نهاية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-005-8
الصفحات: ٤٣٢

إلى الضرورة الوصفيّة بوجه.

تنبيه آخر : [في أقسام الإمكان]

هذا الذي تقدّم ـ من معنى الإمكان ـ هو المبحوث عنه في هذه المباحث ، وهو إحدى الجهات الثلاث التي لا يخلو عن واحدة منها شيء من القضايا (١).

وقد كان الإمكان عند العامة يُستعمل في سلبِ الضرورة عن الجانب المخالف ، ولازِمُه سلبُ الامتناع عن الجانب الموافق.

ويصدق في الموجبة فيما إذا كان الجانب الموافق ضروريّاً ، نحو «الكاتب متحرّك الأصابع بالإمكان» ، أو مسلوب الضرورة ، نحو «الإنسان متحرّك الأصابع بالإمكان».

ويصدق في السالبة فيما إذا كان الجانب الموافق ممتنعاً ، نحو «ليس الكاتب بساكن الأصابع بالإمكان» ، أو مسلوب الضرورة ، نحو «ليس الانسان بساكن الأصابع بالإمكان».

فالإمكان بهذا المعنى أعمّ مورداً من الإمكان بالمعنى المتقدّم ـ أعني سلْبَ الضرورتَيْن ـ ومن كلٍّ من الوجوب والامتناع ، لا أنّه أعمٌّ مفهوماً ، إذ لا جامع مفهوميّ بين الجهات.

ثمّ نقله الحكماء إلى خصوص سلب الضرورة من الجانبَيْن ، وسَمّوه : «إمكاناً خاصاً وخاصيّاً» ، وسَمّوا ما عند العامة : «إمكاناً عاماً وعاميّاً».

وربّما أُطلق الإمكان وأُريد به سلبُ الضرورات الذاتيّة والوصفيّة والوقتيّة ، وهو أخصّ من الإمكان الخاصّ ، ولذا يسمّى : «الإمكان الأخصّ» ، نحو «الإنسان كاتبٌ بالإمكان» ، فالماهيّة الإنسانيّة لا تستوجب الكتابة ، لا لذاتها ولا لوصف ولا في وقت مأخوذَيْن في القضيّة.

__________________

(١) بخلاف صاحب المواقف ، فانّه قال : «واعلم انّ هذه غير الوجوب والإمكان والإمتناع التي هي جهات القضايا وموادّها ...» ، فراجع شرح المواقف ص ١٣١ ، واعترض عليه شارح المقاصد بأنّه : «إن أراد كونها واجبة لذوات اللوازم فالملازمة ممنوعة ، أو لذوات الماهيات فبطلان التالي ممنوع فإنّ معناه أنّها واجبة الثبوت للماهيات نظراً إلى ذواتها من غير احتياج إلى أمر آخر» ، راجع شرح المقاصد ج ١ ص ١١٥.

٦١

وربّما أُطلق الإمكان واُريد به سلْبُ الضرورات جميعاً حتّى الضرورة بشرط المحمول ، وهو في الاُمور المستقبلة التي لم يتعيّن فيها إيجاب ولا سلب.

فالضرورة مسلوبة عنها حتّى بحسب المحمول إيجاباً وسلباً.

وهذا الإعتبار بحسب النظر البسيط العامّي الذي من شأنه الجهل بالحوادث المستقبلة لعدم إحاطته بالعلل والأسباب ، وإلاّ فلكلّ أمر مفروضٌ بحسب ظرفه إمّا الوجود والوجوب وإمّا العدم والامتناع.

وربّما اُطلق الإمكان واُريد به الإمكان الإستعداديّ ، وهو وصفٌ وجوديٌّ من الكيفيّات القائمة بالمادّة ، تقبل به المادّة الفعليّاتَ المختلفة.

والفرق بينه وبين الإمكان الخاصّ أنّه صفةٌ وجوديّةٌ تقبل الشدّة والضعف والقُرْب والبُعْد من الفعليّة ، موضوعه المادّة الموجودة ويبطل منها بوجود المستعدّ؛ بخلاف الإمكان الخاصّ الذي هو معنى عقليٌّ لا يتّصف بشدّه وضعف ولا قُرْب وبُعْد ، وموضوعه الماهيّة من حيث هي ، لا يفارق الماهيّة موجودةً كانت أو معدومةً.

وربما اُطلق الإمكان واُريد به كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محالٌ ، ويسمّى : «الإمكان الوقوعيّ».

وربما اُطلق الإمكان واُريد به ما للوجود المعلوليّ من التعلّق والتقوّم بالوجود العلّيّ ، وخاصّة الفقر الذاتي للوجود الإمكانيّ بالنسبة إلى الوجود الواجبيّ (جلّ وعلا) ، ويسمّى : «الإمكان الفقريّ» و «الوجوديّ» قِبالَ الإمكان الماهويّ.

تنبيهٌ آخر :

الجهات الثلاث المذكورة لا تختصّ بالقضايا التي محمولها الوجود ، بل تتخلّل واحدةٌ منها بين أيِّ محمول مفروض نُسِب إلى أيِّ موضوع مفروض ، غير أنّ الفلسفة لا تتعرّض منها إلاّ بما يتخلّل بين الوجود وعوارضه الذاتيّة لكون موضوعها الموجود بما هو موجود.

٦٢

الفصل الثاني

في انقسام كلٍّ من الموادّ الثلاث إلى ما بالذات

وما بالغير وما بالقياس إلى الغير ، إلاّ الإمكان

ينقسم كلٌّ من هذه الموادّ الثلاث إلى ما بالذات وما بالغير وما بالقياس إلى الغير ، إلاّ الإمكان ، فلا إمكان بالغير (١).

والمراد بما بالذات أن يكون وضع الذات ـ مع قطع النظر عن جميع ما عداه ـ كافياً في اتّصافه ، وبما بالغير أن لا يكفي فيه وضعه كذلك ، بل يتوقّف على إعطاء الغير واقتضائه ، وبما بالقياس إلى الغير أن يكون الإتّصاف بالنظر إلى الغير على سبيل استدعائه الأعمَّ من الإقتضاء.

فالوجوب بالذات كضرورة الوجود لذات الواجب (تعالى) لذاته بذاته ، والوجوب بالغير ، كضرورة وجود الممكن التي تلحقه من ناحية علّته التامّة ، والامتناع بالذّات ، كضرورة العدم للمحالات الذاتيّة التي لا تقبل الوجود لذاتها المفروضه ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما وسلب الشيء عن نفسه ، والامتناع بالغير ، كضرورة عدم الممكن التي تلحقه من ناحية عدم علّته ، والإمكان بالذّات كون الشيء في حدّ ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عداه مسلوبةً عنه ضرورةُ الوجود وضرورةُ العدم.

وأمّا الإمكان بالغير فممتنعٌ ـ كما تقدّمت الإشارة اليه (٢) ـ. وذلك لأنّه لو

__________________

(١) راجع الأسفار ج ١ ص ١٦١ ـ ١٧١ ، وشوارق الإلهام ص ٨٧ ـ ٨٨ ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص ٣٦ ، وكشف المراد ص ٥٢.

(٢) حيث قال : «فلا إمكان بالغير». ولا يخفى أنّ الإمكان بالغير غير الإمكان الغيريّ فإنّ المراد من الإمكان في الإمكان بالغير هو الإمكان العرضيّ وفي الإمكان الغيريّ هو الإمكان الذاتيّ بيان ذلك : أنّ الإمكان قسمان : (احدهما) الإمكان بالعرض بمعنى أن يكون الشيء غير ممكن ثمّ يصير ممكنّاً بسبب الغير ، وهذا هو الممكن بالغير الذي ثبتت استحالته. و (ثانيهما) الإمكان بالذّات وهو أن يكون الشيء ممكناً في حدّ ذاته ، وهذا هو الممكن الغيريّ الذي اتّصف به الممكنات.

٦٣

لَحَقَ الشيءَ إمكانٌ بالغير من علّة مقتضية من خارج لكان الشيء في حدّ نفسه مع قطع النظر عمّا عداه إمّا واجباً بالذات أو ممتنعاً بالذات أو ممكناً بالذات ، لما تقدّم (١) أنّ القسمة إلى الثلاثة حاصرة. وعلى الأوّلَيْن يلزم الإنقلاب بلحوق الإمكان له من خارج. وعلى الثالث ـ أعني كونه ممكناً بالذات ـ فإمّا أن يكون بحيث لو فرضنا ارتفاع العلّة الخارجة بقى الشيء على ما كان عليه من الإمكان ، فلا تأثير للغير فيه لاستواء وجوده وعدمه وقد فُرِضَ مؤثّراً ، هذا خلفٌ. وإن لم يبق على إمكانه لم يكن ممكناً بالذات وقد فُرِضَ كذلك ، هذا خلفٌ.

هذا لو كان ما بالذات وما بالغير إمكاناً واحداً هو بالذات وبالغير معاً ، ولو فُرِضَ كونهما إمكانَيْن إثنَيْن بالذات وبالغير كان لشيء واحد من حيثيّة واحدة إمكانانِ لوجود واحد ، وهو واضح الفساد كتحقّق وجودَيْن لشيء واحد.

وأيضاً في فَرْض الإمكان بالغير فُرِضَ العلّة الخارجة الموجبة للإمكان ، وهو في معنى ارتفاع النقيضَيْن ، لأنّ الغير الذي يفيد الإمكان الذي هو لا ضرورة الوجود والعدم لا يفيده إلاّ برفعِ العلّة الموجبة للوجود ورفعِ العلّة الموجبة للعدم التي هي عدم العلّة الموجبة للوجود ، فإفادتها الإمكانَ لا تَتمّ إلاّ برفعها وجودَ العلّة الموجبة للوجود وعدَمها معاً ، وفيه ارتفاع النقيضَيْن.

والوجوب بالقياس إلى الغير كوجوب العلّة إذا قيست إلى معلولها بإستدعاء منه ، فإنّه بوجوده يأبى إلاّ أن تكون علّتُهُ موجودةً ، وكوجوب المعلول إذا قيس إلى علّته التامّة باقتضاء منها ، فإنّها بوجودها تأبى إلاّ أن يكون معلولها موجوداً ، وكوجوب أحد المتضائفَيْن إذا قيس إلى وجود الآخر.

والضابط فيه أن تكون بين المقيس والمقيس إليه علّيّةٌ ومعلوليّةٌ أو يكونا معلولَيْ علّةواحدة ، إذلولارابطة العليّة بينهما لم يتوقّف أحدهما على الآخر فلم يجب عند ثبوت أحدهما ثبوتُ الآخر.

والإمتناع بالقياس إلى الغير كامتناع وجود العلّة التامّة إذا قيس إلى عدم

__________________

(١) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

٦٤

المعلول بالاستدعاء ، وكامتناع وجود المعلول إذا قيس إلى عدم العلّة بالاقتضاء ، وكإمتناع وجود أحد المتضائفَيْن إذا قيس إلى عدم الآخر وعدمِهِ إذا قيس إلى وجود الآخر.

والإمكان بالقياس إلى الغير حالُ الشيء إذا قيس إلى ما لا يستدعي وجوده ولا عدمه.

والضابط أن لا تكون بينهما علّيةٌ ومعلوليّةٌ ، ولا معلوليّتهما لواحد ثالث.

ولا إمكانَ بالقياس بين موجودَيْن ، لأنّ الشيء المقيس إمّا واجبٌ بالذات مقيسٌ إلى ممكن أو بالعكس وبينهما علّيّة ومعلوليّة ، وإمّا ممكنٌ مقيسٌ إلى ممكن آخر وهما ينتهيان إلى الواجب بالذات.

نعم ، للواجب بالذات إمكانٌ بالقياس إذا قيس إلى واجب آخر مفروض أو إلى معلولاته مِن خلْقه ، حيث ليست بينهما علّيّةٌ ومعلوليّةٌ ، ولا هما معلولان لواحد ثالث.

ونظيرُ الواجبَيْن بالذات المفروضَيْن ، الممتنعان بالذّات إذا قيس أحدهما إلى الآخر أو إلى ما يستلزمه الآخر.

وكذا الإمكان بالقياس بين الواجب بالذات والممكن المعدوم ، لعدم بعض شرائط وجوده ، فإنّه معلول انعدام علّته التامة التي يصير الواجب بالذات على الفرض جزءاً من أجزائها غير موجِب للممكن المفروض ، فللواجب بالذّات إمكان بالقياس إليه وبالعكس.

وقد تبيّن بما مرّ :

أوّلا : أنّ الواجب بالذّات لا يكون واجباً بالغير ولا ممتنعاً بالغير ، وكذا الممتنع بالذّات لا يكون ممتنعاً بالغير ولا واجباً بالغير.

ويتبيّن به أنّ كلّ واجب بالغير فهو ممكن ، وكذا كلّ ممتنع بالغير فهو ممكن.

وثانياً : أنّه لو فُرِضَ واجبان بالذّات لم تكن بينهما علاقةٌ لزوميّةٌ ، وذلك لأنّها إنمّا تتحقّق بين شيئين أحدهما علّةٌ للآخر أو هما معلولا علّة ثالثة (١) ، ولا

__________________

(١) اعلم أنّ حصر العلاقة اللزوميّة في العلاقة العلّيّة من مذهب الشيخ الرئيس في الشفاء ، فراجع الفصل السادس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء. ثمّ تبعه صدر المتألّهين في تعليقته عليه ص ٣٢ ، وكذا المصنّف هاهنا.

٦٥

سبيل للمعلوليّة إلى واجب بالذات.

الفصل الثالث

في أنّ واجب الوجود بالذات ماهيّته إنّيّته

واجب الوجود بالذات ماهيّته إنّيّته بمعنى أنّ لاماهيّة له وراء وجوده الخاصّ به.

والمسألة بيّنة بالعطف على ما تقدّم (١) من أنّ الإمكان لازمُ الماهيّة ، فكلّ ماهيّة فهي ممكنة ، وينعكس إلى أنّ ما ليس بممكن فلا ماهيّة له ، فلا ماهيّة للواجب بالذات وراء وجوده الواجبيّ.

وقد أقاموا عليه مع ذلك حججاً (٢).

أمْتَنُها : أنّه لو كان للواجب بالذات ماهيّة وراء وجوده الخاصّ به كان وجوده زائداً عليها عَرضيّاً لها ، وكلُّ عرضيٍّ معلَّلٌ ، فكان وجوده معلولا إمّا لماهيّته أو لغيرها؛ والثاني ـ وهو المعلوليّة للغير ـ ينافي وجوب الوجود بالذات؛ والأوّل ـ وهو معلوليّته لماهيّته ـ يستوجب تقدُّمَ ماهيّته على وجوده بالوجود ، لوجوب تقدّم العلّة على معلولها بالوجود بالضرورة ، فلو كان هذا الوجود المتقدّم عين وجود المتأخّر لزم تقدّم الشيء على نفسه وهو محالٌ ، ولو كان غيره لزم أن توجد ماهيّة واحدة بأكثر من وجود واحد ، وقد تقدّمت إستحالته (٣). على أنّا

__________________

(١) في الأمر الأوّل من الاُمور المذكورة في الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.

(٢) راجع الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء ، والتحصيل ص ٥٧١ ، والتلويحات ص ٣٤ ـ ٣٥ ، والمقاومات ص ١٧٥ ، والمطارحات ص ٣٩٨ ـ ٣٩٩ ، وشرح الإشارات ج ٣ ص ٣٥ و ٣٩ و ٥٨ ، والمبدأ والمعاد لصدر المتألّهين ص ٢٧ ـ ٢٩ ، والأسفار ج ١ ص ٩٦ ـ ١١٣ ، وج ٦ ص ٤٨ ـ ٥٧ ، وشرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين ص ٢٨٣ ـ ٢٨٨ ، وللميبديّ ص ١٦٧ ، وشوارق الإلهام ص ٩٩ ـ ١٠٨ ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص ٥٢ ، وشرح المنظومة ص ٢١ ـ ٢٢ ، وقواعد المرام في علم الكلام ص ٤٥ ـ ٤٦ ، ومصباح الأنس ص ٦٧ ـ ٦٩ ، والرسالة العرشيّة للشيخ الرئيس ص ٤.

(٣) في الفصل الخامس من المرحلة الاُولى.

٦٦

ننقل الكلام إلى الوجود المتقدّم فيتسلسل.

واعتُرِض عليه (١) : بأنّه لِمَ لا يجوز أن تكون ماهيّته علّةً مقتضيةً لوجوده ، وهي متقدّمةٌ عليه تقدّماً بالماهيّة ، كما أنّ أجزاء الماهيّة علل قوامها وهي متقدّمة عليها تقدّماً بالماهيّة لا بالوجود؟

ودُفِعَ (٢) : بأنّ الضرورة قائمةٌ على توقّف المعلول في نحو وجوده على وجود علّته ، فتقدُّم العلّة في نحو ثبوت المعلول غيرُ أنّه أشدّ ، فإن كان ثبوت المعلول ثبوتاً خارجيّاً كان تقدُّم العلّة عليه في الوجود الخارجيّ ، وإن كان ثبوتاً ذهنيّاً فكذلك.

وإذ كان وجود الواجب لذاته حقيقيّاً خارجيّاً وكانت له ماهيّةٌ هي علّةٌ موجبةٌ لوجوده كان من الواجب أن تتقدّم ماهيّته عليه في الوجود الخارجيّ لا في الثبوت الماهويّ ، فالمحذور على حاله.

حجةٌ اُخرى (٣) : كلّ ماهيّة فإنّ العقل يجوّز بالنظر إلى ذاتها أن تتحقّق لها وراء ما وجد لها من الأفراد أفراد اُخر إلى ما لا نهاية له.

فما لم يتحقّق من فرد فلإمتناعه بالغير ، إذ لو كان لإمتناعه بذاته لم يتحقّق منه فرد أصلا.

فإذا فُرِض هذا الذي له ماهيّة واجباً بالذّات كانت ماهيّته كلّيّةً لها وراءَ ما وجد من أفراده في الخارج أفرادٌ معدومةٌ جائزةُ الوجود بالنظر إلى نفس الماهيّة وإنّما امتنعت بالغير ، ومن المعلوم أنّ الامتناع بالغير لا يجامع الوجوب بالذات ، وقد تقدّم أنّ كل واجب بالغير وممتنع بالغير فهو ممكن (٤) ، فإذن الواجب بالذات لا ماهيّة له وراءَ وجوده الخاص.

__________________

(١) والمعترِض فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٧ ـ ٣٨ ، والمطالب العالية ج ١ ص ٣٠٩ ، وشرحي الإشارات ج ١ ص ٢٠٣.

(٢) هكذا دَفَعه المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ج ٣ ص ٣٨ ـ ٤٠ ، وشرحي الإشارات ج ١ ص ٢٠٣.

(٣) وهذه ما أفاده شيخ الإشراق في التلويحات ص ٣٤ ـ ٣٥. وتعرض لها أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ١٠٣.

(٤) راجع الفصل الثاني من المرحلة الرابعة.

٦٧

واعتُرِضَ عليه (١) : بأنّه لِمَ لا يجوز أن يكون للواجب بالذات حقيقةٌ وجوديّةٌ غير زائدة على ذاته بل هو عين ذاته ، ثمّ العقل يحلّله إلى وجود ومعروض له جزئيٍّ شخصيٍّ غير كلّيٍّ هو ماهيّته؟

ودُفِعَ (٢) : بأنّه مبنيٌ على ما هو الحقّ من أنّ التشخّص بالوجود لا غير (٣) ، وسيأتي في مباحث الماهيّة (٤).

فقد تبيّن بما مرّ ، أنّ الواجب بالذّات حقيقةٌ وجوديّةٌ لا ماهيّةَ لها تحدّها ، هي بذاتها واجبة الوجود من دون حاجة إلى انضمام حيثيّة تعليليّة أو تقييديّة ، وهي الضّرورة الأزليّة.

وقد تقدّم في المرحلة الاُولى (٥) أنّ الوجود حقيقةٌ عينيّةٌ مشكّكةٌ ذاتُ مراتبَ مختلفة ، كلّ مرتبة من مراتبها تجد الكمال الوجوديّ الذي لما دونها وتقوّمه وتتقوّم بما فوقها ، فاقدةٌ بعضَ ما له من الكمال وهو النقص والحاجة ، إلاّ المرتبة التي هي أعلى المراتب التي تجد كلَّ كمال ، ولا تفقد شيئاً منه ، وتقوّم بها كلّ مرتبة ، ولا تقوّم بشيء وراءَ ذاتها.

فتنطبق الحقيقة الواجبيّة على القول بالتشكيك على المرتبة التي هي أعلى المراتب التي ليست وراءها مرتبةٌ تحدّها ، ولا في الوجود كمالٌ تفقده ، ولا في ذاتها نقصٌ أو عدمٌ يشوبها ، ولا حاجة تقيّدها؛ وما يلزمها من الصفات السلبيّة مرجَعُها إلى سلب السلب وانتفاء النقص والحاجة وهو الإيجاب.

وبذلك يندفع وجوهٌ من الاعتراض أوردوها (٦) على القول بنفي الماهيّة عن

__________________

(١) هذا الإعتراض تعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ١٠٤ ، وشرح الهداية الأثيريّة ص ٢٨٦.

(٢) كذا دَفَعه صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ١٠٤ ، وشرح الهداية الأثيريّة ص ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٣) كما صرّح به المعلّم الثاني ، كذا في شرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين ص ٢٨٦.

(٤) راجع الفصل الثالث من المرحلة الخامسة.

(٥) راجع الفصل الثالث من المرحلة الاُولى.

(٦) والمعترِض فخر الدين الرازيّ ، فراجع المباحث المشرقيّه ج ١ ص ٣١ ـ ٣٥. وقال في شرح عيون الحكمة ج ٣ ص ١١٧ : «لا يجوز أن تكون حقيقة واجب الوجود عين وجوده ،

٦٨

الواجب بالذات.

منها : أنّ حقيقةَ الواجب بالذات لا تساوي حقيقةَ شيء ممّا سواها ، لأنّ حقيقة غيره تقتضي الإمكان وحقيقته تنافيه ، ووجوده يساوي وجود الممكن في أنّه وجودٌ ، فحقيقته غيرُ وجوده وإلاّ كان وجود كلُّ ممكن واجباً.

ومنها : أنّه لو كان وجود الواجب بالذات مجرّداً عن الماهيّة فحصول هذا الوصف له إن كان لذاته كان وجودُ كلِّ ممكن واجباً لاشتراك الوجود ، وهو محالٌ؛ وإن كان لغيره لزمت الحاجة إلى الغير ولازِمُهُ الإمكان ، وهو خلفٌ.

ومنها : أنّ الواجب بالذات مبدأ للممكنات ، فعلى تجرُّدِهِ عن الماهيّة إن كانت مبدئيّتُهُ لذاته لزم أن يكون كلُ وجود كذلك ، ولازِمُه كونُ كلّ ممكن علّةً لنفسه ولعلِلِه ، وهو بيِّنُ الإستحالة؛ وإن كانت (١) لوجوده مع قيد التجرّد لزم تركّب المبدأ الأوّل بل عدمه ، لكون أحد جزئَيْه ـ وهو التجرّد ـ عدميّاً؛ وإن كانت (٢) بشرط التجرّد لزم جواز أن يكون كلُ وجود مبدءاً لكلّ وجود ، إلاّ أنّ الحكم تخلَّف عنه لفقدان الشرط وهو التجرّد.

ومنها : أنّ الواجب بذاته إن كان نفس الكون في الأعيان ـ وهو الكون المطلق ـ لزم كون كلُ موجود واجباً؛ وإن كان هو الكون مع قيد التجرّد عن الماهيّة لزم تركّب الواجب ، مع أنّه معنى عدميٌّ لا يصلح أن يكون جزءاً للواجب؛ وإن كان هو الكون بشرط التجرّد لم يكن الواجب بالذات واجباً بذاته؛ وإن كان غير الكون في الأعيان فإن كان بدون الكون لزم أن لا يكون موجوداً ، فلا يعقل وجودٌ بدون الكون؛ وإن كان الكون داخلا لزم التركّب ، والتوالي المتقدّمة كلّها ظاهرة البطلان؛ وإن كان الكون خارجاً عنه فوجوده خارجٌ عن حقيقته وهو المطلوب ، إلى غير ذلك من الإعتراضات.

ووجه اندفاعها أنّ المراد بالوجود المأخوذ فيها إمّا المفهوم العام البديهيّ وهو

__________________

ويدلّ عليه وجوهٌ ...». وتعرّض لها وللإجابة عليها في الأسفار ج ١ ص ١٠٨ ـ ١١٢ ، وفي شرح المقاصد ج ١ ص ٦٥.

(١ و ٢) أي مبدئيّته.

٦٩

معنى عقليٌّ اعتباريٌّ غير الوجود الواجبيّ الذي هو حقيقة عينيّة خاصةٌ بالواجب ، وإمّا طبيعة كلّيّةٌ مشتركة متواطئة متساويةُ المصاديق ، فالوجود العينيّ حقيقة مشكّكة مختلفةُ المراتب ، أعلى مراتبها الوجود الخاص بالواجب بالذات.

وأيضاً التجرّد عن الماهيّة ليس وصفاً عدميّاً ، بل هو في معنى نَفيِ الحدّ الذي هو من سلب السلب الراجع إلى الايجاب.

وقد تبيّن أيضاً أنّ ضرورةَ الوجود للواجب بالذات ضرورةٌ أزليّةٌ ، لا ذاتيّةٌ ولا وصفيّةٌ ، فإنّ من الضرورة ما هي أزليّةٌ ، وهي ضرورةُ ثبوت المحمول للموضوع بذاته من دون أيّ قيد وشرط كقولنا : «الواجب موجود بالضّرورة».

ومنها ضرورةٌ ذاتيّةٌ ، وهي ضرورة ثبوت المحمول لذات الموضوع مع الوجود لا بالوجود ، سواءٌ كانت ذاتُ الموضوع علّةً للمحمول ، كقولنا : «كلّ مثلّث فإنّ زواياه الثلاث مساويةٌ لقائمتَيْن بالضرورة» ، فإنّ ماهيّة المثلّث علّةٌ للمساواة إذا كانت موجودةً؛ أو لم تكن ذاتُ الموضوع علَّهً لثبوت المحمول ، كقولنا : «كلّ إنسان إنسانٌ بالضرورة أو حيوان أو ناطق بالضرورة» ، فإنّ ضرورة ثبوت الشيء لنفسه بمعنى عدم الانفكاك حالَ الوجود من دون أن تكون الذّات علّةً لنفسه.

ومنها ضرورةٌ وصفيّةٌ ، وهي ضرورة ثبوت المحمول للموضوع بوصفه مع الوجود لا بالوجود ، كقولنا : «كلّ كاتب متحرّكُ الأصابع بالضرورة مادام كاتباً» ، وقد تقدّمت إشارة إليها» (١).

الفصل الرابع

في أنّ واجب الوجود بالذّات واجب الوجود

من جميع الجهات

واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات (٢).

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.

(٢) قال الرازيّ في شرح عيون الحكمة ج ٣ ص ١١٥ : «معناه أنّه ممتنع التغيّر في صفة

٧٠

قال صدر المتألّهين (رحمه الله) : «المقصود من هذا أنّ الواجب الوجود ليس فيه جهةٌ إمكانيّةٌ ، فإنّ كلّ ما يمكن له بالإمكان العام فهو واجبٌ له.

ومن فروع هذه الخاصّة أنّه ليست له حالة منتظرة ، فإنّ ذلك أصل يترتّب عليه هذا الحكم.

وليس هذا عينه كما زعمه كثير من الناس ، فإنّ ذلك هو الذي يعدُّ من خواصّ الواجب بالذات دون هذا ، لاتّصاف المفارقات النوريّة به ، إذ لو كانت للمفارق حالةٌ منتظرةٌ كماليّةٌ يمكن حصولها فيه لاستلزم تحقّق الإمكان الاستعداديّ فيه والانفعال عن عالم الحركة والأوضاع الجرمانيّة ، وذلك يوجب تجسّمه وتكدّره مع كونه مجرّداً نوريّاً ، هذا خلفٌ» (١) ـ إنتهى.

والحجّة فيه (٢) : أنّه لو كان للواجب بالذات المنزّه عن الماهيّة بالنسبة إلى صفة كماليّة من الكمالات الوجوديّة جهةٌ إمكانيّةٌ ، كانت ذاتُهُ في ذاتِهِ فاقدةً لها ، مستقرّاً فيها عدمُها ، فكانت مركّبةً من وجود وعدم ، ولازمُهُ تركُّبِ الذات ، ولازِمُ التركّب الحاجة ، ولازِمُ الحاجة الإمكان ، والمفروض وجوبه ، وهذا خلفٌ.

حجّةٌ اُخرى (٣) : إنّ ذات الواجب بالذات لو لم تكن كافيةً في وجوب شيء من الصفات الكماليّة التي يمكن أن تتّصف بها كانت محتاجةً فيه إلى الغير ، وحينئذ لو اعتبرنا الذات الواجبة بالذات في نفسها مع قطع النظر عن ذلك الغير وجوداً وعدماً فإن كانت واجبةً مع وجود تلك الصفة لغَتْ علّية ذلك الغير وقد فُرِضَ علّة ، هذا خلفٌ؛ وإن كانت واجبةً مع عدم تلك الصفة لزم الخلف أيضاً.

واُورِد عليها (٤) أنّ عدم اعتبار العلّة بحسب اعتبار العقل لا ينافي تحقُّقَها في نفس الأمر ، كما أنّ اعتبار الماهيّة من حيث هي هي وخلوّها بحسب هذا الاعتبار

__________________

من صفاته». وقال الميبديّ في شرح الهداية الأثيريّة ص ٧٢ : «أي ليست له حالةٌ منتظرةٌ غيرُ حاصلة».

(١) راجع الأسفار ج ١ ص ١٢٢.

(٢) وتعرّض لها في الأسفار ج ١ ص ١٢٣.

(٣) احتجّ بها أثير الدين الأبهريّ في الهداية الأثيريّة ، فراجع شرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين ص ٢٩٤. وتعرّض لها أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ١٢٣.

(٤) تعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ١٢٤ ـ ١٢٥.

٧١

عن الوجود والعدم والعلّة الموجبة لهما لا ينافي إتّصافَها في الخارج بأحدهما وحصول علّته.

ورُدّ (١) بأنّه قياسٌ مع الفارق ، فإنّ حيثيّةَ الماهيّة من حيث هي غيرُ حيثيّة الواقع ، فمن الجائز أن يعتبرها العقل ويقصر النّظر اليها من حيث هي من دون ملاحظة غيرها من وجود وعدم وعلِتهما.

وهذا بخلاف الوجود العينيّ ، فإنّ حيثيّه ذاته عين حيثيّه الواقع ومتن التحقّق ، فلا يمكن اعتباره بدون اعتبار جميع ما يرتبط به من علّة وشرط.

ويمكن تقرير الحجّة بوجه آخر ، وهو أنّ عدم كفاية الذات في وجوب صفة من صفاته الكماليّة يستدعي حاجتَهُ في وجوبها إلى الغير ، فهو العلّة الموجبة ، ولازمه أن يتّصف الواجب بالذات بالوجوب الغيريّ ، وقد تقدّمت استحالته (٢).

واُورِد (٣) على أصل المسألة بأنّه منقوضٌ بالنِسَبِ والإضافات اللاحقة للذاّت الواجبيّة من قِبَل أفعاله المتعلّقة بمعلولاته الممكنة الحادثة ، فإنّ النِسبَ والإضافات قائمةٌ بأطرافها تابعةٌ لها في الإمكان كالخَلْق والرزق والإحياء والإماتة وغيرها.

ويُندفع (٤) بأنّ هذه النسَب والإضافات والصفات المأخوذة منها ـ كما سيأتي بيانه (٥) ـ معان منتزعة من مقام الفعل لا من مقام الذات.

نعم ، لوجود هذه النسَب والإضافات إرتباطٌ واقعيٌّ به (تعالى) ، والصفات المأخوذة منها للذّات واجبة بوجوبها. فكونه (تعالى) بحيث يَخْلُقُ وكونه بحيث

__________________

(١) كذا ردّه صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ١٢٥.

(٢) في الفصل الثاني من المرحلة الاُولى.

(٣) والظاهر أنّ ممّن توّهم ورود هذا الإيراد هو الميبديّ في شرحه للهداية الأثيريّةص ١٧٢ ، فإنّه تعرّض للإيراد ونَسَبه إلى «قيل» ولم يدفعه ، فراجع وتأمّل.

(٤) هكذا دفعه صدر المتألّهين في شرحه للهداية الأثيريّة : ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، والأسفار : ج ١ ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٥) راجع الفصل التاسع والفصل العاشر من المرحلة الثانية عشرة.

٧٢

يَرْزُقُ ، الى غير ذلك ، صفاتٌ واجبة ، ومرجَعُها إلى الإضافة الإشراقيّة. وسيأتي تفصيل القول فيه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى (١).

وقد تبين بما مرّ :

أوّلا : أنّ الوجود الواجبيّ وجودٌ صِرْفٌ لا ماهيّةَ له ولا عدَمَ معه (٢) ، فله كلُّ كمال في الوجود.

وثانياً : أنّه واحدٌ وحدةَ الصرافة ، وهي المسمّاة بـ «الوحدة الحقّة» بمعنى أنّ كلّ ما فرضتَهُ ثانياً له امتاز عنه بالضرورة بشيء من الكمال ليس فيه ، فتركّبَتْ الذات من وجود وعدم ، وخرجَتْ عن محوضة الوجود وصرافته ، وقد فُرِض صرفاً ، هذا خلفٌ ، فهو في ذاته البحتة بحيث كلّما فرضت له ثانياً عاد أوّلا.

وهذا هو المراد بقولهم : «إنّه واحد لا بالعدد» (٣).

وثالثاً : أنّه بسيطٌ لا جزءَ له ، لا عقلا ولا خارجاً ، وإلاّ خرج عن صرافة الوجود وقد فرض صرفاً ، هذا خلفٌ.

ورابعاً : أنّ ما انتُزع عنه وجوبُه هو بعينه ما انتُزِع عنه وجوده ، ولازمُهُ أنّ كلّ صفة من صفاته ـ وهي جميعاً واجبة ـ عين الصفة الاُخرى ، وهي جميعاً عين الذات المتعالية.

وخامساً : أنّ الوجوب من شؤون الوجود الواجبيّ كالوحدة غيرُ خارج من ذاتِهِ ، وهو تأكّد الوجود الذي مرجَعُه صراحة مناقضته لمطلق العدم وطردِهِ له ، فيمتنع طروّ العدم عليه.

والوجود الإمكانيّ أيضاً وإن كان مُناقِضاً للعدم مُطارِداً له ، إلاّ أنّه لمّا كان رابطاً بالنسبة إلى علّته التي هي الواجب بالذات بلا واسطة أو معها ، وهو قائمٌ بها

__________________

(١) راجع الفصل التاسع والفصل العاشر من المرحلة الثانية عشرة.

(٢) راجع التلويحات ص ٣٥.

(٣) راجع النجاة ص ٢٣٤ ، والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس ص ١٧ ، حيث قال الشيخ فيهما : «فإذاً واجب الوجود واحد لا بالنوع فقط أو بالعدد ...».

٧٣

غيرُ مستقلٍّ عنها بوجه ، لم يكن محكوماً بحكم في نفسه إلاّ بانضمام علّته إليه ، فهو واجبٌ بإيجاب علّته التي هي الواجب بالذات يأبى العدم ويطرده بانضمامها إليه.

الفصل الخامس

الشيء ما لم يجب لم يوجَد (١) ، وفيه بطلان القول بالأولويّة

قد تقدّم (٢) أنّ الماهيّة في مرتبة ذاتها ليست إلاّ هي ، لا موجودةٌ ولا معدومةٌ ولا أيُّ شيء آخر ، مسلوبةٌ عنها ضرورةُ الوجود وضرورةُ العدم سلباً تحصيليّاً ، وهو «الإمكان» ؛ فهي عند العقلِ متساويةُ النسبة إلى الوجود والعدم؛ فلا يرتاب العقل في أنّ تلبُّسَها بواحد من الوجود والعدم لا يستند إليها لمكان استواء النسبة ، ولا أنّه يحصل من غير سبب ، بل يتوقّف على أمر وراء الماهيّة يخرجها من حدّ الاستواء ويرجّح لها الوجود أو العدم ، وهو «العلّة».

وليس ترجيح جانب الوجود بالعلّة إلاّ بإيجاب الوجود ، إذ لولا الإيجاب لم يتعيّن الوجود لها ، بل كانت جائزةَ الطرفين ، ولم ينقطع السؤال أنّها لِمَ صارت موجودة مع جواز العدم لها؟ فلا يتمّ من العلّة إيجادٌ إلاّ بإيجاب الوجود للمعلول قبلَ ذلك (٣).

والقول في علّة العدم وإعطائها الامتناعَ للمعلول نظيرُ القول في علّة الوجود وإعطائها الوجوبَ.

__________________

(١) وقال صدر المتألّهين في عنوان الفصل : «في إبطال كون الشيء أولى الوجود أو العدم ، أولويّة غير بالغة حدّ الوجوب» إنتهى كلامه في الأسفار ج ١ ص ١٩٩. والأصح أن يقال : «في إبطال كون الشيء أولى له الوجود أو العدم ، أوْلويّة غير بالغة حدّ الوجوب أو الإمتناع». والوجه في ذلك أنّه كما ليس ترجيح جانب الوجود بالعلّة إلاّ بإيجاب الوجود كذلك ليس ترجيح جانب العدم بالعلّة إلاّ إذا كانت العلّة بحيث تفيد امتناع معلولها ، وما ذكره (قدس سره) في عنوان الفصل لا يشمل جميع جوانب البحث.

ومن هنا يظهر قصور كلام المصنّف (قدس سره) في عنوان الفصل حيث قال : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» لأنّ لا وجه لتخصيص الوجود بالذكر ، لما عرفت.

(٢) في الفصل الثاني من المرحلة الاُولى.

(٣) أي قبل الوجود.

٧٤

فعلّة الوجود لا تتمّ علّةً إلاّ إذا صارت موجَبَةً ، وعلّة العدم لا تتمّ علّةً إلاّ إذا كانت بحيث تفيد امتناعَ معلولها ، فالشيء ما لم يجب لم يُوجَد ، وما لم يمتنع لم يُعدَم.

وأمّا قول بعضهم (١) : «إنّ وجوبَ وجودِ المعلول يستلزم كون العلّة على الإطلاق موجَبَةً ـ بفتح الجيم ـ غيرَ مختارة ، فيلزم كون الواجب (تعالى) موجَباً في فعله غيرَ مختار ، وهو محال».

فيدفعه : أنّ هذا الوجوب الذي يتلبّس به المعلول وجوبٌ غيريٌ ، ووجوب المعلول منتزَعٌ من وجوده لا يتعدّاه ، ومن الممتنع أن يؤثّر المعلولُ في وجود علّتِهِ وهو مترتَّب عليه (٢) ، متأخَّر عَنه (٣) قائم به (٤).

وقد ظهر بما تقدّم بطلان القول بالأولويّة على أقسامها.

توضيحه : أن قوماً من المتكلّمين (٥) ـ زعماً منهم أنّ القول بإتّصاف الممكن بالوجوب في ترجّح أحد جانبَي الوجود والعدم له ، يستلزم كون الواجب في مبدئيّته للإيجاد فاعلا وموجَباً ـ بفتح الجيم ـ (تعالى عن ذلك وتقدّس) ، ذهبوا إلى أنّ ترجّح أحد الجانبين له بخروج الماهيّة عن حدّ الإستواء إلى أحد الجانبين بكون الوجود أولى له أو العدم أولى له من دون أن يبلغَ أحد الجانبين فيخرج به من حدّ الإمكان ، فقد ترجّح الموجود من الماهيّات بكون الوجود أولى له من غير وجوب ، والمعدوم منها بكون العدم أولى له من غير وجوب.

وقد قسّموا الأولويّةَ إلى ذاتيّة تقتضيها الماهيّة بذاتها أو لا تنفكّ عنها وغير ذاتيّة تفيدها العلّة الخارجة ، وكلّ من القسمين إمّا كافيةٌ في وقوع المعلول وإمّا

__________________

(١) أي بعض المتكلّمين ، وهم المعتزلة.

(٢ و ٣ و ٤) الضمير في قوله : «عليه» و «منه» و «به» ، راجعٌ إلى وجود علّته ، فالتذكير باعتبار الوجود).

(٥) وهم المعتزلة. قال المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ج ٣ ص ١٣١ : «وهؤلاء يقولون بتخصّصه على سبيل الأولويّة لا الوجوب».

٧٥

غير كافية (١).

ونُقِلَ (٢) عن بعض القدماء (٣) أنّهم اعتبروا أولويّةَ الوجود في بعض الموجودات ، وأثرُها أكثريّة الوجود أو شدّته وقوتّه أو كونه أقلّ شرطاً للوقوع؛ واعتبروا أولويّة العدم في بعض آخر ، وأثرُها أقليّة الوجود أو ضعفه أو كونه أكثر شرطاً للوقوع.

ونُقِلَ (٤) عن بعضهم إعتبارها في طرفِ العدم بالنسبة إلى طائفة من

__________________

(١) راجع شرح المنظومة للحكيم السبزواريّ ص ٧٥ ، حيث قال :

لا يوجد الشيء بأولويّة

غيريّةً تكون أو ذاتيّة

كافيةً أو لا على الصواب

لابدّ في الترجيح من إيجاب

وراجع تعليقاته على الأسفار ج ١ ص ٢٠٠ الرقم (١).

وأقول : أمّا الأولويّة الذاتية الكافية فلا قائل بها ، لأنّها توجب انسداد باب اثبات الصانع ، هكذا قال الحكيم السبزواريّ في تعليقته على شرح المنظومة ص ٧٥ ، وقال صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٢٠٠ ـ ٢٠١ : «فأمّا تجويز كون نفس الشيء مكوِّن نفسه ومقرِّر ذاته مع بطلانه الذاتيّ ، فلا يتصوّر من البشر تجشّمٌ في ذلك ما لم يكن مريض النفس». والوجه في ذلك أنّه يلزم أن لا تكون الأولويّة أولويّةً بل تكون وجوباً ويلزم الإنقلاب. وأمّا القائل بالأولويّة الذاتية الغير الكافية هو بعض المتكلّمين ، راجع تعليقة السبزواريّ على شرح المنظومة ص ٧٥. وأمّا القائل بالأولوية الغيريّة هو أكثر المتكلّمين على ما في الأسفار ج ١ ص ٢٢٢ ، ومنهم المحقّق الشريف فإنّه قال : «قد يمنع الاحتياج إلى مرجّح ، لِمَ لا يكتفي في وقوع الطرف الراجح رجحانه الحاصل من تلك العلّة الخارجيّة؟ ، وليس هذا بممتنع بديهةً ، إنّما الممتنع بديهةً وقوع أحد المتساويين أو المرجوح». إنتهى كلامه على ما نقله عنه في شوارق الإلهام ص ٩٣ ، وتعليقة الهيدجيّ على المنظومة وشرحها ص ٢٢١ ، وتعليقة السبزواريّ على الأسفار ج ١ ص ٢٢٢.

(٢) والناقل صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٣) قال صدر المتألّهين ـ بعد التعرّض لهذا القول والأقوال الآتية ـ ما لفظه : «والمتقوّلون بهذه الأقاويل كانوا من المنتسبين إلى الفلسفة فيما قدّم من الزمان قبل تصحيح الحكمة وإكمالها». إنتهى كلامه ، فراجع الأسفار ج ١ ص ٢٠٤.

(٤) والناقل صاحب المواقف وشارحه ، فراجع شرح المواقف ص ١٤١. ونقله أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٢٠٤.

٧٦

الموجودات فقط (١).

ونُقِلَ (٢) عن بعضهم إعتبار أولويّة العدم بالنسبة إلى جميع الموجودات الممكنة ، لكون العدم أسهل وقوعاً (٣).

هذه أقوالهم على إختلافها (٤).

وقد بان بما تقدّم فساد القول بالأولويّة من أصله ، فإنّ حصول الأولويّة في أحد جانبَي الوجود والعدم لا ينقطع به جواز وقوع الطرف الآخر.

والسؤال في تعيّن الطرف الأولى مع جواز الطرف الآخر على حاله ، وإن ذهبت الأولويّات إلى غير النهاية حتّى يُنتهى إلى ما يتعيّن به الطرف الأولى وينقطع به جواز الطرف الآخر وهو الوجوب.

على أنّ في القول بالأولويّة إبطالا لضرورة توقّف الماهيّات الممكنة في وجودها وعدمها على علّة ، إذ يجوز عليه أن يقع الجانب المرجوح مع حصول الأولويّة للجانب الآخر وحضور علّته التامّة.

وقد تقدّم أنّ الجانب المرجوح الواقع يستحيل تحقّق علّته حينئذ ، فهو في وقوعه لا يتوقّف على علّة ، هذا خلف.

ولهم في ردّ هذه الأقوال وجوهٌ اُخر أوضحوا بها فسادها (٥) ، أغمضنا عن إيرادها بعد ظهور الحال بما تقدّم.

وأمّا حديث إستلزام الوجوب الغيريّ ـ أعني وجوبَ المعلول بالعلّة لكون العلّة

__________________

(١) أي الموجودات الممكنة السيّالة كالحركة والزمان والصوت. كذا في شرح المواقفص ١٤١ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ١٢٧.

(٢) والناقل صاحب المواقف وشارحه ، فراجع شرح المواقف ص ١٤١. ونقله أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٢٠٤.

(٣) قال شارح المواقف : «وهو مردودٌ بأنّ سهولة عدمها بالنظر إلى غيرها لا يقتضي أولويته لذاتها» ، إنتهى كلامه في شرح المواقف ص ١٤١.

(٤) وفي المقام أقوالٌ اُخر ذكرها شارح المواقف في شرح المواقف ص ١٤١.

(٥) راجع شرح المقاصد ج ١ ص ١٢٧ ـ ١٢٩ ، والمسألتين الثالثة والعشرين ، والرابعة والعشرين من الفصل الأوّل من شوارق الإلهام؛ والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ١٣٢ ، والأسفار ج ١ ص ٢٢١ ـ ٢٢٣؛ والمحصّل ص ٥٣.

٧٧

موجَبةً ـ بفتح الجيم ـ فواضح الفساد كما تقدّم ، لأنّ هذا الوجوب إنتزاعٌ عقليٌ عن وجودالمعلول غيرُ زائد على وجوده ، والمعلول بتمام حقيقته أمرٌ متفرّعٌ على علّته ، قائم الذّات بها ، متأخّر عنها ، وما شأنه هذا لا يُعقَل أن يؤثِّر في العلّة ويُفعِل فيها.

ومن فروع هذه المسألة أنّ القضايا التي جهتها الأولويّة ليست ببرهانيّة ، إذ لا جهة إلاّ الضرورة والإمكان ، اللهم إلاّ أن يرجع المعنى إلى نوع من التشكيك.

تنبيهٌ :

ما مرّ من وجوب الوجود للماهيّة ، وجوبٌ بالغير ، سابقٌ على وجودِها ، منتزَعٌ عنه؛ وهناك وجوبٌ آخر لاحقٌ يلحق الماهيّة الموجودة ، ويسمّى : «الضرورة بشرط المحمول» ، وذلك أنّه لو أمكن للماهيّة المتلبّسة بالوجود ما دامت متلبّسةً أن يطرأها العدم الذي يقابله ويطرده لكان في ذلك إمكانُ اقترانِ النقيضين ، وهو محالٌ ، ولازِمُهُ إستحالة انفكاك الوجود عنها مادام التلّبس ومن حيثه ، وذلك وجوب الوجود من هذه الحيثيّة.

ونظيرالبيان يجري في الإمتناع اللاحق للماهيّة المعدومة.

فالماهيّة الموجودة محفوفةٌ بوجوبين والماهيّة المعدومة محفوفةٌ بامتناعين.

وليُعلم أنّ هذا الوجوب اللاحق وجوبٌ بالغير ، كما أنّ الوجوب السابق كان بالغير ، وذلك لمكان إنتزاعه من وجود الماهيّة من حيث اتّصاف الماهيّة به ، كما أنّ الوجوب السابق منتزَعٌ منه من حيث انتسابه إلى العلّه الفيّاضة له.

الفصل السادس

في حاجة الممكن إلى العلّه وأنّ علّة حاجته إلى

العلّة هو الإمكان دون الحدوث

حاجةُ الممكن ـ أي توقّفه في تلبّسه بالوجود أو العدم ـ إلى أمر وراءَ ماهيّته ، من الضروريّات الأوليّة التي لا يتوقّف التصديق بها على أزيد من تصوّر

٧٨

موضوعها ومحمولها (١) ، فإنّا إذا تصوّرنا الماهيّة بما أنّها ممكنةٌ تستوي نسبتُها إلى الوجود والعدم وتوقَّفَ ترجُحُ أحد الجانبين لها وتلبُسُها به على أمر وراء الماهيّة لم نلبث دون أن نصدّق به ، فإتّصاف الممكن بأحد الوصفين ـ أعني الوجودَ والعدمَ ـ متوقّفٌ على أمر وراءَ نفسه ، ونسمّيه : «العلّة» لا يرتاب فيه عقلٌ سليمٌ.

وأمّا تجويز اتّصافه ـ وهو ممكنٌ مستويُ النسبة إلى الطرفين ـ بأحدهما لا لنفسه ولا لأمر وراء نفسه فخروج عن الفطرة الإنسانيّة (٢).

وهل علّة حاجته إلى العلّة هي الإمكان أو الحدوث (٣)؟

قال جمعٌ من المتكلّمين (٤) بالثاني.

والحقّ هو الأوّل ، وبه قالت الحكماء ، واستدلّوا عليه (٥) بأنّ الماهيّة باعتبار وجودها ضروريّةُ الوجود وباعتبار عدمها ضروريّة العدم؛ وهاتان ضرورتان بشرط المحمول ، والضّرورة مناط الغنى عن العلّة والسبب.

والحدوث هو كون

__________________

(١) هكذا في المطالب العالية ج ١ ص ٨٣ ـ ٨٤ ، والأسفار ج ١ ص ٢٠٧ ، وشرح المواقفص ١٣٤ ، وشرح المنظومة ص ٧٠.

(٢) كما في الأسفار ج ١ ص ٢٠٨.

(٣) وقيل : «علّة الحاجة هي الإمكان مع الحدوث شطراً». وقيل : «إنّها الإمكان مع الحدوث شرطاً». راجع الأسفار ج ١ ص ٢٠٦ ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص ٣٨ ، وكشف المراد ص ٥٣ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ١٢٦ ، وغيرها. فالأقوال فيها أربعة. ذهب إلى كلٍّ منها طائفة ، قال ابن ميثم البحرانيّ في قواعد المرام في علم الكلام ص ٤٨ : «علّة حاجة الممكن إلى المؤثّر هي إمكانه ، وعند أبي هاشم هي الحدوث ، وعند أبي الحسين البصريّ هي المركّب منهما ، وعند الأشعريّ الإمكان بشرط الحدوث». وقريبٌ منه ما في إرشاد الطالبين ص ٧٩.

(٤) نسبه إليهم في شرح المقاصد ج ١ ص ١٢٧ ، وكشف الفوائد ص ٨. ونسبه الشيخ الرئيس إلى ضعفاء المتكلّمين في النجاة ص ٢١٣. ونسبه اللاهيجيّ إلى قدماء المتكلّمين في الشوارق ص ٨٩ ـ ٩٠ ، وكذا العلاّمّة في أنوار الملكوت ص ٥٨. ونسبه صدر المتألّهين إلى قوم من المتسمين بأهل النظر وأولياء التميّز في الأسفار ج ١ ص ٢٠٦. ونسبه ابن ميثم إلى أبي هاشم من المتكلّمين في قواعد المرام في علم الكلام ص ٤٨. فالمراد من قوله : «جمعٌ من المتكلّمين» هو قدماء المتكلّمين ، وأمّا المتأخّرين منهم فذهبوا إلى خلاف ذلك.

(٥) راجع شرح المنظومة ص ٧٢.

٧٩

وجودُ الشيء بعدَ عدمِهِ؛ وإن شئت فقل : هو ترتُّبُ إحدَى الضرورتين على الاُخرى ، والضّرورة ـ كما عرفت ـ مناط الغنى عن السبب ، فما لم تعتبر الماهيّة بإمكانها لم يرتفع الغنى ولم تتحقّق الحاجة ، ولا تتحقّق الحاجة إلاّ بعلّتها وليس لها إلاّ الإمكان.

حجّةٌ اُخرى : الحدوث ـ وهو كون الوجود مسبوقاً بالعدم ـ صفةُ الوجود الخاص ، فهو مسبوقٌ بوجود المعلول لتقدُّمِ الموصوف على الصفة ، والوجود مسبوقٌ بايجاد العلّة ، والايجاد مسبوقٌ بوجوب المعلول ، ووجوبه مسبوقٌ بايجاب العلّة ـ على ما تقدّم (١) ـ ، وإيجاب العلّة مسبوقٌ بحاجة المعلول ، وحاجة المعلول مسبوقةٌ بإمكانه ، إذ لو لم يكن ممكناً لكان إمّا واجباً وإمّا ممتنعاً ، والوجوب والامتناع مناطُ الغنى عن العلّة؛ فلو كان الحدوث علّةً للحاجة والعلّةَ متقدّمةً على معلولها بالضّرورة لكان متقدّماً على نفسه بمراتب ، وهو محال (٢).

فالعلّة هي الامكان ، إذ لا يسبقها ممّا يصلح للعلّية غيره ، والحاجة تدور معه وجوداً وعدماً.

والحجّة تنفي كون الحدوث ممّا يتوقّف عليه الحاجة بجميع احتمالاته من كون الحدوث علّةً وحده ، وكون العلّة هي الإمكان والحدوث جميعاً ، وكون الحدوث علّةً والإمكان شرطاً ، وكَوْنِ الإمكان علّةً والحدوث شرطاً أو عدم الحدوث مانعاً.

وقد استدلّوا (٣) على نفي علّيّة الإمكان وحده للحاجة بأنّه لو كانت علّةُ الحاجة إلى العلّة هي الإمكان من دون الحدوث جاز أن يوجد القديم الزمانيّ ،

__________________

(١) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(٢) هكذا في المباحث المشرقية ج ١ ص ١٣٥ ، وشرحي الإشارات ج ١ ص ٢١٩ ، وشرح الإشارات للمحقّق الطوسيّ ج ٣ ص ٧٥ ، والأسفار ج ١ ص ٢٠٧ وج ٣ ص ٢٥٢ ، والمحصّل ص ٥٤ ، وشرح المنظومة ص ٧٤. والوجه في استحالته هو الدور كما في كشف الفوائد ص ٨.

(٣) أي المتكلّمون.

٨٠