في اللغة : البقاء. قال لبيد :

نحلّ بلادا كلها حل قبلنا

ونرجو فلاحا بعد عاد وحمير (١)

وقال آخر :

لو كان حي مدرك الفلاح

أدركه ملاعب الرماح

أبو براء يدرة المسياح (٢)

وقال مجاهد : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين ، وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : يعني مشركي العرب ، وقال الضحّاك : نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي : يعني اليهود ، وقيل : المنافقون.

والكفر : هو الجحود والإنكار.

وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر ، ومنه قيل للحراث : كافر ؛ لأنّه [يستر البذر] ، قال الله تعالى : (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) (٣) : يعني الزرّاع ، وقيل للبحر : كافر ، ولليل : كافر. قال لبيد :

حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجن عورات الثغور ظلامها (٤)

في ليلة كفر النجوم غمامها (٥)

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ١٨٢.

(٢) تاج العروس : ٢ / ١٤٦ ؛ لسان العرب : ٢ / ٤٥٤ وفيه : (أبا براء مدرة السياح) ، والمسياح : من يسيح بالنميمة والشر في الأرض.

(٣) سورة الحديد : ٢٠.

(٤) لسان العرب : ٥ / ١٤٧.

(٥) جامع البيان للطبري : ١ / ١٦٢.

١٤٩

ومنه : المتكفّر بالسلاح ، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه.

فيسمى الكافر كافرا لأنه ساتر للحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ) : أي واحد عليهم ومتساوي لديهم ، وهو اسم مشتق من التساوي.

(أَأَنْذَرْتَهُمْ) : أخوّفتهم وحذّرتهم.

قال أهل المعاني : الإنذار والإعلام مع تحذير ، يقال : أنذرتهم فنذروا ، أي أعلمتهم فعلموا ، وفي المثل : وقد أعذر من أنذر ، وفي قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) وأخواتها أربع قراءات : تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة ؛ لأنها ألف الاستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز ، وإدخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو.

قال الشاعر :

تطاولت فاستشرقت قرابته

فقلن له : أأنت زيد لا بل قمر (١)

والأخبار اكتفاء بجواب الاستفهام ، وهي قراءة الزهري.

(أَمْ) : حرف عطف على الاستفهام.

(لَمْ) : حرف جزم لا يلي إلّا الفصل ؛ لأنّ الجزم مختص بالأفعال.

(تُنْذِرْهُمْ) : تحذرهم (لا يُؤْمِنُونَ) وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله ، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار ، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال : (خَتَمَ اللهُ) : أي طبع (عَلى قُلُوبِهِمْ) والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [والاستيثاق] (٢) من أن يدخله شيء آخر.

فمعنى الآية : طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبرا ولا تفهمه. يدل عليه قوله : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٣).

وقال بعضهم : معنى الطبع والختم : حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يقال للرجل : ختمت عليك أن لا تفلح أبدا.

(وَعَلى سَمْعِهِمْ) : فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به ، وإنما وحّده لأنه مصدر ، والمصادر

__________________

(١) كذا في المخطوط ، ولم نجده.

(٢) المخطوط غير مقروء وما أثبتناه من تفسير القرطبي : ١ / ١٨٦.

(٣) سورة محمد : ٢٤.

١٥٠

لا تثنّى ولا تجمع ، وقيل : أراد سمع كل واحد منهم كما يقال : آتني برأس كبشين ، أراد برأس كل واحد منهما ، قال الشاعر :

كلوا في نصف بطنكم تعيشوا

فإن زمانكم زمن خميص (١)

وقال سيبويه : توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٢) يعني الأنوار.

قال الراعي :

بها جيف الحسرى فأما عظامها

فبيض وأما جلدها فصليب (٣)

وقرأ ابن عبلة : وعلى أسماعهم ، وتم الكلام عند قوله (وَعَلى سَمْعِهِمْ).

ثم قال : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) : أي غطاء وحجاب ، فلا يرون الحق ، ومنه غاشية السرج ، وقرأ المفضل بن محمد الضبي : غِشاوَةً بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم : أي وختم على أبصارهم غشاوة. يدل عليه قوله تعالى : (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٤).

وقرأ الحسن : غُشاوَةٌ بضم الغين ، وقرأ الخدري : غَشاوَةٌ بفتح الغين ، وقرأ أصحاب عبد الله : غشوة بفتح الغين من غير ألف.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) : القتل والأسر في الدنيا ، والعذاب الأليم في العقبى ، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه ، ومنه : عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم ، وقال الخليل : العذاب ما يمنع الإنسان من مراده ، ومنه : الماء العذب لأنه يمنع من العطش ، ثم نزلت في المنافقين : عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي ، ومعتب بن بشر ، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا : تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا ، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. فقال الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)

__________________

(١) زاد المسير : ١ / ٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٥٧.

(٣) قائله علقمة بن عبدة راجع ديوانه : ٢٧ ؛ وتفسير الطبري : ٤ / ٣٢٤.

(٤) سورة الجاثية : ٢٣.

١٥١

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) : صدّقنا (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) : أي يوم القيامة (١).

قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) والناس : هم جماعة من الحيوان المتميّز بالصورة الإنسانية ، وهو جمع إنسان ، وإنسان في الأصل إنسيان بالياء ، فأسقطوا الياء منه ونقلوا حركته إلى السين فصار إنسانا ؛ الا ترى إنّك إذا صغرته رددت الياء إليه فقلت : أنيسيان ، واختلف العلماء في تسميته بهذا الاسم : فقال ابن عباس : سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. قال الله تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (٢) ، وقال الشاعر :

وسمّيت إنسانا لأنك ناسي (٣)

وقال بعض أهل المعاني : سمّي إنسانا لظهوره وقدس البصير إياه من قولك : آنست كذا : أي أبصرت. فقال الله تعالى (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) (٤) وقيل : لأنه استأنس به ، وقيل : لما خلق الله آدم آنسه بزوجته فسمّي إنسانا.

(يُخادِعُونَ اللهَ) : أي يخالفون الله ويكذّبونه ، وأصل الخدع في اللغة : الإخفاء ، ومنه قيل [للبيت الذي يحيا فيه المتاع] مخدع ، والمخادع يظهر خلاف ما يضمر ، وقال بعضهم : أصل الخداع في لغة : الفساد ، قال الشاعر :

أبيض اللون لذيذ طعمه

طيّب الرّيق إذا الريق خدع (٥)

أي فسد.

فيكون معناه : ليفسدون بما أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم ، وقيل معناه : (يُخادِعُونَ اللهَ) بزعمهم وفي ظنّهم ، يعني إنهم اجترءوا على الله حتى أنهم ظنّوا أنهم يخادعون ، وهذا كقوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) (٦) يعني بظنّك وعلى زعمك.

وقيل : معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع فيما بينهم. وقيل : معناه يخادعون رسوله ،

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ١٠ / ٢٤٣ ؛ وأسباب النزول للواحدي : ١٧٤.

(٢) سورة طه : ١١٥.

(٣) جاء بنحو النثر لا الشعر في لسان العرب : ٦ / ١١.

(٤) سورة القصص : ٢٩.

(٥) لسان العرب : ٨ / ٦٥.

(٦) سورة طه : ٩٧.

١٥٢

كقوله : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (١) أي أسخطونا ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) (٢) أي أولياء الله ؛ لأن الله سبحانه لا يؤذى ولا يخادع ، فبيّن الله تعالى أنّ من آذى نبيا من أنبيائه ووليا من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه. يدل عليه الخبر المروي : إن الله تعالى يقول : من آذى وليا من أوليائي فقد بارزني بالمحاربة (٣).

وقيل : إنّ ذكر الله سبحانه في قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) تحسين وتزيين لسامع الكلام ، والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا كقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (٤). ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنّما تجيء في الفعل المشترك بين اثنين ، كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة ، وقد يكون أيضا من واحد كقولك : طارقت النعل ، وعاقبت اللصّ ، وعافاك الله ، قال الله عزوجل : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٥) وقال : (قاتَلَهُمُ اللهُ) (٦) والمخادعة ها هنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين الله تعالى لا يكون منه الخداع.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم : آمنا ، وهم غير مؤمنين ، وقال بعضهم : من خداعهم المؤمنين : هو أنّهم كانوا يجالسون المؤمنين ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدّونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم. قال الله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم ؛ وذلك أنّ الله تعالى لمطلع نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أسرارهم ونفاقهم ، فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى.

قال أهل الإشارة : إنما يخادع من لا يعرف البواطن ، فأما من عرف البواطن فإنّ من خادعه فإنما يخدع نفسه.

واختلف القرّاء في قوله : (وَما يَخْدَعُونَ) فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء : يُخادِعُونَ بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد ، وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف الأول ، وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) لم يختلفوا فيه إلّا ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ : (يخدعون الله) وقرأ الباقون (وَما يَخْدَعُونَ) على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد.

__________________

(١) سورة الزخرف : ٥٥.

(٢) سورة الأحزاب : ٥٧.

(٣) تفسير ابن كثير : ١ / ١٣٧.

(٤) سورة الأنفال : ٤١.

(٥) سورة الأعراف : ٢١.

(٦) سورة التوبة : ٣٠.

١٥٣

(وَما يَشْعُرُونَ) (١) وما يعلمون إنها كذلك.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شكّ ونفاق ، ومنه يقال : فلان يمرض في الوعد إذا لم يصحّحه ، وأصل المرض : الضّعف والفتور. فسمّي الشك في الدّين والنفاق [مرض به] يضعف البدن وينقص قواه ؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب ، كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك والموت.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) شكّا ونفاقا وهلاكا.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم ، وهو بمعنى مؤلم كقول عمرو بن معدي كرب :

أمن ريحانة الداعي المسيع

يؤرّقني وأصحابي هجوع (٢)

أي المسمع : يعني خيالها.

(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) : (ما) مصدرية ، أي بتكذيبهم على الله ورسوله في السرّ.

وقرأ أهل الكوفة : بفتح الياء وتخفيف الذال ، أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين.

(وَإِذا) : حرف توقيت بمعنى حينئذ ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر وفيها معنى الجزاء ، (قِيلَ) : فعل ماض مجهول ، وكان في الأصل قول مثل قيل ، فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت كسرتها إلى فاء الفعل فانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، هذه اللغة العالية وعليها العامة وهي اختيار أبي عبيد.

وقرأ الكسائي ويعقوب : قيل ، وغيض ، وحيل ، وسيق ، وجيء ، وشيء وشيت بإشمام الضمّة فيها لتكون دالة على الواو المنقلبة ، وفاصلة بين الصّدر والمصدر.

(لَهُمْ) : يعني المنافقين ، وقيل : اليهود. قال لهم المؤمنون : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد والقرآن ، وقال الضحّاك : تبديل الملّة وتغيير السّنة وتحريف كتاب الله.

(قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا) : كلمة تنبيه (إِنَّهُمْ : هُمُ) عماد وتأكيد (الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) : ما أعدّ لهم من العذاب.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعني : [قال] (٣) المؤمنون لليهود : (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) وهم عبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.

__________________

(١) سورة البقرة : ٩.

(٢) لسان العرب : ٨ / ١٦٤.

(٣) زياد لإتمام المعنى.

١٥٤

(قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) الجهّال. قال الله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) بأنهم كذلك ، وقيل : لا يؤدون العلم حقّه ، وقال المؤرّخ : السفيه : البهّات الكذّاب المتعمّد لخلاف ما يعلم.

قطرب : السفيه : العجول الظلوم يعمل خلاف الحق.

واختلف القرّاء في قوله : (السُّفَهاءُ أَلا) فحقّق بعضهم الهمزتين ، وهو مذهب أهل الكوفة ولغة تميم.

وأما أبو عمرو وأهل الحجاز فإنّهم همزوا الأولى وليّنوا الثانية ؛ طلبا للخفّة ، واختار الفرّاء حذف الأولى وهمز الثانية ، واحتج بأن ما يستأنف ـ أي بالهمزة ـ مما يسكت عليه.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا).

قال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن أبيّ بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة ، وكان إذا لقى سعدا قال : نعم الدين دين محمد ، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه. قالوا : هل نكفر؟ قال : سدّوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ محتجا به ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : عبد الله بن أبيّ لأصحابه : أنظروا كيف أدرأ هؤلاء السّفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحبا بالصّدّيق سيّد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار ، والباذل نفسه وماله له. ثمّ أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيّد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثمّ أخذ بيد علي فقال : مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيّد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال علي : كف لله واتق الله ولا تنافق ، فإنّ المنافقين شر خليقة الله ، فقال له عبد الله : مهلا أبا الحسن إليّ تقول هذا ، والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصدّيقنا كتصديقكم ثمّ افترقوا ، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه خيرا ، وقالوا : لا نزال معك ما عشت ، فرجع المسلمون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه بذلك ، فأنزل الله (وَإِذا لَقُوا) أي رأوا ، يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، كان (لَقُوا) في الأصل (لقيوا) فاستثقلت الضمة على الياء فبسطت على القاف وسكنت الواو والياء ساكنة فحذفت لاجتماعهما.

وقرأ محمد بن السميقع : وإذا لاقوا وهما بمعنى واحد.

(الَّذِينَ آمَنُوا) : يعني أبا بكر وأصحابه (قالُوا آمَنَّا) كأيمانكم. (وَإِذا خَلَوْا) رجعوا ، ويجوز أن تكون من الخلوة ، تقول : خلوت به وخلوت إليه ، وخلوت معه ، كلها بمعنى واحد.

١٥٥

وقال النضر بن شميل : (إِلى) ها هنا بمعنى (مع) كقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (١) : أي مع نسائكم ، وقوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (٢) وقوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٣) النابغة :

ولا تتركنّي بالوعيد كأنني

إلى الناس مطليّ به القار أجرب (٤)

أي مع الناس.

وقال آخر :

ولوح ذراعين في بركة

إلى جؤجؤ رهل المنكب (٥)

أي مع جؤجؤ.

(إِلى شَياطِينِهِمْ) : أي رؤسائهم وكبرائهم وقادتهم وكهنتهم.

قال ابن عباس : هم خمسة نفر من اليهود ، ولا يكون كاهن إلّا ومعه شيطان تابع له : كعب ابن الأشرف بالمدينة ، وأبو بردة في بني أسلم ، وعبد الله في جهينة ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن السّوداء بالشام.

والشيطان : المتمرد العاصي من الجن والإنس ، ومن كل شيء ، ومنه قيل : للحيّة النضناض (٦) : الشيطان ، قال الله تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٧) أي الحيات ، وتقول العرب : اتّق تلك الدابة فإنّها شيطان.

وفي الحديث : «إذا مرّ الرجل بين يدي أحدكم وهو يمتطي فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنّه شيطان».

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّه نظر الى رجل يتبع حماما طائرا فقال : «شيطان يتبع شيطانا (٨)» [٧٤] (٩).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٧.

(٢) سورة النساء : ٢.

(٣) آل عمران : ٥٢.

(٤) لسان العرب : ١٥ / ٤٣٥.

(٥) لسان العرب : ٣ / ١٥٦.

(٦) النضناض من الحيّات : التي أخرجت لسانها تحركه ، أو التي لا تستقر في مكان ، أو التي إذا نهشت قتلت من ساعتها.

(٧) سورة الصافات : ٦٥.

(٨) وفي بعض المصادر : شيطانه.

(٩) مسند أحمد : ٢ / ٣٤٥ ؛ كنز العمال : ١٥ / ٢١٨.

١٥٦

أراد الراعي الخبيث الداعي.

ويحكى عن بعضهم إنه قال في تضاعيف كلامه : وكل ذلك حين ركبني شيطان قيل له : وأي الشياطين ركبك؟ قال : الغضب.

وقال أبو النجم :

إنّي وكل شاعر من البشر

شيطانه أنثى وشيطاني ذكر (١)

(قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي على دينكم وأنصاركم.

(إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بمحمد وأصحابه.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يجازيهم جزاء استهزائهم ، فسمّي الجزاء باسم الابتداء إذ كان مثله في الصورة كقوله (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) فسمّي جزاء السيئة سيئة.

وقال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلنّ أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (٣)

وقال آخر :

نجازيهم كيل الصواع بما أتوا

ومن يركب ابن العمّ بالظلم يظلم

فسمّى الجزاء ظلما.

وقيل : معناه : الله يوبّخهم ويعرضهم ويخطّئ فعلهم ؛ لأنّ الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل ، كما يقال : إنّ فلانا يستهزأ به منذ اليوم ، أي يعاب. قال الله (إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) (٤) أي تعاب ، وقال أخبارا عن نوح عليه‌السلام : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (٥).

وقال الحسن : معناه : الله يظهر المؤمنين على نفاقهم.

وقال ابن عباس : هو أن الله يطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار ، فيقولون لهم : أتحبّون أن تدخلوا الجنة ، فيقولون : نعم ؛ فيفتح لهم باب من الجنة ، ويقال لهم : ادخلوا فيسبحون ويتقلبون في النار ، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عليهم ، وردّوا إلى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٩ / ٤٢٥.

(٢) سورة الشورى : ٤٠.

(٣) لسان العرب : ٣ / ١٧٧ و ٨ / ٦٤.

(٤) سورة النساء : ١٤٠.

(٥) سورة هود : ٣٨.

١٥٧

النار ويضحك المؤمنون منهم ، فذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (١) إلى قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٢).

الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤمر بناس من الناس إلى الجنة ، حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدّ الله فيها لأهلها من الكرامة ، نودوا : أن اصرفوهم عنها. قال : ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها. فيقولون : يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا. فيقول الله جل جلاله : هذه الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلّوني وكنتم تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني من قلوبكم. فاليوم أذيقكم من عذابي مع ما حرمتكم من ثوابي» [٧٥] (٣).

وقيل : هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية.

وهو قوله فيما بعد : (وَيَمُدُّهُمْ) يتركهم ، ويمهلهم ويطيل لهم ، وأصله : الزيادة ، ويقال : مدّ النهر ، ومدّة : زمن آخر.

وقرأ ابن محيصن وشبل : وَيُمِدُّهُمْ بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد ؛ لأنّ المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير. قال الله عزوجل في المد : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (٤) ، وقال في الإمداد : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) (٥) وقال : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) (٦) ، وقال : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) (٧).

(فِي طُغْيانِهِمْ) كفرهم وضلالتهم وجهالتهم ، وأصل الطغيان : مجاوزة القدر ، يقال : ميزان فيه طغيان ، أي مجاوزة للقدر في الإستواء. قال الله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) (٨) أي جاوز حدّه الذي قدّر له ، وقال لفرعون : (إِنَّهُ طَغى) (٩) أي أسرف في الدعوى حينما قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١٠).

(يَعْمَهُونَ) يمضون ، يترددون في الضلالة متحيرين.

يقال : عمه يعمه عمها وعموها ، وعمها فهو عمه ، وعامه : إذا كان جائرا عن الحق. قال رؤبة :

ومهمه أطرافه في مهمه

أعمى الهدى بالجاهلين العمّه (١١)

__________________

(١) سورة المطففين : ٢٩.

(٢) سورة المطففين : ٣٤.

(٣) كنز العمال : ٣ / ٤٨٤ بتفاوت.

(٤) سورة مريم : ٧٩.

(٥) سورة الإسراء : ٦.

(٦) سورة المؤمنون : ٥٥.

(٧) سورة نوح : ١٢.

(٨) سورة الحاقة : ١١.

(٩) سورة طه : ٢٤.

(١٠) سورة النازعات : ٢٤.

(١١) لسان العرب : ١٣ / ٥١٩.

١٥٨

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) :

قال ابن عباس : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ، ومعناه : إنهم استبدلوا الكفر على الإيمان ، وإنّما أخرجه بلفظ الشّرى والتجارة توسّعا ؛ لأن الشرى والتجارة راجعان إلى الاستبدال والإختيار ؛ وذلك أنّ كل واحد من البيعين يختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه ، وقال الشاعر :

أخذت بالجمّة رأسا إزعرا

وبالثنايا الواضحات الدّردرا

وبالطويل العمر عمرا جيدرا

كما اشترى المسلم إذ تنصّرا (١)

أي اختار النصرانية على الإسلام.

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق : اشْتَرَوِا الضَّلالَةَ بكسر الواو ؛ لأنّ الجزم يحرّك الى الكسرة العدوى بفتحها حركة إلى أخف الحركات.

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) : أي فما ربحوا في تجارتهم.

تقول العرب : ربح بيعك ، وخسرت صفقتك ، ونام ليلك. أي ربحت وخسرت في بيعك ، ونمت في ليلك.

قال الله عزوجل : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) (٢) ، وقال : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٣).

قال الشاعر :

وأعور من نيهان أمّا نهاره

فأعمى وأمّا ليله فبصير (٤)

وقال آخر :

حارث قد فرّجت عنّي همّي

فنام ليلي وتجلّى غمّي (٥)

وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة : (فما ربحت تجاراتهم) بالجمع.

(وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) : من الضلالة ، وقال : مصيبين في تجاراتهم.

قال سفيان الثوري : كلكم تاجر فلينظر امرؤ ما تجارته؟ قال الله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) وقال : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٦).

__________________

(١) التبيان ـ الطوسي ـ : ١ / ٨٣.

(٢) سورة محمد : ٢١.

(٣) سورة سبأ : ٣٣.

(٤) جامع البيان للطبري : ١ / ٢٠٢.

(٥) جامع البيان للطبري : ١ / ٢٠٢.

(٦) سورة الصف : ١٠.

١٥٩

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

(مَثَلُهُمْ) شبههم. (كَمَثَلِ الَّذِي) بمعنى الذين ، دليله سياق الآية نظير قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) ثم قال (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١).

وقال الشاعر :

وانّ الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (٢)

(اسْتَوْقَدَ) : أوقد نارا كما يقال : أجاب واستجاب.

قال الشاعر :

وداع دعانا من يجيب الى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (٣)

(فَلَمَّا أَضاءَتْ) النار (ما حَوْلَهُ) يقال : ضاء القمر يضوء ضوءا ، وأضاء يضيء إضاءة وأضاء غيره : (فَلَمَّا أَضاءَتْ) النار يكون لازما ومتعدّيا.

وقرأ محمد بن السميقع (ضاءت) بغير ألف. و (حَوْلَهُ) نصب على الظرف.

(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي أذهب الله نورهم ، وإنما قال : (بِنُورِهِمْ) والمذكور في أوّل الآية النار ؛ لأنّ النار شيئان النّور والحرارة فذهب نورهم وبقيت الحرارة عليهم.

(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) : قال ابن عباس وقتادة والضحّاك ومقاتل والسدي : نزلت هذه الآية في المنافقين. يقول : مثلهم في كفرهم ونفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء بها فاستدفأ ورأى ما حوله فاتّقى ما يحذر ويخاف فأمن ، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيّرا ، كذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها واعتزّوا بعزّها وناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمّنوا على أموالهم وأولادهم ، فإذا ماتوا عادوا الى الخوف والظلمة وهووا في العذاب والنقمة.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٧.

(٢) كتاب العين : ٨ / ٢٠٩ ، بدل (بفلح) كلمة (بفلج)

(٣) لسان العرب : ١ / ٢٨٣.

١٦٠