نهاية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-005-8
الصفحات: ٤٣٢

هما المادّة والصورة مأخوذَتْين لا بشرط؛ على أنّ الماهيّة الواحدة لو تركّبت من أجزاء غير متناهية ، استحال تعقّلها ، وهو باطل.

الفصل السادس

في العلّة الفاعليّة

قد تقدّم (١) أنّ الماهيّة الممكنة في تلبّسها بالوجود تحتاج إلى مرجِّح لوجودها ، ولا يرتاب العقل أنّ لمرجِّح الوجود شأناً بالنسبة إلى الوجود غير ما للماهيّة من الشأن بالنسبة إليه.

فللمرجِّح أو بعض أجزائه بالنسبة إليه شأنٌ شبيهٌ بالإعطاء ، نسمّيه : «فعلا» أو ما يفيد معناه ، وللماهيّة شأنٌ شبيهٌ بالأخذ ، نسمّيه : «قبولا» أو ما يفيد معناه.

ومن المحال أن تتّصف الماهيّة بشأن المرجِّح ، وإلاّ لم تحتج إلى مرجِّح ، أو يتّصف المرجِّح بشأن الماهيّة ، وإلاّ لزم الخلف.

ومن المحال أيضاً أن يتّحد الشأنان ، فالشأنُ الذي هو القبول يلازم الفقدانَ ، والشأنُ الذي هو الفعل يلازم الوجدانَ.

وهذا المعنى واضحٌ في الحوادث الواقعة التي نشاهدها في نشأة المادّة ، فإنّ فيها عِلَلا تُحرِّك المادّةَ نحو صوَر هي فاقدة لها ، فتقبلها وتتصوّر بها ، ولو كانت واجدةً لها لم تكن لتقبِلها وهي واجدةٌ ، فالقبولُ يلازم الفقدانَ ، والذي للعِلَل هو الفعلُ المناسبُ لذاتها الملازمُ للوجدان.

فالحادث المادّيّ يتوقّف في وجوده إلى علّة تفعله نسمّيها : «علّةً فاعليّةً» ، وإلى علّة تقبله ونسمّيها : «العلّة المادّيّة» ، وسيأتي (٢) إثبات أنّ في الوجود ماهيّاتٌ ممكنةٌ مجرّدةٌ عن المادّة ، وهي لإمكانها تحتاج إلى علّة مرجِّحة ، ولتجرُّدها مستغنيةٌ عن العلّة المادّيّة ، فلها أيضاً علّة فاعليّة.

__________________

(١) في ابتداء الفصل الأوّل من هذه المرحلة والفصل الأوّل من المرحلة الخامسة.

(٢) في الفصل الرابع عشر من هذه المرحلة.

٢٢١

فلا غِنى لوجود ممكن ـ سواء كان مادّياً أو مجرّداً ـ عن العلّة الفاعليّة. فمَنْ رام قَصْرَ العِلَل في العلّة المادّيّة ونفيَ العلّة الفاعليّة فقد رام إثباتَ فعل لا فاعلَ له ، فاستسمنَ ذا ورم.

الفصل السابع

في أقسام العلّة الفاعليّة

ذكروا للفاعل أقساماً (١) ، أنهاها بعضهم إلى ثمانية (٢). ووجهُ ضَبْطِها على ما ذكروا (٣) أنّ الفاعل إمّا أن يكون له عِلْمٌ بفعله ذو دَخْل في الفعل أو لا ، والثاني إمّا أن يلائم فعْلُه طبْعَه وهو «الفاعل بالطبع» أو لا يلائم فعْلُه طبْعَه وهو «الفاعل بالقسر». والأوّل ـ أعني الذي له عِلْمٌ بفعله ذو دَخْل فيه ـ إمّا أن لا يكون فعله بإرادته وهو «الفاعل بالجبر» ، أو يكون فعله بإرادته ، وحينئذ إمّا أن يكون علمه بفعله في مرتبة فعله بل عين فعله وهو «الفاعل بالرضا» ، وإمّا أن يكون علمه بفعله قبل فعله؛ وحينئذ إمّا أن يكون علمه بفعله مقروناً بداع زائد على ذاته وهو «الفاعل بالقصد» ، وإمّا أن لا يكون مقروناً بداع زائد بل يكون نفس العلم منشأ لصدور المعلول ، وحينئذ فإمّا أن يكون علمه زائداً على ذاته وهو «الفاعل بالعناية» ، أو غير زائد وهو «الفاعل بالتجلّي» ، والفاعل ـ كيف فرض ـ إن كان هو وفعله المنسوب إليه فعلا لفاعل آخر كان «فاعلا بالتسخير».

فللعلّة الفاعليّة ثمانية أقسام :

الأوّل : الفاعل بالطبع ، وهو الذي لا عِلْمَ له بفعله مع كون الفعل ملائماً لطبْعِهِ ،

__________________

(١) وقد ذكر صدر المتألّهين للفاعل ستّة أقسام. راجع الأسفار ج ٢ ص ٢٢٠ ـ ٢٢٥ ، والمبدأ والمعاد ص ١٣٣ ـ ١٣٥.

(٢) ومراده من قوله : «بعضهم» ، هو الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص ١١٧ ، وتعليقته على الأسفار ج ٢ ص ٢٢٢.

(٣) راجع شرح المنظومة ص ١١٧ ـ ١١٩ ، وتعليقة الأسفار ج ٢ ص ٢٢٢.

٢٢٢

كالنفس في مرتبة القوى الطبيعيّة البدنيّة ، فهي تفعل أفعالها بالطبع.

الثاني : الفاعل بالقسر ، وهو الذي لا عِلْمَ له بفعله ولا فعله ملائمٌ لطبعه ، كالنفس في مرتبة القوى الطبيعيّة البدنيّة عند انحرافها لمرض ، فإنّ الأفعال عندئذ تنحرف عن مجرى الصحّة لعوامل قاسرة.

الثالث : الفاعل بالجبر ، وهو الذي له علم بفعله وليس بإرادته ، كالإنسان يُكْرَه على فعْلِ ما لا يريده.

الرابع : الفاعل بالرّضا ، وهو الذي له إرادةٌ لفعله عن علْم ، وعلْمُهُ التفصيليّ بفعله عينُ فعله ، وليس له قبل الفعل إلاّ علمٌ إجماليٌّ به بعلمه بذاته المستتبع لعلمه الإجماليّ بمعلوله ، كالإنسان يفعل الصور الخياليّة وعلمه التفصيليّ بها عينُ تلك الصور وله قبلها علْمٌ إجماليٌّ بها لعلمه بذاته الفعّالة لها ، وكفاعليّة الواجب (تعالى) للأشياء عند الإشراقيّين (١).

الخامس : الفاعل بالقصد ، وهو الذي له علْمٌ وإرادة ، وعلْمُه بفعله تفصيليٌّ قبل الفعل بداع زائد ، كالإنسان في أفعاله الإختياريّة ، وكالواجب عند جمهور المتكلّمين (٢).

السادس : الفاعل بالعناية ، وهو الذي له علْمٌ سابقٌ على الفعل ، زائدٌ على ذاته ، نفسُ الصورة العلميّة منشأٌ لصدور الفعل من غير داع زائد ، كالإنسان الواقع على جذع عال ، فإنّه بمجرّد توهّم السقوط يسقط على الأرض ، وكالواجب (تعالى) في إيجاده الأشياء عند المشّائين (٣).

__________________

(١) نُسِب إليهم في شرح المنظومة ص ١٢١ ، وشوارق الإلهام ص ٥٥٢ ، والأسفار ج ٢ ص ٢٢٤ ، والشواهد الربوبيّة ص ٥٥.

(٢) نُسِب إليهم في الأسفار ج ٢ ص ٢٢٤ ، والشواهد الربوبيّة ص ٥٥ ، وشرح المنظومة ص ١٢١. وقال المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام ص ٥٥٢ : «فاعلم أنّ الأشبه أنّ مراد محقّقي المعتزلة من كون الإرادة عين الداعي الذي هو العلم بالأصلح انّما هو الذي ذهب إليه الفلاسفة على ما ذكرنا ، فيكون الواجب (تعالى) عندهم أيضاً فاعلا بالعناية».

(٣) راجع التعليقات للشيخ الرئيس ص ١٨ ـ ١٩ ، وشرح الإشارات ج ٣ ص ١٥١. ونُسِبَ

٢٢٣

السابع : الفاعل بالتجلّي ، وهو الذي يفعل الفعلَ ، وله علْمُ تفصيليٌّ به هو عين علمه الإجماليّ بذاته ، كالنفس الإنسانيّة المجرّدة ، فإنّها لمّا كانت صورةً أخيرةً لنوعها كانت على بساطتها مبدءاً لجميع كمالاتها الثانية التي هي لعلّيتها واجدةٌ لها في ذاتها ، وعلمها الحضوريّ بذاتها علم بتفاصيل كمالاتها وإن لم يتميّز بعضها من بعض ، وكالواجب (تعالى) بناءً على ما سيأتي إن شاء الله (١) أنّ له (تعالى) علماً إجماليّاً بالأشياء في عين الكشف التفصيليّ.

الثامن : الفاعل بالتسخير ، وهو الفاعل الذي هو وفعله لفاعل ، فهو فاعلٌ مسخَّرٌ في فعله ، كالقوى الطبيعيّة والنباتيّة والحيوانيّة المسخّرة في أفعالها للنفس الإنسانيّة ، وكالعلل الكونيّة المسخَّرة للواجب (تعالى).

وفي عَدِّ الفاعل بالجبر والفاعل بالعناية نوعَيْن بحيالهما مباينَيْن للفاعل بالقصد ، نظرٌ. توضيحه : أنّا ننسب الأعمال المكتنفة بكلِّ نوع من الأنواع المشهودة ـ أعني كمالاتها الثانية ـ إلى نفس ذلك النوع ، فكلُّ نوع علّةٌ فاعليّةٌ لكمالاته الثانية. والأنواع في ذلك على قسمين : منها ما يصدر عنه أفعاله لطَبْعِهِ من غير أن يتوسّط فيه العلم كالعناصر ، ومنها ما للعلم دَخْلٌ في صدور أفعاله عنه كالإنسان. والقسم الثاني مجهَّزٌ بالعلم ، ولا ريب أنّه إنّما جُهِّز به لتمييز ما هو كماله من الأفعال ممّا ليس بكمال له ليفعل ما فيه كماله ويترك ما ليس فيه ذلك. كالصبي يلتقم ما أخذه ، فإن وجده صالحةً للتغذّي كالفاكهة أكَلَه ، وإن لم يجده كذلك تَرَكَه ورمى به ، فتوسيطه العلم لتشخيص الفعل الذي فيه كمالٌ وتمييزه من غيره ، والذي يوسّطه من العلم والتصديق إن كان حاضراً عنده غيرَ مفتقر في التصديق به إلى تروّي فكر ـ كالعلوم الناشئة بالملكات ونحوها ـ لم يلبث دون أن يريد الفعل فيفعله ، وإن كان مشكوكاً فيه مفتقراً إلى التصديق به أخَذَ في تطبيق العناوين والأوصاف الكماليّة على الفعل ، فإن انتهى إلى التصديق بكونه كمالا فَعَلَه وإن

__________________

إليهم في الأسفار ج ٢ ص ٢٢٤ ، وشرح المنظومة ص ١٢٠ ، وشوارق الإلهام ص ٥٥٠.

(١) راجع الفصل الحادي عشر من المرحلة الثانية عشرة.

٢٢٤

انتهى إلى خلاف ذلك تَرَكَه. وهذا الميل والانعطاف إلى أحد الطرفين هو الذي نسمّيه «اختياراً» ونعدّ الفعل الصادر عنه فعلا اختياريّاً.

فتبيّن أنّ فعل هذا النوع من الفاعل العلميّ يتوقّف على حضور التصديق بوجوب الفعل ، أي كونه كمالا وكون ما يقابله ـ أي الترك ـ خلاف ذلك ، فإن كان التصديق به حاضراً في النفس من دون حاجة إلى تعمُّل فكريٍّ لم يلبث دون أن يأتي بالفعل ، وإن لم يكن حاضراً احتاج إلى تروٍّ وفكر حتّى يُطبق على الفعل المأتيّ به صفةُ الوجوب والرجحان وعلى تركه صفةُ الاستحالة والمرجوحيّة ، من غير فرق بين أن يكون رجحان الفعل ومرجوحيّة الترك مستندَيْن إلى طبع الأمر ، كمن كان قاعداً تحت جدار يريد أن ينقضّ عليه ، فإنّه يقوم خوفاً من إنهدامه عليه ، أو كانا مستندَيْن إلى إجبارِ مُجْبِر ، كمن كان قاعداً مستظلاّ بجدار فهدّده جبّارٌ أنّه إن لم يقم هَدَم الجدارَ عليه ، فإنّه يقوم خوفاً من انهدامه عليه. والفعل في الصورتَيْن إراديٌّ ، والتصديق على نحو واحد.

ومن هنا يظهر أنّ الفعل الإجباريّ لا يباين الفعل الإختياريّ ولا يتميّز منه بحسب الوجود الخارجيّ بحيث يصير الفاعل بالجبر قسيماً للفاعل بالقصد.

فقصارى ما يضعه المجبِر أنّه يجعل الفعل ذا طرف واحد فيواجه الفاعلُ المكرَهَ فعلا ذا طرف واحد ليس له إلاّ أن يفعله ، كما لو كان الفعل بحسب طبعه كذلك.

نعم العقلاء في سننهم الاجتماعيّة فرّقوا بين الفعلَيْن حفظاً لمصلحة الاجتماع ، ورعايةً لقوانينهم الجارية المستتبعة للمدح والذّم والثواب والعقاب. فانقسام الفعل إلى الإختياريّ والجبريّ إنقسامٌ إعتباريّ لا حقيقيّ.

ويظهر أيضاً أنّ الفاعل بالعناية من نوع الفاعل بالقصد ، فإنّ تصوّرَ السقوط ممن قام على جذع عال ـ مثلا ـ علمٌ واحدٌ موجودٌ في الخائف الذي أدهشه تصوّرُ السقوط فيسقط ، وفيمن اعتاد القيام عليه بتكرار العمل فلا يخاف ولا يسقط ، كالبنّاء ـ مثلا ـ فوق الأبنية والجدران العالية جدّاً.

فالصاعدُ فوقَ جدار عال القائم عليه يعلم أنّ من الممكن أن يثبت في مكانه

٢٢٥

فيسلم أو يسقط منه فيهلك ، غير أنّه إن استغرقه الخوف والدَهشِة الشديدة وجذبت نفسُهُ إلى الاقتصار على تصوّر السقوط سَقَطَ ، بخلاف المعتاد بذلك ، فإنّ الصورتَيْن موجودتان عنده من دون خوف ودَهِشة ، فيختار الثبات في مكانه ، فلا يسقط.

وفقدان هذا الفعل العنائيّ للغاية الصالحة العقلائيّة لا يوجب خُلوّه من مطلق الداعي ، فالداعي أعمّ من ذلك ـ كما سيأتي في الكلام على اللعب والعبث (١) ـ.

الفصل الثامن

في أنّه لا مؤثِّر في الوجود بحقيقة معنى الكلمة إلاّ الله سبحانه

قد تقدّم (٢) أنّ العلّيّة والمعلوليّة ساريةٌ في الموجودات ، فما من موجود إلاّ وهو علّةٌ ليست بمعلولة أو معلولٌ ليس بعلّة أو علّةٌ لشيء ومعلولٌ لشيء. وتقدّم (٣) أنّ سلسلة العلل تنتهي إلى علّة ليست بمعلولة وهو الواجب (تعالى). وتقدّم (٤) أنّه (تعالى) واحدٌ وحدةً حقّةً لا يتثنّى ولا يتكرّر ، وغيره من كلِّ موجود مفروض واجبٌ به ممكن في نفسه. وتقدّم (٥) أن لا غنى للمعلول عن العلّة الفاعليّة ، كما أنّه لا غنى له عن العلّة التامّة ، فهو (تعالى) علّة تامّة للكلّ في عين أنّه علّة فاعليّة. وتقدّم (٦) أنّ العلّيّة في الوجود ، وهو (٧) أثر الجاعل ، وأنّ وجود المعلول رابطٌ بالنسبة إلى علّته قائمٌ بها ، كما أنّ وجود العلّة مستقلّ بالنسبة إليه مقوِّمٌ له لا حكم للمعلول إلاّ وهو لوجود العلّة وبه.

فهو (تعالى) الفاعل المستقلّ في مبدئيّته على الإطلاق والقائم بذاته في إيجاده وعليّته وهوالمؤثّر بحقيقة معنى الكلمة. لا مؤثّر في الوجود إلاّ هو. ليس

__________________

(١) راجع الفصل الثاني عشر والثالث عشر من هذه المرحلة.

(٢) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٣) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(٤) في الفصل الرابع من المرحلة الرابعة.

(٥) في الفصل السادس من هذه المرحلة

(٦) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٧) أي الوجود.

٢٢٦

لغيره من الاستقلال الذي هو ملاك العلّيّة والإيجاد إلاّ الاستقلال النسبيّ. فالعلل الفاعليّة في الوجود معدّات مقرِّبة للمعاليل إلى فيضِ المبدأ الأوّل وفاعلِ الكلّ (تعالى).

هذا بالنظر إلى حقيقة الوجود الأصيلة المتحقّقة بمراتبها في الأعيان؛ وأمّا بالنظر إلى ما يعتبره العقل من الماهيّات الجوهريّة والعرضيّة المتلبّسة بالوجود المستقلّة في ذلك ، فهو (تعالى) علّة تنتهي إليها العلل كلّها ، فما كان من الأشياء ينتهي إليه بلا واسطة فهو علّته ، وما كان منها ينتهي إليه بواسطة فهو علّة علّته ، وعلّةُ علّةِ الشيء علّةٌ لذلك الشيء ، فهو (تعالى) فاعلُ كلِّ شيء ، والعلل كلّها مسخَّرة له.

الفصل التاسع

في أنّ الفاعل التامّ الفاعليّة أقوى من فعله وأقدم

أمّا أنّه أقوى وجوداً وأشدّ ، فلأنّ الفعل ـ وهو معلوله ـ رابطٌ بالنسبة إليه قائم الهويّة به ، وهو (١) المستقلّ الذي يقوّمه ويحيط به. ولا نعني بأشدّية الوجود إلاّ ذلك. وهذا يجري في العلّة التامّة أيضاً كما يجري في الفاعل المؤثّر.

وقد عدّ صدر المتألّهين (رحمه الله) المسألةَ بديهيّةً ، إذ قال : «البداهة حاكمةٌ بأنّ العلّة المؤثّرة هي أقوى لذاتها من معلولها فيما يقع به العلّيّة ، وفي غيرها لا يمكن الجزم بذلك ابتداءً» (٢) ـ إنتهى.

وأمّا أنّه أقدم وجوداً من فعله ، فهو من الفطريّات ، لمكان توقُّف وجودِ الفعل على وجود فاعله. وهذا أيضاًكما يجري في الفاعل يجري في العلّة التامّةوسائر العلل.

والقول (٣) بـ «أنّ العلّة التامّة مع المعلول ، لأنّ من أجزائها المادّة والصورة اللَتَين

__________________

(١) أي الفاعل التام الفاعليّة.

(٢) راجع الأسفار ج ٢ ص ١٨٧.

(٣) والقائل هو المحقّق الشريف على ما نُقل عنه في شوارق الإلهام ص ٩٨.

٢٢٧

هما مع المعلول بل عين المعلول ، فلايتقدّم عليه لا ستلزامه تقدُّمَ الشيء على نفسه».

مدفوعٌ بأنّ المادّة ـ كما تقدّم (١) ـ علّةٌ مادّيّةٌ لمجموع المادّة والصورة الذي هو الشيء المركّب ، وكذا الصورةُ علّةٌ صوريّةٌ للمجموع منهما. وأمّا المجموع الحاصل منهما فليس بعلّة لشيء. فكلُّ واحد منهما علّةٌ متقدّمة ، والمجموع معلولٌ متأخّر ، فلا إشكال.

وهذا معنى ما قيل (٢) : «إنّ المتقدّم هو الآحاد بالأسر ، والمتأخّر هو المجموع بشرط الاجتماع».

الفصل العاشر

في أنّ البسيط يمتنع أن يكون فاعلا وقابل

االمشهور من الحكماء عدم جواز كون الشيء الواحد من حيث هو واحد فاعلا وقابلا مطلقاً (٣). واحتُرِزَ بقيد «وحدة الحيثيّة» عن الأنواع المادّيّة التي تفعل بصورها وتقبل بموادّها ، كالنار تفعل الحرارة بصورتها وتقبلها بمادّتها. وذهب المتأخّرون إلى جوازه مطلقاً (٤).

والحقّ (٥) هو التفصيل بين ما كان القبول فيه بمعنى الانفعال والاستكمال الخارجيّ فلا يجامع القبولُ الفعلَ في شىء واحد بما هو واحد ، وما كان القبول فيه بمعنى الاتّصاف والانتزاع من ذات الشيء من غير إنفعال وتأثٌّر خارجيٍّ كلوازم

__________________

(١) راجع خاتمة الفصل السابع من المرحلة السادسة.

(٢) والقائل هو المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام ص ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) وبتعبير آخر : انّ الفاعل من حيث هو فاعل لايمكن أن يكون قابلا مطلقاً ، سواء كان مقبوله هو مفعوله أو غيره. وهذا مذهب المشهور من قدماء الحكماء. وتبعهم المحقّق الطوسيّ في تجريد الإعتقاد ص ١٣٥.

(٤) ومنهم الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥١٥ ـ ٥١٦. ونُسب القول بالجواز إلى الأشاعرة القائلين بأنّ الله صفات حقيقيّة زائدة على ذاته ، راجع شرح المواقف ص ١٧٤.

(٥) كما في الأسفار ج ٢ ص ١٧٦.

٢٢٨

الماهيات فيجوز إجتماعهما.

والحجّة على ذلك أنّ القبول ـ بمعنى الانفعال والتأثّر ـ يلازم الفقدانَ ، والفعل يلازم الوجدانَ ، وهما جهتان متباينتان متدافعتنان لا تجتمعان في الواحد من حيث هو واحد. وأمّا لوازم الماهيّات مثلا كزوجيّة الأربعة فإنّ تمام الذات فيها لا يعقل خالية من لازمها حتّى يتصوّر فيها معنى الفقدان ، فالقبول فيها بمعنى مطلق الاتّصاف ، ولا ضير في ذلك.

واحتجّ المشهور على الامتناع مطلقاً بوجهين (١) :

أحدهما : أنّ الفعل والقبول أثران متغايران ، فلا يصدران عن الواحد من حيث هو واحد.

الثاني : أنّ نسبة القابل إلى مقبوله بالإمكان ونسبة الفاعل التامّ الفاعليّة إلى فعله بالوجوب. فلو كان شيءٌ واحدٌ فاعلا وقابلا لشيء كانت نسبته إلى ذلك بالإمكان والوجوب معاً ، وهما متنافيان ، وتَنافي اللوازم مستلزمٌ لتنافي الملزومات.

والحجّتان لو تمّتا لم تدلاّ على أكثر من امتناع إجتماع الفعل والقبول ـ بمعنى الانفعال والتأثّر ـ في شيء واحد بما هو واحد. وأمّا القبول ـ بمعنى الاتّصاف كاتّصاف الماهيّات بلوازمها ـ ، فليس أثراً صادراً عن الذات يسبقه إمكان.

والحجّتان مع ذلك لا تخلوان من مناقشة.

أمّا الاُولى ، فلأنّ جَعْلَ القبول أثراً صادراً عن القابل يوجب كون القابل علّةً فاعليّةً للقبول ، فيرد الاشكال في قبول القابل البسيط للصورة حيث إنّه يفعل القبول ويصير جزءاً من المركّب ، وهما أثران لا يصدران عن الواحد.

وأمّا الثانية ، فلأنّ نسبةَ العلّة الفاعليّة ـ بما أنّها إحدى العلل الأربع ـ إلى الفعل ليست نسبةَ الوجوب ، إذ مجرّد وجودِ العلّة الفاعليّة لا يستوجب وجودَ المعلول ما لم ينضمّ إليها سائر العلل. اللهم إلاّ أن يكون الفاعلُ علّةً تامّةً وحدها. ومجرّد

__________________

(١) وتعرّض لهما وللإجابة عليهما الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥١٥.

٢٢٩

فَرْض الفاعل تامَّ الفاعليّة ـ والمراد به كونه فاعلا بالفعل بإنضمام بقيّة العلل إليه ـ لا يوجب تغيُّرَ نسبتِهِ في نفسه إلى الفعل من الإمكان إلى الوجوب.

واحتجّ المتأخّرون (١) على جواز كون الشيء الواحد من حيث هو واحد فاعلا وقابلا بلوازم الماهيّات سيّما البسائط منها ، فما منها إلاّ وله لازم أو لوازم كالإمكان وكونه ماهيّةً ومفهوماً ، وكذا المفاهيم المنتزعة من ذات الواجب (تعالى) كوجوب الوجود والوحدانيّة ، فإنّ الذات فاعلٌ لها وقابلٌ لها.

والحجّة ـ كما عرفت ـ لا تتمّ إلاّ فيما كان القبول فيه بمعنى الاتّصاف ، فالقبول والفعل فيه واحدٌ.

وأمّا ما كان القبول فيه انفعالا وتأثّراً واستكمالا ، فالقبول فيه يلازم الفقدانَ ، والفعل يلازم الوجدانَ ، وهما متنافيان لا يجتمعان في واحد.

الفصل الحادي عشر

في العلّة الغائيّة وإثباتها

سيأتي ـ إن شاء الله (٢) ـ بيان أنّ الحركة كمالٌ أوّلُ لما بالقوّة من حيث إنّه بالقوّة (٣) ، فهناك كمالٌ ثان يتوجّه إليه المتحرّك بحركته المنتهية إليه ، فهو الكمال الأخير الذي يتوصّل إليه المتحرّك بحركته ، وهو المطلوب لنفسه ، والحركة مطلوبة لأجله ، ولذا قيل (٤) : «إنّ الحركة لا تكون مطلوبةً لنفسها ، وإنّها لا تكون ممّا تقتضيه ذات الشيء».

وهذا الكمال الثاني هو المسمّى «غاية الحركة» ، يستكمل بها المتحرّكُ ، نسبتها إلى الحركة نسبةَ التمام إلى النقص ، ولا تخلو عنها حركةٌ وإلاّ إنقلبت سكوناً.

__________________

(١) هكذا احتجّ عليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥١٦.

(٢) راجع الفصل الثالث من المرحلة التاسعة.

(٣) كذا رسّمها أرسطو على ما نقل عنه في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥٤٩.

(٤) كما قال الشيخ الرئيس في التعليقات ص ١٠٨ : «الغرض في الحركة الفلكية ليس هو نفس الحركة بما هي هذه الحركة ...».

٢٣٠

ولما بين الغاية والحركة من الارتباط والنسبة الثابتة كان بينهما نوعٌ من الإتّحاد ، ترتبط به الغاية بالمحرِّك كمثل الحركة ، كما ترتبط بالمتحرّك كمثل الحركة.

ثمّ إنّ المحرِّك إذا كان هو الطبيعة وحرّكت الجسمَ بشيء من الحركات العرضيّة الوضعيّة والكيفيّة والكميّة والأينيّة مستكملا بها الجسم ، كانت الغاية هو التمام الذي يتوجّه إليه المتحرّك بحركته وتطلبه الطبيعة المحرّكة بتحريكها.

ولولا الغاية لم يكن من المحرّك تحريكٌ ولا من المتحرّك حركةٌ.

فالجسم المتحرّك مثلا من وضع إلى وضع إنّما يريد الوضع الثانى ، فيتوجّه إليه بالخروج من الوضع الأوّل إلى وضع سيّال يستبدل به فرداً آنيّاً إلى فرد مثله حتّى يستقرّ على وضع ثابت غير متغيّر فيثبت عليه ، وهو التّمام المطلوب لنفسه ، والمحرّك أيضاًيطلب ذلك.

وإذا كان المحرّك فاعلا علميّاً لعِلْمهِ دَخْلٌ في فعله كالنفوس الحيوانيّة والإنسانيّة ، كانت الحركة بما لها من الغاية التي هو التمام مرادةً له ، لكنّ الغاية هي المرادة لنفسها والحركه تتبعها ، لأنّها لأجل الغاية كما تقدّم (١) ، غير أنّ الفاعل العلميّ ربّما يتخيّل ما يلزم الغاية أو يقارنها غايةً للحركة فيأخذه منتهى إليه للحركة ويوجد بينهما تخيّلا فيحرِّك نحوه ، كمن يتحرّك إلى مكان ليلقى صديقه أو يمشي إلى مشرعة لشرب الماء ، وكمن يحضر السوق ليبيع ويشتري.

هذا كلّه فيما كان الفعل حركةً عرضيّةً طبيعيّةً أو إراديّة.

وأمّا إذا كان فعلا جوهريّاً ، كالأنواع الجوهريّة ، فإن كان من الجواهر التي لها تعلّقٌ مّا بالمادّة فسيأتي إن شاء الله (٢) أنّها جميعاً متحرّكةٌ بحركة جوهريّة ، لها وجودات سيّالة تنتهي إلى وجودات ثابتة غير سيّالة تستقرّ عليها ، فلها تمامٌ هو وجهتها التي تولّيها ، وهو مراد عللها الفاعلة المحرِّكة لنفسه ، وحركاتها الجوهريّة مرادة لأجله ، وإن كان الفعل من الجواهر المجرّدة ذاتاً وفعلا عن المادّة فهو لمكان فعليّة وجوده وتنزّهه عن القوّة لا ينقسم إلى تمام ونقص كغيره ، بل هو تمامٌ في نفسه ، مرادٌ

__________________

(١) في ابتداء هذا الفصل.

(٢) في الفصل الثامن من المرحلة التاسعة.

٢٣١

لنفسه ، مقصودٌ لأجله ، والفعل والغاية هناك واحد ، بمعنى أنّ الفعل بحقيقته التي في مرتبة وجود الفاعل غايةٌ لنفسه التي هي الرقيقة ، لا أنّ الفعل علّةٌ غائيّة لنفسه متقدّمةٌ على نفسه ، لا ستحالة علّيّة الشيء لنفسه.

فقد تبيّن أنّ لكلّ فاعل غايةً في فعله ، وهي العلّة الغائيّة للفعل ، وهو المطلوب.

وظهر ممّا تقدّم اُمور :

أحدها : أنّ غاية الفعل ـ وهي التي يتعلّق بها اقتضاء الفاعل بالأصالة ولنفسه ـ قد تتّحد مع فعله ـ بمعنى كون الغاية هي حقيقة الفعل المتقرّرة في مرتبة وجود الفاعل ـ ومرجعهُ إلى اتّحاد الفاعل والغاية ، كما إذا كان فعل الفاعل موجوداً مجرّداً في ذاتِهِ وفعلِهِ تامَّ الفعليّة في نفسه مراداً لنفسه؛ وقد لا تتّحد مع الفعل ، بل يختلفان ، كما فيما إذا كان الفعل من قبيل الحركات العرضيّة أو من الجواهر التي لها نوعُ تعلّق بالمادّة كالنفوس والصور المنطبعة في الموادّ ، فإنّ الفاعل يتوصّل إلى هذا القبيل من الغايات بالتحريك ، والحركة غير مطلوبة لنفسها ، فتتحقّق الحركة وتترتّب عليها الغاية ، سواء كانت الغاية راجعةً إلى الفاعل ، كمن يحزنه ضرّ ضرير فيرفعه ابتغاءً للفرح ، أو راجعةً إلى المادّة ، كمن يتحرّك إلى وضع يصلح حالَهُ ، أو راجعةً إلى غيرهما ، كمن يكرم يتيماً ليفرح.

وثانيها : أنّ الغاية معلومةٌ للفواعل العلميّة قبلَ الفعل وإن كانت متحقّقةً بعده مترتّبةً عليه.

وذلك أنّ هذا القبيل من الفواعل مريدة لفِعْلِها ، والإرادة ـ كيفما كانت ـ مسبوقةٌ بالعلم ، فإن كان هناك تحريك كانت الحركة مرادةً لأجل الغاية.

فالغاية مرادة للفاعل قبلَ الفعل وإن لم يكن هناك تحريك ، وكان الفعل هو الغاية ، فإرادته والعلم به إرادةٌ للغاية وعلمٌ بها.

وأمّا قولهم (١) : «إنّ الغاية قبل الفعل تصوّراً وبعده وجوداً» ، فإنّما يتمّ في غير

__________________

(١) والقائل الشيخ الرئيس. فراجع الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء ، والتعليقات ص ١٢٨ ، والنجاة ص ٢١٢.

٢٣٢

غاية الطبائع ، لفُقْدانها العلْمَ (١).

وأمّا قولهم (٢) : «إنّ العلّة الغائيّة علّةٌ فاعليّةٌ لفاعليّة الفاعل» ، فكلامٌ لا يخلو عن مسامحة ، لأنّ (٣) الفواعل الطبيعيّة لا علْمَ لها حتّى تحضرها غاياتها حضوراً علميّاً يعطي الفاعليّة للفاعل ، وأمّا بحسب الوجود الخارجيّ فالغاية مترتّبةُ الوجود على وجود الفعل ، والفعل متأخّر وجوداً عن الفاعل بما هو فاعلٌ ، فمن المستحيل أن تكون الغاية علّةً لفاعليّة الفاعل.

والفواعل العلميّة غير الطبيعيّة إمّا غايتها عين فعلها والفعل معلول لفاعله ، ومن المستحيل أن يكون المعلول علّةً لعلّته ، وإمّا غايتها مترتّبةُ الوجود على فعلها متأخّرةٌ عنه ، ومن المستحيل أن تكون علّةً لفاعل الفعل المتقدّم عليه ، وحضور الغاية حضوراً علميّاً للفاعل قبلَ الفعل وجودٌ ذهنيٌّ هو أضعف من أن يكون علّة لأمر خارجيّ وهو الفاعل بما هو فاعل.

والحقّ ـ كما سيأتي تفصيله (٤) ـ أنّ الفواعل العلميّة بوجوداتها النوعيّة عِلَلٌ فاعليّة للأفعال المرتبطة بها الموجودة لها في ذيل نوعيّتها.

كما أنّ كلّ نوع من الأنواع الطبيعيّة مبدأ فاعليّ لما يوجد حولها ويصدر عنها من الأفعال ، وإذ كانت فواعل علميّة ، فحصول صورة الفعل العلميّة عندها شرْطٌ متمّم لفاعليّتها تتوقّف عليه فعليّة التأثير.

وهذا هو المراد بكون العلّة الغائيّة علّةً لفاعليّة العلّة الفاعليّة ، وإلاّ فالفاعل بنوعيّته علّةٌ فاعليّةٌ للأفعال الصادرة عنه القائمة به التي هي كمالات ثانية له يستكمل بها.

وثالثها : أنّ الغاية وإن كانت بحسب النظر البدويّ تارةً راجعةً إلى الفاعل

__________________

(١) هكذا اعترض عليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥٤٠.

(٢) والقائل الشيخ الرئيس : فراجع النجاة ص ٢١٣ ، وشرح الإشارات ج ٣ ص ١٥ ـ ١٦ ، والتعليقات ص ١٢٨ ، والفصل الحادي عشر من المقالة الاُولى من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

(٣) هكذا اعترض عليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥٤٠ ، وشرحي الإشارات ج ١ ص ١٩٤ ، وأجاب عنه المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ج ٣ ص ١٧.

(٤) في الفصل الآتي.

٢٣٣

وتارةً إلى المادّة وتارةً إلى غيرهما ، لكنّها بحسب النظر الدقيق راجعةٌ إلى الفاعل دائماً (١) ، فإنّ من يحسن إلى مسكين ليسرّ المسكين بذلك يتألّم من مشاهدة مايراه عليه من رثاثة الحال فهو يريد بإحسانه إزاحة الألم عن نفسه ، وكذلك من يسير إلى مكان ليستريح فيه يريد بالحقيقة إراحة نفسه من إدراك مايجده ببدنه من التعب.

وبالجملة ، الفعل دائماً مسانخ لفاعله ملائمٌ له مرضيٌّ عنده ، وكذا ما يترتّب عليه من الغاية فهو خيرٌ للفاعل كمالٌ له.

وأمّا ما قيل (٢) : «إنّ العالي لا يستكمل بالسافل ولا يريده ، لكونه علّةً ، والعلّة أقوى وجوداً وأعلى منزلةً من معلولها».

فمندفع ـ كما قيل (٣) ـ بأنّ الفاعل إنّما يريده بما أنّه أثر من آثاره ، فالإرادة بالحقيقة متعلّقة بنفس الفاعل بالذات وبغاية الفعل المترتّبة عليه بتبعه.

فالفاعل حينما يتصوّر الغاية الكماليّة يشاهد نفسه بما لها من الاقتضاء والسببيّة للغاية ، فالجائع الذي يريد الأكل ليشبع به ـ مثلا ـ يشاهد نفسَهُ بمالها من الإقتضاء لهذا الفعل المترتّب عليه الغاية ، أي يشاهد نفسَهُ ذاتَ شبع بحسب الاقتضاء ، فيريد أن يصير كذلك بحسب الوجود الفعليّ الخارجيّ.

فإن كان للفاعل نوعُ تعلّق بالمادّة كان مستكملا بفعليّة الغاية التي هي ذاته بما أنّه فاعل.

وأمّا الغاية الخارجة من ذاته المترتّبة وجوداً على الفعل فهو مستكمل بها بالتبع.

وإن كان مجرّداً عن المادّة ذاتاً وفعلا فهو كامل في نفسه غيرُ مستكمل بغايته التي هي ذاته التامّة الفعليّة التي هي في الحقيقة ذاته التامّة.

فظهر ممّا تقدّم :

أولا : أنّ غاية الفاعل في فعله إنّما هي ذاته الفاعلة بما أنّها فاعلة ، وأمّا غاية

__________________

(١) كذا قال صدر المتألّهين في الأسفار ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٧٩.

(٢) والقائل الشيخ الرئيس في الإشارات ، راجع شرح الإشارات ج ٣ ص ١٤٩.

(٣) والقائل صدر المتألّهين في الأسفار ج ٢ ص ٢٦٤.

٢٣٤

الفعل المترتّبة عليه فإنّما هي غاية مرادة بالتّبع.

وثانياً : أنّ الغاية كمالٌ للفاعل دائماً ، فإن كان الفاعل متعلّقاً بالمادّة نوعاً من التعلّق كان مستكملا بالغاية التي هي ذاته الفاعلة بما أنّها فاعلة ، وإن كان مجرّداً عن المادّة مطلقاً كانت الغاية عين ذاته التي هي كمال ذاته من غير أن يكون كمالا بعد النقص وفعليّةً بعد القوّة.

ومن هنا يتبيّن أنّ قولهم (١) : «إنّ كلّ فاعل له في فعله غايةٌ فإنّه يستكمل بغايته وينتفع به» ، لا يخلو من مسامحة ، فإنّه غير مطّرد إلاّ في الفواعل المتعلّقة بالمّادة نوعَ تعلّق.

تنبيهٌ : ذهب قوم من المتكلّمين (٢) إلى أنّ الواجب (تعالى) لا غاية له في أفعاله ، لغِناه بالذات عن غيره ، وهو معنى قولهم : «إنّ أفعال الله لا تعلّل بالأغراض» (٣).

وذهب آخرون منهم (٤) إلى أنّ له (تعالى) في أفعاله غايات ومصالح عائدة إلى غيره وينتفع بها خلْقُه.

ويردّ الأوّل ما تقدّم (٥) أنّ فعل الفاعل لا يخلو من أن يكون خيراً مطلوباً له بالذات أو منتهياً إلى خير مطلوب بالذات ، وليس من لوازم وجود الغاية حاجةُ الفاعل إليها ، لجواز كونها عين الفاعل ـ كما تقدّم (٦) ـ.

__________________

(١) راجع الأسفار ج ٢ ص ٢٧٩ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥٤٢ ـ ٥٤٣.

(٢) وهم الأشاعرة على ما نُقل في كشف المراد ص ٣٠٦ ، ومفتاح الباب ص ١٦٠ ـ ١٦١ ، والنافع يوم الحشر ص ٢٩ ، وشرح المواقف ص ٥٣٨ ، وشرح المقاصد ج ٢ ص ١٥٦. وذهب إليه الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥٤٢ ـ ٥٤٣ ، والمحصّل (تلخيص المحصّل) ص ٣٤٣. وذهب إليه أيضاً بعض الفلاسفة كالشيخ الإشراقي في المطارحات ص ٤٢٧.

(٣) راجع شرح المواقف ص ٥٣٨ ، وشرح المقاصد ج ٢ ص ١٥٦.

(٤) أي من المتكلّمين ، وهم المعتزلة. وتبعهم المحقّق الطوسيّ والعلاّمة الحلّيّ والفاضل المقداد. راجع كشف المراد ص ٣٠٦ ، والنافع يوم الحشر ص ٢٩.

(٥ و ٦) في ابتداء هذا الفصل.

٢٣٥

ويردّ الثاني أنّه وإن لم يستلزم حاجته (تعالى) إلى غيره واستكماله بالغايات المترتّبة على أفعاله وانتفاعه بها ، لكن يبقى عليه لزومُ إرادة العالي للسافل وطلبُ الأشرف للأخسّ.

فلو كانت غايُتُه ـ التي دعَتْه إلى الفعل وتوقّف عليها فعله ، بل فاعليّته ـ هي التي تترتّب على الفعل من الخير والمصلحة لكان لغيره شيء من التأثير فيه ، وهو فاعلٌ أوّلُ تامُّ الفاعليّة لا يتوقّف في فاعليّته على شيء.

بل الحقّ ـ كما تقدّم (١) ـ أنّ الفاعل بما هو فاعل لا غايةَ لفعله بالحقيقة إلاّ ذاته الفاعلة بما هي فاعلة ، لا يبعثه نحو الفعل إلاّ نفسه ، وما يترتّب على الفعل من الغاية غايةٌ بالتبع ، وهو (تعالى) فاعلٌ تامُّ الفاعليّة وعلّةٌ أُولى ، إليها تنتهي كلُّ علّة ، فذاته (تعالى) بما أنّه عين العِلْم بنظام الخير غايةٌ لذاته الفاعلة لكلّ خير سواه ، والمبدأ لكلّ كمال غيرُه.

ولا يناقض قولُنا : «إنّ فاعليّة الفاعل تتوقّف على العلّة الغائيّة» الظاهرُ في المغايرة بين المتوقَّف والمتوقَّف عليه ، قولَنا : «إن غاية الذات الواجبة هي عين الذات المتعالية».

فالمراد بالتوقّف والاقتضاء في هذا المقام المعنى الأعمّ الذي هو عدم الانفكاك.

فهو ـ كما أشار إليه صدر المتألّهين (٢) ـ من المسامحات الكلاميّة التي يعتمد فيها على فهم المتدّرب في العلوم ، كقولهم في تفسير الواجب بالذات : «إنّه الأمر الذي يقتضي لذاته الوجودَ. وإنّه موجود واجب لذاته» الظاهر في كون الذات علّةً لوجوده ووجوده عينه.

وبالجملة ، فعِلْمه (تعالى) في ذاته بنظام الخير غايةٌ لفاعليّته التي هي عين الذات ، بل الإمعان في البحث يعطي أنّه (تعالى) غايةُ الغايات.

فقد عرفت (٣) أنّ وجود كلِّ معلول ـ بما أنّه معلولٌ ـ رابطٌ بالنسبة إلى علّته لا يستقلّ دونها. ومن المعلوم أنّ التوقّف لا يتمّ معناه دون أن يتعلّق بمتوقّف عليه لنفسه ، وإلاّ لتسلسل. وكذا الطلب والقصد والإرادة والتوجّه وأمثالها لا تتحقّق بمعناها إلاّ بالإنتهاء إلى

__________________

(١) حيثُ قال : «فظهر ممّا تقدّم أوّلا ...».

(٢) راجع الأسفار ج ٢ ص ٢٧٢.

(٣) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

٢٣٦

مطلوب لنفسه ومقصود لنفسه ومراد لنفسه ومتوجّه إليه لنفسه.

وإذ كان (تعالى) هو العلّة الاُولى التي إليها ينتهي وجود ما سواه ، فهو استقلالُ كلِّ مستقلٍّ وعمادُ كلِّ معتمد ، فلا يطلب طالب ولا يريد مريد إلاّ إيّاه ، ولا يتوجّه متوجّه إلاّ إليه بلا واسطة أو معها ، فهو (تعالى) غايةُ كلِّ ذي غاية.

الفصل الثاني عشر

في أنّ الجزاف والقصد الضروري والعادة وما يناظرهامن

الأفعال لا تخلو عن غاية

قد يتوهّم أنّ من الأفعال الإراديّة ما لا غايةَ له (١) ، كملاعب الأطفال ، والتنفّس ، وانتقال المريض النائم من جانب إلى جانب ، واللعب باللحية ، وأمثال ذلك. فينتقض بذلك كلّيّة قولهم : «إنّ لكلِّ فعل غايةً».

ويندفع ذلك بالتأمّل في مبادئ أفعالنا الإراديّة وكيفيّة ترتّب غاياتها عليها.

فنقول : قالوا (٢) : إنّ لأفعالنا الإراديّة وحركاتنا الاختياريّة مبدأً قريباً مباشراً للحركات المسمّاة أفعالا ، وهو القوّة العاملة المنبثّة في العضلات المحرّكة إيّاها ، وقبل القوّة العاملة مبدأٌ آخر هو الشوقيّة المنتهية إلى الإرادة والإجماع ، وقبل الشوقيّة مبدأٌ آخر هو الصورة العلميّة من تفكّر أو تخيّل يدعو إلى الفعل لغايته ، فهذه مباد ثلاثة غير الإراديّة.

أمّا القوّة العاملة فهي مبدأ طبيعيٌّ لا شعورَ له بالفعل ، فغايتها ما تنتهي إليه الحركة كما هو شأن الفواعل الطبيعيّة.

__________________

(١) وإليه أشار الفارابيّ ، حيث قال في رسالة في فضيلة العلوم ص ٩ : «لا تستنكر أن يحدث في العالم اُمور لها أسباب بعيدة جدّاً ، فلا تضبط لبُعدها ، فيظنّ بتلك الاُمور أنّها إتّفاقيّة».

(٢) كذا قال الشيخ الرئيس في الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء. وثمّ تبعه المتأخرون منه ، فراجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ، والأسفار ج ٢ ص ٢٥١ ـ ٢٥٣ ، وكشف المراد ص ١٣٠ ، وشوارق الإلهام ص ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

٢٣٧

وأمّا المبدآن الآخران ـ أعني الشوقيّة والصورة العلميّة ـ ، فربّما كانت غايَتُهما غايةَ القوّة العاملة ، وهي ما تنتهي إليه الحركة وعندئذ تتّحد المبادئ الثلاثة في الغاية ، كمن تخيّل الاستقرار في مكان غير مكانه فاشتاق إليه فتحرّك نحوه واستقرّ عليه.

وربّما كانت غايتُهما غيرَ غاية القوّة العاملة ، كمن تصوّر مكاناً غير مكانه فانتقل إليه للقاء صديقه.

والمبدأ البعيد ـ أعني الصورة العلميّة ـ ، ربّما كانت تخيّليّةً فقط بحضور صورة الفعل تخيّلا من غير فكر ، وربّما كانت فكريّةً ولا محالة معها تخيُلٌ جزئيٌّ للفعل.

وأيضاً ربّما كانت وحدها مبدأ للشوقيّة ، وربّما كانت مبدأً لها بإعانة من الطبيعة كما في التنفّس ، أو من المزاج كانتقال المريض النائم من جانب إلى جانب ، أو من الخُلْق والعادة كاللعب باللحية.

فإذا تطابقَتْ المبادئ الثلاثة في الغاية ـ كالإنسان يتخيّل صورةَ مكان فيشتاق إليه فيتحرّك نحوه ويسمّى : «جزافاً» ـ كان لفِعْلِه بماله من المبادئ غايته.

وإذا عقّب المبدأُ العلميّ الشوقيّةَ ـ بإعانة من الطبيعة كالتنفّس ، أو من المزاج كانتقال المريض من جانب أملّه الاستقرار عليه إلى جانب ويسمّى «قصداً ضروريّاً» ، أو بإعانة من الخُلْق كاللعب باللحية ويسمّى الفعل حينئذ «عادةً» ـ كان لكلٍّ من مبادئ الفعل غايتُه.

ولا ضَيْرَ في غفلة الفاعل وعدم التفاته إلى ما عنده من الصورة الخياليّة للغاية في بعض هذه الصور أو جميعها ، فإنّ تخيّل الغاية غير العلم بتخيُّلِ الغاية ، والعلم غير العلم بالعلم.

والغاية في جميع هذه الصور المسمّاة عبثاً ليست غايةً فكريّةً.

ولا ضَيْرَ فيه ، لأنّ المبدأ العلميّ فيها صورة تخيّليّة غير فكريّة ، فلا مبدأ فكريّ فيها حتّى تكون لها غايةٌ فكريّةٌ.

وإن شئت فقل : إنّ فيها مبدأً فكريّاً ظنيّاً ملحوظاً على سبيل الإجمال ، يلمح إليه الشوق المنبعث من تخيّل صورة الفعل ، فالطفل مثلا يتصوّر الاستقرار على مكان غير مكانه ، فينبعث منه شوقٌ مّا يلمح إلى أنّه راجحٌ ينبغي

٢٣٨

أن يفعل ، فيقضى إجمالا برجحانه ، فيشتدّ شوقُهُ ، فيريد ، فيفعل من دون أن يكون الفعل مسبوقاً بعلم تفصيليّ يتمّ بالحكم بالرجحان ، نظير المتكلّم عن ملكة ، فيلفظ بالحرف بعد الحرف من غير تصوّر وتصديق تفصيلا ، والفعل علميّ إختياريّ.

وكذا لا ضَيْرَ في انتفاء الغاية في بعض الحركات الطبيعيّة أو الإراديّة المنقطعة دون الوصول إلى الغاية ، ويسمّى الفعل حين ذاك «باطلا».

وذلك أنّ انتفاء الغاية في فعل أمرٌ وانتفاء الغاية بانقطاع الحركة وبطلانها أمرٌ آخر ، والمدّعى امتناع الأوّل دون الثاني ، وهو ظاهر.

وليعلم أنّ مبادئ الفعل الإراديّ منّا مترتّبةٌ على ما تقدّم ، فهناك قوّة عاملة يترتّب عليها الفعل ، وهي مترتّبة على الإرادة ، وهي مترتّبة على الشوقيّة من غير إرادة متخلّلة بينهما ، والشوقيّة مترتّبة على الصورة العلميّة الفكريّة أو التخيّليّة من غير إرادة متعلّقة بها ، بل نفس العلم يفعل الشوق ، كذا قالوا (١).

ولا ينافيه إسنادُهم الشوقَ إلى بعض من الصفات النفسانيّة ، لأنّ الصفات النفسانيّة تلازم العلم.

قال الشيخ في الشفاء : «لانبعاث هذا الشوق علّةٌ مّا لا محالة ، إمّا عادةٌ ، أو ضجرٌ عن هيئة وإرادة انتقال إلى هيئة اُخرى ، وإمّا حرصٌ من القوى المحرّكة والمحسّة على أن يتجدّد لها فعل تحريك أو إحساس.

والعادة لذيذة ، والإنتقال عن المملول لذيذ ، والحرص على الفعل الجديد لذيذ ـ أعني بحسب القوّة الحيوانيّة والتخيّليّة ـ.

واللذّة هي الخير الحسّيّ والحيوانيّ والتخيّليّ بالحقيقة ، وهي المظنونة خيراً بحسب الخير الإنسانيّ.

فإذا كان المبدأ تخيّليّاً حيوانيّاً فيكون خيره لا محالة تخيّليّاً حيوانيّاً ، فليس إذن هذا الفعل خالياً عن خير بحسبه ، وإن لم يكن خيراً حقيقيّاً ـ أي بحسب العقل ـ» (٢) إنتهى.

ثمّ إنّ الشوق لمّا كان لا يتعلّق إلاّ بكمال مفقود غيرِ موجود كان مختصّاً بالفاعل العلميّ المتعلّق بالمادّة نوعاً من التعلّق ، فالفاعل المجرّد ليس فيه من

__________________

(١) راجع ما تقدّم تحت قوله : «فنقول : قالوا :».

(٢) راجع الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء.

٢٣٩

مبادئ الفعل الإراديّ إلاّ العلم والإرادة ، بخلاف الفاعل العلميّ الذي له نوعُ تعلّق بالمادّة ، فإنّ له العلم والشوق والإرادة والقوّة الماديّة المباشرة للفعل على ما تقدّم ، كذا قالوا (١).

الفصل الثالث عشر

في نفي الاتّفاق وهو انتفاء الرابطة بين الفاعل والغاية

ربّما يتوهّم (٢) أنّ من الغايات المترتّبة على الأفعال ما هو غير مقصود لفاعلها ، فليس كلُّ فاعل له في فعله غاية.

ومثّلوا له بمن يحفر بئراً ليصل إلى الماء فيعثر على كَنْز ، فالعثور على الكَنْز غايةٌ مترتّبة على الفعل غيرُ مرتبطة بالحافر ولا مقصودةٌ له ، وبمن يدخل بيتاً ليستظلّ فيه فينهدم عليه فيموت ، وليس الموت غايةً مقصودةً للداخل.

ويسمّى النوع الأوّل من الاتّفاق «بختاً سعيداً» والنوع الثاني «بختاً شقيّاً».

والحقّ أنّ لا اتّفاق في الوجود. والبرهان عليه (٣) : أنّ الاُمور الممكنة في وقوعها على أربعة أقسام : دائميُّ الوقوع ، والأكثريّ الوقوع ، والمتساوي الوقوع واللاوقوع ، والأقليّ الوقوع.

أمّا الدائميّ الوقوع والأكثريّ الوقوع ، فلكلِّ منهما علّةٌّ عند العقل بالضرورة ، والفرق بينهما أنّ الأكثريّ الوقوع يعارضه في بعض الأحيان معارضٌ يمنعه من الوقوع ، بخلاف الدائميُّ الوقوع حيث لا معارضَ له ، وإذ كان تخلُّفُ الأكثريّ في بعض الأحيان عن الوقوع مستنداً إلى معارض مفروض فهو دائميّ الوقوع بشرط عدم المعارض بالضرورة ، مثاله الوليد الإنسانيّ

__________________

(١) راجع ما تقدّم تحت قوله : «فنقول : قالوا : ...».

(٢) كما توهّمه ذيمقراطيس وأنباذقلس من قدماء الحكماء. راجع الفصل الرابع عشر من المقالة الاُولى من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

(٣) كما برهن عليه الشيخ الرئيس في الفصل الثالث عشر من المقالة الاُولى من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

٢٤٠