نهاية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-005-8
الصفحات: ٤٣٢

وانفعالاتها والحوادث المترتّبة على ذلك ، فلا تجد خلالها موجوداً لا يرتبط بغيره في كينونته وتأثيره وتأثرّه ، وقد تقدّم في مباحث الحركة الجوهريّة مايتأيدّ به ذلك (١).

فلكلّ حادث من كينونة أو فعل أو انفعال إستنادٌ إلى مجموع العالَم. ويستنتج من ذلك أنّ بين أجزاء العالم نوعاً من الوحدة والنظام الوسيع الجاري فيه واحد ، فهذا أصل.

ثمّ إنّ المتحصّل ممّا تقدّم من المباحث وما سيأتي أنّ هذا العالم المادّيّ معلول لعالم نوريٍّ مجرّد عن المادّة متقدّس عن القوّة ، وأنّ بين العلّة والمعلول سنخيّة وجوديّة بها يحكى المعلول بماله من الكمالِ الوجوديّ بحسب مرتبته الكمالَ الوجوديّ المتحقّق في العلّة بنحو أعلى وأشرف ، والحكم جار إن كان هناك علل عقليّة مجرّدة بعضها فوق بعض حتّى تنتهي إلى الواجب لذاته جلّ ذكره.

ويستنتج من ذلك أنّ فوق هذا النظام الجاري في العالَم المشهود نظاماً عقليّاً نوريّاً مسانخاً له هو مبدأ هذا النظام وينتهي إلى نظام ربّانيّ في علمه (تعالى) هو مبدأ الكلّ ، وهذا أيضاً أصل.

ومن الضروريّ أيضاً أنّ علّةَ علّةِ الشيء علّةٌ لذلك الشيء ، وأنّ معلولَ معلولِ الشيء معلولٌ لذلك الشيء. وإذ كانت العلل تنتهي إلى الواجب (تعالى) ، فكلّ موجود كيفما فرض فهو أثره ، وليس في العين إلاّ وجود جواهر وآثارها والنسب والروابط التي بينها ، ولا مستقلّ في وجوده إلاّ الواجب بالذات ، ولا مفيض للوجود إلاّ هو.

فقد تبيّن بما تقدّم أنّ الواجب (تعالى) هو المجري لهذا النظام الجاري في نشأتنا المشهودة والمدبِّر بهذا التدبير العامّ المظلّ على أجزاء العالم ، وكذا النظامات العقليّة النوريّة التي فوق هذا النظام وبحذائه على ما يليق بحال كلّ منها

__________________

(١) راجع الفصل الثامن من هذه المرحلة.

٣٤١

حسب ماله من مرتبة الوجود ، فالواجب لذاته ربٌّ للعالم مدبِّرٌ لأمره بالإيجاد بعد الإيجاد ، وليس للعلل المتوسطة إلاّ أنّها مسخّرة للتوسّط من غير استقلال ، وهو المطلوب ، فمن المحال أن يكون في العالم ربٌّ غيره ، لا واحد ولا كثير.

على أنّه لو فرض كثرة الأرباب المدبِّرين لأمر العالم ـ كما يقول به الوثنيّة (١) ـ أدّى ذلك إلى المحال من جهة اُخرى وهي فساد النظام. بيان ذلك : أنّ الكثرة لا تتحقّق إلاّ بالآحاد ولا آحاد إلاّ مع تميّز البعض من البعض ، ولا يتمّ تميّزٌ إلاّ باشتمال كلّ واحد من آحاد الكثرة على جهة ذاتيّة يفقدها الواحد الآخر ، فيغاير بذلك الآخر ويتمايزان ، كلّ ذلك بالضرورة؛ والسنخيّة بين الفاعل وفعله تقضي بظهور المغايرة بين الفعلَيْن حسب ما بين الفاعلين؛ فلو كان هناك أرباب متفرّقون ، سواء اجتمعوا على فعل واحد أو كان لكلّ جهة من جهات النظام العالميّ العامّ ربٌّ مستقلٌّ في ربوبيّته كربّ السماء والأرض وربّ الإنسان وغير ذلك ، أدّى ذلك إلى فساد النظام والتدافع بين أجزائه ، ووحدة النظام والتلازم

__________________

(١) أقول : إنّ البحث عن انتفاء الشريك يقع في جهات ثلاث :

الجهة الاُولى : انتفاء الشريك عن الله في الوجوب الذاتيّ. وهي ما مرّ في الفصل السابق.

الجهة الثانية : انتفاء الشريك عنه في استحقاق العبادة. والوثنيّة خالفنا في هذه الجهة. وهي خارجة عمّا يبحث عنه في هذا الفصل.

الجهة الثالثة : انتفاء الشريك عنه في الربوبيّة والمدبّريّة والخالقيّة. وهي ما يبحث عنه في هذا الفصل. ولم تكن الوثنيّة مخالفاً لنا في هذه الجهة ، بل المخالف في هذه الجهة هو الثنويّة لا الوثنيّة. قال في شرح المواقف : «واعلم انّه لا مخالف في هذه المسألة إلاّ الثنويّة دون الوثنيّة ، فإنّهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود ، ولا يصفون الأوثان بصفات الإلهيّة ، وإن اطلقوا عليها إسم الآلهة ، بل اتخذوها على أنّها تماثيل الأنبياء أو الزهاد أو الملائكة أو الكواكب واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصّلا بها إلى ما هو إلهٌ حقيقةً. وأمّا الثنويّة فانّهم قالوا نجد في العالم خيراً كثيراً وشرّاً كثيراً وانّ الواحد لا يكون خيراً شريراً بالضرورة ، فلكلّ منهما فاعل على حدة ، فالمانويّة والديصانيّة من الثنويّة قالوا : فاعل الخير هو النور وفاعل الشر هو الظلمة ... والمجوس منهم ذهبوا إلى أنّ فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشر هو اهرمن ، ويعنون به الشيطان» راجع شرح المواقف ص ٤٧٩.

ومن هنا يظهر خطاء المصنف (رحمه الله) هاهنا حيثُ نسَبَ القول بكثرة الأرباب إلى الوثنيّة.

٣٤٢

المستمرّ بين أجزائه تدفعه.

فإن قيل : إحكام النظام وإتقانه العجيب الحاكم بين أجزائه يشهد أنّ التدبير الجاري تدبيرٌ عن علْم والأصول الحكميّة القاضية باستناد العالم المشهود إلى علل مجرّدة عالمة يؤيّد ذلك ، فهب أنّ الأرباب المفروضين متكثّرة الذوات ومتغايرتها ويؤدّي ذلك بالطبع إلى اختلاف الأفعال وتدافُعِها ، لكن من الجائز أن يتواطؤا على التسالم وهم عقلاء ويتوافقوا على التلاؤم رعايةً لمصلحة النظام الواحد وتحفّظاً على بقائه.

قلت : لا ريب أنّ العلوم التي يبني عليها العقلاء أعمالهم صور علميّة وقوانين كلّيّة مأخوذة من النظام الخارجيّ الجاري في العالم ، فللنظام الخارجيّ نوعُ تقدُّم على تلك الصور العلميّة والقوانين الكلّيّة وهي تابعة له. ثمّ هذا النظام الخارجيّ بوجوده الخارجيّ فِعْلُ اولئك الأرباب المفروضين ، ومن المستحيل أن يتأثّر الفاعل في فعله عن الصور العلميّة المنتزعة عن فعله المتأخّرة عن الفعل.

فإن قيل : هبْ أنّ الأرباب المفروضين الفاعلين للنظام الخارجيّ لا يتّبعون في فعلهم الصور العلميّة المنتزعة عن الفعل وهي علوم ذهنيّة حصوليّة تابعة للمعلوم ، لكنّ الأرباب المفروضين فواعل علميّة لهم علْمٌ بفعلهم في مرتبة ذواتهم قبل الفعل. فلِمَ لا يجوز تواطؤهم على التسالم وتوافقهم على التلاؤم في العلم قبل الفعل؟

قلت : علْمُ الفاعل العلميّ بفعله قبل الإيجاد ـ كما سيجيء (١) وقد تقدّمت الإشارة إليه (٢) ـ علمٌ حضوريّ ، ملاكُهُ وجدانُ العلّة كمالَ المعلول بنحو أعلى وأشرف ، والسنخيّة بين العلّة ومعلولها. وفرض تواطؤ الأرباب وتوافقهم في مرتبة هذا المعنى من العلم إلغاءٌ منهم لما في وجوداتهم من التكثّر والتغاير ، وقد فرض

__________________

(١) راجع الفصل الحادي عشر من هذه المرحلة ، حيث قال : «وأنّ علمه حضوريٌّ كيفما صوّر».

(٢) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشر ، حيث قال : «الذي إليه النظر العميق أنّ الحصوليّ منه أيضاً ينتهي إلى علم حضوريّ».

٣٤٣

أنّ وجوداتهم متكثّرة متغايرة ، وهذا خلفٌ.

الفصل السابع

فيأنّ الواجب بالذات لا مشارك له فيشيء من المفاهيم من حيث المصداق

المشاركة بين شيئين وأزيد إنّما تتمّ فيما إذا كانا متغايرَيْن متمايزَيْن ، وكان هناك مفهوم واحد يتّصفان به ، كزيد وعمرو المتّحدين في الإنسانيّة ، والإنسان والفرس المتّحدين في الحيوانيّة ، فهي وحدةٌ في كثرة. ولا تتحقّق الكثرة إلاّ بآحاد متغايرة متمايزة كلّ منها مشتمل على ما يسلب به عنه غيره من الآحاد. فكلّ من المتشاركين مركّب من النفي والاثبات بحسب الوجود. وإذ كان وجود الواجب بالذات حقيقةَ الوجود الصرف البسيط ، لا سبيل للتركيب إليه ولا مجال للنفي فيه ، فلا يشاركه شيءٌ في معنى من المعاني.

وأيضاً المفهوم المشترك فيه إمّا شيءٌ من الماهيّات أو ما يرجع إليها. فلا سبيل للماهيّات الباطلة الذوات إلى حقيقة الواجب بالذات التي هي حقّة محضة ، فلا مجانس للواجب بالذات إذ لا جنس له ، ولا مماثل له إذ لا نوع له ، ولا مشابه له إذ لا كيف له ، ولا مساوي له إذ لا كمّ له ، ولا مطابق له إذ لا وضع له ، ولا محاذي له إذ لا أين له ، ولا مناسب له إذ لا إضافة لذاته (١).

والصفات الإضافيّة الزائدة على الذات ـ كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وغيرها ـ منتزعة من مقام الفعل كما سيأتي إن شاء الله تعالى (٢) ؛ على أنّ الصفات الإضافيّة ترجع جميعاً إلى القيّوميّة ، وإذ لا موجِد ولا مؤثِّر سواه فلا مشارك له في القيّوميّة (٣).

__________________

(١) هذا الدليل ذكره صدر المتألّهين في الأسفار ج ٦ ص ١٠٧.

(٢) في الفصل الآتي والفصل العاشر من هذه المرحلة.

(٣) راجع الأسفار ج ٦ ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٣٤٤

وأمّا شيءٌ من المفاهيم المنتزعة من الوجود ، فالذي للواجب بالذات منها أعلى المراتب غير المتناهي شدّةً الذي لا يخالطه نقص ولا عدم ، والذي لغيره بعض مراتب الحقيقة المشكّكة غير الخالي من نقص وتركيب ، فلا مشاركة.

وأمّا حمل بعض المفاهيم على الواجب بالذات وغيره ـ كالوجود المحمول باشتراكه المعنويّ عليه وعلى غيره ، مع الغضّ عن خصوصيّة المصداق ، وكذا سائر صفات الواجب بمفاهيمها فحسب ، كالعلم والحياة والرحمة ، مع الغضّ عن الخصوصيّات الإمكانيّة ـ فليس من الاشتراك المبحوث عنه في شيء.

الفصل الثامن

في صفات الواجب بالذات على وجه كلّي وانقسامها (١)

قد تقدّم (٢) أنّ الوجود الواجبيّ لا يسلب عنه كمال وجوديّ قطّ ، فما في الوجود من كمال ـ كالعلم والقدرة ـ فالوجودالواجب يّواجدٌ له بنحو أعلى وأشرف ، وهو محمول عليه على ما يليق بساحة عزّته وكبريائه ، وهذا هو المراد بالاتّصاف.

ثمّ إنّ الصفة تنقسم انقساماً أوّليّاً إلى ثبوتيّة تفيد معنى إيجابيّاً كالعلم والقدرة ، وسلبيّة تفيد معنى سلبيّاً ، ولا يكون إلاّ سلب سلب الكمال ، فيرجع إلى إيجاب الكمال ، لأنّ نفي النفي إثبات ، كقولنا : «مَنْ ليس بجاهل» و «مَنْ ليس بعاجز» الراجعَيْن إلى العالم والقادر. وأمّا سلب الكمال فقد اتّضح في المباحث السابقة (٣) أنّ لا سبيل لسلب شيء من الكمال إليه (تعالى). فالصفات السلبيّة راجعة بالحقيقة إلى الصفات الثبوتيّة.

والصفات الثبوتيّة تنقسم إلى حقيقيّة كالحيّ ، وإضافيّة كالعالميّة والقادريّة. والحقيقيّة تنقسم إلى حقيقيّة محضة كالحيّ ، وحقيقيّة ذات إضافة كالخالق والرازق.

__________________

(١) وإن شئت تفصيل اقسام صفات الواجب بالذات فراجع الأسفار ج ٦ ص ١١٨ ـ ١٢٥ ، وشرح المنظومة ص ١٥٧.

(٢) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.

(٣) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.

٣٤٥

ومن وجه آخر ، تنقسم الصفات إلى صفات الذات وهي التي يكفي في انتزاعها فرض الذات فحسب ، وصفات الفعل وهي التي يتوقّف انتزاعها على فرض الغير ، وإذ لا موجود غيره (تعالى) إلاّ فعله فالصفات الفعليّة هي المنتزعة من مقام الفعل.

الفصل التاسع

في الصفات الذاتيّة وأنّها عين الذات المتعالية

اختلفت كلمات الباحثين في الصفات الذاتيّة المنتزعة عن الذات الواجبة المقطوعة النظر عمّا عداها على أقوال :

الأوّل : أنّها عين الذات المتعالية وكلّ واحدة منها عين الاُخرى ، وهو منسوب إلى الحكماء (١).

الثاني : أنّها معان زائدةٌ على الذات لازمةٌ لها ، فهي قديمة بقدمها ، وهو منسوب إلى الأشاعرة (٢).

الثالث : أنّها زائدةٌ على الذات حادثةٌ ، على ما نُسِب إلى الكرّاميّة (٣).

الرابع : أنّ معنى اتّصاف الذات بها كون الفعل الصادر منها فِعْلَ مَنْ تلبّس بالصفة.

فمعنى كون الذات المتعالية عالمةً أنّ الفعل الصادر منها مْتقَنٌ محْكَمٌ ذو غاية عقلائيّة ، كما يفعل العالم. ومعنى كونها قادرةً أنّ الفعل الصادر منها كفعل القادر ، فالذات نائبةٌ منابَ الصفات (٤).

__________________

(١) نُسب إليهم في شرح المواقف ص ٤٧٩ ، وشرح المقاصد ج ٢ ص ٧٢. وذهب إليه صدرالمتألّهين في الأسفار ج ٦ ص ١٣٣ ، والحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) ومنهم العلاّمة التفتازاني في شرح المقاصد ج ٢ ص ٧٢ ، والعلاّمة الإيجي والمحقّق الشريف في شرح المواقف ص ٤٧٩ ـ ٤٨٠. وهذا القول نُسب إليهم في الملل والنحل ج ٢ ص ٩٥

(٣) راجع المللوالنحلج ١ ص ١٠٩ ـ ١١٠ ، وشرح المقاصدج ٢ ص ٩٥ ، وشرح المواقف ص ٤٧٦.

(٤) هذا القول منسوبٌ إلى المعتزلة راجع الفرق بين الفِرَق ص ٧٨.

٣٤٦

وربّما يظهر من بعضهم (١) الميل إلى قول آخر ، وهو : أنّ معنى إثبات الصفات نفي ما يقابلها ، فمعنى إثبات الحياة والعلم والقدرة مثلا نفي الموت والجهل والعجز.

ويظهر من بعضهم (٢) أنّ الصفات الذاتيّة عين الذات ، لكنّها جميعاً بمعنى واحد والألفاظ مترادفة.

والحقّ هو القول الأوّل (٣) ، وذلك لما تَحقَّقَ (٤) أنّ الواجب بالذات علّة تامّة ينتهي إليه كلٌّ موجود ممكن بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط ، بمعنى أنّ الحقيقة الواجبيّة هي العلّة بعينها ، وتَحقّقَ أيضاً (٥) أنّ كلّ كمال وجوديّ في المعلول فعلّته في مقام علّيّته واجدة له بنحو أعلى وأشرف ، فللواجب بالذات كلّ كمال وجوديّ مفروض على أنّه وجودٌ صرْفٌ لا يخالطه عدم ، وتَحقَّقَ (٦) أنّوجوده صِرْفٌ بسيطٌ واحدٌ بالوحدة الحقّة ، فليس في ذاته تعدُّدُ جهة ولا تغايُرُ حيثيّة ، فكلّ كمال وجوديّ مفروض فيه عين ذاته وعين الكمال الآخر المفروض له ، فالصفات الذاتية التي للواجب بالذات كثيرة مختلفة مفهوماً واحدة عيناً ومصداقاً ، وهو المطلوب.

وقول بعضهم (٧) : «إنّ علّة الإيجاد هي إرادة الواجب بالذات دون ذاته المتعالية» ، كلام لا محصّل له ، فإنّ الإرادة المذكورة عند هذا القائل إن كانت صفةُ ذاتيّةُ هي عين الذات كان إسناد الإيجاد إليها عين إسناده إلى الذات المتعالية ، فإسناده إليها ونفيه عن الذات تناقضٌ ظاهرٌ ، وإن كانت صفةً فعليّةً منتزعةً من مقام الفعل كان الفعل متقدّماً عليها ، فكان إسناد إيجاد الفعل إليها قولا بتقدّم المعلول

__________________

(١) وهو ضرار بن عمرو. راجع مقالات الإسلامييّن ج ١ ص ٢٢٦ ، وج ٢ ص ١٥٩ ، والملل والنحل ج ١ ص ٩٠.

(٢) نَسَبه صدر المتألّهين إلى كثير من العقلاء المدقّقين ، راجع الأسفار ج ٦ ص ١٤٥.

(٣) أي قول الحكماء.

(٤) راجع الفصل الخامس من المرحلة الثامنة.

(٥) راجع آخر الفصل السادس من هذه المرحلة.

(٦) راجع الفصل الرابع من المرحلة الرابعة ، والفصل الثالث والفصل الرابع من هذه المرحلة.

(٧) كما هو ظاهر كلام الأشاعرة.

٣٤٧

على العلّة ، وهو محال ، على أنّ نسبة العلّيّة إلى إرادة الواجب بالذات ونفيها عن الذات تقضي بالمغايرة بين الواجب وإرادته. فهذه الإرادة إمّا مستغينة عن العلّة فلازِمُهُ أن تكون واجبة الوجود ولازِمُهُ تعدُّد الواجب ، وهو محال ، وإمّا مفتقرة إلى العلّة ، فإن كانت علّتها الواجب كانت الإرادة علّةً للعالم ، والواجب علّةً لها ، وعلّة العلّة علّة ، فالواجب علّة العالم ، وإن كانت علّتها غير الواجب ولم ينته إليه استلزم واجباً آخر ينتهي إليه ، وهو محال.

وأمّا القول الثاني المنسوب إلى الأشاعرة ، وهو أنّ هذه الصفات ـ وهي على ما عدّوها سبع (١) : الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام ـ زائدةٌ على الذات لازمةٌ لها قديمةٌ بقِدَمها.

ففيه : أنّ هذه الصفات إن كانت في وجودها مستغنيةً عن العلّة قائمةً بنفسها كان هناك واجباتٌ ثمان هي الذات والصفات السبع ، وبراهين وحدانيّة الواجب تبطله وتحيله.

وإن كانت في وجودها مفتقرةٌ إلى علّة ، فإن كانت علّتها هي الذات كانت الذات علّةً متقدّمةً عليها فيّاضةً لها وهي فاقدة لها ، وهو محال.

وإن كانت علّتها غير الذات كانت واجبة بالغير وينتهي وجوبها بالغير إلى واجب آخر غير الواجب المتّصف بها ، وبراهين وحدانيّة الواجب بالذات تبطله أيضاً؛ وأيضاً كان لازِمُ ذلك حاجة الواجب بالذات في اتّصافه بصفات الكمال إلى غيره ، والحاجة كيفما كانت تنافي وجوبَ الوجود بالذات؛ وأيضاً لازِمُهُ فقدان الواجب في ذاته صفاتَ الكمال ، وقدتقدّم (٢) أنّه صِرْف الوجودالذي لايفقدشيئاًمن الكمال الوجوديّ.

وأمّا القول الثالث المنسوب إلى الكراميّة ، وهو كون هذه الصفات زائدة حادثة.

ففيه : أنّ لازِمَهُ إمكانها واحتياجها إلى العلّة ، وعلّتها إمّا هي الذات ولازمُهُ أنّ نقيض الذات لنفسها ما هي فاقدة له وقد تحقّق استحالته ، وإمّا غير الذات ولازمُهُ

__________________

(١) قال الشهرستاني : «قال أبو الحسن : الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حيّ بحياة ، مريد بارادة ، متكلّم بكلام ، سميع يَسمع ، بصير يَبصر». راجع الملل والنحل ج ١ ص ٩٥.

(٢) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.

٣٤٨

تحقُّق جهة إمكانيّة فيها وانسلاب كمالات وجوديّة عنها ، وقد تحقّق استحالته.

وأمّا القول الرابع المنسوب إلى المعتزلة ، وهو نيابة الذات عن الصفات.

ففيه : أنّ لازمَهُ فقدان الذات للكمال وهي فيّاضة لكلِّ كمال ، وهو محال.

وبهذا يبطل أيضاً ما قيل (١) : «إنّ معنى الصفات الذاتيّة الثبوتيّة سلب مقابلاتها ، فمعنى الحياة والعلم والقدرة نفي الموت ونفي الجهل ونفي العجز».

وأمّا ما قيل (٢) ـ من كون هذه الصفات عين الذات وهي مترادفة بمعنى واحد ـ فكأنّه من إشتباه المفهوم بالمصداق (٣) ، فالذي يثبته البرهان أنّ مصداقها واحد ، وأمّا المفاهيم فمتغايرة لا تتّحد أصلا؛ على أنّ اللغة والعرف يكذّبان الترادف.

الفصل العاشر

في الصفات الفعليّة وأنّها زائدة على الذات

لا ريب أنّ للواجب بالذات صفات فعليّة مضافة إلى غيره ، كالخالق والرازق والمعطي والجواد والغفور والرحيم إلى غير ذلك ، وهي كثيرة جدّاً تجمعها صفة القيّوم (٤).

ولمّا كانت مضافةً إلى غيره (تعالى) كانت متوقّفةً في تحقّقها إلى تحقّق الغير المضاف إليه ، وحيث كان كلّ غير مفروض معلولا للذات المتعالية متأخّراً عنها كانت الصفة المتوقّفة عليه متأخّرةً عن الذات زائدةً عليها ، فهي منتزعةٌ من مقام الفعل منسوبةٌ إلى الذات المتعالية.

__________________

(١) والقائل ضرار بن عمرو ، كمافي مقالات الإسلامييّن ج ٢ ص ١٥٩ ، والمللوالنحل ج ١ ص ٩٠

(٢) والقائل كثيرٌ من العقلاء المدقّقين ، كما في الأسفار ج ٦ ص ١٤٥.

(٣) كذا قال الحكيم السبزواريّ فيما علّق على الأسفار ج ٦ ص ١٤٤ الرقم (٢).

(٤) قال الحكيم السبزواريّ :

انّ الحقيقيّ من المضاف

زيد على الذات بلا خلاف

لكن مباديها لقيّوميّة

ترجع ذي نسبة اشراقيّة

راجع شرح المنظومة ص ١٥٧ ـ ١٥٨.

٣٤٩

فالموجود الإمكانيّ ـ مثلا ـ له وجود لا بنفسه بل بغيره ، فإذا اعتبر بالنظر إلى نفسه كان وجوداً ، وإذا اعتبر بالنظر إلى غيره كان إيجاداً منه وصدَقَ عليه أنّه موجِدٌ له. ثمّ إنّ وجوده باعتبارات مختلفة إبداع وخلق وصُنْع ونعمة ورحمة ، فيصدق على موجِده أنّه مبدعٌ خالقٌ صانعٌ منعمٌ رحيمٌ.

ثمّ إنّ الشيء الذي هو موجده إذا كان ممّا لوجوده بقاءٌ مَا ـ فإنّ بين يديه ما يديم به بقاءه ويرفع به جهات نقصه وحاجته ـ إذا اعتبر في نفسه ، انتزع منه أنّه رزْقٌ يرتزق به ، وإذا اعتبر من حيث إنّه لا بنفسه بل بغيره الذي هو علّته الفيّاضة له ، صَدَقَ على ذلك الغير أنّه رازق له ، ثمّ صَدَقَ على الرزق أنّه عطيّة ونعمة وموهبة وجُودٌ وكرمٌ بعنايات اُخر مختلفة ، وصَدَقَ على الرازق أنّه معط منعمٌ وهّابٌ جوادٌ كريمٌ إلى غير ذلك ، وعلى هذا القياس سائر الصفات الفعليّة المتكثرة بتكثّر جهات الكمال في الوجود.

وهذه الصفات الفعليّة صادقة عليه (تعالى) صدقاً حقيقيّاً ، لكن لا من حيث خصوصيّات حدوثها وتأخّرها عن الذات المتعالية حتّى يلزم التغيّر فيه (تعالى وتقدّس) ، وتركُّبِ ذاته من حيثيّات متغايرة كثيرة ، بل من حيث إنّ لها أصلا في الذات ينبعث عنه كلّ كمال وخير ، فهو (تعالى) بحيث يقوم به كلّ كمال ممكن في موطنه الخاصّ به ، فهو (تعالى) بحيث إذا أمكن شيء كان مراداً له ، وإذا أراد شيئاً أوجده ، وإذا أوجده ربّاه ، وإذا ربّاه أكمله ، وهكذا ، فللواجب (تعالى) وجوبه وقدمه ، وللأشياء إمكانها وحدوثها.

الفصل الحادي عشر

في علمه (تعالى)

قد تحقّق فيما تقدّم (١) أنّ لكلّ مجرّد علماً بذاته ، لحضور ذاته المجرّدة عن

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل والفصل الحادي عشر من المرحلة الحادية عشرة.

٣٥٠

المادّة لذاته ، وليس العلم إلاّ حضور شيء لشيء ، والواجب (تعالى) منزّه عن المادّة والقوّة ، فذاته معلومة لذاته.

وقد تقدّم أيضاً (١) أنّ ذاته المتعالية حقيقة الوجود الصرف البسيط الواحد بالوحدة الحقّة الذي لا يداخله نقص ولا عدم ، فلا كمالَ وجوديّاً في تفاصيل الخلقة بنظامها الوجوديّ إلاّ وهي واجدة له بنحو أعلى وأشرف ، غير متميّز بعضها من بعض لمكان الصرافة والبساطة ، فما سواه من شيء فهو معلوم له (تعالى) في مرتبة ذاته المتعالية علماً تفصيليّاً في عين الإجمال وإجماليّاً في عين التفصيل.

وقد تقدّم أيضاً (٢) أنّ ما سواه من الموجودات معاليلُ له ، منتهيةٌ إليه بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط قائمة الذوات به قيامَ الرابط بالمستقلّ ، حاضرةٌ عنده بوجوداتها ، غيرُ محجوبة عنه ، فهي معلومة له في مرتبة وجوداتها علماً حضوريّاً ، أمّا المجرّدة منها فبأنفسها ، وأمّا الماديّة فبصورها المجرّدة.

فتبيّن بما مرّ أنّ للواجب (تعالى) علماً بذاته في مرتبة ذاته وهو عين ذاته ، وأنّ له (تعالى) علماً بما سوى ذاته من الموجودات في مرتبة ذاته ، وهو المسمّى بـ «العلم قبل الإيجاد» ، وأنّه علمٌ إجماليٌّ في عين الكشف التفصيليّ؛ وأنّ له (تعالى) علماً تفصيليّاً بما سوى ذاته من الموجودات في مرتبة ذواتها خارجاً من الذات المتعالية ، وهو «العلم بعد الإيجاد» ؛ وأنّ علمه حضوريّ كيفما صُوِّر.

فهذه خمس مسائل.

ويتفرّع على ذلك أنّ كلَّ علْم متقرّر في مراتب الممكنات من العلل المجرّدة العقليّة والمثاليّة فإنّه علْمٌ له (تعالى).

ويتفرّع أيضاً أنّه سميعٌ بصيرٌ كما أنّه عليمٌ خبيرٌ ، لما أنّ حقيقة السمع والبصر هي العلم بالمسموعات والعلم بالمبصرات من مطلق العلم وله (تعالى) كلُّ علم.

__________________

(١) راجع الفصل الرابع من المرحلة الرابعة ، والفصل التاسع من هذه المرحلة.

(٢) راجع الفصل الخامس من المرحلة الثامنة ، والفصل التاسع من هذه المرحلة.

٣٥١

وللباحثين في علمه (تعالى) اختلافٌ كثيرٌ حتّى أنكره بعضهم (١) من أصله ، وهو محجوج بما قام على ذلك من البرهان.

وللمثبتين مذاهب شتّى :

أحدها : أنّ له (تعالى) علماً بذاته دون معلولاتها ، لأنّ الذات المتعالية أزليّة وكلّ معلول حادث (٢).

وفيه : أنّ العلم بالمعلول في الأزل لا يستوجب كونه موجوداً في الأزل بوجوده الخاصّ به ، على أنّه مبنيٌّ على انحصار العلم الحضوريّ في علم الشيء بنفسه وأنّ ما دون ذلك حصوليّ تابع للمعلوم ، وهو ممنوع بما تقدّم (٣) إثباته من أنّ للعلّة المجرّدة علماً حضوريّاً بمعلولها المجرّد وقد قام البرهان على أنّ له (تعالى) علماً حضوريّاً بمعلولاته قبل الإيجاد في مرتبة الذات وعلماً حضوريّاً بها بعد الإيجاد في مرتبة المعلولات.

الثاني : ما يُنسب إلى أفلاطون (٤) ، أنّ علمه (تعالى) التفصيليّ هو العقول المجرّدة والمُثل الإلهيّة التي تجتمع فيها كمالات الأنواع تفصيلا.

وفيه : أنّ ذلك من العلم بعدالإيجاد ، وهو في مرتبة وجوداتهاالممكنة ، وانحصار علمه (تعالى) التفصيليّ بالأشياء فيها يستلزم خلُوَّ الذات المتعالية في ذاتها عن الكمال العلميّ ، وهو وجودٌ صِرْفٌ لا يشذّ عنه كمال من الكمالات الوجوديّة.

__________________

(١) وهو بعض الأقدمين من الفلاسفة على ما في الأسفار ج ٦ ص ١٨٠ ، وشرح المنظومة ص ١٦٤ ، والمباحث المشرقيّة ج ٢ ص ٤٦٩ ـ ٤٧٥. وهم طائفتان : (الاُولى) من نفى علْمَه تعالى. و (الثانية) من نفى علْمَه بغيره. قال المحقّق الطوسيّ في شرح رسالة مسألة العلم ص ٢٧ : «وهذان المذهبان مذكوران في كتب المذاهب والآراء منقولان عنهم ـ أي القدماء ـ».

(٢) هذا القول منسوبٌ إلى بعض الأقدمين من الفلاسفة كمامرّ ، فراجع الأسفار ج ٦ ص ١٧٩ ـ ١٨٠ ، وشرح المنظومة ص ١٦٤.

(٣) راجع الفصل الأوّل والفصل الحادي عشر من المرحلة الحادية عشرة.

(٤) نُسب إليه في الملل والنحل ج ٢ ص ٨٢ ـ ٨٩ ، والأسفار ج ٦ ص ١٨١ ، وشرح المنظومة ص ١٦٥ ، والجمع بين رأيي الحكيمين ص ١٠٥.

٣٥٢

الثالث : ما يُنسب إلى فرفوريوس (١) ، أنّ علمه (تعالى) بالإتّحاد مع المعلوم.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يكفي لبيان تحقُّق العلم ، وأنّ ذلك باتّحاد العاقل مع المعقول لا بالعروض ونحوه ، ولا يكفي لبيان ثبوت العلم بالأشياء قبل الإيجاد أو بعده.

الرابع : ما يُنسب إلى شيخ الإشراق (٢) وتبعه جمع ممّن بعدَه من المحقّقين (٣) ، أنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات والمادّيّات حاضرةٌ بوجودها العينيّ له (تعالى) غير غائبة ولا محجوبة عنه ، وهو علمه التفصيليّ بالأشياء بعد الإيجاد ، فله (تعالى) علمٌ إجماليّ بها بتبع علمه بذاته.

وفيه : أوّلا : أنّ قوله : «بحضور المادّيّات له (تعالى)» ممنوعٌ ، فالمادّيّة لا تجامع الحضور ، على ما بيّن في مباحث العاقل والمعقول (٤).

وثانياً : أنّ قصر العلم التفصيليّ بالأشياء في مرتبة وجوداتها يوجب خلوّ الذات المتعالية الفيّاضة لكلّ كمال تفصيليّ في الأشياء عن تفصيلها ، وهي وجودٌ صِرْفٌ جامعٌ لكلّ كمال وجوديّ بنحو أعلى وأشرف.

الخامس : ما يُنسب إلى الملطيّ (٥) أنّه (تعالى) يعلم العقل الأوّل ـ وهو

__________________

(١) نُسب إليه في شوارق الإلهام ص ٥١٦ ، والأسفار ج ٦ ص ١٨٦ ، وشرح المنظومة ص ١٦٧.

(٢) واستفاده بزَعمِهِ في خلوته الذوقيّة عن روحانية ارسطاطاليس ، كما في التلويحات ص ٧٠ ـ ٧٤. وراجع حكمة الإشراق ص ١٥٠ ـ ١٥٣ ، والمطارحات ص ٤٨٨.

(٣) كالمحقّق الطوسيّ في شرح مسألة العلم ص ٢٨ ـ ٢٩ ، والعلاّمة الشيرازيّ في شرح حكمة الإشراق ص ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ، وابن كمونة ومحمّد الشهرزوري ـ شارحي التلويحات ـ على ما نقل في الأسفار ج ٦ ص ١٨١.

(٤) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

(٥) أي تاليس الملطيّ ، فانّه قال : «إنّ علمه بالعقل بحضور ذاته وعلمه بالأشياء زائدة عليها مطابقة لها قائمة بذات المعلول الأوّل لا بذاته». راجع الملل والنحل ج ٢ ص ٦٢. ونُسب إليه في شرح المنظومة ص ١٦٦ ، وشوارق الإلهام ص ٥١٥.

وأمّا انَكْسيمانِس الملطيّ فقال : «إنّ علمه تعالى بالأشياء انّما هو بصور زائدة على الأشياء مطابقة لها قائمة بذاته تعالى». كذا نُقل عنه في شوارق الإلهام ص ٥١٥ ، وشرح المنظومة ص ١٦٦.

٣٥٣

الصادر الأوّل ـ بحضوره عنده ، ويعلم سائر الأشياء ممّا دون العقل الأوّل بارتسام صورها في العقل الأوّل.

وفيه : أنّه يرد عليه ما يرد على القول السابق ـ من لزوم خلوّ الذات المتعالية عن الكمال وهي واجدة لكلّ كمال ـ ، على أنّه قد تقدّم في مباحث العاقل والمعقول (١) أنّ العقول المجرّدة لا علمَ ارتساميّاً حصوليّاً لها.

السادس : قول بعضهم (٢) : «إنّ ذاته المتعالية علْمٌ تفصيليٌّ بالمعلول الأوّل وإجماليٌّ بما دونه ، وذات المعلول الأوّل علْمٌ تفصيليٌّ بالمعلول الثاني وإجماليٌّ بما دونه ، وعلى هذا القياس».

وفيه : محذورُ خلُوِّ الذات المتعالية عن كمال العلم بما دون المعلول الأوّل وهي وجودٌ صِرْفٌ لا يسلب عنه كمال.

السابع : ما يُنسب إلى أكثر المتأخّرين (٣) ، أنّ له (تعالى) علماً تفصيليّاً بذاته وهو علم إجماليّ بالأشياء قبلَ الإيجاد؛ وأما علمه التفصيليّ بالأشياء فهو بعدَ وجودها ، لأنّ العلم تابعٌ للمعلوم ولا معلومَ قبلُ الوجود العينيّ.

وفيه : محذورُ خلوِّ الذات المتعالية عن الكمال العلميّ ـ كما في الوجوه السابقة ـ ، على أنّ فيه إثبات العلم الارتساميّ الحصوليّ في الوجود المجرّد المحض.

الثامن : ما يُنسب إلى المشّائين (٤) ، أنّ له (تعالى) علماً حضوريّاً بذاته المتعالية ، وعلماً تفصيليّاً حصوليّاً بالأشياء قبل إيجادها بحضور ماهيّاتها على النظام الموجود في الخارج لذاته (تعالى) ، لا على وجه الدخول بعينيّة أو جزئيّة ،

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) أي بعض الحكماء. وتبعهم الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص ١٦٨.

(٣) نَسَبه إليَهم الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص ١٦٦.

(٤) كانَكْسيمانِس الملطيّ من القدماء ، وأبي نصر الفارابيّ وأبي علي بن سينا وبهمنيار وغيرهم من المتأخرين. راجع الأسفار ج ٦ ص ١٨٠ ، وشرح المنظومة ص ١٦٦ ، وشوارق الإلهام ص ٥١٥ ، والتعليقات للفارابيّ ص ٢٤ ، والجمع بين رأيي الحكيمين ص ١٠٦ ، والتعليقات للشيخ الرئيس ص ٢٦ ـ ٣٢ ، ٦٦ ، ٨١ ـ ٨٢ ، ١١٦ ، ١١٩ ـ ١٢٠ ، ١٤٩ ، ١٥٣ ، ١٥٦.

٣٥٤

بل على نحو قيامها بها بالثبوت الذهنيّ على وجه الكلّيّة ، بمعنى عدم تغيُّرِ العلم بتغيُّرِ المعلوم ـ على ما اصطلح عليه في مباحث العلم ـ ، فهو عِلْمٌ عنائيٌّ يستتبع فيه حصولُ المعلوم علماً حصولَه عيناً.

وفيه : أوّلا : ما في سابقه من محذور خلُوِّ الذات عن الكمال.

وثانياً : ما في سابقه أيضاً من محذور ثبوت العلم الحصوليّ فيما هو مجرّد ذاتاً وفعلا.

وثالثاً : أنّ لازمَهُ ثبوت وجود ذهنيّ من غير عينيّ يقاس إليه ، ولازمُهُ أن يعود وجوداً آخر عينيّاً للماهيّة قبل وجودها الخاصّ بها ، وهو منفصل الوجود عنه (تعالى) ، ويرجع بالدقّة إلى القول الثاني المنسوب إلى أفلاطون.

واعلم أنّ أكثر المتكلّمين على هذا القول ، وإن طعنوا فيه من حيث عدّهم العلم قبل الإيجاد كلّيّاً ، زعماً منهم أنّ المراد بالكلّيّ ما اصطلح عليه في مبحث الكلّيّ والجزئيّ من المنطق (١).

وذلك أنّهم اختاروا أنّ العلم التفصيليّ قبل الإيجاد حصوليٌّ ، وأنّه على حالِهِ قبلَ وجود الأشياء وبعدَ وجودها من غير تغيير.

التاسع : قول المعتزلة (٢) أنّ للماهيّات ثبوتاً عينيّاً في العدم ، وهو الذي تعلّق به علمه (تعالى) قبل الإيجاد.

وفيه : أنّه قد تقدّم (٣) بطلان القول بثبوت المعدومات.

العاشر : ما نُسب إلى الصوفيّة (٤) ، أنّ للماهيّات ثبوتاً علميّاً بتبع الأسماء والصفات ، هو الذي تعلّق به علمه (تعالى) قبل الإيجاد.

وفيه : أنّ أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة تنفي أيَّ ثبوت مفروض للماهيّات

__________________

(١) راجع شرح المنظومة (قسم المنطق) ص ١٦ ، وشرح المطالع ص ٤٨ ، وشرح الإشارات ج ١ ص ٣٨ ، والتحصيل ص ١٥ ـ ١٧ ، وشرح الشمسية ص ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) نُسب إليهم في الأسفار ج ٦ ص ١٨١ ـ ١٨٢ ، وشرح المنظومة ص ١٦٥.

(٣) راجع الفصل الثاني من المرحلة الاُولى.

(٤) كالشيخ العارف محيي الدين العربيّ في الفتوحات المكيّة ج ١ ص ٢٠٢ ، وفصوص الحكم ص ٤٨ ـ ٥٨ ، والشيخ صدر الدين القونوي في مفتاح غيب الجمع والوجود ، فراجع كلام الماتن في مصباح الاُنس ص ٨٢ ـ ٨٣.

٣٥٥

قبلَ ثبوتها العينيّ الخاصّ بها.

الفصل الثاني عشر

في العناية والقضاء والقدر

ذكروا (١) أنّ من مراتب علمه (تعالى) العناية والقضاء والقدر ، لصدق كلّ منها بمفهومه الخاصّ على خصوصيّة من خصوصيّات علمه (تعالى).

أمّا العناية (٢) : وهي كون الصورة العلميّة علّةً موجبةً للمعلوم الذي هو الفعل ، فإنّ علمه التفصيليّ بالأشياء وهو عين ذاته علّةٌ لوجودها بماله من الخصوصيّات المعلومة ، فله (تعالى) عنايةٌ بخلقه.

وأمّا القضاء : فهو بمفهومه المعروف جَعْلُ النسبةَ التي بين موضوع ومحموله ضروريّةً موجبةً ، فقول القاضي مثلا في قضائه ـ فيما إذا تخاصم زيد وعمرو في مال أو حقٍّ ورفعا إليه الخصومة والنزاع وألقيا إليه حجّتهما ـ : «المال لزيد والحقّ لعمرو» ، إثباتُ المالكيّة لزيد وإثباتُ الحقّ لعمرو إثباتاً ضروريّاً يرتفع به التزلزل والتردّد الذي أوجده التخاصم والنزاع قبل القضاء وفصل الخصومة؛ وبالجملة قضاء القاضي إيجابه الأمرَ إيجاباً علميّاً يتبعه إيجابه الخارجيّ إعتباراً.

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ج ٣ ص ٣١٦ ـ ٣١٨ ، والأسفار ج ٦ ص ٢٩٠ ـ ٢٩٦ ، وشرح المنظومة ص ١٧٥ ـ ١٧٧.

(٢) قال في الأسفار : «وأمّا العناية فقد انكرها أتباع الإشراقييّن ، وأثبتها أتباع المشائين كالشيخ الرئيس ومن يحذو حذوه» إنتهى كلامه في الأسفار ج ٦ ص ٢٩١.

أقول : انكرها الشيخ الإشراقي في حكمة الإشراق ص ١٥٣ حيث قال : «وأمّا العناية فلا حاصل لها». وتبعه العلاّمة الشيرازيّ في شرح حكمة الإشراق ص ٣٦٥. واثبتها الشيخ الرئيس في الإشارات ، حيث قال : «فالعناية هي احاطة علم الأوّل بالكلّ» راجع شرح الإشارات ج ٣ ص ٣١٨ ، وكذا في سائر كتبه ، فراجع المبدأ والمعاد ص ٨٤ ، والنجاة ص ٢٨٤ ، والتعليقات ص ١٩. واثبتها أيضاً العرفاء كما قال صدر الدين القونويّ : «وعنايته في الحقيقة افاضة نوره الوجوديّ على مَن انطبع في مرآة عينه التي هي نسبة معلوميّته واستعدّ لقبول حكم ايجاده ومظهريته» راجع كلام الماتن في مصبَاح الأنس ص ٨٧.

٣٥٦

وإذا اُخِذَ هذا المعنى حقيقيّاً بالتحليل غيرَ إعتباريّ ، إنطبق على الوجوب الذي يتلبّس به الموجودات الممكنة من حيث نسبتها إلى عللها التامّة ، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وهذا الوجوب الغيريّ من حيث نسبته إلى العلّة التامّة إيجاب ، ولا شيء في سلسلة الوجود الإمكانيّ إلاّ وهو واجبٌ موجَب بالغير ، والعلل تنتهي إلى الواجب بالذات ، فهو العلّة الموجبة لها ولمعلولاتها.

وإذ كانت الموجودات الممكنة بما لها من النظام الأحسن في مرتبة وجوداتها العينيّة علماً فعليّاً للواجب (تعالى) ، فما فيها من الإيجاب قضاءٌ منه (تعالى). وفوقه العلم الذاتيّ منه المنكشف له به كلُّ شيء على ما هو عليه في الأعيان على التفصيل بنحو أعلى وأشرف.

فالقضاء قضاءان : قضاءٌ ذاتيٌّ خارجٌ من العالم ، وقضاءٌ فعليٌّ داخلٌ فيه.

ومن هنا يظهر ضَعْف ما نُسب إلى المشهور (١) أنّ القضاء هو ما عند المفارقات العقليّة من العلم بالموجودات الممكنة بما لها من النظام.

وكذا ما ذهب إليه صدر المتألّهين (رحمه الله) ، أنّ القضاء هو العلم الذاتيّ المتعلّق بتفاصيل الخلقة ، قال في الأسفار : «وأمّا القضاء فهو عندهم عبارة عن وجود الصور العقليّة لجميع الموجودات فائضة عنه (تعالى) على سبيل الإبداع دفعةً بلا زمان ، لكونها عندهم من جملة العالَم ومن أفعال الله المباينة ذواتها لذاته ، وعندنا صور علميّة لازمة لذاته بلا جعل ولا تأثير وتأثّر ، وليست من أجزاء العالَم ، إذ ليست لها حيثيّة عدميّة ولا إمكانات واقعيّة. فالقضاء الربانيّ وهو صورة علْمِ الله قديمٌ بالذات باق ببقاء الله» (٢) ـ إنتهى.

وينبغي أن يحمل قوله : «صور علميّة لازمة لذاته» على العلم الذاتيّ الذي لا ينفك عن الذات ، وإلاّ فلو كانت لازمة خارجة كانت من العالَم ولم تكن قديمة بالذات ـ كما صرّح بذلك ـ ؛ على أنّها لو كانت حضوريّةً إنطبقت على قول

__________________

(١) نُسب إليهم في الأسفار ج ٦ ص ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) راجع الأسفار ج ٦ ص ٢٩١ ـ ٢٩٢.

٣٥٧

أفلاطون في العلم ، وهو (رحمه الله) لا يرتضيه ، ولو كانت حصوليّةً إنطبقت على قول المشّائين ، وهو (رحمه الله) لا يرتضيه أيضاً.

ووجه الضعف في القولين (١) أنّ صدقَ القضاء بمفهومه على إحدَي المرتبتَيْن من العلم ـ أعني العلم الذاتيّ والعلم الفعليّ ـ لا ينفي صدقَه على الاُخرى ، فالحقّ أنّ القضاء قضاءان : ذاتيٌّ وفعليٌّ ـ كما تقدّم بيانه ـ.

وأمّا القَدَر : فهو ما يلحق الشيء من كميّة أو حدّ في صفاته وآثاره. والتقدير تعيين ما يلحقه من الصفات والآثار تعييناً علميّاً يتبعه العمل على حسب ما تسعه الأسباب والأدوات الموجودة ، كما أنّ الخيّاط يقدّر ما يخيطه من اللباس على الثوب الذي بين يديه ثمّ يخيط على ما قدّر ، والبناء يقدّر ما يريده من البنّاء على القاعة من الأرض على حسب ما تَسِعه وتعيَّنَ عليه الأسباب والأدوات الموجودة عنده ، ثمّ يبني البناء على طبق ما قدّر لأسباب متجدّدة توجب عليه ذلك ، فالتقدير بالنسبة إلى الشيء المقدَّر كالقالب الذي يقلب به الشيء فيحدّ به الشيء بحدّ أو حدود لا يتعدّاها.

وإذا اُخذ هذا المعنى بالتحليل حقيقيّاً إنطبق على الحدود التي تلحق الموجودات المادّيّة من ناحية عللها الناقصة بما لها من الصور العلمّيّة في النشأة التي فوقها ، فإنّ لكلّ واحدة من العلل الناقصة بما فيها من الحيثيّات المختلفة أثراً في المعلول يخصّص إطلاقَهُ في صفته وأثره. فإذا تمّ التخصيص بتمام العلّة التامّة حصل له التعيّن والتشخّص بالوجود الذي تقتضيه العلّة التامّة. فللإنسان ـ مثلا ـ خاصّة الرؤية ، لكن لا بكلّ وجوده ، بل من طريق بدنه ، ولا ببدنه كلّه؛ بل بعضو منه مستقرٍّ في وجهه ، فلا يرى إلاّ ما يواجهه ، ولا كلّ ما يواجهه ، بل الجسم؛ ولا كلّ جسم ، بل الكثيف من الأجسام ذا اللون؛ ولا نفس الجسم ، بل سطحه؛ ولا كلّ سطوحه ، بل السطح المحاذي؛ ولا في كلّ وضع ولا في كلّ حال ولا في كلّ مكان ولا في كلّ زمان؛ فلئن أحصيتَ الشرائط الحافّة حولَ رؤية واحدة شخصيّة ألفيت

__________________

(١) أي قول المشهور وقول صدر المتألّهين.

٣٥٨

جمّاً غفيراً لا يحيط به الإحصاء ، وما هي إلاّ حدودٌ ألحقها بها العللُ الناقصة التي تحدّ الرؤيةَ المذكورة بما تضع فيها من أثر ومنها ما يمنعه الموانع من التأثير.

وهذه الحدود جهاتٌ وجوديّةٌ تلازِمُها سلوبٌ كما تبيّن أنفاً ، ولها صور علميّة في نشأة المثال التي فوقَ نشأة المادّة تتقدّر بها صفات الأشياء وآثارها ، فلا سبيل لشيء منها إلاّ إلى صفة أو أثر ، هداه إليه التقدير.

فإن قلت : لازِمُ هذا البيان كون الإنسان مجبَراً غير مختار في أفعاله.

قلت : كلاّ ، فإنّ الإختيار أحد الشرائط التي يحدّبها فعل الإنسان. وقد فصّلنا القول في دفع هذه الشبهة في مباحث الوجود (١) وفي مباحث العلّة والمعلول (٢).

فإن قلت : هلاّ عمّمتم القول في القدر ، وهو ضَرْبُ الحدود للشيء من حيث صفاته وآثاره في علْم سابق يتبعه العين حتّى يعمّم الماهيّات الإمكانيّة ، فإنّ الماهيّات أيضاً حدودٌ لموضوعاتها تتميّز من غيرها وتلازمها سلوب لا تتعدّاها. وقد تقدّم (٣) أنّ كلّ ذي ماهيّة فهو ممكن ، وأنّ الممكن مركّب الذات من الإيجاب والسلب ، فيعمّ القَدَر كلّ ممكن ، سواء كان عقلا مجرّداً أو مثالا معلّقاً أو طبيعة مادّيّة ، ويكون العلم السابق الذي يتقدّر به الشيء علماً ذاتيّاً.

وبالجملة يكون القَدَر بحسب العين هو التعيّن المنتزع من الوجود العينيّ والتقدير هو التعيين العلميّ الذي يتبعه العين ، كما أنّ المقضيّ هو الوجوب المنتزع من الوجود العينيّ ، والقضاء هو الإيجاب العلميّ الذي يستتبعه ، سواء كان من حيث الماهيّة والذات أو من حيث الصفات والآثار.

قلت : كون الماهيّة حدّاً ذاتيّاً للممكن لا ريب فيه ، لكنّهم راعوا في بحث القَدَرِ ظاهرَ مفهومه ، وهو الحدّ الذي يلحق الشيء فيما هو موضوع له من الصفات والآثار دون أصل الذات ، فلا يعمّ ما وراء الطبائع التي لها تعلّقٌ مّا بالمادّة.

وغرضهم من عقد هذا البحث بيان أنّ الممكن ليس مُرخَى العنان فيما يلحق

__________________

(١) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

(٢) راجع الفصل الثالث من المرحلة الثامنة.

(٣) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.

٣٥٩

به من الصفات والآثار مستقلاّ عن الواجب (تعالى) فيما يتّصف به أو يفعل ، بل الأمر في ذلك إليه (تعالى) ، فلا يقع إلاّ ما قدّره. وهذا قريب المعنى من قولهم : «علّةُ علّةِ الشيء علّةٌ لذلك الشيء».

كما أنّ غرضهم من بحث القضاء بيان أنّ الممكن لا يقع إلاّ بوجوب غيريّ ينتهي إليه (تعالى) في علْم سابق ، وهو قريب المعنى من قولهم : «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

الفصل الثالث عشر

في قدرته (تعالى)

إنّ من المعاني التي نعدّها من الكمالات الوجوديّة القدرة ، ولا تكون إلاّ في الفعل دون الإنفعال ، فلا نعدّ إنفعال الشيء عن غيره ـ شديداً كان أو ضعيفاً ـ قدرةً؛ ولا في كلِّ فعل ، بل في الفعل الذي لفاعله علْمٌ به ، فلا نسمّي مبدئيّة الفواعل الطبيعيّة العادمة للشهور قدرةً لها ، ولا في كلِّ فعل لفاعله علْمٌ به ، بل في الفعل العلميّ الذي يبعث العلم به فاعِلَهُ على الفعل ، فليست مبدئيّة الإنسان ـ مثلا ـ لأفعاله الطبيعيّة البدنيّة قدرةً ، وإن كان له علْمٌ بها ، بل الفعل الذي يعلم الفاعل أنّه خيرٌ له من حيث إنّه هذا الفاعل بأن يتصوّره ويصدّق أنّه خيرٌ له من حيث إنّه هذا الفاعل.

ولازِمُ العلم بكون الفعل خيراً للفاعل أن يكون كمالا له يقتضيه بنفسه ، فإنّ خيرَ كلِّ نوع هو الكمال المترتّب عليه والطبيعة النوعيّة هي المبدأ المقتضي له ، وإذا فرض أنّه عالم بكونه خيراً له وكمالا يقتضيه انبعث الفاعل إليه بذاته لا بايجاب مقتض غيره وتحميله عليه ، فلا قدرة مع الإجبار ، والقادر مختارٌ ـ بمعنى أنّ الفعل إنّما يتعيّن له بتعيين منه لا بتعيين من غيره ـ.

ثمّ إذا تمّ العلم بكون الفعل خيراً أعقب ذلك شوقاً من الفاعل إلى الفعل ، فالخير محبوبٌ مطلقاً مشتاقٌ إليه إذا فقد ، وهذا الشوق كيفيّة نفسانيّة غير العلم السابق قطعاً ، وأعقب ذلك الإرادة ، وهي كيفيّة نفسانيّة غير العلم السابق وغير الشوق

٣٦٠