نهاية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-005-8
الصفحات: ٤٣٢

«الإنسان نوعٌ» و «الحيوان جنسٌ». ومنها ما له مطابَقٌ يطابقه لكنّه غيرُ موجود في الخارج ولا في الذهن ، كما في قولنا : «عدم العلّة علّةٌ لعدم المعلول» و «العدم باطلُ الذات» ، إذ العدم لا تحقّق له في خارج ولا في ذهن ، ولا لأحكامه وآثاره. وهذا النوع من القضايا تعتبر مطابقته لنفس الأمر ، فإنّ العقل إذا صدّق كونَ وجود العلّة علّةً لوجود المعلول إضطّر إلى تصديق أنّه ينتفي إذا إنتفت علّته وهو كون عدمها علّةً لعدمه ، ولا مصداقٌ محقّقٌ للعدم في خارج ولا في ذهن ، إذ كلّ ما حَلَّ في واحد منهما فله وجود.

والذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى الأبحاث السابقة أنّ الأصيل هو الوجود الحقيقيّ ، وهو الوجود وله كلّ حكم حقيقي.

ثمّ لمّا كانت الماهيّات ظهورات الوجود للأذهان توسّع العقل توسّعاً إضطراريّاً بإعتبار الوجود لها وحمله عليها ، وصار مفهوم الوجود والثبوت يحمل على الوجود والماهيّة وأحكامهما جميعاً.

ثمّ توسّع العقل توسّعاً إضطراريّاً ثانياً بحمل مطلق الثبوت والتحقّق على كلّ مفهوم يضّطر إلى إعتباره بتبع الوجود أو الماهيّة كمفهوم العدم والماهيّه والقوّة والفعل ثمّ التصديق بأحكامها.

فالظرف الذي يفرضه العقل لمطلق الثبوت والتحقّق ـ بهذا المعنى الأخير ـ هو الذي نسمّيه «نفسَ الأمر» ويسع الصوادق من القضايا الذهنيّة والخارجيّة وما يصدّقه العقل ولا مطابَقَ له في ذهن أو خارج ، غير أنّ الاُمور النفس الأمريّة لوازمُ عقليّةٌ للماهيّات متقرّرةٌ بتقرّرِها.

وللكلام تتمّةٌ ستمرّ بك إن شاء الله تعالى (١).

وقيل (٢) : المراد بالأمر في نفس الأمر عالَمُ الأمر ، وهو عقلٌ كلّيٌّ فيه صور المعقولات جميعاً. والمراد بمطابقة القضيّة لنفس الأمر مطابقتها لما عنده من الصورة المعقولة.

__________________

(١) في الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) والقائل هو المحقّق الطوسي على ما في كشف المراد ص ٧٠. وتعرّض له أيضاً في شرح المقاصد ج ١ ص ٩٥ ، وشرح التجريد للقوشجي ص ٥٧ ، وشوارق الإلهام ص ١٢٣.

٢١

وفيه : أنّ الكلام منقولٌ إلى ما عنده من الصورة المعقولة ، وهي صورة معقولة تقتضي مطابَقاً فيما وراءها تُطابِقه.

وقيل (١) : المراد بنفس الأمر نفس الشيء ، فهو من وَضْع الظاهر موضعَ الضمير ، فكون العدم ـ مثلا ـ باطلُ الذات في نفس الأمر كونُهُ في نفسه كذلك.

وفيه : أنّ ما لا مطابَقَ له في خارج ولا في ذهن لا نفسيّةَ له حتّى يطابقه هو وأحكامه.

وثامناً : أنّ الشيئيّة مساوقةٌ للوجود ، فما لا وجودَ له لا شيئيّةَ له ، فالمعدوم من حيث هو معدوم ليس بشيء.

ونُسِبَ إلى المعتزلة (٢) أنّ للماهيّات الممكنة المعدومة شيئيّةً في العدم ، وأنّ بين الوجود والعدم واسطةً يسمّونها «الحال» ؛ وعرَّفوها بصفة الموجود التي ليست موجودةً ولا معدومةً كالضّاحكيّة والكاتبيّة للإنسان ، لكنّهم ينفون الواسطة بين النفي والإثبات ، فالمنفي هو المحال ، والثابت هو الواجب والممكن الموجود والممكن المعدوم ، والحال [هي] التي ليست بموجودة ولا معدومة.

وهذه دعاو يدفعها صريح العقل ، وهي بالإصطلاح أشبه منها بالنظرات العلميّة ، فالصفح عن البحث فيها أولى.

وتاسعاً : أنّ حقيقة الوجود بما هي حقيقةُ الوجود لا سببَ لها وراءها ـ أي إنّ هويّتَه العينيّةَ التي هي لذاتها أصيلةٌ موجودةٌ طاردةٌ للعدم ، لا تتوقّف في تحقّقها

__________________

(١) والقائل هو القوشجي في شرح التجريد ص ٥٦ حيث قال : «والمراد بنفس الأمر ما يفهم من قولنا : هذا الأمر كذا في نفسه أو ليس كذا ... على أنّ المراد بالأمر الشأن والشيء وبالنفس الذات».

(٢) كأبي يعقوب وأبي علي وابنه وأبي الحسن الخياط والبلخي وأبى عبدالله وابن عيّاش وعبدالجبار ، هكذا في أنوار الملكوت في شرح الياقوت ص ٤٩. ونُسِب إليهم في المحصّل ص ٨٥ ـ ٩١ ، والأسفار ج ١ ص ٧٥ ـ ٧٨ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ٩٥ ، وشرح المواقف ص ١٠٩ ، وقواعد المرام في علم الكلام ص ٤٩ ، والمقاومات ص ١٢٥ ـ ١٢٧ ، والمطارحات ص ٢٠٣ ـ ٢٠٩.

٢٢

على شيء خارج من هذه الحقيقة ـ سواءٌ كان سبباً تامّاً أو ناقصاً؛ وذلك لمكان أصالتها وبطلان ما وراءها. نعم لا بأس بتوقّف بعض مراتب هذه الحقيقة على بعض ، كتوقّف الوجود الإمكانيّ على الوجود الواجبيّ وتوقّف بعض الممكنات على بعض. ومن هنا يظهر أن لا مجرى لبرهان اللِمِّ في الفلسفة الإلهيّة الباحثة عن أحكام الموجود من حيث هو موجود(١).

وعاشراً : أنّ حقيقة الوجود حيث كانت عينَ حيثيّةِ ترتُّبِ الآثار كانت عينَ الخارجيّة ، فيمتنع أن تحلّ الذهن فتتبدّل ذهنيّةً لا تترتّب عليها الآثار ، لاستلزامه الإنقلاب المحال.

وأمّا الوجود الذهنيّ ـ الذي سيأتي إثباته إن شاء الله (٢) ـ فهو من حيث كونه يطّرد عن نفسِهِ العدمَ وجودٌ خارجيٌّ مترتّبٌ عليه الآثار ، وإنمّا يُعَدّ ذهنيّاً لا تترتّب عليه الآثار بقياسه إلى المصداق الخارجيّ الذي بحذائه.

فقد بان أنّ حقيقةَ الوجود لا صورة عقليّة لها كالماهيّات الموجودة في الخارج التي لها صورة عقليّة.

وبان أيضاً أنّ نسبة مفهوم الوجود إلى الوجودات الخارجيّة ليست نسبةَ الماهيّة الكلّيّة إلى أفرادها الخارجيّة.

وتبيّن بما تقدّم أيضاً أنّ المفهوم إنمّا تكون ماهيّة إذا كان لها فردٌ خارجيٌّ تُقوِّمه وتترتّب عليه آثارها.

الفصل الثالث

في أنّ الوجود حقيقة مشكّكة

لا ريب أنّ الهويّات العينيّة الخارجيّة تتّصف بالكثرة تارةً من جهة أنّ هذا

__________________

(١) وفيه : انّه ينافي كون المسائل الإلهيّة من الفلسفة فإنّ فيها يسلك من العلّة الى المعلول بأنّ أفعاله تعالى ، يثبت من طريق صفاته التي عين ذاته تعالى ، وهو برهان لمّي.

(٢) في المرحلة الثالثة.

٢٣

إنسان وذاك فرس وذلك شجر ونحو ذلك ، وتارةً بأنّ هذا بالفعل وذاك بالقوّة وهذا واحد وذاك كثير وهذا حادث وذاك قديم وهذا ممكن وذاك واجب وهكذا.

وقد ثبت بما أوردناه في الفصل السابق (١) أنّ الكثرة من الجهة الأُولى ـ وهي الكثرة الماهويّة ـ موجودةٌ في الخارج بعَرْضِ الوجود ، وأنّ الوجود متّصفٌ بها بعَرْضِ الماهيّة ، لمكان أصالة الوجود وإعتباريّة الماهيّة.

وأمّا الكثرة من الجهة الثانية فهي التي تعرض الوجود من جهة الإنقسامات الطارئة عليه نفسَه ، كإنقسامه إلى الواجب والممكن وإلى الواحد والكثير وإلى ما بالفعل وما بالقوّة ونحو ذلك ، وقد تقدّم في الفصل السابق (٢) أنّ الوجود بسيط وأنّه لا غير له.

ويستنتج من ذلك أنّ هذه الكثرة مقوّمةٌ للوجود ـ بمعنى أنّها فيه غير خارجة منه ـ ، وإلاّ كانت جزءاً منه ، ولا جزءَ للوجود ، أو حقيقةً خارجةً منه ولا خارجَ من الوجود.

فللوجود كثرةٌ في نفسِهِ ، فهل هناك جهةُ وحدة ترجع إليها هذه الكثرة من غير أن تبطل بالرجوع ، فتكون حقيقةُ الوجود كثيرةً في عين أنّها واحدةٌ ، وواحدةً في عين أنّها كثيرةٌ؛ وبتعبير آخر : حقيقةً مشكّكةً ذاتَ مراتب مختلفة يعود ما به الإمتياز في كلّ مرتبة إلى ما به الإشتراك ـ كما نُسب إلى الفهلويّين (٣) ـ ، أو لا جهةَ وحدة فيها ، فيعود الوجود حقائقَ متباينةً بتمام الذات ، يتميّز كلّ منها من غيره بتمام ذاته البسيطة لا بالجزء ولا بأمر خارجيٍّ ـ كما نُسب إلى المشّائين (٤) ـ؟

الحقّ أنّها حقيقةٌ واحدةٌ في عين أنّها كثيرةٌ (٥) ، لأنّا ننتزع من جميع مراتبها

__________________

(١) أي الفصل الثاني من هذه المرحلة.

(٢) في الفرع الثالث من الفروع المذكورة في الفصل الثاني.

(٣ و ٤) راجع شرح المنظومة ص ٢٢ ـ ٢٣ و ٤٣ ـ ٤٤ ، والأسفار ج ١ ص ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٥) إنّ الأقوال في حقيقة الوجود ثمانية :

الأوّل : ما ذهب إليه الأشاعرة ، وهو أنّ الوجود مشترك لفظيُّ مطلقاً أي في جميع ما يطلق عليه لفظ الوجود من الواجب والممكن بأقسامه.

٢٤

ومصاديقها مفهومَ الوجودِ العامِ الواحدِ البديهيّ ، ومن الممتنع إنتزاع مفهوم واحد من مصاديق كثيرة بما هي كثيرة غير راجعة إلى وحدة مّا.

ويتبيّن به أنّ الوجود حقيقةٌ مشكّكةٌ ذاتُ مراتب مختلفة ، كما مثّلوا (١) له بحقيقة النور على ما يتلقّاه الفهم الساذج أنّه حقيقةٌ واحدةٌ ذاتُ مراتب مختلفة في الشدّة والضعف ، فهناك نور قويّ ومتوسط وضعيف مثلا ، وليست المرتبة القويّة نوراً وشيئاً زائداً على النّوريّة ، ولا المرتبة الضعيفة تفقد من حقيقة النور شيئاً أو تختلط بالظلمة التي هي عدم النور ، بل لا تزيد كلّ واحدة من مراتبه المختلفة على حقيقة النور المشتركة شيئاً ، ولا تفقد منها شيئاً ، وإنّما هي النور في مرتبة خاصّة

__________________

الثاني : أنّ الوجود مشترك لفظيّ بين الواجب والممكن ومشترك معنويّ بين أقسام الممكن. كما ذهب إليه جماعة من المتأخرين.

الثالث : أنّ الوجود مشترك معنويّ في كلّ ما يطلق عليه ، وليس له فردٌ أصلا ، وتكثّرة انّما هو بالوجودات المضافة الى الماهيات المعبّرة عنها بالحصص. وهو مذهب جماعة من المتكلمين.

الرابع : أنّ الوجود مشترك معنويّ في كلّ ما يطلق عليه ، وله أفراد متعدّدة ، غاية الأمر واحد منها موجود خارجيّ وهو الواجب (تعالى) وما سواه اُمور خارجيّة غير قائمة بذاتها لا موجودات خارجيّة. وهذا ما ذهب اليه السيّد الشريف والمحقّق اللاهيجيّ.

الخامس : أنّ الوجود له فردٌ واحد في الخارج وراء الحصص ، وهذا الفرد هو الواجب (تعالى) وليس للممكنات وجودات اُخر وراء الحصص. فالوجود واحد والموجود كثير. وهو قول المحقّق الدواني ونسبه إلى ذوق المتألّهين.

السادس : أنّ الوجود له أفراد متعدّدة كلّها موجودة في الخارج بالأصالة ، وتلك الأفراد بسايط متباينة بتمام الذات غاية الأمر أنّها مشترك في مفهوم الوجود. وهو قول المشائين.

السابع : أنّ الوجودات بل الموجودات ليست متكثّرة في الحقيقة ، بل هنا موجود واحد هو الله (تعالى) قد تعدّدت شؤونه وتكثّرت أطواره. وهذا ما ذهب إليه الصوفية.

الثامن : أنّ للوجود أفراداً متعدّدة كلّها موجودة في الخارج والوجود فيها حقيقة واحدة متشكّكة ، واختلافها إنّما هو بالشدّة والضعف وغيرهما من أقسام التشكيك. وهذا ما نُسب إلى الفهلويّين ، واختاره صدر المتألّهين (قدس سره) ، وتبعه المصنّف (قدس سره).

وأمّا البحث عن كلّ واحد من هذه الأقوال يحتاج إلى رسالة خاصّة ، فتدبّر.

(١) راجع الأسفار : ج ١ ص ٤٩ و ٦٩ ـ ٧١ ، وشرح المنظومة ص ٢٢ ـ ٢٣.

٢٥

بسيطة لم تتألّف من أجزاء ولم ينضمّ إليها ضميمة ، وتمتاز من غيرها بنفس ذاتها التي هي النّوريّة المشتركة.

فالنور حقيقة واحدة بسيطة متكثّرة في عين وحدتِها ، ومتوحّدة في عين كثرتها ، كذلك الوجود حقيقة واحدة ذاتُ مراتب مختلفة بالشدّة والضعف والتقدّم والتأخّر والعلوّ والدنوّ وغيرها.

ويتفرّع على ما تقدّم اُمور :

الأمر الأوّل : أنّ التمايز بين مرتبة من مراتب الوجود ومرتبة اُخرى إنّما هو بنفس ذاتها البسيطة التي ما به الإشتراك فيها عين ما به الإمتياز ، ولا ينافيه مع ذلك أنّ ينسب العقلُ التمايزَ الوجوديّ إلى جهة الكثرة في الوجود دون جهة الوحدة ، ولا أن ينسب الإشتراكَ والسنخيّة إلى جهة الوحدة.

الأمر الثاني : أنّ بين مراتب الوجود إطلاقاً وتقييداً بقياس بعضها إلى بعض ، لمكان ما فيها من الإختلاف بالشدّة والضعف ونحو ذلك. وذلك أنّا إذا فرضنا مرتبتين من الوجود ضعيفةً وشديدةً ، وقع بينهما قياس وإضافة بالضرورة ، وكان من شأن المرتبة الضعيفة أنّها لا تشتمل على بعض مّا للمرتبة الشديدة من الكمال ، لكن ليس شيء من الكمال الذي في المرتبة الضعيفة إلاّ والمرتبة الشديدة واجدة له. فالمرتبة الضعيفة كالمؤلّفة من وجدان وفقدان ، فذاتها مقيّدةٌ بعدم بعض ما في المرتبة الشديدة من الكمال. وإن شئت فقل : «محدودةٌ». وأمّا المرتبة الشديدة فذاتها مطلقةٌ غيرُ محدودة بالنسبة إلى المرتبة الضعيفة.

وإذا فرضنا مرتبةً اُخرى فوق الشديدة ، كانت نسبةُ الشديدة إلى هذه التي فرضنا فوقها كنسبة التي دونها إليها ، وصارت الشديدة محدودةً بالنسبة إلى ما فوقها كما كانت مطلقةً بالنسبة إلى ما دونها. وعلى هذا القياس في المراتب الذاهبة إلى فوق حتّى تقف في مرتبة ليست فوقها مرتبةٌ ، فهي المطلقة من غير أن تكون محدودة إلاّ بأنّها لا حدَّ لها (١).

__________________

(١) ولمّا كان الحدّ في معنى السلب كان نفي الحدّ سلباً للسلب وهو الإيجاب ، فيؤول إلى محوضة الوجود وهو الصرافة ـ منه (رحمه الله) ـ.

٢٦

والأمر بالعكس ممّا ذكر إذا أخذنا مرتبةً ضعيفةً واعتبرناها مقيسةً إلى ما هي أضعف منها وهكذا حتّى ننتهي إلى مرتبة من الكمال والفعليّة ليس لها من الفعليّة إلاّ فعليّة أنْ لا فعليّةَ لها.

الأمر الثالث : تبيّن من جميع ما مرّ أنّ للمراتب المترتّبة من الوجود حدوداً غير أعلى المراتب ، فإنّها محدودةٌ بأنّها لا حدَّ لها.

وظاهرٌ أنّ هذه الحدود الملازمة للسلوب والأعدام والفقدانات التي نثبتها في مراتب الوجود ، وهي أصيلة وبسيطة ، إنّما هي من ضيق التعبير ، وإلاّ فالعدم نقيضُ الوجود ومن المستحيل أن يتخلّل في مراتب نقيضه.

وهذا المعنى ـ أعني دخول الأعدام في مراتب الوجود المحدودة وعدم دخولها المؤدّى إلى الصرافة ـ نوعٌ من البساطة والتركيب في الوجود ، غيرُ البساطة والتركيب المصطلح عليها في موارد اُخرى وهو البساطة والتركيب من جهة الأجزاء الخارجيّة أو العقليّة أو الوهميّة.

الأمر الرابع : أنّ المرتبة كلّما تنزّلت زادت حدودُها وضاق وجودُها (١) ، وكلّما عرجت وزادت قرباً من أعلى المراتب قلّت حدودُها واتّسع وجودُها حتّى يبلغ أعلى المراتب ، فهي مشتملةٌ على كلِّ كمال وجوديٍّ من غير تحديد ، ومطلقةٌ من غير نهاية.

الأمر الخامس : أنّ للوجود حاشيَتيْن من حيث الشدّة والضعف ، وهذا ما يقضي به القول بكون الوجود حقيقةً مشكّكةً.

الأمر السادس : أنّ للوجود بما لحقيقته من السعة والإنبساط تخصّصاً بحقيقته العينيّة البسيطة ، وتخصّصاً بمرتبة من مراتبه المختلفة البسيطة التي يرجع ما به الإمتياز فيها إلى ما به الإشتراك ، وتخصّصاً بالماهيّات المنبعثة عنه المحدِّدة له؛ ومن المعلوم أنّ التخصّص بأحد الوجهين الأوّلين ممّا يلحقه بالّذات ، وبالوجه الثالث أمرٌ يعرضه بعرض الماهيّات.

__________________

(١) المراد بسعة الوجود وضيقه اشتمال المرتبة على كمال أكثر أو أقلّ ـ منه (رحمه الله) ـ.

٢٧

الفصل الرابع

في شطر من أحكام العدم

قد تقدّم (١) أنّ العدم لا شيئيّة له ، فهو محضُ الهلاك والبطلان (٢).

وممّا يتفرّع عليه أن لا تمايزَ في العدم (٣) ، إذ التمايز بين شيئين إمّا بتمام الذات كالنوعين تحت مقولتين أو ببعض الذات كالنوعين تحت مقولة واحدة أو بما يعرض الذات كالفردين من نوع ، ولا ذات للعدم.

نعم ، ربّما يضاف العدم إلى الوجود ، فيحصل له حظٌّ من الوجود ويتبعه نوعٌ من التمايز ، كعدم البصر الذي هو العمى ، والمتميَّز من عدم السمع الذي هو الصَمَم ، وكعدم زيد وعدم عمرو المتميَّز أحدُهما من الآخر.

وبهذا الطريق ينسب العقلُ إلى العدم العليّةَ والمعلوليّةَ حذاءَ ما للوجود من ذلك ، فيقال : «عدم العلّة علّة لعدم المعلول» حيث يضيف العدم إلى العلّة والمعلول فيتميّز العدمان ، ثمّ يبنى عدم المعلول على عدم العلّة كما كان يتوقّف وجود المعلول على وجود العلّة (٤) ، وذلك نوعٌ من التجوّز (٥) ، حقيقته الإشارة إلى ما بين الوجودين من التوقّف (٦).

ونظير العدمِ المضاف العدمُ المقيّد بأيِّ قيد يقيّده كالعدم الذاتي والعدم الزّماني والعدم الأزلي. ففي جميع ذلك يتصوّر مفهوم العدم ويفرض له مصداق على حدّ سائر المفاهيم ، ثمّ يقيّد المفهوم فيتميّز المصداق ، ثمّ يحكم على المصداق على ما

__________________

(١) في الفرع الثامن من الفروع المذكورة في الفصل الثاني.

(٢) راجع الأسفار ج ١ ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، وكشف المراد ص ٢٩ ـ ٣٠.

(٣) راجع الأسفار ج ١ ص ٣٤٨ ، وشرح المنظومة ص ٤٧. خلافاً للمحقّق الطوسيّ حيث ذهب إلى تمايز الأعدام ، فراجع كشف المراد ص ٤٣ ، وشوارق الإلهام ص ٦٦ ـ ٦٧.

(٤) هذا أوّل الوجوه التي استدلّ المحقّق الطوسيّ بها على تمايُز الأعدام ، فراجع كشف المراد ص ٤٣ ، وشوارق الإلهام ص ٦٦ ـ ٦٧.

(٥) كما في شرح المنظومة ص ٤٨.

(٦) وأجاب عنه أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٣٥٠ ـ ٣٥١.

٢٨

له من الثبوت المفروض بما يقتضيه من الحكم ، كاعتبار عدم العدم قبالَ العدم ، نظير اعتبار العدم المقابل للوجود قبالَ الوجود.

وبذلك يندفع الاشكال (١) في اعتبار عدم العدم بأنّ العدم المضاف إلى العدم نوعٌ من العدم ، وهو بما أنّه رافع للعدم المضاف إليه يقابله تقابلَ التناقض ، والنوعيّة والتقابل لا يجتمعان البَتّة.

وجه الإندفاع ـ كما أفاده صدر المتألّهين (٢) (رحمه الله) ـ أنّ الجهة مختلفة ، فعدمُ العدم بما أنّه مفهومٌ أخصّ من مطلق العدم مأخوذٌ فيه العدم ، نوعٌ من العدم ، وبما أنّ للعدم المضاف إليه ثبوتاً مفروضاً يرفعه العدم المضاف رفعَ النقيض للنقيض يقابله العدمُ المضاف.

وبمثل ذلك يندفع ما اُورِد (٣) على قولهم : «المعدوم المطلق لا يخبر عنه» (٤) ، بأنّ القضيّة تناقض نفسها ، فإنّها تدلّ على عدم الإخبار عن المعدوم المطلق ، وهذا بعينه خبرٌ عنه.

ويندفع (٥) بأنّ المعدوم المطلق بما أنّه بطلانٌ محضٌ في الواقع لا خبرَ عنه ، وبما أنّ لمفهومه ثبوتاً مّا ذهنيّاً يُخبرَ عنه بأنّه لا يُخبَر عنه فالجهتان مختلفتان.

وبتعبير آخر : المعدوم المطلق بالحمل الشائع لا يُخبَر عنه ، وبالحمل الاُوّليّ يُخبَر عنه بأنّه لا يُخبَر عنه.

__________________

(١) هذا الاشكال تعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٣٥٢.

(٢) راجع الأسفار ج ١ ص ٣٥٢.

(٣) أورده عليه الكاتبي في حكمة العين ، فراجع ايضاح المقاصد في شرح حكمة عين القواعد ص ٢٧. وتعرّض له أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٢٣٩ و ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، وفي شرح المطالع ص ١٣٤ ، وشرح المنظومة ص ٥١ ، وكشف المراد ص ٦٨ ، وشوارق الإلهام ص ١٢١ ، وشرح التجريد للقوشجي ص ٥٥ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ٩٢.

(٤) كذا قال الشيخ الرئيس في الفصل الخامس من المقالة الاُولى من الفنّ الخامس من منطق الشفاء.

(٥) راجع ايضاح المقاصد ص ٢٨ ، والأسفار ج ١ ص ٢٣٩ و ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، وشرح المنظومة ص ٥٢. وأجاب عنه أيضاً في شرح المطالع ص ١٣٤ ، وشرح التجريد للقوشجي ص ٥٥ ، وكشف المراد ص ٦٨ ، وشوارق الإلهام ص ١٢١.

٢٩

وبمثل ما تقدّم أيضاً يندفع الشبهة (١) عن عدّة من القضايا تُوهَم التناقضَ؛ كقولنا : «الجزئيّ جزئيٌّ» وهو بعينه كلّيٌّ يصدق على كثيرين.

وقولنا : «إجتماع النقيضين ممتنعٌ» وهو بعينه ممكنٌ موجودٌ في الذهن ، وقولنا : «الشيء إمّا ثابتٌ في الذهن أو لا ثابتٌ فيه» واللا ثابتٌ في الذهن ثابتٌ فيه ، لأنّه معقولٌ موجودٌ بوجود ذهني.

فالجزئيّ جزئيٌ بالحمل الأوّليّ ، كلّيٌ صادقٌ على كثيرين بالحمل الشائع؛ وإجتماع النقيضين ممكنٌ بالحمل الأوّليّ ، ممتنعٌ بالحمل الشائع؛ واللا ثابت في الذهن لا ثابتٌ فيه بالحمل الأوّليّ ، ثابتٌ فيه بالحمل الشائع.

الفصل الخامس

في أنّه لا تكرُرَ في الوجود (٢)

كلّ موجود في الأعيان فإنّ هويتّه العينيّة وجودُه على ما تقدّم (٣) ـ من أصالة الوجود ـ والهويّة العينيّة تأبى بذاته الصدق على كثيرين ، وهو التشخّص ، فالشخصيّه للوجود بذاته.

فلو فرض لموجود وجودان كانت هويّته العينيّة الواحدة كثيرةً وهي واحدة ، هذا محالٌ (٤).

وبمثل البيان يتبيّن إستحالة وجود مثلًيْن من جميع الجهات ، لأنّ لازِمَ فرْض مثلًيْن إثنين التمايزُ بينهما بالضرورة ، ولازِمَ فرْض التماثل من كلِّ جهة عدمُ التمايز بينهما ، وفي ذلك اجتماع النقيضين ، هذا محالٌ.

وبالجملة من الممتنع أن يوجَد موجودٌ واحدٌ بأكثر من وجود واحد ، سواءٌ كان الوجودان ـ مثلا ـ واقعين في زمان واحد من غير تخلّل العدم بينهما أو

__________________

(١) تعرّض لها صدر المتألّهين الأسفار : ج ١ ص ٢٩٢ ـ ٢٩٤ ، والحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) وهو المراد بقولهم : «لا تكرار في التجلّي».

(٣) في الفصل الثاني من هذه المرحلة في المتن.

(٤) هكذا في الأسفار ج ١ ص ٣٥٣.

٣٠

منفصلين يتخلّل العدم بينهما. فالمحذور ـ وهو لزوم العينيّة مع فرض الإثنينيّة في الصورتين ـ سواءٌ.

والقول (١) بـ «أنّ الوجود الثاني متميّزٌ من الأوّل بأنّه مسبوقٌ بالعدم بعدَ الوجود بخلاف الأوّل ، وهذا كاف في تصحيح الإثنينيّة ، وغير مضرٍّ بالعينيّة لأنّه تُميّز بعدم».

مردودٌ بأنّ العدم بطلانٌ محضٌ لا كثرةَ فيه ولا تميّزَ ، وليس فيه ذات متّصفةٌ بالعدم يلحقها وجودٌ بعد ارتفاع وصفه.

فقد تقدّم (٢) أنّ ذلك كلّه اعتبارٌ عقلي بمعونة الوهم الذي يضيف العدم إلى الملكة ، فيتعدّد العدم ويتكثّر بتكثّر الملكات.

وحقيقةُ كون الشيء مسبوقَ الوجود بعدم وملحوقَ الوجود به ـ وبالجملة إحاطةُ العدم به من قبلُ ومن بعدُ ـ إختصاصُ وجودِهِ بظرف من ظروفِ الواقع وقصورُهُ عن الإنبساط على سائر الظروف من الأعيان ، لا أنّ للشيء وجوداً واقعيّاً في ظرف من ظروفِ الواقع وللعدم تقرّرٌ واقعٌ منبسطٌ على سائر الظروف ربّما ورد على الوجود فدفعه عن مستقرّه واستقرّ هو فيه ، فإنّ فيه إعطاء الأصالة للعدم واجتماع النقيضين.

والحاصل أنّ تميُّزَ الوجود الثاني تميُّزٌ وهميٌّ لا يوجب تميّزاً حقيقيّاً ، ولو أوجَبَ ذلك أوجَبَ البينونة بين الوجودين وبطلت العينيّة.

والقولُ بـ «أنّه لِمَ لا يجوز أن يوجِد الموجِد شيئاً ، ثمّ يعدم وله بشخصه صورةٌ علميّةٌ عنده أو عند بعض المبادئ العالية ، ثمّ يوجد ثانياً على ما علم ، فيستحفظ الوحدة والعينيّة بين الوجودين بالصورة العلميّة؟» يدفعُه أنّ الوجود الثاني كيفما فُرِضَ وجودٌ بعد وجود ، وغيريّته وبينونته للوجود الأوّل بما أنّه بعدَه ضروريٌّ ، ولا تجتمع العينيّة والغيريّة البتّةَ.

وهذا الذي تقرّر ـ من إستحالة تكرّر الوجود لشيء مع تخلّل العدم ـ هو المراد

__________________

(١) تعرّض له وللاجابة عليه في الأسفار ج ١ ص ٣٥٩.

(٢) في الفصل السابق.

٣١

بقولهم : «إنّ إعادة المعدوم بعينه ممتنعة» (١). وقد عدّ الشيخ إمتناع إعادة المعدوم بعينه ضروريّاً (٢).

وقد أقاموا على ذلك حججاً(٣) هي تنبيهات بناءً على ضروريّة المسألة :

ومنها : أنّه لو جاز للموجود في زمان أن ينعدم زماناً ثمّ يوجَد بعينه في زمان آخر ، لَزِمَ تخلّل العدم بين الشيء ونفسه ، وهو محالٌ ، لاستلزامه وجود الشيء في زمانين بينهما عدمٌ متخلّل.

ومنها : أنّه لو جازت إعادة الشيء بعينه بعد إنعدامه جاز إيجاد ما يماثله من جميع الوجوه إبتداءً ، وهو محالٌ.

أمّا الملازمة : فلأنّ الشيء المُعاد بعينه وما يماثله من جميع الوجوه مثلان ، وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحدٌ.

فلو جاز إيجاده بعينه ثانياً بنحو الإعادة جاز إيجاد مثله إبتداءً.

وأمّا إستحالة اللازم : فلاستلزام اجتماع المثلين في الوجود عدَمَ التميّز بينهما ، وهما إثنان متمايزان.

ومنها : أنّ إعادة المعدوم بعينه توجب كون المُعاد هو المبتدأ ، لأنّ فرض العينيّة يوجب كون المُعاد هو المبتدأ ذاتاً وفي جميع الخصوصيّات المشخّصة حتّى الزمان ، فيعود المُعاد مبتدأً وحيثيّة الإعادة عين حيثيّه الإبتداء.

ومنها : أنّه لو جازت الإعادة لم يكن عدد العَوْد بالغاً حدّاً معيّناً يقف عليه ، إذ لا فرق بين العودة الاُولى والثانية والثالثة وهكذا إلى ما لا نهاية له. كما لم يكن

__________________

(١) وذهب إليه الحكماء ، وجماعة من المتكلّمين ، ومنهم بعض الكراميّة وأبو الحسين البصريّ ومحمود الخوارزميّ من المعتزلة ، خلافاً للأشاعرة ومشايخ المعتزلة فإنّ إعادة المعدوم جائزة عندهم. راجع شرح المواقف ص ٥٧٩ ، وشرح التجريد للقوشجي ص ٦٠ ـ ٦٣ وقواعد المرام في علم الكلام ص ١٤٧.

(٢) راجع الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء. واستحسنه فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٤٨.

(٣) راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٤٧ ـ ٤٨ ، والأسفار ج ١ ص ٣٥٣ ـ ٣٦٤ ، وشرح المنظومة ص ٤٨ ـ ٥١ ، وكشف المراد ص ٧٥ ، وشوارق الإلهام ص ١٢٢ ، وشرح التجريد للقوشجي ص ٦٠ ـ ٦٥.

٣٢

فرق بين المُعاد والمبتدأ ، وتعيّن العدد من لوازم وجود الشيء المتشخّص.

وذهب جمعٌ من المتكلّمين (١) ـ نظراً إلى أنّ المَعاد الذي نطقَتْ به الشرائع الحقّة إعادةٌ للمعدوم (٢) ـ إلى جواز الإعادة.

واستدلّوا عليه بأنّه لو امتنعَتْ إعادة المعدوم بعينه لكان ذلك إمّا لماهيّته أو لأمر لازم لماهيّته ، ولو كان كذلك لم يوجد ابتداءً ، أو لأمر مفارق فيزول الإمتناع بزواله.

ورُدَّ (٣) بأنّ الإمتناع لأمر لازم لوجوده لا لماهيّته (٤).

وأمّا ما نطقَتْ به الشرائع الحقّة فالحشر والمعاد إنتقالٌ من نشأة إلى نشأة اُخرى وليس إيجاداً بعد الإعدام.

__________________

(١) منهم صاحب المواقف وشارحه في شرح المواقف ص ٥٧٩ ، والعلاّمة التفتازانيّ في شرح المقاصد ج ٢ ص ٢٠٧ ـ ٢١٠. وقال ابن ميثم في قواعد المرام ص ١٤٧ : «واتّفقت جملة مشائخ المعتزلة على أنّ إعادته ممكنة ...». وقال صدر المتألّهين في الأسفار ج ١ ص ٣٦١ : «القائلون بجواز إعادة المعدومات جمهور أهل الكلام المخالفين لكافّة الحكماء في ذلك ...».

(٢) هكذا في الأسفار : ج ١ ص ٣٦١.

(٣) ردّه المحقّق الطوسيّ في تجريد الاعتقاد ، فراجع كشف المراد ص ٧٥ ، وشرح التجريد للقوشجي ص ٦٣ ، وشوارق الإلهام ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٤) أي الحكم بالإمتناع انّما هو لأمر لازم لماهيّة المعدوم بعد الوجود. راجع كشف المرادص ٧٥ ، وشوارق الإلهام ص ١٣٠ ـ ١٣١.

٣٣

٣٤

المرحلة الثانية

في الوجود المستقلّ والرابط

وفيها ثلاثة فصول

٣٥
٣٦

الفصل الأوّل

في انقسام الوجود إلى المستقل والرابط

ينقسم الموجود إلى ما وجوده في نفسه ونسمّيه : «الوجود المستقلّ والمحموليّ»(١) أو «النفسيّ»(٢) ، وما وجوده في غيره ونسمّيه «الوجود الرابط»(٣).

وذلك أنّ هناك قضايا خارجيّةً تنطبق بموضوعاتها ومحمولاتها على الخارج ، كقولنا : «زيد قائم» و «الإنسان ضاحك» مثلا ، وأيضاً مركّبات تقييديّةً مأخوذة من هذه القضايا ، كقيام زيد وضحك الإنسان ، نجد فيها بين أطرافها ـ من الأمر الذي نسمّيه نسبةً وربطاً ـ ما لا نجده في الموضوع وحده ولا في المحمول وحده ولا بين الموضوع وغير المحمول ولا بين المحمول وغير الموضوع ، فهناك أمر موجود وراءَ الموضوع والمحمول.

__________________

(١) لأنّه يقع محمولا في الهليّات البسيطة كقولنا : «الإنسان موجود».

(٢) لأنّه وجودٌ في نفسه.

(٣) قال الحكيم السبزواري : «ويقال له في المشهور الوجود الرابطيّ. والأولى على ما في المتن أن يسمّى بالوجود الرّابط على ما اصطلّح السيّد المحقّق الداماد في الاُفق المبين وصدر المتألّهين في الأسفار ، ليفرق بينه وبين وجود الأعراض حيث اطلقوا عليه الوجود الرابطيّ». راجع شرح المنظومة ص ٦١ ـ ٦٢.

٣٧

وليس منفصلَ الذّات عن الطرفَيْن بحيث يكون ثالثَهما ومفارقاً لهما كمفارقة أحدهما الآخر ، وإلاّ احتاج إلى رابط يربطه بالموضوع ورابط آخر يربطه بالمحمول ، فكان المفروضُ ثلاثةٌ خمسةً ، واحتاج الخمسة إلى أربعة روابط اُخَر وصارت تسعةً وهلّم جرّاً ، فتسلسل أجزاء القضية أو المركّب إلى غير النهاية ، وهي محصورة بين حاصرَيْن ، هذا محالٌ.

فهو إذن موجودٌ في الطرفَيْن قائمٌ بهما ، بمعنى ما ليس بخارج منهما من غير أن يكون عينَهما أو جزءَ هما أو عينَ أحدهما أو جزءه ، ولا أن ينفصل منهما؛ والطرفان اللذان وجوده (١) فيهما هما (٢) بخلافه.

فثبت أنّ من الموجود ما وجوده في نفسه وهو «المستقلّ» ، ومنه ما وجوده في غيره وهو «الرابط».

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ معنى توسّط النسبة بين الطرفَيْن كونُ وجودِها قائماً بالطرفَيْن رابطاً بينهما.

ويتفرّع عليه اُمور :

الأوّل : أنّ الوعاء الذي يتحقّق فيه الوجود الرابط هو الوعاء الذي يتحقّق فيه وجود طرفَيْه ، سواءٌ كان الوعاء المذكور هو الخارج أو الذهن؛ وذلك لما في طباع الوجود الرابط من كونه غيرَ خارج من وجود طرفَيْه؛ فوعاء وجود كلّ منهما هو بعينه وعاء وجوده ، فالنسبة الخارجيّة إنّما تتحقّق بين طرفَيْن خارجيَّين ، والنسبة الذهنيّة إنّما بين طرفَيْن ذهنيَّيْن.

والضابط أنّ وجود الطرفَيْن مسانخ لوجود النسبة الدائرة بينهما وبالعكس.

الثاني : أنّ تحقُقَ الوجود الرابط بين الطرفَيْن يوجب نحواً من الإتّحاد الوجوديّ بينهما؛ وذلك لِما أنّه متحقّقٌ فيهما غيرُ متميّزِ الذّات منهما ، ولا خارج منهما. فوحدته الشخصيّة تقضي بنحو من الإتّحاد بينهما ، سواءٌ كان هناك حمْلٌ كما في القضايا أو لم يكن كغيرها من المركّبات؛ فجميع هذه الموارد لا يخلو من ضرب من الإتّحاد.

__________________

(١) أي وجود الرابط.

(٢) أي الطرفان.

٣٨

الثالث : أنّ القضايا المشتملة على الحمل الأوّليّ ، كقولنا : «الإنسان إنسان» ، لا رابطَ فيها إلاّ بحسب الاعتبار الذهنيّ فقط.

وكذا الهليّات البسيطة ، كقولنا : «الإنسان موجود» ، إذ لا معنى لتحقّقِ النسبةِ الرابطةِ بين الشيء ونفسه.

الرابع : أنّ العدم لا يتحقّق منه رابطٌ ، إذ لا شيئيّةَ له ولا تمّيُزَ فيه.

ولازِمُهُ أنّ القضايا الموجبة التي أحد طرفَيْها أو كلاهما العدم كقولنا : «زيد معدوم» و «شريك البارئ معدوم» لا عدمَ رابطاً فيها ، إذ لا معنى لقيام عدم بعدمَيْن أو بوجود وعدم ، ولا شيئيّة له ولا تميّزَ فيه ، اللهمّ إلاّ بحسب الاعتبار الذهنيّ.

ونظيرتها القضايا السالبة ، كقولنا : «ليس الإنسان بحجر» ، فلا عدمَ رابطاً فيها إلاّ بحسب الاعتبار الذهنيّ.

الخامس : أنّ الوجودات الرابطة لاماهيّةَ لها ، لأنّ الماهيّات هي المقولة في جواب ما هو ، فهي مستقلّة بالمفهوميّة ، والوجودات الرابطة لا مفهوم لها مستقلاّ بالمفهوميّة.

الفصل الثاني

في كيفيّة اختلاف الوجود الرابط والمستقلّ

هل الإختلاف بين الوجود المستقلّ والرابط إختلافٌ نوعيٌّ أو لا؟ بمعنى أنّ الوجود الرابط وهو ذو معنى تعلّقيٍّ هل يجوز أن ينسلخ عن هذا الشأن فيعود معنى مستقلاّ بتوجيه الإلتفات إليه مستقلاّ بعد ما كان ذا معنى حرفيٍّ أو لا يجوز؟الحقّ هو الثاني (١) ، لما سيأتي في أبحاث العلّة والمعلول (٢) أنّ حاجةَ المعلول إلى العلّة مستقرّة في ذاته؛ ولازِمُ ذلك أن يكون عينَ الحاجة وقائم الذّات بوجود العلّة لا استقلالَ له دونها بوجه؛ ومقتضى ذلك أن يكون وجود كلّ معلول ـ سواءٌ

__________________

(١) كما في الأسفار ج ١ ص ٨٢ ، وشرح المنظومة ص ٦٢.

(٢) راجع الفصل الخامس من المرحلة الثامنة.

٣٩

كان جوهراً أو عرضاً ـ موجوداً في نفسه رابطاً بالنظر إلى علّته ، وإن كان بالنظر إلى نفسه وبمقايسة بعضه إلى بعض جوهراً أو عرضاً موجوداً في نفسه. فتقرّر أنّ اختلاف الوجود الرابط والمستقلّ ليس اختلافاً نوعيّاً بأن لا يقبل المفهومُ غيرُ المستقلّ الذي ينتزع من الرابط المتبدَّلَ إلى المفهوم المستقلّ المنتزع من المستقلّ.

ويتفرّع على ما تقدّم اُمور :

الأوّل : أنّ المفهوم في استقلاله بالمفهوميّة وعدم استقلاله تابعٌ لوجوده الذي ينتزع منه ، وليس له من نفسه إلاّ الإبهام.

فحدود الجواهر والأعراض ماهيّاتٌ جوهريّةٌ وعرضيّةٌ بقياس بعضها إلى بعض وبالنظر إلى أنفسها ، وروابُط وجوديّةٌ بقياسها إلى المبدأ الأوّل (تبارك وتعالى) ؛ وهي في أنفسها مع قطع النظر عن وجودها لا مستقلّة ولا رابطة.

الثاني : أنّ من الوجودات الرابطة ما يقوم بطرف واحد كوجود المعلول بالقياس إلى علّته ، كما أنّ منها ما يقوم بطرفَيْن كوجودات سائر النسب والإضافات.

الثالث : أن نشأة الوجود لا تتضمّن إلاّ وجوداً واحداً مستقلاّ هو الواجب (عَزَّ إسمه) ، والباقي روابطُ ونسبٌ وإضافاتٌ.

الفصل الثالث

في إنقسام الوجود في نفسه إلى ما لنفسه وما لغيره

ينقسم الموجود في نفسه إلى ما وجوده لنفسه وما وجوده لغيره.

والمراد بكون وجود الشيء لغيره أن يكون وجوده في نفسه ـ وهو الوجود الذي يطرد عن ماهيّتِهِ العدمَ ـ هو بعينه طارداً للعدم عن شيء آخر ، لا لعدم ماهيّة ذلك الشيء الآخر وذاته ، وإلاّ كانت لموجود واحد ماهيّتان ، وهو محال ، بل لعدم زائد على ماهيّته وذاته ، له نوع من المقارنة له كالعلم الذي يطرد بوجوده العدمَ عن ماهيّة

٤٠