الكشف والبيان - ج ١

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٥

وقال عبد العزيز بن يحيى : يعني طريق السواد الأعظم. [وقال] أبو بكر الورّاق : يعني صراطا لا تزيغ به الأهواء يمينا وشمالا. وقال محمد بن علي النهدي : يعني طريق الخوف والرجاء. وقال أبو عثمان الداراني : [يعني] طريق العبودية.

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول : سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله بهرات يقول : سمعت أبا الحسن عمر بن واصل العنبري يقول : سمعت [سهل] بن عبد الله التستري يقول : طريق السنّة والجماعة لأن البدعة لا تكون مستقيمة.

وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر : حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب الأصم : حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي : أخبرنا أبو بكر بن عيّاش عن عاصم عن زر عن أبي وائل عن عبد الله قال : خطّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّين ، خطّا عن يمينه وخطّا عن شماله ثم قال : «هذه السبل ، وعلى كلّ سبيل منهما شيطان يدعو إليه ، وهذا سبيل الله» [٣٠] (١) ، ثم قرأ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٢).

وأخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، حدّثنا معمّر بن سفيان الصغير ، حدّثنا يعقوب بن سفيان الكبير ، حدّثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، حدّثنا معاوية بن صالح أن عبد الرّحمن بن جبير بن نصر حدّثه عن أبيه جبير عن نواس بن معاذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ضرب الله مثلا (صِراطاً مُسْتَقِيماً) وعلى جانبي الصراط ستور مرخاة فيها أبواب مفتّحة وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال : ويلك لا تفتحه ؛ فإنك إن تفتحه تلجه بالصراط : الإسلام. والستور حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله عزوجل ، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم» [٣١] (٣).

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

(صِراطَ) بدل من الأول (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يعني : طريق الذين أنعمت عليهم بالتوفيق والرعاية ، والتوحيد والهداية ، وهم الأنبياء والمؤمنون الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤).

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٤٦٥ ، السنن الكبرى : ٦ / ٣٤٣ بتفاوت.

(٢) سورة الأنعام : ١٥٣.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ١٨٢ ، المستدرك : ١ / ٧٣ بتفاوت يسير.

(٤) سورة النساء : ٦٩.

١٢١

قال ابن عباس : هم قوم موسى وعيسى من قبل أن يغيّروا نعم الله عليهم.

وقال شهر بن حوشب هم أصحاب الرسول صلّى الله عليه ورضي عنهم وأهل بيته عليهم‌السلام. وقال عكرمة : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) بالثبات على الإيمان والاستقامة.

وقال علي بن الحسين بن داود : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء. وقال .. (١) .. بن .. (٢) .. : بما قد سنّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الحسين بن الفضل : يعني أتممت عليهم النعمة فكم من منعم عليه .. (٣) ...

وأصل النعمة المبالغة والزيادة ، يقال : دققت الدواء فأنعمت دقّه أي بالغت في دقه ، ومنه

قول العرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «إن أهل الجنة يتراءون الغرفة منها كما يتراءون الكوكب الدرّي الشرقي أو الغربي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» (٤) [٣٢].

أي زادا عليه. وقال أبو عمرو : بالغا في الخير.

وقرأ الصادق : (صراط من أنعمت عليهم) ، وبه قرأ عمرو بن الزبير وعلي ، حرف اللام يجر ما بعده. وفي (عَلَيْهِمْ) سبع قراءات :

الأولى : (عَلَيْهِمْ) ـ بكسر الهاء وجزم الميم ـ وهي قراءة العامّة.

والثانية : عليهُمْ ـ بضم الهاء وجزم الميم ـ وهي قراءة الأعمش وحمزة. وروي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمر رضي‌الله‌عنه.

والثالثة : عليهُمُ ـ بضم الهاء والميم وإلحاق الواو ـ وهي قراءة عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق.

والرابعة : عليهمو ـ بكسر الهاء وضم الميم وإلحاق الواو ـ وهي قراءة ابن كثير والأعرج.

والخامسة : عليهِمِ ـ بكسر الهاء والميم وإلحاق الياء ـ وهي قراءة الحسن.

والسادسة : عليهِمُ ـ بكسر الهاء وضم الميم مضمومة مختلسة ـ وهي رواية عبد الله بن عطاء الخفّاف عن أبي عمرو.

والسابعة : عليهِمِ ـ بكسر الهاء والميم ـ وهي قراءة عمرو بن حامد.

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) الجامع الصغير : ٢ / ٢٠٣.

١٢٢

فمن ضمّ الهاء ردّه إلى الأصل لأنه لو أفرد كان مضموما عند الابتداء به ، ومن كسره فلأجل الياء الساكنة. ومن كسر الهاء وجزم الميم فإنه يستثقل الضمّ مع مجاورة الياء الساكنة ، والياء أخت الكسرة والخروج من الضم إلى الكسر ثقيل. ومن ضمّ الهاء والميم أتبع فيه الضمّة.

ومن كسر الهاء وضمّ الميم فإنه كسر الهاء لأجل الياء وضمّ الميم على الأصل ، والاختلاس للاستخفاف ، وإلحاق الواو والياء للإتباع والله أعلم. قال الشاعر في الميم المختلسة :

والله لو لا شعبة من الكرم

وسطة في الحي من خال وعم (١)

لكنت فيهم رجلا بلا قدم

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) غير : صفة الذين. والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف إلّا إن الذين ليس بمعرفة موقتة ولكنّه بمنزلة قولك : إني لأمرّ بالصادق غير الكاذب ، كأنك قلت : من يصدق لا من يكذب. ولا يجوز : مررت بعبد الله غير الظريف.

ومعنى كلامه : غير صراط الذين غضبت (عَلَيْهِمْ).

في معنى الغضب

واختلفوا في معنى الغضب من الله عزوجل ، فقال قوم : هو إرادة الانتقام من العصاة.

وقيل : هو جنس من العقاب يضادّ والرضا. وقيل : هو ذم العصاة على قبح أفعالهم.

ولا يلحق غضب الله تعالى العصاة من المؤمنين بل يلحق الكافرين.

(وَلَا الضَّالِّينَ) عن الهدى.

وأصل الضلال الهلاك ، يقال ضلّ الماء في اللبن إذا خفي وذهب ، و: رجل ضالّ إذا أخطأ الطريق ، و: مضلّل إذا لم يتوجّه لخير ، قال الشاعر :

ألم تسأل فتخبرك الديار

عن الحي المضلل أين ساروا (٢)

قال الزجاج وغيره : وإنما جاز أن يعطف بـ (لا) على غير ؛ لأن غير متضمّن معنى النفي ؛ فهو بمعنى لا ، مجازه : غير المغضوب عليهم وغير الضالين كما تقول : فلان غير محسن ولا مجمل. فإذا كان (غير) بمعنى سوى لم يجز أن يعطف عليها بـ (لا) ؛ لأنه لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد. وروى الخليل بن أحمد عن ابن كثير : غَيْرَ الْمَغْضُوبِ نصبا.

وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ـ رضي‌الله‌عنهما ـ : (وغير الضالين) ، وقرأ السختياني (ولأ الضالئين) بالهمزة ؛ لالتقاء الساكنين ، والله أعلم.

__________________

(١) كتاب المنمق للبغدادي : ١٣٠.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ١٥٠.

١٢٣

فأما التفسير :

فأخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني ، حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان ، أخبرنا أحمد بن حنبل ومحمد بن دينار قالا : حدّثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سماك قال : سمعت عباد بن حبيش عن عديّ بن حاتم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) قال : «اليهود» ، (وَلَا الضَّالِّينَ) قال : «النصارى» (١) [٣٣].

وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي ، أخبرنا أبو زكريا العنبري ، حدّثنا محمد بن عبد الله الوراق ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر بن عبد الله بن بديل العقيلي عن عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بوادي القرى على فرسه فسأله رجل من القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين يقاتلونك؟ قال : «المغضوب عليهم» ، وأشار إلى اليهود. فقال : من هؤلاء الطائفة الأخرى؟ فقال : «الضالون» ، وأشار إلى النصارى (٢) [٣٤].

وتصديق هذا الحديث حكم الله تعالى بالغضب على اليهود في قوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) (٣) ، وحكم الضلال على النصارى في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا) (٤).

وقال الواقدي : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بالمخالفة والعصيان ، (وَلَا الضَّالِّينَ) عن الدين والإيمان.

وقال التستري : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) البدعة ، (وَلَا الضَّالِّينَ) عن السنة.

فصل في آمين

والسنّة المستحبة أن يقول القارئ بعد فراغه من قراءة فاتحة الكتاب : آمين ؛ سواء كان في الصلاة أو غير الصلاة ؛ لما أخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني ، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري ، حدّثنا الحسن بن علي بن عفان العامري ، حدّثنا أبو داود عن سفيان ، وأخبرنا عبد الله قال : وأخبرنا عبدوس بن الحسين ، حدّثنا أبو حاتم الرازي ، حدّثنا ابن كثير ، أخبرنا سفيان عن سلمة عن حجر أبي العنبس الحضرمي عن أبي قايل بن حجر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ : (وَلَا الضَّالِّينَ) ، قال : «آمين» ، ورفع بها صوته (٥) [٣٥].

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٣٢.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٣٢ بتفاوت يسير.

(٣) سورة المائدة : ٦٠.

(٤) سورة المائدة : ٧٧.

(٥) مسند أحمد : ٤ / ٣١٦.

١٢٤

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لقّنني جبرائيل عليه‌السلام آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب» [٣٦].

وقال «إنّه كالخاتم على الكتاب» (١)

وفيه لغتان : أمين بقصر الألف ، وأنشد :

تباعد منّي فعطل إذ سألته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وآمين بمد الألف وأنشد :

يا ربّ لا تسلبني حبّها أبدا

ويرحم الله عبدا قال آمينا (٢)

وهو مبني على الفتح مثل أين.

واختلفوا في تفسيره فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر ، أخبرنا أبو العباس محمد ابن إسحاق بن أيوب ، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد ، حدّثنا عبيد بن يعيش عن محمد ابن الفضل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن معنى «آمين» قال : «ربّ افعل» [٣٧] (٣).

وقال ابن عباس وقتادة : معناه : كذلك يكون.

وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدّثنا عبد الله بن حاتم ، حدّثنا عبد الله بن نمير ، أخبرنا سفيان عن منصور عن هلال بن يساف قال : آمين اسم من أسماء الله تعالى ، و [بذلك] (٤) قال مجاهد.

وقال سهل بن عبد الله : معناه : لا يقدر على هذا أحد سواك. وقال محمد بن علي النهدي : معناه لا تخيّب رجانا.

وقال عطية العوفي : آمين كلمة ليست بعربية ، إنما هي عبرية أو سريانية ثمّ تكلمت به العرب فصار لغة لها. وقال عبد الرّحمن بن زيد : آمين كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله أحد إلّا الله عزوجل.

وقال أبو بكر الورّاق : آمين قوة للدعاء واستنزال للرحمة.

وقال الضحّاك بن مزاحم : آمين أربعة أحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى ، وهو خاتم رب العالمين يختم به براءة أهل الجنة وبراءة أهل النار ، وهي الجائزة التي منها يجوزون إلى الجنة والنار (٥).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) زاد المسير : ١ / ١٢ ، تفسير القرطبي : ١ / ١٢٨.

(٣) الدرّ المنثور : ١ / ١٧ ، فتح القدير : ١ / ٢٦.

(٤) في المخطوط : ذلك.

(٥) فيض القدير : ١ / ٨٠ ، ح ٢٠.

١٢٥

يدلّ عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر ، حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله ، حدّثنا محمد بن علي الحافظ ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه ، حدّثنا سعيد بن جبير ، حدّثنا المؤمل بن عبد الرّحمن بن عياش الثقفي ، عن أبي أمية بن يعلى الثقفي ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين» [٣٨] (١).

أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون بن الفضل بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وأربعمائة أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين بن الشرقي ، حدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرّحمن بن بشر وأحمد بن يوسف قالوا : حدّثنا عبد الرزّاق ، أخبرنا معمّر عن همّام بن منبّه قال : حدّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه» [٣٩] (٢).

وحدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمّد بن جعفر ، أخبرنا محمّد أبو الحسن محمد بن الحسن بهراة ، حدّثنا رجاء بن عبد الله ، حدّثنا مالك بن سليم ، عن سعيد بن سالم ، عن ابن جريج عن عطاء قال : آمين دعاء [وعنه عن] النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما حسدكم اليهود على شيء ، كما حسدوكم على آمين ، وتسليم بعضكم على بعض» [٤٠] (٣).

وقال وهب بن منبه : آمين على أربع أحرف ، يخلق الله تعالى من كل حرف ملكا يقول : اللهم اغفر لمن قال : آمين.

فصل في أسماء هذه السورة

هي عشرة ، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى :

الأول : فاتحة الكتاب ، سمّيت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة ، وهي مفتتحة بالآية التي تفتتح بها الأمور تيمّنا وتبرّكا وهي التسمية. وقيل : سمّيت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقال الحسين بن الفضل : لأنها أول سورة نزلت من السماء.

والثاني : سورة الحمد ، لأن فيها ذكر الحمد ، كما قيل : سورة (الأعراف) و (الأنفال) و (التوبة) ونحوها.

والثالث : أمّ الكتاب والقرآن ؛ سمّيت بذلك لأنها أوّل القرآن والكتب المنزلة ، فجميع ما

__________________

(١) كتاب الدعاء للطبراني : ٨٩ ، كنز العمّال : ١ / ٥٥٩ ، ح ٢٥١٢.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٣١٢.

(٣) المصنّف لعبد الرزّاق : ٢ / ٩٨ ، ح ٢٦٤٩.

١٢٦

أودعها من العلوم مجموع في هذه السورة ؛ فهي أصل لها كالأم للطفل ، وقيل : سمّيت بذلك ؛ لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة سميت أم القرى لأنها أشرف البلدان. وقيل : سمّيت بذلك لأنها مقدّمة على سور القرآن ، فهي أصل وإمام لما يتلوها من السور ، كما أن أم القرى أصل جميع البلدان دحيت الأرض من تحتها. وقيل : سمّيت بذلك لأنها مجمع العلوم والخيرات ، كما أن الدماغ يسمى أمّ الرأس ؛ لأنها مجمع الحواس والمنافع.

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد المفسّر يقول : سمعت أبا بكر القفّال يقول : سمعت أبا بكر البريدي يقول : الأم في كلام العرب : الراية ينصبها العسكر.

قال قيس بن الخطيم :

نصبنا أمّنا حتى ابذعرّوا

وصاروا بعد إلفتهم شلالا

فسمّيت أم القرآن ؛ لأن مفزع أهل الإيمان إليها كمفزع العسكر إلى الراية. والعرب تسمي الأرض أمّا ؛ لأنّ معاد الخلق إليها في حياتهم وبعد مماتهم ، قال أمية بن أبي الصلت :

والأرض معقلنا وكانت أمّنا

فيها مقابرنا وفيها نولد (١)

وأنشدني أبو القاسم قال : أنشدنا أبو الحسين المظفّر محمد بن غالب الهمداني قال : أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال : أنشدنا أبي قال : أنشدني أحمد بن عبيدة :

نأوي إلى أمّ لنا تعتصب

كما ولها أنف عزيز وذنب

وحاجب ما إن نواريها الغصب

من السحاب ترتدي وتنتقب (٢)

يعني : نصبه كما وصف لها. وسميت الفاتحة أمّا لهذه المعاني. وقال الحسين بن الفضل : سميت بذلك ؛ لأنها إمام لجميع القرآن تقرأ في كل [صلاة و] (٣) تقدم على كل سورة ، كما أن أمّ القرى إمام لأهل الإسلام. وقال ابن كيسان : سميت بذلك ؛ لأنها تامة في الفضل.

والرابع : السبع المثاني ، وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله.

والخامس : الوافية ، حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري ، حدّثنا أبي عن أمّه عن محمد بن نافع السنجري ، حدّثنا أبو يزيد محبوب الشامي ، حدّثنا عبد الجبار بن العلاء قال : كان يسمي سفيان بن عيينة فاتحة الكتاب : الوافية ، وتفسيرها لأنها لا تنصف ولا تحتمل الاجتزاء إلّا أن كل سورة من سور القرآن لو قرئ نصفها في ركعة والنصف الآخر في ركعة كان جائزا ، ولو نصفت الفاتحة وقرئت في ركعتين كان غير جائز.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ١١٢.

(٢) لسان العرب : ١٥ / ١٦٨ باختصار.

(٣) بياض في مصوّرة المخطوط ، والأقرب ما أثبتناه.

١٢٧

والسادس : الكافية ، أخبرنا أبو القاسم السدوسي ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن مالك المسوري ، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عمران قال : حدّثنا سهيل بن [محمّد] (١) ، حدّثنا عفيف بن سالم قال : سألت عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن قراءة الفاتحة خلف الإمام فقال : عن الكافية تسأل؟

قلت : وما الكافية؟ قال : أما علمت أنها تكفي عن سواها ، ولا يكفي سواها عنها. إياك أن تصلي إلّا بها.

وتصديق هذا الحديث ما حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر المفسر ، حدّثنا عبد الرّحمن بن عمر ابن مالك الجوهري بمرو ، حدّثنا أبي ، حدّثنا أحمد بن يسار ، عن محمد بن عباد الاسكندراني عن أشهب بن عبد العزيز ، عن ابن عيينة ، عن الزهري ، عن محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّ القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا» (٢) [٤١].

والسابع : الأساس ، حدّثنا أبو القاسم الحسين بن محمد المذكر ، حدّثنا أبو عمرو بن المعبّر محمد بن الفضل القاضي بمرو ، حدّثنا أبو هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي ، حدّثنا جارود بن معاد ، أخبرنا وكيع قال : إن رجلا أتى الشعبي فشكا إليه وجع الخاصرة ، فقال : عليك بأساس القرآن. قال : وما أساس القرآن؟ قال : فاتحة الكتاب. قال الشعبي : سمعت عبد الله بن عباس غير مرّة يقول : إن لكل شيء أساسا وأساس العمارة مكة ؛ لأنها منها دحيت الأرض وأساس السماوات غريبا (٣) ، وهي السماء السابعة ، وأساس الأرض عجيبا ، وهي الأرض السابعة السفلى ، وأساس الجنان جنة عدن ، وهي سرّة الجنان ، وعليها أسّست الجنان ، وأساس النار جهنم ، وهي الدركة السابعة السفلى وعليها أسست الدركات ، وأساس الخلق آدم عليه‌السلام ، وأساس الأنبياء نوح عليه‌السلام ، وأساس بني إسرائيل يعقوب ، وأساس الكتب القرآن ، وأساس القرآن الفاتحة ، وأساس الفاتحة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى.

والثامن : الشفاء ، حدّثنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتّب لفظا ، حدّثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الرفّاء ، أخبرنا محمد بن أيوب الواقدي ، حدّثنا أبو عمرو بن العلاء ، حدّثنا سلام الطويل ، عن زيد العمي ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فاتحة الكتاب شفاء من كل سمّ» (٤) [٤٢].

وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه ، حدّثنا أبو الحسين محمّد بن الحسن الصفار الفقيه ،

__________________

(١) كذا الظاهر.

(٢) كنز العمّال : ١ / ٥٥٨ ، إرواء الغليل : ٢ / ١١.

(٣) في تفسير القرطبي (١ / ١١٣) عريبا.

(٤) تفسير القرطبي : ١ / ١١٢.

١٢٨

حدّثنا أبو العباس السرّاج ، حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا معاوية بن صالح ، عن أبي سليمان قال : مرّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض غزواتهم على رجل مقعد متربّع فقرأ بعضهم في أذنه شيئا من القرآن فبرئ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي أمّ القرآن ، وهي شفاء من كل داء» (١) [٤٣].

أخبرنا أحمد بن أبيّ الخوجاني ، أخبرنا الهيثم بن كليب الشامي ، حدّثنا عيسى بن أحمد العسقلاني ، أخبرنا النضر بن شميل ، أخبرنا سعيد بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي عن خارجة بن الصلت التميمي ، عن عمّه قال : جاء عمي من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمرّوا بحيّ من الأعراب ، فقالوا : انّا نراكم قد جئتم من عند هذا الرسول ، إنّ عندنا رجلا مجنونا مخبولا ، فهل عندكم من دواء أو رقية؟ فقال عمّي : نعم. فجيء به ، فجعل عمي يقرأ أمّ القرآن وبزاقه فإذا فرغ منها بزق فجعل ذلك ثلاثة أيام ، فكأنّما أهبط من جبال ، قال عمي : فأعطوني عليه جعلا ، فقلت : لا نأكله حتى نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فسأله ، فقال : «كله ، فمن الحلّ ترقيه بذلك. لقد أكلت برقية حق» (٢).

والتاسع : الصلاة ، قد تواترت الأخبار بأن الله تعالى سمّى هذه السورة ، وهو ما يعرف انّه لا صلاة إلّا بها.

أخبرنا عبد الله بن حامد وأحمد بن يوسف بقراءتي عليهما قالا : أخبرنا مكي بن عبد الله ، حدّثنا محمد بن يحيى قال : وفيما قرأته على ابن نافع ، وحدّثنا مطرف عن مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرّحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله عزوجل : قسمت الصلاة ـ يعني هذه السورة ـ بيني وبين عبدي نصفين ؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي ، فإذا قرأ العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يقول الله : حمدني عبدي. وإذا قال العبد : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يقول الله تعالى : أثنى عليّ عبدي.

وإذا قال العبد : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقول الله : مجّدني عبدي. وإذا قال العبد : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال الله : هذه الآية بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخرها قال : هذه لعبدي ولعبدي ما سأل (٣) [٤٤].

والعاشر : سورة تعلم المسألة ؛ لأن الله تعالى علّم فيه عباده آداب السؤال ، فبدأ بالثناء ثم الدعاء ، وذلك سبب النجاح والفلاح.

القول في وجوب قراءة هذه السورة في الصلاة.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن جعفر الطبري ، حدّثنا بشر بن مطير ، حدّثنا

__________________

(١) سنن الدارمي : ٢ / ٤٤٥ ، بتفاوت.

(٢) بتفاوت في سنن أبي داود : ٢ / ١٢٩ ، ح ٣٤٢١.

(٣) تفسير القرطبي : ١ / ١٢١ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٨٥ ، بتفاوت.

١٢٩

سفيان ، حدّثنا العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه أنه سمع أبا هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلّى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب (١) فهي خداج ـ ثلاث مرات ـ غير تمام» (٢) [٤٥].

وأخبرنا عبد الله قال : أخبرنا ابن عباس ، حدّثنا عبد الرّحمن بن بشر ، حدّثنا ابن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» (٣) [٤٦].

أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عبدوس بن الحسين ، حدّثنا أبو حاتم الرازي ، حدّثنا أبو قبيصة ، حدّثنا سفيان عن جعفر بن علي بيّاع الأنماط عن أبي هريرة قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أنادي : «لا صلاة إلّا بقراءة فاتحة الكتاب» (٤) [٤٧].

وأخبرنا عبد الله ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق ، أخبرنا أبو المثنى ، حدّثنا مسدّد ، حدّثنا عبد الوارث بن حنظلة السدوسي قال : قلت لعكرمة : إنّي ربّما قرأت في المغرب (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) وأنّ الناس يعيبون عليّ ذلك ، فقال : سبحان الله اقرأ بهما فإنّهما من القرآن ، ثمّ قال : حدّثنا ابن عبّاس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلّا بفاتحة الكتاب لم يزد على ذلك غيره.

وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي ، حدّثنا أبو العبّاس الأصمّ ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، حدّثنا الشافعي ، حدّثنا سفيان عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» (٥) واحتجّ من أجاز الصلاة بغيرها بقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).

وأخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد بقراءتي عليه أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا أبو المثنّى حدّثنا مسدّد ، حدّثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عمر قال : حدّثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد فدخل رجل وصلّى ثم جاء فسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ارجع فصلّ ، فإنك لم تصلّ» حتى فعل ذلك ثلاث مرات. قال الرجل : والذي بعثك بالحق نبيا ما أحسن غير هذا ، فعلّمني. قال : «إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ (ما تَيَسَّرَ) معك (مِنَ الْقُرْآنِ) ثم اركع» [٤٨] (٦).

وهذه اللفظة يحتمل أنه أراد أن كل ما وقع عليه اسم قرآن وجهل إنما يراد سورة بعينها ،

__________________

(١) في المصدر : بأمّ القرآن.

(٢) شرح مسلم : ٤ / ١٠١ ، تفسير القرطبي : ١ / ١١٩.

(٣) كتاب المسند : ٣٦ ، مسند أحمد : ٥ / ٣١٤.

(٤) مسند أحمد : ٢ / ٤٢٨.

(٥) مسند أحمد : ٥ / ٣١٤ ، وكتاب المسند للشافعي : ٣٦.

(٦) مسند أحمد : ٢ / ٤٣٧.

١٣٠

فلمّا احتمل الوجهين نظرنا فوجدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بفاتحة الكتاب وأمر بها [وشدّد على] (١) من تركها ، فصار هذا الخبر مجملا ، والأخبار التي رويناها مفسرة ، والمجمل يدل على المفسر ، وهذا كقوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (٢) ثم لم يجز أحد [ترك الهدي] (٣) بل ثبتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصفة أن لا يكون أعور ولا أعرج ولا معيوبا ، فكذلك أراد بقوله عزوجل وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فسّر بالصفة التي بينها أن تكون سورة الحمد إذا أحسنها ، وقدرها إذا لم يحسنها. فبالعلة التي أوجبوا قراءة آية تامة مع قوله : «ما تَيَسَّرَ» له وجه ظاهره العلم ، والله أعلم.

ذكر وجوب قراءتها على المأموم كوجوبها على الإمام واختلاف الفقهاء فيه :

قال مالك بن أنس : يجب عليه قراءتها إذا خافت الإمام ، فأمّا إذا جهر فليس عليه [شيء].

وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد : يلزمه القراءة أسرّ الإمام أو جهر. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يلزمه القراءة خافت أو جهر.

واتّفق المسلمون على أن صلاته [صحيحة] إذا قرأ خلف الإمام (٤).

والدليل على وجوب القراءة على المأموم كوجوبها على الإمام ما أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا مكي بن عبد الله ، حدّثنا أبو الأزهر ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدّثنا أبي عن أبي إسحاق ، حدّثنا مكحول ، وأخبرنا عبد الله ، أخبرنا أحمد بن عبد الرّحمن بن سهل ، حدّثنا سهل بن عمار ، حدّثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود ابن الربيع عن عبادة ابن الصامت قال : صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح فثقلت عليه القراءة فلمّا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلاته أقبل علينا بوجهه وقال : «إني لأراكم تقرؤون خلفي؟» (٥). قلنا : أجل والله يا رسول الله هذا. قال : «فلا تفعلوا إلّا بأمّ الكتاب فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» (٦) [٤٩].

وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وجابر وابن مسعود وعمران بن حصين وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وهشام بن عامر ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وجماعة كبيرة من التابعين وأئمة المسلمين روي عنهم جميعا أنهم رأوا القراءة خلف الإمام واجبة.

__________________

(١) سقط في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.

(٢) سورة البقرة : ١٩٦.

(٣) كذا الظاهر.

(٤) راجع الشرح الكبير لابن قدامة : ٢ / ١٢.

(٥) في المصدر : وراء إمامكم.

(٦) صحيح ابن خزيمة : ٣ / ٣٦.

١٣١

ووجه القول القديم ما روى سفيان عن عاصم بن أبي النجود ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة وعائشة أنهما كانا يأمران بالقراءة وراء الإمام إذا لم يجهر.

واحتج أبو حنيفة وأصحابه بما أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه ، أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا الوليد ابن حمّاد اللؤلؤي : حدّثنا الحسن بن زياد اللؤلؤي : حدّثنا أبو حنيفة عن الحسن عن عبد الله بن شدّاد بن الماد عن جابر بن عبد الله قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى خلف امام فإنّ قراءة الإمام له قراءة» [٥٠] (١).

وأخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق ، أخبرنا محمد بن أيوب ، أخبرنا أحمد بن يونس ، حدّثنا الحسن بن صالح ، عن جابر الجعفي ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان له إمام فقراءته له قراءة» [٥١] (٢).

فأمّا حديث عبد الله بن شدّاد فهو مرسل ، رواه شعبة وزائدة وابن عينية وأبو عوانة وإسرائيل وقيس وجرير وأبو الأحوص مرسلا ، والمرسل لا تقوم به حجّة ، والوليد بن حماد والحسن لا يدرى من هما. وأما خبر جابر الجعفي فهو ساقط ، قال زائدة : جابر كذاب ، وقال أبو حنيفة : ما رأيت أكذب من جابر. وقال ابن عينية : كان جابر لا يوقن بالرجعة.

وقال شعبة : قال لي جابر : دخلت إلى محمد بن علي فسقاني شربة وحفظت عشرين ألف حديث. ولا خلاف بين أهل النقل في سقوط الاحتجاج بحديثه.

وقد روي عن جابر بن عبد الله ما خالف هذه الأخبار ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أبو بكر ابن إسحاق ، حدّثنا عبد الله بن محمد ، حدّثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا سعد بن عامر ، عن شعبة ، عن مسعر عن يزيد بن الفقير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام ، ومحال أن يروي جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قراءة الإمام قراءة المأموم ثم يقرأ خلف الإمام ويأمر به مخالفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واحتجوا أيضا بما روي عن عاصم بن عبد العزيز عن أبي سهيل عن عوان عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يكفيك قراءة الإمام جهر أو لم يجهر» [٥٢] (٣).

وهذا الحديث أيضا لا يثبته أهل المعرفة بالحديث ؛ لأنه غير متن الحديث ، وإنما الخبر الصحيح فيه عن أبي هريرة ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدّثنا العباس ابن محمد الدوري ، حدّثنا بشر بن كلب ، حدّثنا شعبة ، عن العلاء بن عبد الرّحمن ، عن أبيه ،

__________________

(١) نصب الراية : ٢ / ١٦.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٣٣٩.

(٣) نصب الراية : ٢ / ١٨ ، سنن الدار قطني : ١ / ٣٢٧ ، بتفاوت.

١٣٢

عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج غير تمام» (١). قال : فقلت له : إذا كان خلف الإمام؟ قال : فأخذ بذراعي وقال : «يا فارسي ـ أو قال : يا ابن الفارسي ـ اقرأ بها في نفسك» [٥٣] (٢).

واحتجوا أيضا بما روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : كانوا يقرءون خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «خلطتم عليّ القرآن» (٣).

وهذا الخبر فيه نظر ، ولو صحّ لكان المنع من القراءة كما رواه النضر بن شميل.

أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لقوم يقرءون القرآن ويجهرون به : «خلطتم عليّ القرآن» [٥٤] (٤) ، فليس في نهيه عن القراءة خلف الإمام جهرا ما يمنع عن القراءة سرّا. ونحن لا نجيز الجهر بالقراءة خلف الإمام ؛ لما فيه من سوء الأدب والضرر الظاهر.

وقد روى يحيى بن عبد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي حازم ، عن البياضي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قام أحدكم يصلّي ، فإنه يناجي ربّه ، فلينظر بما يناجيه ، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» [٥٥] (٥).

ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن زياد الأشعري قال : صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر. وكذلك الجواب عن احتجاجهم بخبر عمران بن الحصين قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر والعصر فلما انصرف قال : أيّكم قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (٦) ، قال رجل : أنا ولم أرد به إلّا الخير. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد عرفت أن بعضكم خالجنيها» [٥٦] (٧).

واحتجّوا أيضا بحديث أبي هريرة : فإذا قرأ فأنصتوا ، وليس الإنصات بالسكوت فقط إنّما الإنصات أن تحسن استماع الشيء ثم يؤدى كما سمع ، يدل عليه قوله تعالى في قصّة الجن : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا) (٨).

وقد يسمى الرجل منصتا وهو قارئ مسبّح إذا لم يكن جاهرا به ، ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري : ١٣٢.

(٢) مسند الحميدي : ٢ / ٤٣٠.

(٣) مجمع الزوائد : ٢ / ١١٠.

(٤) مجمع الزوائد : ٢ / ١١٠.

(٥) مسند أحمد : ٢ / ١٢٩ ، مجمع الزوائد : ٢ / ٢٦٥ ، بتفاوت.

(٦) سورة الأعلى : ١.

(٧) مسند أحمد : ٤ / ٤٢٦.

(٨) سورة الأحقاف : ٢٩ ـ ٣٠.

١٣٣

قال : «من أتى الجمعة فأنصت ولم يلغ حتى يصلي الإمام كان له كذا وكذا» [٥٧] (١).

فسمّاه منصتا وإن كان مصلّيا ذاكرا ، وقيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تقول أيضا؟ قال : «أقول اللهمّ اغسلني من خطاياي» فدلّ أنّ الإنصات وهو ترك الجهر بالقراءة دون المخافتة بها ، يدل عليه ما أخبرنا به أبو القاسم الحسين ، حدّثنا أبو العباس الأصم ، حدّثنا أبو الدرداء هاشم بن محمد ، حدّثنا عبيد بن السكن ، حدّثنا إسماعيل بن عباس ، أخبرنا محمد بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى صلاة مكتوبة أو سبحة فليقرأ بأمّ القرآن» (٢).

قال : قلت : يا رسول الله ، إني ربما أكون وراء الإمام.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ إذا سكت إنما جعل الإمام ليؤتمّ به» [٥٨] (٣).

قد رواه الثقات الأثبات عن أبي هريرة مثل الأعرج وهمام بن منبّه وقيس بن أبي حازم وأبي صالح وسعيد المقبري والقاسم بن محمد وأبي سلمة ، ولم يذكروا : (وإذا قرأ فأنصتوا).

وأمّا احتجاجهم بقوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (٤) ، فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

آخر السورة ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ١٠ ، سنن الدارمي : ١ / ٣٦٣ ، بتفاوت.

(٢) المصنّف لعبد الرزّاق : ٢ / ١٣٣ ، وكنز العمّال : ٧ / ٤٤٢ ، ح ١٩٦٨٨.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٣١٤ ، وسنن الدارمي : ١ / ٢٨٧ ، وصحيح البخاري : ١ / ١٠٠.

(٤) سورة الأعراف : ٢٠٤.

١٣٤

سورة البقرة

مدنية : وهي مائتان وست وثمانون آية في العدد الكوفي وهي سند

أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وهي خمسة وعشرون ألف [حرف]

وخمسمائة حرف ، وستّة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة

أخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، حدثنا يعقوب ابن سفيان الصغير ، حدثنا يعقوب بن سفيان الكبير ، حدثنا هشام بن عمّار ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا شعيب بن زرين عن عطاء الخراساني ، عن عكرمة ، قال : أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة.

* فضلها :

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها ، أخبرنا دعلج بن أحمد الشجري ببغداد ، حدثنا محمد بن أحمد بن هارون ، حدثنا خندف عن علي ، حدثنا حسّان بن إبراهيم ، حدثنا خالد بن شعيب المزني ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لكل شيء سناما ، وسنام القرآن سورة البقرة ، من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيام» (١) [٥٩].

وأخبرنا محمد بن القاسم بن أحمد المرتّب بقراءتي عليه ، حدثنا أبو عمرو بن مطرف ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن المسيب ، حدثنا عبد الله بن الحسين ، حدثنا يوسف بن الأسباط ، حدثنا حسن بن المهاجر عن عبد الله بن يزيد عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلموا البقرة ، فإنّ أخذها بركة ، وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» (٢) [٦٠].

أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن علي الحافظ ، أخبرنا محمد بن يحيى بن مندة ، حدثنا أبو مصعب ، حدثنا عمران بن طلحة الليثي عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم ، فجاء إنسان منهم

__________________

(١) كنز العمّال : ١ / ٥٦٥ ، ح ٢٥٤٩.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٣٥٢.

١٣٥

فقال : «ماذا معك من القرآن؟» حتى أتى على آخرهم ، وهو أحدثهم سنّا ، فقال : «ما معك من القرآن؟» قال : كذا وكذا وسورة البقرة ، فقال : «اخرجوا وهذا عليكم أمين» ، قالوا : يا رسول الله هو أحدثنا سنّا ، قال : «معه سورة البقرة» (١) [٦١].

التفسير :

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

قوله تعالى : (الم) : اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور ، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها ، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها.

قال أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه : في كل كتاب سر ، وسر القرآن أوائل السور.

وقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : إنّ لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.

وفسّره الآخرون ، فقال سعيد بن جبير : هي أسماء الله مقطّعة ، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ، ألا ترى أنّك تقول : (الر) (٢) وتقول : (حم) (٣) وتقول : (ن) (٤) فيكون (الرَّحْمنُ) ، وكذلك سائرها على هذا الوجه ، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها.

وقال قتادة : هي أسماء القرآن.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي أسماء للسور المفتتحة بها.

وقال ابن عباس : هي أقسام أقسم الله بها ، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه.

وقال أبو العالية : ليس منها حرف إلّا وهو (٥) مفتاح لاسم من أسماء الله عزوجل ، وليس منها حرف إلّا وهو في الآية وبلائه (٦) ، وليس منها حرف إلّا في مدّة قوم وآجال آخرين.

__________________

(١) سنن الترمذي : ٤ / ٢٣٤ ، بتفاوت.

(٢) سورة الحجر : ١.

(٣) سورة الدخان : ١.

(٤) سورة القلم : ١.

(٥) في المخطوط : وهي.

(٦) هكذا في المخطوط.

١٣٦

وقال عبد العزيز بن يحيى : معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها ، فقال : اسمعوها مقطعة ، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة ، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة ، ليعرفوها إذا وردت عليهم ، ثم أسمعهم مؤلّفة.

وقال أبو روق : إنّها تكتب للكفار ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها ، وكان المشركون يقولون : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها ، وكانوا يضايقونه ويؤذونه ، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة ، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين ، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه ، فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم.

وقال الأخفش : إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة ، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وأصول كلام الأمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه ، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه (لا رَيْبَ فِيهِ).

وقال النقيب : هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع ، كقولك : ولا إنّ زيدا ذهب.

وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين.

والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (١) أي صلّوا لا يصلّون ، وقوله : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (٢) فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها ، وقال : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) (٣) أراد جميع أبدانكم.

وقال : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد ، وبالأنف عن الوجه.

وقال الشاعر في امرأته :

لما رأيت أمرها في خطي

وفنكت في كذب ولط

أخذت منها بقرون شمط

فلم يزل ضربي بها ومعطي (٤)

__________________

(١) سورة المرسلات : ٤٨.

(٢) سورة العلق : ١٩.

(٣) سورة آل عمران : ١٨٢.

(٤) تفسير الطبري : ١ / ١٣٢ ، ولسان العرب : ١٠ / ٤٨٠.

١٣٧

فعبّر بلفظة «خطي» عن جملة حروف أبجد.

ويقول القائل : (أ ب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها ، بل يريد جميعها وقرأت (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، وهو يريد جميع السورة ، ونحوها كثير ، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي ، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم ، فقال : إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم ، وعليها مباني كلامكم ، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه ، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله ، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة.

هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني ، فإن قيل : فهل يكون حرفا واحدا عودا للمعنى؟

وهل تجدون في كلام العرب أن يقال : الم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا : نعم ، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه.

قال الراجز :

قلت لها قفي فقالت قاف

لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف (١)

أي قف أنت.

وأنشد سيبويه لغيلان :

نادوهم ألا ألجموا ألا تا

قالوا جميعا كلّهم ألا فا (٢)

أي لا تركبون فقالوا : ألا فاركبوا.

وأنشد قطرب في جارية :

قد وعدتني أم عمرو أن تا

تدهن رأسي وتفليني تا

أراد أن تأتي وتمسح (٣)

وأنشد الزجّاج :

بالخير خيرات وإن شرّا فا

ولا أريد الشرّ إلّا أن تا (٤)

أراد بقوله (فا) : وإن شرا فشر له ، وبقوله : تا إلا أن تشاء.

قال الأخفش : هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب ، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت ، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد ـ اثنان ـ ثلاثة ـ أربعة.

__________________

(١) شرح شافية ابن الحاجب : ٤ / ٢٦٤ ، والبيت الأوّل موجود في تفسير القرطبي : ١ / ١٥٥.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ١٥٦.

(٣) لسان العرب : ١ / ١٦٤ وفيه : تفليني وا.

(٤) لسان العرب : ١٥ / ٢٨٨.

١٣٨

قال أبو النجم :

أقبلت من عند زياد كالخرف

تخط رجلاي بخط مختلف (١)

تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفا من حروف العطف حركتها.

وأنشد أبو عبيدة :

إذا اجتمعوا على ألف وواو

وياء هاج بينهم جدال (٢)

وهذه الحروف تذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة.

قال كعب الأحبار : خلق الله العلم من نور أخضر ، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفا من أصل الكلام ، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به ، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه [.....] (٣) فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى ، وتمايلت هيبة له ، فسجدت فصارت همزة ، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها ، فصارت ألفا ، فتلفظه بها ، ثم جعل القلم ينطق حرفا حرفا (٤) إلى ثمانية وعشرين حرفا ، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة ، وجميعها كلّها في أبجد.

وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه ، ومقدّما على الحروف كلّها ، فأمّا قوله عزوجل : (الم) فقد اختلف العلماء في تفسيرها.

عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : (الم) قال : أنا الله أعلم.

أبو روق عن الضحاك في قوله (الم) : أنا الله أعلم.

مجاهد وقتادة : (الم) اسم من أسماء القرآن.

الربيع بن أنس : (ألف) مفتاح اسم الله ، و (لام) مفتاح اسمه لطيف ، و (ميم) مفتاح اسمه مجيد.

خالد عن عكرمة قال : (الم) قسم.

محمد بن كعب : (الألف) آلاء الله ، و (اللام) لطفه ، و (الميم) ملكه.

__________________

(١) لسان العرب : ٦٩٨.

(٢) شرح الرضي على الكافية : ١ / ٦٨.

(٣) كلمة غير مقروءة.

(٤) في الأصل : حرف حرف.

١٣٩

وفي بعض الروايات عن ابن عباس : (الألف) الله ، و (اللام) جبرئيل ، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب (لا رَيْبَ فِيهِ) ، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل : أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أهل الإشارة : (ألف) : أنا ، (لام) : لي ، (ميم) : منّي.

وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق ، وقد سئل عن قوله : (الم) فقال : في الألف ست صفات من صفات الله : الابتداء ؛ لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق ، و (الألف).

ابتداء الحروف ، والاستواء : فهو عادل غير جائر ، و (الألف) مستو في ذاته ، والانفراد : والله فرد والألف فرد ، واتصال الخلق بالله ، والله لا يتصل بالخلق ، فهم يحتاجون إليه وله غنى عنهم.

وكذلك الألف لا يتصل بحرف ، فالحروف متصلة : وهو منقطع عن غيره ، والله باين بجميع صفاته من خلقه ، ومعناه من الألفة ، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق ، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها.

وقالت الحكماء : عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه ، وهو محل الفهم ، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلّا بعلمهم ، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه.

وأما محل (الم) من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده.

وقيل : (الم) ابتداء ، و (ذلِكَ) ابتداء آخر و (الْكِتابُ) خبره ، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول.

(ذلِكَ) : قرأت العامة (ذلِكَ) بفتح الذال ، وكذلك هذه وهاتان ، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه ، (ذ) للاسم ، واللام عماد ، والكاف خطاب ، وهو إشارة إلى الغائب.

و (الْكِتابُ) : بمعنى المكتوب كالحساب والعماد.

قال الشاعر :

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة

أتتك من الحجج تتلى كتابها (١)

أو مكتوبها ، فوضع المصدر موضع الاسم ، كما يقال للمخلوق خلق ، وللمصور تصوير ، وقال : دراهم من ضرب الأمير ، أي هي مضروبة ، وأصله من الكتب ، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض ، مأخوذ من قولهم : كتب الخرز ، إذا خرزته قسمين ، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب.

قال ذو المرّجة :

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣ / ٣٤١.

١٤٠