نهاية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-005-8
الصفحات: ٤٣٢

نفسه ، وهو بعينه يطرد الجهلَ الذي هو عدمٌ مّا عن موضوعه.

والحجّة على تحقّق هذا القسم ـ أعني الوجود لغيره ـ وجودات الأعراض ، فإنّ كلاّ منها كما يطرد عن ماهيّة نفسه العدمَ يطرد عن موضوعه عدماً مّا زائداً على ذاته.

وكذلك الصور النوعيّة المنطبعة ، فإنّ لها نوعُ حصول لموادّها تطرد به عن موادّها ، لا عدمَ ذاتها ، بل نقصاً جوهريّاً تكمل بطرده ، وهو المراد بكون وجود الشيء لغيره وناعتاً.

ويقابله ما كان وجوده طارداً للعدم عن ماهيّة نفسه فحسب ، وهو الوجود لنفسه ، كالأنواع التامّة الجوهريّة كالإنسان والفرس وغيرهما.

فتقرّر أنّ الوجود في نفسه ينقسم إلى ما وجوده لنفسه وما وجوده لغيره ، وذلك هو المطلوب.

ويتبيّن بما مرّ أنّ وجود الأعراض من شؤون وجود الجواهر التي هي موضوعاتها ، وكذلك وجود الصور المنطبعة غيرُ مباين لوجود موادّها.

ويتبيّن به أيضاً أنّ المفاهيم المنتزعة عن الوجودات النّاعتة التي هي أوصاف لموضوعاتها ليست بماهيّات لها ولا لموضوعاتها؛ وذلك لأنّ المفهوم المنتزَع عن وجود إنّما يكون ماهيّةً له إذا كان الوجود المنتزَع عنه يطرد عن نفسه العدمَ ، والوجود الناعت يطرد العدمَ لا عن نفس المفهوم المنتزَع عنه ، مثلا وجود السواد في نفسه يطرد العدمَ عن نفسِ السواد ، فالسواد ماهيّته ، وأمّا هذا الوجود من حيث جعْلِهِ الجسمَ أسودَ فليس يطرد عدماً ، لا عن السواد في نفسه ولا عن ماهيّة الجسم المنعوت به ، بل عن صفة يتّصف بها الجسم خارجة عن ذاته.

٤١

٤٢

المرحلة الثالثة

في انقسام الوجود الى ذهنيّ وخارجيّ

وفيها فصل واحد

٤٣

٤٤

فصل

في انقسام الوجود إلى ذهنيّ وخارجيّ(١)

المعروف من مذهب الحكماء أنّ لهذه الماهيّات الموجودة في الخارج المترتّبة عليها آثارُها وجوداً آخر لا تترتّب عليها فيه آثارها الخارجيّة بعينها ، وإن ترتّبت آثارٌ اُخَر غير آثارها الخارجيّة.

وهذا النحو من الوجود هو الذي نسمّيه : «الوجودَ الذهنيّ»(٢) وهو عِلْمُنا بماهيّات الأشياء.

__________________

(١) وإن أردتَ تفصيل البحث عن الوجود الذهنيّ فراجع الكتُب المطوّلة ، كالأسفار ج ١ ص ٢٦٣ ـ ٣٢٦ ، وشرح المنظومة ص ٢٧ ـ ٣٩ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ٤١ ـ ٤٣ ، وكشف المراد ص ٢٨ ، والمسألة الرابعة من الفصل الأوّل من المقصد الأوّل من شوارق الإلهام ، وشرح المقاصد ج ١ ص ٧٧ ـ ٧٩ ، وشرح المواقف ص ١٠٠ ـ ١٠٢ ، وكشف الفوائد ص ٥ ـ ٦ ، وايضاح المقاصد ص ١٥ ـ ١٨ ، وغيرها من الكُتُب الفلسفيّة والكلاميّة. والبحث عن الوجود الذهنيّ وإن كان شائعاً بين المتأخرين بحيث اختصّوا باباً أو فصلا من الكتاب بالبحث عنه ، لكنّ في كلام القدماء أيضاً إشارة إليه ، فالشيخ الرئيس أشار إلى الوجود الذهنيّ في الرّد على القائلين بالحال ، فراجع الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء ، وتبعه بهمنيار في التحصيل ص ٢٨٩ و ٤٨٩ ، والشيخ الإشراقيّ في المطارحات ص ٢٠٣.

(٢) ويسمّى أيضاً : «الوجود في الذهن» قبالَ «الوجود في الخارج» و «الوجود الظلّي» قبالَ «الوجود العيني» و «الوجود الغير الأصيل» قبالَ «الوجود الأصيل».

٤٥

وأنكر الوجود الذهنيّ قومٌ (١) ، فذهب بعضهم (٢) إلى أنّ العلم إنمّا هو نوعُ إضافة من النفس إلى المعلوم الخارجيّ.

وذهب بعضهم (٣) ـ ونُسِبَ إلى القدماء (٤) ـ الى أنّ الحاصل في الذهن عند العلم بالأشياء أشباحُها المحاكية لها ، كما يحاكي التمثال لِذي التمثال مع مباينتهما ماهيّةً.

وقال آخرون (٥) بالأشباح مع المباينة وعدم المحاكاة.

ففيه خطأٌ من النفس غير أنّه خطأٌ منظّمٌ لا يختلّ به حياةُ الإنسان ، كما لو فرض إنسان يرى الحمرةَ خضرةً دائماً فيرتّب على ما يراه خضرةً آثارَ الحمرة دائماً.

والبرهان على ثبوت الوجود الذهنيّ أنّا نتصوّر هذه الاُمور الموجودة في الخارج ـ كالإنسان والفرس مثلا ـ على نعتِ الكلّيّة والصرافة ، ونحكم عليها بذلك ، ولا نرتاب أنّ لمتصوَّرِنا هذا ثبوتاً مّا في ظرفِ وجداننا ، وحَكَمْنا عليه بذلك ، فهو موجود بوجود مّا؛ وإذ ليس بهذه النعوت موجوداً في الخارج لأنّه فيه على نعتِ الشخصيّه والاختلاط فهو موجودٌ في ظرف آخر لا تترتّب عليه فيه آثاره الخارجيّة ونسمّيه : «الذهن».

__________________

(١) وهم قومٌ من المتكلمين ، كذا في شرح المنظومة ص ٣٠.

(٢) وهو فخر الدين الرازيّ ، راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٢١.

(٣) وهو قومٌ من المتأخّرين على ما في الأسفار ج ١ ص ٣١٤. وقال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص ٣١ : «والقائل جماعة من الحكماء».

(٤) قال الحكيم السبزواري في تعليقته على الأسفار ج ١ ص ٣١٤ الرقم (١) : «يُنسب القول بالشبح إلى القدماء». ونَسَبه إليهم المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام. ثمّ أراد توجيه مذهبهم بحيث يرجع إلى مذهب المتأخرين ، فقال : فالحقّ أنّ ماهيّات الأشياء في الذهن لمّا لم يظهر عنها آثارها ولم يصدر عنها احكامها أطلق القدماء عليها لفظ (الأشباح) لأنّ شبح الشيء لا يصدر عنه أثر ذلك الشيء ، لا أنّهم قائلون بحصول أشباح الأشياء في الذهن». راجع شوارق الإلهام ص ٥١ ـ ٥٢.

(٥) نُسب إلى جماعة من الحكماء ، فراجع شرح المنظومة ص ٣١.

٤٦

وأيضاً نتصوّر اُموراً عدميّةً غيرَ موجودة في الخارج ، كالعدم المطلق والمعدوم المطلق واجتماع النقيضين وسائر المحالات ، فلها ثبوتٌ مّا عندنا لاتّصافها بأحكام ثبوتيّة كتميُّزها من غيرها وحضورها لنا بعد غيبتها عنّا وغير ذلك ، وإذ ليس هو الثبوت الخارجيّ لأنّها معدومة فيه ففي الذهن.

ولا نرتاب أنّ جميع ما نعقله من سنخ واحد ، فالأشياء كما أنّ لها وجوداً في الخارج ذا آثار خارجيّة ، لها وجودٌ في الذهن لا تترتّب عليها فيه تلك الآثار الخارجيّة ، وإن ترتّبت عليها آثار اُخَر غير آثارها الخارجيّة الخاصّة.

ولو كان هذا الذي نعقله من الأشياء هو عين ما في الخارج ، كما يذهب إليه القائل بالإضافة (١) ، لم يمكن تعقُّل ما ليس في الخارج كالعدم والمعدوم ، ولم يتحقّق خطأٌ في علم.

ولو كان الموجود في الذهن شبحاً للأمر الخارجيّ ، نسبتُهُ إليه نسبةَ التمثال إلى ذي التمثال ، إرتفعت العينيّة من حيث الماهيّة ولزمت السفسطة ، لعَوْد علومنا جهالات؛ على أنّ فعليّة الإنتقال من الحاكي إلى المحكيّ تتوقّف على سبق علم بالمحكيّ ، والمفروض توقّف العلم بالمحكيّ على الحكاية.

ولو كان كلّ علم مخطئاً في الكشف عمّا وراءه لزمت السفسطة وأدّى إلى المناقضة ، فإنّ كون كلِّ علم مخطئاً يستوجب أيضاً كون هذا العلم بالكلّيّة مخطئاً فيكذب ، فيصدق نقيضه وهو كون بعض العلم مصيباً.

فقد تحصّل أنّ للماهيّات وجوداً ذهنيّاً لا تترتّب عليها فيه الآثار كما أنّ لها وجوداً خارجياً تترتّب عليها فيه الآثار.

وتبيّن بذلك انقسام الموجود إلى خارجيٍّ وذهنيٍّ.

وقد تبيّن بما مرّ اُمور :

الأمر الأوّل : أنّ الماهيّة الذهنيّة غيرُ داخلة ولا مندرجة تحت المقولة التي

__________________

(١) والقائل بها هو فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٣١.

٤٧

كانت داخلةً تحتها وهي في الخارج تترتّب عليها آثارها ، وإنّما لها من المقولة مفهومها فقط؛ فالإنسان الذهنيّ وإن كان هو الجوهر الجسم الناميّ الحسّاس المتحرّك بالإرادة الناطق ، لكنّه ليس ماهيّةً موجودةً لا في موضوع بما أنّه جوهر ، ولا ذا أبعاد ثلاثة بما أنّه جسم ، وهكذا في سائر أجزاء حدّ الإنسان؛ فليس له إلاّ مفاهيم مّا في حدّه من الأجناس والفصول من غير ترتّب الآثار الخارجيّة ، ونعني بها الكمالات الأوّليّة والثانويّة؛ ولا معنى للدخول والاندراج تحت مقولة إلاّ ترتّب آثارها الخارجيّة ، وإلاّ فلو كان مجرّد انطباق مفهوم المقولة على شيء كافياً في اندراجه تحتها كانت المقولة نفسُها مندرجةً تحتَ نفسِها لحملها على نفسها ، فكانت فرداً لنفسها؛ وهذا معنى قولهم : «إنّ الجوهر الذهنيّ جوهرٌ بالحمل الأوّليّ لا بالحمل الشائع» (١).

وأمّا تقسيم المنطقيّين الأفرادَ إلى ذهنيّة وخارجيّة (٢) فمبنيٌّ على المسامحة تسهيلا للتعليم.

ويندفع بما مرّ إشكال أوردوه على القول بالوجود الذهنيّ (٣) ، وهو أنّ الذاتيّات منحفظة على القول بالوجود الذهنيّ ، فإذا تعقلنا الجوهر كان جوهراً نظراً إلى انحفاظ الذاتيّات ، وهو بعينه عَرَض ، لقيامه بالنفس قيامَ العرض بموضوعه ، فكان جوهراً وعرضاً بعينه ، واستحالته ظاهرة.

__________________

(١) راجع الأسفار : ج ١ ص ٢٧٩.

(٢) قالوا : «إنّ القضية الموجبة إمّا خارجيّة وهي التي حكم فيها على أفراد موضوعها الموجودة في الخارج ، وإمّا ذهنيّة وهي التي حكم فيها على الأفراد الذهنية فقط ، وإمّا حقيقيّة وهي التي حكم فيها على الأفراد النفس الأمرية محقّقةً كانت أو مقدّرةً».

(٣) إن شئت تفصيل البحث عن هذا الإشكال والإشكالات اللاحقه وأجوبتها فراجع الفصل الثامن من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء ، وتعليقة صدر المتألّهين عليه ص ١٢٦ ـ ١٣٩ ، والتعليقات للشيخ الرئيس ص ١٤٩ ـ ١٤٧ ، والأسفار ج ١ ص ٢٧٧ ـ ٣١٤ ، وج ٣ ص ٣٠٥ ـ ٣١٢ ، والشواهد الربوبيّة ص ٢٤ ـ ٣٥ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، وايضاح المقاصد ص ٦ ـ ١٨.

٤٨

وجه الاندفاع : أنّ المستحيل كون شيء واحد جوهراً وعرضاً معاً بالحمل الشائع ، والجوهر المعقول جوهرٌ بالحمل الأوّليّ وعَرَضٌ بالحمل الشائع ، فلا استحالة

وإشكالٌ ثان : وهو أنّ لازِمَ القول بالوجود الذهنيّ أن يكون الجوهر المعقول جوهراً نظراً إلى انحفاظ الذاتيّات ، والعلم عندهم من الكيفيّات النفسانيّة ، فالمعقول من الجوهر مندرجٌ تحتَ مقولةِ الجوهر وتحتَ مقولةِ الكيف ، وهو محالٌ ، لأدائه إلى تناقض الذات ، لكون المقولات متباينةً بتمام الذات.

وكذا إذا تعقَّلنا الكم ـ مثلا ـ كانت الصورة المعقولة مندرجةً تحت مقولتَي الكم والكيف معاً ، وهو محالٌ.

وكذا إذا تعقَّلنا الكيف المبصر ـ مثلا ـ كان مندرجاً تحتَ نوعَيْن من مقولة الكيف ، وهما الكيف المحسوس والكيف النفسانيّ.

وجه الاندفاع : أنّه كيفٌ نفسانيٌّ بالحمل الشائع ، فهو مندرجٌ تحته؛ وأمّا غيره من المقولات أو أنواعها فمحمولٌ عليه بالحمل الأوّليّ ، وليس ذلك من الاندراج في شيء.

إشكالٌ ثالث : وهو أنّ لازمَ القول بالوجود الذهنيّ كونُ النفس حارّةً وباردةً معاً ، ومربّعاً ومثلّثاً معاً ، إلى غير ذلك من المتقابلات عند تصوّرها هذه الأشياء ، إذ لا نعني بالحارّ والبارد والمربّع والمثلّث إلاّ ما حصلت له هذه المعاني التي توجد للغير وتَنْعَتْه.

وجه الاندفاع : أنّ الملاك في كونِ وجودِ الشيء لغيره وكونه ناعتاً له هو الحمل الشائع ، والذي يوجد في الذهن ـ من برودة وحرارة ونحوِهما ـ هو كذلك بالحمل الأوّليّ دونَ الشائع.

وإشكالٌ رابع : وهو أنّ اللازم منه كون شيء واحد كلّيّاً وجزئيّاً معاً ، وبطلانه ظاهرٌ.

بيان الملازمة : أنّ الإنسان المعقول ـ مثلا ـ من حيث تجويز العقل صدْقَه على كثيرين كليٌّ ، وهو بعينه من حيث كونه موجوداً قائماً بنفس واحدة شخصيّة يتميّز بها عن غيره جزئيٌّ ، فهو كليٌّ وجزئيٌّ معاً.

٤٩

وجه الاندفاع : أنّ الجهة مختلفةٌ ، فالإنسان المعقول ـ مثلا ـ من حيث إنّه مَقيس إلى الخارج كلّيٌّ ، ومن حيث إنّه كيفٌ نفسانيٌّ قائمٌ بالنفس غيرُ مَقيس إلى الخارج جزئيٌّ.

وإشكالٌ خامس : وهو أنّا نتصوّر المحالات الذاتيّة ، كشريك البارئ وسلب الشيء عن نفسه واجتماع النقيضين وارتفاعهما ، فلو كانت الأشياء حاصلةً بذواتها في الذهن استلزم ذلك ثبوتَ المحالات الذاتيّة.

وجه الإندفاع : أنّ الثابت في الذهن إنّما هو مفاهيمها بالحمل الأوّليّ لا مصاديقها بالحمل الشائع.

فالمتصوّر من شريك البارئ هو شريك البارئ بالحمل الأوّليّ.

وأمّا بالحمل الشائع فهو ممكنٌ وكيفٌ نفسانيٌّ معلولٌ للبارئ مخلوقٌ له.

الأمر الثاني : أنّ الوجود الذهنيّ لَمّا كان لذاته مَقيساً إلى الخارج كان بذاته حاكياً لما وراءه ، فامتنع أن يكون للشيء وجودٌ ذهنيٌ من دون أن يكون له وجودٌ خارجيٌّ محقَّقٌ كالماهيّات الحقيقيّة المنتزعة من الوجود الخارجيّ ، أو مقدَّرٌ كالمفاهيم غير الماهويّة التي يتعمّلها الذهن بنوع من الإستمداد من معقولاته ، فيتصوّر مفهوم العدم ـ مثلا ـ ويقدّر له ثبوتاً مّا يحكيه بما تصوّره من المفهوم.

وبالجملة شأن الوجود الذهنيّ الحكاية لما وراءه من دون أن تترتّب آثار المحكيّ على الحاكي.

ولا ينافي ذلك ترتُّبَ آثار نفسه الخاصّة به من حيث إنّ له ماهيّة الكيف.

وكذا لا ينافيه ما سيأتي (١) أنّ الصور العلميّة مطلقاً مجرّدةٌ عن المادّة ، فإنّ ترتُّبَ آثار الكيف النفسانيّ وكذا التجرّد حكمُ الصور العلميّة في نفسها والحكاية ، وعدم ترتُّبِ الآثار حكمها قياساً إلى الخارج ، ومن حيث كونها وجوداً ذهنيّاً لماهيّة كذا خارجيّةٌ.

ويندفع بذلك إشكالٌ أوردوه على القائلين بالوجود الذهني (٢) ؛ وهو أنّا

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) إنّ هذا الإشكال مستفادٌ ممّا أورده أصحاب الشعاع ـ وهم الرياضيّون ـ على أصحاب

٥٠

نتصوّر الأرض على سَعَتها بسهولها وبراريها وجبالها وما يحيط بها من السماء بأرجائها البعيدة ، والنجوم والكواكب بأبعادها الشاسعة؛ وحصول هذه المقادير العظيمة في الذهن ـ أي إنطباعها في جزء عصبيٍّ أو جزء دماغيٍّ ـ من انطباع الكبير في الصغير ، وهو محالٌ. ولا يُجدى الجوابُ عنه بما قيل (١) : «إنّ المحلّ الذي ينطبع فيه الصور منقسمٌ إلى غير النهاية» ، فإنّ الكفّ لا تَسَع الجبل وإن كانت منقسمةً إلى غير النهاية (٢).

وجه الاندفاع : أنّ الحقّ ـ كما سيأتي بيانه (٣) ـ ، أنّ الصور العلميّة الجزئيّه غير مادّيّة ، بل مجرّدةٌ تجرّداً مثاليّاً فيه آثار المادّه من الأبعاد والألوان والأشكال ، دون نفس المادّة ، والانطباع من أحكام المادّة ، ولا انطباع في المجرّد.

وبذلك يندفع أيضاً إشكالٌ آخر : هو أنّ الإحساس والتخيّل على ما بيّنه علماء الطبيعة بحصول صور الأجسام بما لها من النسب والخصوصيّات الخارجيّة في الأعضاء الحسّاسة وإنتقالها إلى الدّماغ ، مع ما لها من التصرّف في الصور بحسب طبائعها الخاصّة ، والإنسان ينتقل إلى خصوصيّات مقاديرها وأبعادها وأشكالها بنوع من المقايسة بين أجزاء الصورة الحاصله عنده ـ على ما فصّلوه في محلّه ـ ؛

__________________

الانطباع ـ يعني المعلّم الأوّل ومن تبعه ـ في كيفيّة الإبصار ، فإنّهم أوردوا عليهم بأنّ الجبل إذا رأيناه مع عظمه ، والرؤية إنّما هي بالصورة المنطبعة في الجليديّة ، فإن كان هذا المقدار العظيم للصورة المنطبعة فكيف حصل المقدار الكبير في حدقة صغيرة. راجع شرح حكمة الإشراق ص ٢٦٩.

(١) والقائل بعض من أصحاب الانطباع. قال الشيخ الإشراقيّ ـ بعد ذكر ما أورده أصحاب الشعاع على أصحاب الانطباع ـ ما حاصله : «أجاب بعض من أصحاب الانطباع عن هذا الإيراد ـ وهو استبعاد حصول المقدار الكبير في الصغير ـ بأنّ الرطوبة الجليديّة تقبل القسمة إلى غير النهاية ، والجبل أيضاً صورته قابلةٌ للقسمة إلى غير النهاية ، وإذا اشتركا في لا نهاية القسمة فيجوز أن يحصل المقدار الكبير فيها» ـ إنتهى. راجع شرح حكمة الإشراق ص ٢٦٩.

(٢) هكذا قال صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٢٩٩. وصرّح أيضاً الشيخ الإشراقيّ ببطلان ذلك الجواب ، فراجع شرح حكمة الإشراق ص ٢٦٩.

(٣) راجع الفصل الأوّل والثاني من المرحلة الحادية عشرة.

٥١

ومن الواضح أنّ هذه الصور الحاصلة المنطبعة بخصوصيّاتها في محلٍّ مادّيٍّ مباينةٌ للماهيّات الخارجيّة ، فلا مسوّغَ للقول بالوجود الذهنيّ وحضور الماهيّات الخارجيّة بأنفسها في الأذهان.

وجه الاندفاع : أنّ ما ذكروه ـ من الفعل والإنفعال المادّيَيْن عند حصول العلم بالجزئيّات ـ في محلّه ، لكنّ هذه الصور المنطبعة ليست هي المعلومة بالّذات ، وإنّما هي اُمور مادّيّةٌ معدّةٌ للنفس تُهيِّـئُها لحضور الماهيّات الخارجيّة عندها بصور مثاليّة مجرّدة غيرِ مادّيّة بناءً على ما سيتبيّن من تجرّد العلم مطلقاً (١) ، وقد عرفت أيضاً (٢) أنّ القول بمغايرة الصور عند الحسّ والتخيّل لذوات الصور التي في الخارج لا ينفكّ عن السفسطة.

الأمر الثالث : أنّه لمّا كانت الماهيّات الحقيقيّة التي تترتّب عليها آثارها في الخارج هي التي تحلّ الأذهان بدون ترتُّبِ آثارها الخارجيّة ، فلو فرض هناك أمرٌ حيثيّةُ ذاته عينُ أنّه في الخارج ونفسُ ترتُّب الآثار كنفس الوجود العينيّ وصفاته القائمة به كالقوّة والفعل والوحدة والكثرة ونحوها ، كان ممتنع الحصول بنفسها في الذهن؛ وكذا لو فرض أمرٌ حيثيّةُ ذاته المفروضة حيثيّةَ البطلان وفقدان الآثار كالعدم المطلق وما يؤول إليه ، إمتنع حلوله الذهنَ.

فحقيقةُ الوجود وكلّ ما حيثيّةُ ذاته حيثيّةَ الوجود ، وكذا العدم المطلق وكلّ ما حيثيّةُ ذاته المفروضة حيثيّةَ العدم يمتنع أن يحلّ الذهن حلولَ الماهيّات الحقيقيّة.

وإلى هذا يرجع معنى قولهم : «إنّ المحالات الذاتيّة لا صورة صحيحة لها في الأذهان».

وسيأتي إن شاء الله بيان كيفيّة انتزاع مفهوم الوجود وما يتّصف به والعدم وما يؤول إليه في مباحث العقل والعاقل والمعقول (٣).

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) في بدو هذا الفصل.

(٣) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

٥٢

المرحلة الرابعة

في موادّ القضايا

[الوجوب والإمتناع والإمكان]

وانحصارها في ثلاث

والمقصود بالذات فيها بيان انقسام الموجود إلى الواجب والممكن ،

والبحث عن خواصّهما ، وأمّا البحث عن الممتنع وخواصّه

فمقصودٌ بالتّبع وبالقصد الثاني

وفيها ثمانية فصول

٥٣
٥٤

الفصل الأوّل

في أنّ كلّ مفهوم إمّا واجب وإمّا ممكن وإمّا ممتنع

كلّ مفهوم فرضناه ثمّ نَسَبْنا إليه الوجود ، فإمّا أن يكون الوجود ضروريُّ الثبوت له وهو الوجوب ، أو يكون ضروريُّ الإنتفاء عنه ـ وذاك كون العدم ضروريّاً له ـ وهو الإمتناع ، أو لا يكون الوجود ضروريّاً له ولا العدم ضروريّاً له وهو الإمكان.

وأمّا احتمال كون الوجود والعدم معاً ضروريَّيْن له فمندفع بأدنى إلتفات (١).

فكلّ مفهوم مفروض إمّا واجب وإمّا ممتنع وإمّا ممكن.

وهذه قضيّة منفصلة حقيقيّة مقتنصة من تقسيمَيْن دائرَيْن بين النفي والإثبات بأن يقال : «كلُّ مفهوم مفروض فإمّا أن يكون الوجود ضروريّاً له أو لا.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون العدم ضروريّاً له أو لا.

الأوّل هو الواجب ، والثاني هو الممتنع ، والثالث هو الممكن».

والذي يعطيه التقسيم من تعريف الموادّ الثلاث أنّ وجوبَ الشيء كونُ وجودِهِ ضروريّاً له ، وإمتناعَه كونُ عدمِهِ ضروريّاً له ، وإمكانَه سلبُ الضرورتَيْن بالنسبة إليه؛ فالواجب ما يجب وجوده ، والممتنع ما يجب عدمه ، والممكن ما ليس

__________________

(١) للزوم اجتماع النقيضين.

٥٥

يجب وجوده ولا عدمه (١).

وهذه جميعاً تعريفات لفظيّة من قبيل شرح الإسم المفيد للتنبيه ، وليست بتعريفات حقيقيّة (٢) ، لأنّ الضرورة واللاضرورة من المعاني البيّنة البديهيّة التي ترتسم في النفس إرتساماً أوّليّاً تُعرف بنفسها ويُعرف بها غيُرها.

ولذلك مَنْ حاول أن يعرّفها تعريفاً حقيقيّاً أتى بتعريفات دوريّة ، كتعريف الممكن بـ «ما ليس بممتنع» (٣) ، وتعريف الواجب بـ «ما يلزم من فرض عدمه محال» أو «ما فرض عدمه محال» (٤) ، وتعريف المحال بـ «ما يجب أن لا يكون» إلى غير ذلك.

والذي يقع البحث عنه في هذا الفنّ ـ الباحث عن الموجود بما هو موجود ـ بالقصد الأوّل من هذه الموادّ الثلاث هو الوجوب والإمكان ـ كما تقدّمت الإشارة إليه (٥) ـ ، وهما وصفان ينقسم بهما الموجود من حيث نسبة وجوده إليه إنقساماً أوّليّاً.

وبذلك يندفع ما اُورِد على كون الإمكان وصفاً ثابتاً للممكن يحاذي الوجوب الذي هو وصف ثابت للواجب.

تقريره : أنّ الإمكانَ ـ كما تَحَصّل من التقسيم السابق ـ سلبُ ضرورةِ الوجوب وسلبُ ضرورة العدم ، فهما سلبان إثنان ،

__________________

(١) قال الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ١١٣ : «ولمّا كان الوجوب أقرب إليه [أي إلى العقل] لا جرم كان أعرف عند العقل ، فلهذا يكون تعريف الإمكان والإمتناع بالوجوب أولى من العكس». وقريبٌ منه ما في الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء ، والمطارحات ص ٢١٠.

(٢) ونبّه عليه أكثر المحقّقين ، فراجع الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء ، والأسفار ج ١ ص ٨٣ ، والتحصيل ص ٢٩١ ، وشرح المواقف ص ١٢٨ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ١١٤ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ١١٣ ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص ٢٩ ، وشوارق الإلهام ص ٨٦ ، وشرح المنظومة ص ٦٣ ، وكشف المراد ص ٤٢.

(٣) قال الشيخ الإشراقيّ : «والعامّة قد يعنون بالممكن ما ليس بممتنع» راجع شرح حكمة الإشراق ص ٧٨.

(٤) هكذا عرّفه الشيخ الرئيس في النجاة ص ٢٢٤.

(٥) في صدر هذا الفصل.

٥٦

وإن عبّر عنهما بنحو قولهم : «سلب الضرورتين» ، فكيف يكون صفةً واحدةً ناعتةً للممكن؟! سلّمنا أنّه يرجع إلى سلب الضرورتين ، وأنه سلبٌ واحدٌ ، لكنّه ـ كما يظهر من التقسيم ـ سلبٌ تحصيليٌّ لا إيجابٌ عدوليٌّ ، فما معنى إتّصاف الممكن به في الخارج ولا إتّصافَ إلاّ بالعدول؟ كما اضطرّوا إلى التعبير عن الإمكان بأنّه لا ضروره الوجود والعدم ، وبأنّه إستواء نسبة الماهيّة إلى الوجود والعدم عندما شرعوا في بيان خواصّ الإمكان ككونه لا يفارق الماهيّة وكونه علّة للحاجة إلى العلّة ، إلى غير ذلك.

وجه الاندفاع (١) : أنّ القضيّة المعدولة المحمول تساوي السالبة المحصّلة عند وجود الموضوع (٢) ، وقولنا : «ليس بعض الموجود ضروريُّ الوجود ولا العدم» وكذا قولنا : «ليست الماهيّة من حيث هي ضروريّة الوجود ولا العدم» الموضوعُ فيه موجودٌ ، فيتساوي الإيجاب العدوليّ والسلب التحصيليّ في الإمكان.

ثمّ لهذا السلب نسبةٌ إلى الضرورة وإلى موضوعه المسلوب عنه الضرورتان ، يتميّز بها من غيره ، فيكون عدماً مضافاً ، له حظٌّ من الوجود وله ما تترتّب عليه من الآثار ، وإن وجده العقلُ أوّلَ ما يجد في صورة السلب التحصيليّ كما يجد العمى ـ وهو عدمٌ مضافٌ ـ كذلك أوّلَ ما يجده.

ويتفرّع على ما تقدّم أمور :

الأمر الأوّل : أنّ موضوعَ الإمكان هو الماهيّة ، إذ لا يتّصف الشيء بلا ضرورة الوجود والعدم إلاّ إذا كان في نفسه خِلواً من الوجود والعدم جميعاً وليس إلاّ الماهيّة من حيث هي ، فكلّ ممكن فهو ذو ماهيّة.

وبذلك يظهر معنى قولهم : «كلّ ممكن زوجٌ تركيبيٌّ ، له ماهيّة ووجود» (٣).

وأمّا إطلاق الممكن على وجود غير الواجب بالذّات وتسميته بالوجود

__________________

(١) ولمزيد التوضيح راجع تعليقات المصنّف (قدس سره) على الأسفار ج ١ ص ١٦٣ و ١٦٩.

(٢) كما صرّح به الحكيم السبزواري في تعليقاته على الأسفار ج ١ ص ١٧٠.

(٣) راجع الفصل السابع من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء.

٥٧

الإمكانيّ فاصطلاحٌ آخر في الإمكان. والوجوب يستعمل فيه الإمكان والوجوب بمعنى الفقر الذاتيّ والغنى الذاتيّ ، وليس يراد به سلب الضرورتَيْن أو استواء النسبة إلى الوجود والعدم ، إذ لا يعقل ذلك بالنسبة إلى الوجود.

الأمر الثاني : أنّ الإمكان لازم الماهيّة ، إذ لو لم يلزمها جاز أن تخلو منه فكانت واجبة أو ممتنعة ، فكانت في نفسها موجودة أو معدومة ، والماهيّة من حيث هي لا موجودة ولا معدومة.

والمراد بكونه لازماً لها أنّ فرْضَ الماهيّة من حيث هي يكفي في اتّصافها بالإمكان من غير حاجة إلى أمر زائد دون اللزوم الإصطلاحيّ ، وهو كون الملزوم علّةً مقتضيةً لتحقّق اللازم ولحوقه به ، إذ لا اقتضاءَ في مرتبة الماهيّة من حيث هي إثباتاً ونفياً.

لا يقال : تحقُّقُ سلب الضرورتَيْن في مرتبة ذات الماهيّة يقضي بكون الإمكان داخلا في ذات الشيء ، وهو ظاهر الفساد.

فإنّا نقول : إنّما يكون محمول من المحمولات داخلا في الذات إذا كان الحمل حملا أوّليّاً ملاكُه الإتّحاد المفهوميّ ، دون الحمل الشائع الذي ملاكُه الإتّحاد الوجوديّ ، والإمكان وسائر لوازم الماهيّات الحمل بينها وبين الماهيّة من حيث هي حملٌ شائعٌ لا أوّليّ.

الأمر الثالث : أنّ الإمكان موجودٌ بوجود موضوعه في الأعيان ، وليس اعتباراً عقليّاً محضاً لا صورةَ له في الأعيان كما قال به بعضهم (١) ، ولا أنّه موجود

__________________

(١) نُسب إلى الشيخ الإشراقي ، فراجع الأسفار ج ١ ص ١٧٢ حيث قال : «قد وضع شيخ الإشراقيّين قاعدة لكون الإمكان وأشباهه أوصافاً عقليّةً لا صورة لها في الأعيان». وراجع حكمة الإشراق ص ٧١ ـ ٧٢ حيث قال : «وأمّا الصفات العقليّة إذا اشتقّ منها وصارت محمولة كقولنا : (كلّ جسم هو ممكن) فالممكنيّة والإمكان كلاهما عقليّان فحسب ـ أي ليس شيء منهما بخارجيٍّ ـ». وراجع أيضاً شرح حكمة الإشراق ص ٢٠٠ ، والمطارحات ص ٣٤٣ ، والتلويحات ص ٢٥ ، وذهب إليه أيضاً المحقّق الطوسيّ واستدلّ عليه بوجوه ،

٥٨

في الخارج بوجود مستقلٍّ منحاز كما قال به آخرون (١).

أمّا أنّه موجود في الأعيان بوجود موضوعه فلأنّه قسيمٌ في التقسيم للواجب الذي ضرورة وجوده في الأعيان ، فارتفاع الضرورة الذي هو الإمكان هو في الأعيان.

وإذ كان موضوعاً في التقسيم المقتضي لاتّصاف المقسم بكلِّ واحد من الأقسام كان في معنى وصف ثبوتيٍّ يتّصف به موضوعه ، فهو معنى عدميٌّ له حظٌّ من الوجود والماهيّة متّصفة به في الأعيان.

وإذ كانت متّصفةً به في الأعيان فله وجودٌ فيها على حدّ الأعدام المضافة التي هي أوصاف عدميّةٌ ناعتةٌ لموصوفاتها موجودةٌ بوجودها ، والآثار المترتّبة عليه في الحقيقة هي ارتفاع آثار الوجوب من صرافة الوجود وبساطة الذات والغنى عن الغير وغير ذلك.

وقد اتّضح بهذا البيان فساد قول من قال (٢) : «إنّ الإمكان من الإعتبارات العقليّة المحضة التي لا صورة لها في خارج ولا ذهن».

وذلك لظهور أنّ ضرورةَ وجود الموجود أمرٌ وعاؤه الخارج وله آثار خارجيّةٌ وجوديّةٌ.

وكذا قول من قال (٣) : «إنّ للإمكان وجوداً في الخارج منحازاً مستقلا».

وذلك لظهور أنّه معنى عدميٌّ واحدٌ مشتركٌ بين الماهيّات ثابتٌ بثبوتها في أنفسها ، وهو سلب الضرورتَيْن ، ولا معنى لوجود الأعدام بوجود منحاز مستقلّ.

على أنّه لو كان موجوداً في الأعيان بوجود منحاز مستقلٍّ كان إمّا واجباً بالذّات وهو ضروريٌّ البطلان؛ وإمّا ممكناً وهو خارجٌ عن ثبوت الماهيّة ، لا يكفي فيه ثبوتها في نفسها ، فكان بالغير ، وسيجيء استحالة الإمكان بالغير (٤).

__________________

فراجع كشف المراد ص ٤٩ ـ ٥١ ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص ٣٣ ـ ٣٥ ، والمسألة العشرين من الفصل الأوّل من شوارق الإلهام.

(١) وهم الحكماء المشاؤون من أتباع المعلّم الأوّل ، راجع الأسفار ج ١ ص ١٣٩.

(٢) والقائل هو الشيخ الإشراقيّ والمحقّق الطوسيّ.

(٣) والقائل هم الحكماء المشاؤون من أتباع المعلّم الأوّل كما مرّ.

(٤) راجع الفصل الآتي.

٥٩

وقد استدلّوا (١) على ذلك بوجوه (٢) : أوجَهُها أنّ الممكن لو لم يكن ممكناً في الأعيان لكان إمّا واجباً فيها أو ممتنعاً فيها ، فيكون الممكن ضروريّ الوجود أو ضروريّ العدم ، هذا محال.

ويردّه (٣) : أنّ الاتّصاف بوصف في الأعيان لا يستلزم تحقُّقَ الوصف فيها بوجود منحاز مستقلٍّ ، بل يكفي فيه أن يكون موجوداً بوجود موصوفه.

والإمكان من المعقولات الثانية الفلسفيّة التي عروضها في الذهن والاتّصاف بها في الخارج ، وهي موجودة في الخارج بوجود موضوعاتها.

وقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمكان معنى واحدٌ مشتركٌ كمفهوم الوجود.

تنبيه : [في أقسام الضرورة]

تنقسم الضرورة إلى ضرورة أزليّة ، وهي : كونُ المحمول ضروريّاً للموضوع لذاته من دون أيِّ قيد وشرط حتّى الوجود؛ وتختصّ بما إذا كانت ذات الموضوع وجوداً قائماً بنفسه بُحتاً لا يشوبه عدمٌ ولا تحدّه ماهيّةٌ؛ وهو الوجود الواجبيّ (تعالى وتقدّس) فيما يوصف به من صفاته التي هي عين ذاته.

وإلى ضرورة ذاتيّة ، وهي : كونُ المحمول ضروريّاً للموضوع لذاته مع الوجود لا بالوجود؛ كقولنا : «كلّ إنسان حيوان بالضرورة» (٤) فالحيوانيّة ذاتيّةٌ للإنسان ضروريّةٌ له ما دام موجوداً ومع الوجود ، ولولاه لكان باطل الذات ، لا إنسان ولا حيوان.

وإلى ضرورة وصفيّه ، وهي : كونُ المحمول ضروريّاً للموضوع لوَصْفه ، كقولنا : «كلّ كاتب متحرّك الأصابع بالضرورة ما دام كاتباً».

وإلى ضرورة وقتيّة (٥) ، ومرجعها

__________________

(١) أي القائلين بأنّ للإمكان وجوداً في الخارج منحازاً مستقلاّ.

(٢) تعرّض لها صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٣) هكذا ردّه صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ١٨٠.

(٤) وكقولنا : «الإنسان إنسان بالضرورة» وقولنا : «الأربعة زوج بالضرورة».

(٥) كقولنا : «كلّ قمر منخسف بالضرورة وقت الحيلولة» ، وقولنا : «كلّ إنسان متنفسّ بالضرورة وقتاً مّا».

٦٠