نهاية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-005-8
الصفحات: ٤٣٢

الجسم التعليميّ ، ولازمُ تناهيها السطح.

وأمّا الخطّ ، فهو موجودٌ في الخارج إن ثبتت أجسامٌ لها سطوحٌ متقاطعةٌ كالمكعّب والمخروط والهِرَم ونحوها.

ثمّ إنّ كلَّ مرتبة من مراتب العدد غير المتناهية نوعٌ خاصٌّ منه مباينٌ لسائرها (١) ، لاختصاصها بخواصٍّ عدديّة لا تتعدّاها إلى غيرها.

والزّمان نوعٌ واحدٌ وإن كان معروضه أنواع الحركات الجوهريّة والعرضيّة لِما أنّ بين أفرادها عادّاً مشتركاً.

والأجسام التعليميّة التي لا عادَّ مشتركاً بينها كالكرة والمخروط والمكّعب ونحوها أنواعٌ متباينةٌ ، وكذا السطوح التي لا عادَّ مشتركاً بينها كالسطح المستوي وأقسام السطوح المحدّبة والمقعّرة ، وكذا الخطوط التي لا عادَّ مشتركاً بينها ـ إن كانت موجودةً ـ كالخطّ المستقيم وأنواع الأقواس. وأمّا الأجسام والسطوح والخطوط غير المنتظمة ، فليست بأنواع ، بل مركّبة من أنواع شتّى.

الفصل العاشر

في أحكام مختلفة للكم

قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ من خواصّ الكم المساواة والمفاوتة ، ومنها الانقسام خارجاً كما في العدد أو وهماً كما في غيره ، ومنها وجود عادّ منه يعدّه (٢).

وهناك أحكام اُخر أوردوها :

أحدها : أنّ الكم المنفصل ـ وهو العدد ـ يوجد في الماديات والمجرّدات جميعاً. وأمّا المتّصل غير القارّ منه ـ وهو الزّمان ـ فلا يوجد إلاّ في المادّيات. وأمّا المتّصل القارّ ـ وهو الجسم التعليميّ والسطح والخطّ ـ فلا يوجد في المجرّدات إلاّ

__________________

(١) كذا قال أرسطو في منطق أرسطو ج ١ ص ٤٣ ، والشيخ الرئيس في الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء. ونسبه صدر المتألّهين إلى الجمهور ، فراجع الأسفار ج ٢ ص ٩٩.

(٢) راجع الفصل الثامن من هذه المرحلة.

١٤١

عند من يثبت عالَماً مقداريّاً مجرّداً له آثار المادّة دون نفس المادّة (١).

الثاني : أنّ العدد لا تضادّ فيه ، لأنّ من شروط التضادّ غاية الخلاف بين المتضادّين ، وليست بين عددين غاية الخلاف ، إذ كلّ مرتبتَيْن مفروضتَيْن من العدد فإنّ الأكثر منهما يزيد بعداً من الأقلّ باضافةِ واحد عليه (٢).

وأمّا الإحتجاج عليه (٣) : بأنّ كلّ مرتبة من العدد متقوّم بما هو دونه ، والضدّ لا يتقوّم بالضدّ.

ففيه (٤) : أنّ المرتبة من العدد لو تركّبت ممّا دونها من المراتب كانت المراتب التي تحتها في جواز تقويمها على السواء ، كالعشرة ـ مثلا ـ يجوز فرض تركّبها من تسعة وواحدة ، وثمانية وإثنين ، وسبعة وثلاثة ، وستّة وأربعة ، وخمسة وخمسة ، وتعيُّن بعضها للجزئيّة ترجٌّحٌ بلا مرجِّح ، وهو محالٌ.

وقول الرياضيّين : «إنّ العشرة مجموع الثمانية والإثنين» (٥) ، معناه مساواة مرتبة من العدد لمرتبتَيْن ، لا كونُ المرتبة ـ وهي نوعٌ واحدٌ ـ عين المرتبتَيْن ـ وهما نوعان إثنان ـ.

ونظير الكلام يجري في الكمّ المتّصل مطلقاً.

وكذا لا يضادّ الجسم التعليميّ سطحاً ولا خطّاً ، ولا سطحٌ خطّاً (٦) ، إذ لا

__________________

(١) راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ١٨٦ ، والأسفار ج ٤ ص ١٨.

(٢) راجع منطق أرسطو ج ١ ص ٤٥ ، والأسفار ج ٤ ص ١٨ ـ ١٩ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ١٨٨ ـ ١٩٠ ، وكشف المراد ص ٢٠٥ ، وشرح المنظومة ص ١٣٨ ، والفصل الثاني من المقالة الرابعة من الفن الثاني من منطق الشفاء ، والمطارحات ص ٢٤٠ ـ ٢٤٢ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ١٨٤.

(٣) كذا احتجّ عليه فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ١٨٨. وتبعه كثيرٌ ممّن تأخّر عنه كالمحقّق الطوسيّ والعلاّمة الحلّيّ في كشف المراد ص ٢٠٥ ، وصدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ١٨ ، وابن سهلان الساوجيّ في البصائر النصيريّة ص ٢٨.

(٤) هذا الإشكال أورده الحكيم السبزواريّ في حاشية شرح المنظومة ص ١٣٨. وتعرّض له المحقّق الآمليّ في درر الفوائد ص ٣٩٩.

(٥) قال الشيخ الرئيس في الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء : «ولهذا ما قال الفيلسوف المقدّم : لا تحسبَنّ أنّ ستّةً ثلاثةٌ وثلاثةٌ ، بل هو ستة مرّة واحدة».

(٦) أي ولا يضادّ سطحٌ خطّاً.

١٤٢

موضوع واحداً هناك يتعاقبان عليه ولا يتصوّر هناك غايةُ الخلاف.

الثالث : أنّ الكم لا يوجد فيه التشكيك بالشدّة والضعف ، وهو ضروريٌّ أو قريبٌ منه ، نعم يوجد فيه التشكيك بالزيادة والنقص كأن يكون خطٌّ أزيد من خط في الطول إذا قيس إليه وجوداً ، لا في أنّ له ماهيّة الخط ، وكذا السطح يزيد وينقص من سطح آخر من نوعه ، وكذا الجسم التعليميّ (١).

الرابع : قالوا : «إنّ الأبعاد متناهية» (٢) ، واستدلّوا عليه بوجوه (٣) ، من أوْضَحِها أنّا نفرض خطّاً غيرَ متناه وكرةً خرج من مركزها خطٌّ مواز لذلك الخطّ غير المتناهي ، فإذا تحرّكت الكرة تلاقي الخطان بمصادرة اُقليدس (٤) ، فصار الخطّ الخارج من المركز مسامتاً للخطّ غير المتناهي المفروض بعد ما كان موازياً له.

ففي الخطّ غير المتناهي نقطة بالضرورة هي أوّلُ نُقَطِ المسامتة ، لكن ذلك محالٌ ، إذ لا يمكن أن يفرض على الخطّ نقطة مسامتة إلاّ وفوقَها نقطةٌ يسامتها الخطّ قبلها.

وقد اُقيم على استحالة وجود بُعد غير متناه براهينُ اُخر كبرهان التطبيق والبرهان السلّميّ وغير ذلك (٥).

__________________

(١) راجع التعليقات للشيخ الرئيس ص ٩٣ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ١٩٠ ـ ١٩١ ، وكشف المراد ص ٢٠٥ ، والأسفار ج ٤ ص ٢٠ ـ ٢١ ، والفصل الثاني من المقالة الرابعة من الفن الثاني من منطق الشفاء ، والمطارحات ص ٢٤٢.

(٢) هذا مذهب أكثر الحكماء والمتكلّمين بخلاف حكماء الهند على ما في شرح المواقف ص ٤٥١ ، وكشف المراد ص ١٦٧ ، والمحصّل ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) راجع الفصلين السابع والثامن من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، وشرح الإشارات ج ٢ ص ٥٩ ـ ٧٤ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ١٩٢ ـ ٢٠٣ ، والأسفار ج ٤ ص ٢١ ـ ٣٠ ، وكشف المراد ص ١٦٧ ـ ١٦٨ ، وشرح عيون الحكمة ج ٢ ص ٤٩ ـ ٦٤ ، وشرح المنظومة ص ٢٢٧ ـ ٢٣١ ، وشرح حكمة العين ص ٢٧٣ ـ ٢٨١ ، وغيرها من المطوّلات.

(٤) قال الشهرستاني في الملل والنحل ج ٢ ص ١١٤ : «هو أوّلُ من تكلّم في الرياضيات وأفرده علماً نافعاً في العلوم». ومصادرته هي أنّ الخطَّيْن المتوازيَيْن لا يتقاطعان وإن امتدّ إلى غير النهاية ، وإذا تقاطعا عن التوازي تقاطعا لا محالة.

(٥) كبرهان حفظ النسبة ، وبرهان الترسي. راجع شرح الإشارات ج ٢ ص ٧٣ ـ ٧٤ ، والأسفار

١٤٣

الخامس : أنّ الخلاء ـ ولازِمُهُ قيام البُعد بنفسه من دون معروض يقوم به ـ محالٌ (١) ، وسيأتي الكلام فيه في بحث الأين (٢).

السادس : أنّ العدد ليس بمتناه (٣) ، ومعناه أنّه لا توجد مرتبة من العدد إلاّ ويمكن فَرْضُ ما يزيد عليها ، وكذا فَرْضُ ما يزيد على الزائد ، ولا تقف السلسلة حتّى تنقطع بانقطاع الاعتبار ، ويسمّى غير المتناهي «اللا يقفى» ، ولا يوجد من السلسلة دائماً بالفعل إلاّ مقدارٌ متناه ، وما يزيد عليه فهو في القوّة.

وأمّا ذهاب السلسلة بالفعل إلى غير النهاية على نحو العدول دون السلب التحصيلي فغير معقول ، فلا كلَّ ولا مجموعَ لغير المتناهي بهذا المعنى ، ولا تحقُّقَ فيه لشيء من النسب الكسريّة كالنصف والثلث والربع ، وإلاّ عاد متناهياً.

الفصل الحادي عشر

في الكيف وإنقسامه الأوّلي

عرَّفُوه بـ «أنّه عَرَضٌ لا يقبل القسمةَ ولا النسبة لذاته» (٤) فيخرج بـ «العرض»

__________________

ج ٤ ص ٢٣ ، وشرح المنظومة ص ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، وشرح المواقف ص ٤٥٢ ـ ٤٥٥ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ١٩٦ ـ ١٩٩.

(١) هذا مذهب أكثر المحقّقين من الحكماء. راجع الأسفار ج ٤ ص ٤٨ ـ ٥٧ ، والفصل الثامن من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، وشرح عيون الحكمة ج ٢ ص ٨٣ ـ ١٠٠ ، وشرح الإشارات ج ٢ ص ١٦٤ ـ ١٦٦ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ٢٨٨ ـ ٢٤٦ والدعاوي القلبيّة ص ٧ ، والتحصيل ص ٣٨٥ ـ ٣٩١. وأمّا المتكلّمون فذهبوا إلى جواز الخلاء ، ومنهم فخر الدين الرازيّ في المحصّل (تلخيص المحصل) ص ٢١٤ ، وأبو اسحاق ابراهيم بن نوبخت في الياقوت في علم الكلام ص ٣٣١ ، وأبو البركات في المعتبر ج ٢ ص ٤٨ ـ ٦٧ ، والجبّائيّ وابنه وجماعة من متكلّمي الحشوية وأهل الجبر والتشبيه على ما في أوائل المقالات ص ٨١.

(٢) في الفصل السابع عشر.

(٣) راجع الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء.

(٤) هكذا عرّفه فخر الدين الرازيّ في المحصّل ص ١٢٦. وتبعه الحكيم السبزواريّ في شرح

١٤٤

الواجب لذاته والجوهر ، وبقيد «عدم قبول القسمة» الكمّ ، وبقيد «عدم قبول النسبة» المقولات السبع النسبيّة ، ويدخل بقيد «لذاته» ما تعرضه قسمةٌ أو نسبةٌ بالعرض.

قال صدر المتألّهين : «المقولات لَمّا كانت أجناساً عاليةً ليس فوقها جنسٌ ، لم يمكن أن يورد لها حدّ ، ولذلك كان ما يورد لها من التعريفات رسوماً ناقصةً يكتفي فيها بذكر الخواصّ لإفادة التمييز ، ولم يظفر في الكيف بخاصّة لازمة شاملة إلاّ المركّب من العرضيّة والمغايرة للكمّ والأعراض النسبيّة ، فعُرِّف بما محصّله : (أنّه عرضٌ يغاير الكم والأعراض النسبيّة).

لكنّ هذا التعريف تعريفٌ للشيء بما يساويه في المعرفة والجهالة ، لأنّ الأجناس العالية ليس بعضها أجلى من البعض ، ولو جاز ذلك لجاز مثله في سائر المقولات ، بل ذلك أولى ، لأنّ الاُمور النسبيّة لا تعرف إلاّ بعد معروضاتها التي هي الكيفيّات ، فعدلوا عن ذكر كلّ من الكمّ والأعراض النسبيّة إلى ذكر الخاصّة التي هي أجلى» (١) ـ إنتهى ملخّصاً.

وينقسم الكيف إنقساماً أوّلياً إلى أربعة أقسام كلّيّة هي : الكيفيّات المحسوسة ، والنفسانيّة ، والمختصّة بالكميّات ، والاستعداديّة.

وتعويلهم في حصرها في الأربعة

__________________

المنظومة ص ١٣٩. والمشهور أنّ الكيفيّة هيئةٌ قارّةٌ لا يوجب تصوّرُها تصوّرَ شيء خارج عنها وعن حاملها ، ولا يقتضى قسمة ولا نسبة. راجع تعليقة صدر المتألّهين على الشفاء ص ١٢١. وزاد في الأسفار ج ٤ ص ٥٩ ـ كما في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٢٥٧ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ٢٠٠ ، والتحصيل ص ٣٩٣ ـ قولَه : «في أجزاء حاملها».

والرازيّ أورد على هذا التعريف ، ثمّ قال : «ولعلّ الأقرب أن يقال : الكيف هو العرض الذي لا يتوقّف تصوُّرُه على تصوّر غيره ولا يقتضي القسمة واللاقسمة في محلّه اقتضاءً أوّلياً» ، راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٢٦١.

وقال الشيخ الرئيس في الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الفن الثاني من منطق الشفاء : «إنّ الكيفيّة هي كلّ هيئة قارّة في الموصوف بها ، لا توجب تقديره أو لا تقتضيه ، ويصلح تصوّرها من غير أن يحوج فيها إلى التفات إلى نسبة تكون إلى غير تلك الهيئة». وقال في عيون الحكمة : «هو كلّ هيئة غير الكميّة مستقرّة لا نسبة فيها». ثمّ الرازيّ أورد عليه ، فراجع شرح عيون الحكمة ج ١ ص ١٠٨ ـ ١١٠.

(١) راجع الأسفار ج ٤ ص ٥٨ ـ ٥٩.

١٤٥

على الإستقراء (١).

الفصل الثاني عشر

في الكيفيّات المحسوسة (٢)

ومن خاصّتها أنّ فعْلَها بطريق التشبيه ـ أي جَعَل الغيرَ شبيهاً بنفسها ـ ، كما تجعل الحرارةُ مجاورَها حارّاً ، وكما يلقى السواد مثلا شبحَه ـ أي مثاله ـ على العين.

والكيفيّات المحسوسة تنقسم إلى المبصرات ، والمسموعات ، والمذوقات ، والمشمومات ، والملموسات.

والمبصرات : منها الألوان ، فالمشهور أنّها كيفيّاتٌ عينيّةٌ موجودةٌ في خارج الحسّ؛ وأنّ البسيط منها البياض والسواد ، وباقي الألوان حاصلةٌ من تركّبهما أقساماً من التركيب (٣).

وقيل (٤) : «الألوان البسيطة التي هي الاُصول خمسةٌ : السواد ، والبياض ، والحُمْرَةُ ، والصُفْرَةُ ، والخُضْرَةُ ، وباقي الألوان مركّبٌ منها».

وقيل (٥) : «اللون كيفيّةٌ خياليّةٌ لا وجودَ لها وراءَ الحسّ ، كالهالة وقوس قزح وغيرهما ، وهي حاصلة من أنواع اختلاط الهواء بالأجسام المُشِفّة أو انعكاس منها».

__________________

(١) كما في الأسفار ج ٤ ص ٦١ ، وشرح المواقف ص ٢٣٤ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ٢٠١. وقد ذُكِرَ في بيان وجه الحصر في الأربعة طرقٌ أربعة : الأوّل ما ذكره الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٦٢ ـ ٢٦٣. والثاني والثالث والرابع ما ذكره الشيخ الرئيس في الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الفن الثاني من منطق الشفاء ، فراجع. وتعرّض لها صدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ٦٢ ـ ٦٤ ، ثمّ قال : «والكلّ ضعيفة متقاربة».

(٢) قال شارح المواقف في وجه تقديمها على سائر الأقسام : «لأنها أظهر الأقسام الأربعة» ، راجع شرح المواقف ص ٢٣٥.

(٣) راجع كشف المراد ص ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٤) والقائل هم المعتزلة على ما نُقل في المحصّل ص ٢٣٢.

(٥) والقائل بعض القدماء على ما نُقل في شرح المواقف ص ٢٥٣. وتعرّض له وللإجابة عليه الشيخ الرئيس في الفصل الرابع من المقالة الثالثة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء.

١٤٦

ومن المبصرات النّور ، وهو غنيٌّ عن التعريف (١) ، وربّما يُعرَّف بـ «أنّه الظاهر بذاته المظهِر لغيره» (٢) وينبغي أن يراد به إظهارُهُ الأجسامَ للبصر ، ولو اُطلِقَ الإظهار كان ذلك خاصّة للوجود.

وكيف كان ، فالمعروف من مذهبهم : «أنّه كيفيّةٌ مبصرةٌ توجد في الأجسام النيّرة بذاتها أو في الجسم الذي يقابل نيّراً من غير أن ينتقل من النيّر إلى المستنير» ، ويقابله الظلمة مقابلةَ العدم للملكة (٣).

وقيل (٤) : «إنّ النّور جوهرٌ جسمانيّ».

وقيل (٥) «أنّه ظهور اللون».

والمسموعات : هي الأصوات ، والصوت كيفيّةٌ حاصلةٌ من قَرْع عنيفأو قَلْع عنيف مستتبعٌ لتموُّج الهواء الحامل للأصوات ، فإذا بلغ التموُّجُالهواءَ المجاورَ لصماخ الأذُن أحسّ الصوت (٦).

وليس الصوت هو

__________________

(١) كما كان اللون غنياً عن التعريف ، لظهورهما ، فإنّ الاحساس بجزئياتهما قد اطّلعنا على ماهيتهما اطّلاعاً لا يفي به ما يمكننا من تعريفاتهما على تقدير صحّتها. وعرّفه الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٠١ بـ «أنّه الكيفيّة التي لا يتوقّف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر». وزيّفه صدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ٩٠ بأنّه تعريفٌ بما هو أخفى.

(٢) هكذا عرّفه الشيخ الإشراقيّ في حكمة الإشراق ، فراجع شرح حكمة الإشراق (كلام الماتن) ص ٢٩٥.

(٣) اعلم أنّ في تقابل الظلمة والنور مذاهب ثلاثة : أحدها : ما ذهب إليه الإشراقيّون ، وهو تقابل السلب والإيجاب. وثانيها : ما ذهب إليه المشاؤون ، وهو تقابل العدم والملكة ، كما قال الشيخ الرئيس في الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفنّ السادس من طبيعيات الشفاء : «فإنّ الظلمة عدم الضوء فيما من شأنه أن يستنير». وثالثها : ما ذهب إليه المتكلّمون ، وهو تقابل التضادّ.

(٤) والقائل بعض الحكماء الأقدمين على ما نُقل في شرح المواقف ص ٢٥٦. وراجع الفصل الثاني من المقالة الثالثة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء. وأشار إلى بطلانه في كشف المراد ص ٢١٩.

(٥) تعرّض له وللإجابة عليه الشيخ الرئيس في الفصلين الثاني والثالث من المقالة الثالثة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء. وصدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ٩١ ـ ٩٤.

(٦) هذا ما ذهب إليه الفلاسفة في تعريف الصوت فراجع الفصل الخامس من المقالة الثانية

١٤٧

التموّج (١) ، ولا نفس القَلْع والقَرْع (٢).

وليس الصوت المحسوس خيالا في الحسّ معدوماً في خارج الحسّ (٣).

والمذوقات : هي الطعوم المدرَكة بالذائقة ، وقد عدّوا بسائطها تسعة (٤) ، وهي : الحرَافة ، والملاحة ، والمرارة ، والدسومة ، والحلاوة ، والتفة ، والعفوصة ، والقبض ، والحموضة ، وما عدا هذه الطعوم طعومٌ مركّبةٌ منها.

والمشمومات أنواع الروائح المحسوسة بالشامّة ، وليس لأنواع الروائح التي ندركها أسماء عندنا نعرفها بها إلاّ من جهة إضافتنا لها إلى موضوعاتها ، كما نقول : «رائحة المسك» و «رائحة الورد» أو من جهة موافقتها للطبع ومخالفتها له ، كما نقول : «رائحة طيبّة» و «رائحة منتنة» ، أو من جهة نسبتها إلى الطعم كما نقول : «رائحة حلوة» و «رائحة حامضة».

وهذا كلّه دليل ضَعْفِ الإنسان في شامّته ، كما ذكره الشيخ (٥).

والملموسات (٦) أنواع الكيفيّات المحسوسة بحسّ اللمس ، وقد عدّوا

__________________

من الفن السادس من طبيعيات الشفاء ، وكشف المراد ص ٢٢٠ ، والأسفار ج ٤ ص ٩٨ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٠٥.

وأمّا المتكلّمون فقال صاحب المواقف ـ على ما في شرح المواقف ص ٢٦٠ ـ : «والحقّ أنّ ماهيتَهُ بديهيةٌ مستغنيةٌ عن التعريف». وقال التفتازانيّ في شرح المقاصد ج ١ ص ٢١٦ : «والصوت عندنا يحدث بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير لتموّج الهواء والقرع والقلع كسائر الحوادث».

(١ و ٢) هكذا في شرح حكمة العين ص ٢٩٨.

(٣) راجع الفصل الخامس من المقالة الثانية من الفن السادس من طبيعيات الشفاء.

(٤) راجع شرح المقاصد ج ١ ص ٢٢١ ، وايضاح المقاصد ص ١٩٤ ، وشرح حكمة العين ص ٣٠٢ ، والفصل الرابع من المقالة الثانية من الفن السادس من طبيعيات الشفاء ، والمحصّل ص ٢٣٣.

(٥) في الفصل الرابع من المقالة الثانية من الفن السادس من طبيعيات الشفاء ، حيث قال : «ويشبه أن يكون حال إدراك الروائح من الناس كحال إدراك أشباح الأشياء وألوانها من الحيوانات الصلبة العين».

١٤٨

بسائطها إثنى عشر نوعاً (١) ، هي : الحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، واللطافة ، والكثافة ، واللزوجة ، والهشاشة ، والجِفاف ، والبِلّة ، والثِقْل ، والخفّة (٢) ، وقد ألْحَقَ بها بعضُهم (٣) الخشونة ، والملاسة (٤) ، والصلابة ، واللين (٥) ، والمعروف أنّها مركّبة.

__________________

(٦) والمحقّق الطوسيّ قدّم البحث عنها ، وقال العلاّمة الحلّيّ في وجه تقديمه : «لمّا كانت الكيفيات الملموسة أظهر عند الطبيعة لعمومها بالنسبة إلى كلّ حيوان ، قدّم البحث عنها» راجع كشف المراد ص ٢١١.

(١) راجع الأسفار ج ٤ ص ٦٧ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ٢٦٩. بخلاف المحقّق الطوسيّ ، فإنّه عدّها أربعة أنواع ، حيث قال : «فمنها أوائل الملموسات ، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، والبواقي منتسبة إليها». فراجع كشف المراد ص ٢١١.

وهذه يسمّى «أوائل الملموسات». والوجه في تسميتها بأوائل الملموسات وجهان : (أحدهما) أنّ القوّة اللامسة تعمّ جميع الحيوانات ولا يخلو حيوان عن هذه القوّة. و (ثانيهما) أنّ الأجسام العنصريّة قد تخلو عن الكيفيات المبصرة والمسموعة والمذوقة والمشمومة ، ولا تخلو عن الكيفيات الملموسة.

(٢) والكاتبيّ فسّر جميع هذه الكيفيّات ، فقال : «أمّا الحرارة والبرودة فغنيان عن التعريف. وأمّا الرطوبة فهي الكيفيّة التي بها يصير الجسم سهل التشكل وسهل الترك له. وأمّا اليبوسة هي التي بها يصير الجسم عسر التشكل وعسر الترك له. وأمّا اللطافة فيقال على رقّة القوام وقبول الإنقسام وسرعة التأثّر من الملاقي والشفافية ، والكثافة على مقابلات هذه الأربعة. واللزج هو الذي يسهل تشكيله ويصعب تفريقه ، والهش بالعكس. والجسم الذي طبيعته لا يقتضي الرطوبة فإن لم يلتصق به جسم رطب فهو الجاف ، وإلاّ فهو المبتل. والزق المنفوخ المسكن تحت الماء قسراً نجد فيه مدافعة صاعدة ، والحجر المسكن في الجو قسراً نجد فيه مدافعة هابطة والاُولى هي الخفة والثانية هي الثقل» ، انتهى كلامه ملخّصاً. فراجع شرح حكمة العين ص ٢٨٧ ـ ٢٩٢. وفسّرها الآمليّ أيضاً في درر الفوائد ص ٤٠٧.

(٣) وهو الجمهور من الحكماء على ما في شرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين ص ٢٦٩.

(٤) وأخرجهما عنها صدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ٨٤ ، وقال : «انّما يقع الإشتباه في مثل هذه الاُمور لعدم الفرق بين ما بالذات وما بالعرض ...».

(٥) وعدّهما صدر المتألّهين من الكيفيات الإستعدادية تبعاً لأثير الدين الأبهريّ في الهداية الأثيريّة. فراجع الأسفار ج ٤ ص ٨٤ ، وشرحه للهداية الأثيريّة ص ٢٦٩.

١٤٩

الفصل الثالث عشر

في الكيفيّات المختصّة بالكميّات

وهي الكيفيّات العارضة للجسم بواسطة كميّته ، فيتّصف بها الكمّ أوّلا ثمّ الجسم لكمّيته (١) ، كالإستدارة في الخطّ ، والزوجيّة في العدد.

وهي ثلاثة أقسام بالإستقراء : (الأوّل) الشكل والزاوية.

(الثاني) ما ليس بشكل وزاوية ، مثل الاستدارة والاستقامة من الكيفيّات العارضة للخطّ والسطح والجسم التعليميّ.

(الثالث) الكيفيّات العارضة للعدد ، مثل الزوجيّة والفرديّة والتربيع والتجذير وغير ذلك.

وألْحَقَ بعضُهم (٢) بالثلاثة الخلقةَ ، ومرادهم بها مجموع اللون والشكل. ويدفعه أنّها ليست لها وحدةٌ حقيقيّةٌ ذاتُ ماهيّة حقيقيّة ، بل هي من المركّبات الإعتباريّة ، ولو كانت ذات ماهيّة كان من الواجب أن تندرج تحت الكيفيّات المبصرة والكيفيّات المختصّة بالكميّات ، وهما جنسان متباينان ، وذلك محالٌ.

أمّا القسم الأوّل :

فالشكل هيئةٌ حاصلةٌ للكمّ من إحاطة حدّ أو حدود به إحاطةً تامةً ، كشكل الدائرة التي يحيط بها خطٌّ واحدٌ ، وشكل المثلّث والمربّع وكثير الأضلاع التي يحيط بها حدودٌ ، والكرة التي يحيط بها سطحٌ واحدٌ ، والمخروط والاُسطوانة والمكعّب التي تحيط بها سطوحٌ فوقَ الواحد.

والشكل من الكيفيّات لصِدْقِ حدّ الكيف عليه ، وليس هو السطح أو الجسم ،

__________________

(١) هكذا عرّفه الفخر الرازي في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٤١٤. وتبعه صدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ١٦٢.

(٢) كالشيخ الرئيس في الفصلين الأوّل والثاني من المقالة السادسة من الفن الثاني من منطق الشفاء ، وفخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٤١٥ و ٤٢٨ ، والمحقّق الطوسيّ على ما في كشف المراد ص ٢٥٥ ، والعلاّمة التفتازانيّ في شرح المقاصد ج ١ ص ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، وصدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ١٦٢ ـ ١٦٣ و ١٨٣ ـ ١٨٤.

١٥٠

ولا الحدود المحيطة به ، ولا المجموعَ ، بل الهيئة الحاصلة من سطح أو جسم أحاط به حدودٌ خاصّةٌ.

والزاوية هي الهيئة الحاصلة من إحاطة حدّين أو حدود متلاقية في حدٍّ إحاطةً غيرَ تامّة ، كالزاويةِ المسطَّحة من إحاطة خطَّيْن متلاقيَيْن في نقطة ، والزاويةِ المجسَّمة الحاصلة من إحاطة سطح المخروط المنتهى إلى نقطة الرأس ، وزاوية المكعَّب المحيط بها سطوح ثلاثة.

والكلام في كون الزاوية كيفاً لا كمّاً ، نظير ما مرّ من الكلام في كون الشكل من مقولة الكيف.

وجوّز الشيخ (١) كون الهيئة الحاصلة من إحاطة السطحَيْن ـ من المكعَّب مثلا ـ المتلاقيَينْن في خطٍّ زاويةً ، لانطباق خواصّ الزاوية عليها.

وأمّا القسم الثاني : فالاستقامة في الخطّ ، وتُقابِلُها الاستدارةُ من مقولة الكيف دون الكمّ ، وبينهما تخالفٌ نوعيٌّ (٢).

أمّا أنّهما من مقولة الكيف ، فلأنّا نعقل مفهومَي الاستقامة والاستدارة ، وهما مفهومان ضروريّان ، ولا نجد فيهما معنى قبول الانقسام وإن كان لا يفارقان ذلك وجوداً لعروضهما للكمّ ، ولو كان قبولُ الانقسام جزءاً من حدَّيْهما أو من أعْرِف خواصّهما لم يخل عنه تعقّلهما.

وأمّا كونهما نوعَيْن متخالفَيْن متباينَيْن ، فلأنّهما لو كانا نوعاً واحداً كان ما يوجد فيهما من التخالف عرضيّاً غيرَ جزء للذات ولا لازماً لها ، فكان من الجائز عند العقل أن يزول وَصْفُ الاستقامة عن الخطّ المستقيم ويبقى أصلُ الخط ثمّ يوصف بالاستدارة ، لكنّ ذلك محالٌ ، لأنّ الخطَّ نهايةُ السطح كما أنّ السطحَ نهايةُ الجسم ، ولا يمكن أن يتغيّر حال النهاية إلاّ بعدَ تغيُّرِ حالِ ذي النهاية ، فلو لم يتغيّر

__________________

(١) في الفصل الثاني من المقالة السادسة من الفن الثاني من منطق الشفاء.

(٢) راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٤١٩ ، والأسفار ج ٤ ص ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٥١

حالُ السطح في انبساطِهِ وتمدُّدِهِ لم يتغيّر حالُ الخطّ في استقامتِهِ ، ولو لم يتغيّر حالُ الجسم في انبساطِهِ وتمدُّدِهِ لم يتغيّر حالُ السطح في ذلك ، والجسم التعليمي يبطل بذلك ويوجد غيره ، وكذا السطح الذي هو نهايته ، وكذا الخطّ الذي هو نهايته ، فإذا بطل المعروض ووجد معروض آخر بالعدد كان العارض أيضاً كذلك.

فإذا امتنع بقاء المستقيم من الخطّ مع زوال استقامته عُلِمَ منه أنّ الاستقامة إمّا فصله أو لازم فصله ، فالمستقيم يغاير المستدير في نوعيّته ، وكذا السطح المستوي وغيره ، وأيضاً غيره لما يخالفه ، وكذا الأجسام التعليميّة لما يخالفها.

ويتفرّع على ما تقدّم : أوّلا : أنّ لا تضادَّ بين المستقيم والمستدير (١) ، لعَدَم التعاقب على موضوع واحد (٢) ولعَدَم غايةِ الخلاف ، وكذا ما بين الخطَّ والسطح ، وكذا ما بين السطح والجسم التعليمي ، وكذا ما بين السطوح أنفسها وبين الأجسام التعليميّة أنفسها.

وثانياً : أنّ لا اشتدادَ وتضعُّفَ بين المستقيم والمستدير ، إذ من الواجب في التشكيك أن يشمل الشديدُ على الضعيف وزيادة ، وقد تبيّن أنّ المستقيم لا يتضمّن المستديرَ وبالعكس.

وأمّا القسم الثالث : فالزوجيّة والفرديّة العارضتان للعدد (٣) ، وكذا التربيع والتجذير والتكعيب وما يناظرها.

وهي من الكيفيّات دون الكم ، لصدْقِ حدّ الكيف عليها ، وهو ظاهرٌ بالنظر إلى أنّ كلّ مرتبة من مراتب العدد نوعٌ منه مستقلٌّ في نوعيّته مباينٌ لغيره يشارك

__________________

(١) راجع الفصل الثالث من المقالة السادسة من الفن الثاني من منطق الشفاء ، وشوارق الإلهام ص ٤٥١ ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ٤١٩ ـ ٤٢٠ ، والأسفار ج ٤ ص ١٧٠.

(٢) واعترض عليه الشارح القوشجيّ في شرحه للتجريد ص ٢٨٦ بأنّ الدائرة سطحٌ مستو ، وهي موضوع لمحيطها الذي هو خطٌّ مستدير ، وكذا الخط المستقيم قد يوجد في السطح غير المستوي ، فإنّ محيط الاستوانة وكذا محيط المخروط غير مستو وقد يوجد فيهما خط مستقيم. وأجاب عنه الشارح اللاهيجيّ في شوارق الإلهام ص ٤٥١ ، فراجع.

(٣) فليستا من الاُمور الذاتيّة. راجع المباحث المشرقية ج ١ ص ٤٧٩ ، والأسفار ج ٤ ص ١٨٧ ـ ١٨٨.

١٥٢

سائر المراتب في الانقسام ، وكون الانقسام بمتساويين وعدم كونه كذلك نعتٌ للإنقسام غيرُ قابل في نفسه للانقسام وغيرُ نسبيٍّ في نفسه ، فليس بكمٍّ ، ولا بواحد من الأعراض النسبيّة ، فليس شيءٌ من الزوجيّة والفرديّة إلاّ كيفاً عارضاً للكمّ.

ونظير البيان يجري في سائر أحوال الأعداد من التربيع والتجذير وغير ذلك.

وبالتأمّل فيما تقدّم يظهر :

أوّلا : أنّ لا تضادَّ بين هذه الأحوال العدديّة ، إذ لا موضوعَ مشتركاً بين الزوجيّة والفرديّة تتعاقبان عليه على ما هو شرط التضادّ (١).

وثانياً : أن لا تشكيكَ بالشدّة والضعف ، ولا بالزيادة والنقيصة في هذه الأحوال العدديّة.

فكما لا يتبدّل تقوّسٌ وإستدارةٌ إلى تقوّس وإستدارة اُخرى إلاّ مع بطلان موضوعه ووجود موضوع آخر غيره بالعدد ، كذلك لا تتبدّل زوجيّةٌ ـ مثلا ـ إلى زوجيّة زوج الزوج إلاّ مع بطلان موضوعه الذي هو المعدود ووجود موضوع اُخر غيره بالعدد (٢). وفي ذلك بطلانُ الزوجيّة التي هي عرضٌ ووجودُ زوجيّة اُخرى بالعدد ، وليس ذلك من التشكيك في شيء.

وثالثاً : يعلم ـ بالتذكّر لما تقدّم (٣) ـ أنّ الكيفيّات المختصّة بالكميّات توجد في المادّيّات والمجرّدات المثاليّة جميعاً بناءً على تجرُّد المثال.

الفصل الرابع عشر

في الكيفيّات الاستعداديّة

وتسمّى أيضاً القوّة واللاقوّة (٤)

والمعنى الجامع بينها ـ الذي هو بمنزلة النوع من مطلق الكيف وبمنزلة الجنس

__________________

(١) راجع الأسفار ج ٤ ص ١٨٧.

(٢) راجع الأسفار ج ٤ ص ١٨٧.

(٣) في الفصل العاشر من هذه المرحلة من أنّ الكم المنفصل يوجد في الماديات والمجرّدات جميعاً ، ولازمه وجود الكيفيّات المختصّة به فيها.

(٤) راجع الفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣١٥ ، والأسفار ج ٤ ص ١٠٤.

١٥٣

لأنواعها الخاصّة بها ـ أنّها استعدادٌ شديدٌ جسمانيٌّ نحو أمر خارج بمعنى أنّه الذي يُترجّح به حدوثُ أمر من خارج.

ولها نوعان : (أحدهما) الاستعداد الشديد على أن ينفعل ، كالممراضيّة (١) واللين.

و (الثاني) الاستعداد الشديد على أن لا ينفعل ، كالمصحاحيّة (٢) والصلابة.

وألْحَقَ بعضهم (٣) بالنوعين نوعاً ثالثاً ، وهو الاستعداد الشّديد نحوَ الفعل ، كالمصارعيّة (٤).

وردّه الشيخ (٥) وتبعه صدر المتألّهين ، قال في الأسفار : «إنّه لا خلافَ في أنّ القوّة على الإنفعال والقوّة على المقاومة داخلتان تحت هذا النوع.

وأمّا أنّ القوّة على الفعل هل هي داخلة تحت هذا النوع؟ فالمشهور أنّها منه والشيخ أخرجها منه ، وهو الحقّ ، كما سيظهر لك وجهه.

فإذا اُريد تلخيصُ معنى جامع للقسمين دون الأمر الثالث ، فيقال : إنّه كيفيّةٌ بها يترجّح أحد جانِبيَ القبول واللاقبول لقابلها.

وأمّا بيان أنّ القوّة على الفعل لا تصلح أن تكون داخلةً تحت هذا النوع ـ كما ذهب اليه الشيخ ـ ، فيحتاج أوّلا إلى أن نعرف أصلا كليّاً ، وهو : أنّ جهات الفعل دائماً تكون من لوازم الذات ، لأنّ كلّ ذات لها حقيقة ، فلها اقتضاءُ أثر إذا خُلّيَتْ وطَبْعها ولم يكن مانعٌ تفعل ذلك الأثر ، فلا تحتاج في فعلها إلى قوّة زائدة عليها ، وإذا فرض إضافةُ قوّة اُخرى لها لم تكن تلك الذات بالقياس إليها فاعلةً لها بل قابلة إيّاها؛ وإذا اعتبرت الذات والقوّة معاً كان المجموع شيئاً آخر ، إن كان له فعلٌ كان فعلُهُ لازماً من غير تراخي إستعداد له لحصول ذلك الفعل؛ ولو فرض ذلك

__________________

(١) وهي كيفيّة تقتضي سهولة قبول المرض.

(٢) وهي كيفيّة تقتضي عسر قبول المرض.

(٣) نُسب إلى المتقدّمين في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣١٦ ، وإلى الجمهور في شرح المقاصد ج ١ ص ٢٥٤ ، وإلى المشهور في الأسفار ج ٤ ص ١٠٥.

(٤) وهي بالفارسيّة : كُشتي گرفتن.

(٥) راجع الفصل الثالث من المقالة الخامسة من الفن الثاني من منطق الشفاء ، حيث قال : «وأيضاً فالمتشّكّكِ أن يتشكّك في أنّه هل المصارعيّة في هذا الباب داخلة ...». وردّه أيضاً الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣١٦ ـ ٣١٨.

١٥٤

الاستعداد للفاعليّةِ له كان يلزمه أوّلا قوّة إنفعاليّة لحصول ما يتمّ به كونه فاعلا ، فذلك الاستعداد المفروض لم يكن بالحقيقة لفاعليّته ، بل لإنفعاله ، فليس للفاعليّة إستعداد ، بل للمنفعليّة أوّلا وبالذات وللفاعليّة بالعرض.

فثبت ممّا بيّنّا بالبرهان أنّ لا قوّةَ ولا استعدادَ بالذات لكون الشيء فاعلا ، بل إنّما القوّة والاستعداد للإنفعال ولصيرورة الشيء قابلا لشيء بعد أن لم يكن» (١) ، إنتهى.

الفصل الخامس عشر

في الكيفيات النفسانية

وأمّا نفس الاستعداد ، فقد قيل (٢) : «إنّها من المضاف ، إذ لا يعقل إلاّ بين شيئيْن مستعدّ ومستعدّ له ، فلا يكون نوعاً من الكيف» ويظهر من بعضهم أنّه كيفٌ يلزمه إضافة (٣) ، كالعلم الذي هو من الكيفيّات النفسانيّة وتلزمه الإضافة بين موضوعه في الكيفيّات النفسانيّةالكيفيّة النفسانيّة ، وهي ـ كما قال الشيخ (٤) ـ : ما لا يتعلّق بالأجسام على الجملة ، إن لم تكن راسخةً سمّيت «حالا» وإن كانت راسخةً سمّيت «ملكةً» ؛ وإذ كانت النسبة بين الحال والملكة نسبةَ الضَعْف والشدّة وهم يعدّون المرتبتَيْن من الضَعْف والشدّة نوعين مختلفين ، كان لازُمُه عَدَّ الحال مغايراً للملكة نوعاً ووجوداً.

والكيفيّات النفسانيّة كثيرةٌ ، وإنّما أوردوا منها في هذا الباب بعض ما يهمّ البحث عنه.

فمنها : الإرادة ، قال في الأسفار : «يشبه أن يكون معناها واضحاً عند العقل

__________________

(١) راجع الأسفار ج ٤ ص ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) والقائل فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣١٦. ثمّ تبعه صدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ١٠٥.

(٣) فيكون من قبيل الكيفيات ذات الاضافة.

(٤) راجع الفصل الثالث من المقالة الخامسة من الفن الثاني من منطق الشفاء.

١٥٥

غيرَ ملتبس بغيرها ، إلاّ أنّه يعسر التعبير عنها بما يفيد تصوّرها بالحقيقة.

وهي تُغايِرُ الشهوةَ ، كما أنّ مقابلها ـ وهو الكراهة ـ يغايِرُ؛ النفرةَ ولذا قد يريد الإنسان ما لا يشتهيه كشرب دواء كريه ينفعه ، وقد يشتهي ما لا يريده كأكل طعام لذيذ يضرّه» (١) ، إنتهى.

وبمثلِ البيان يظهر أنّ الإرادة غيرُ الشوق المؤكَّد الذي عرّفها به بعضهم (٢).

وملخَّص القول ـ الذي يظهر به أمرُ الإرادة التي يتوقّف عليها فعلُ الفاعل المختار ـ هو : أنّ مقتضى الاُصول العقليّة أنّ كلَّ نوع من الأنواع الجوهريّة مبدأ فاعليٌّ للأفعال التي يُنسب إليه صدورها ، وهي كمالات ثانية للنوع ، فالنفس الإنسانيّة ـ التي هي صورة جوهريّة مجرّدة متعلقةُ الفعل بالمادّة ـ علّةٌ فاعليّةٌ للأفعال الصادرة عن الإنسان ، لكنّها مبدأ علميٌّ لا يصدر عنها إلاّ ما ميّزته من كمالاتها الثانية من غيره ، ولذا تحتاج قبل الفعل إلى تصوّر الفعل والتصديق بكونه كمالا لها ، فإن كان التصديق ضروريّاً أو ملكةً راسخةً ، قضَتْ بكون الفعل كمالا ولم تأخذ بالتروّي ، كالمتكلّم الذي يتلفّظ بالحرف بعد الحرف من غير تروٍّ ، ولو تروّى في بعضها لتبلَّدَ وتلكّأ وانقطع عن الكلام ، وإن لم يكن ضروريّاً مقضيّاً به توسّلتْ إلى التروّي والفحص عن المرجّحات ، فإن ظفرَتْ بما يقضي بكون الفعل كمالا قضَتْ به.

ثمّ يتبع هذه الصورة العلميّة ـ على ما قيل (٣) ـ الشوق إلى الفعل لما أنّه كمالٌ ثان معلول لها ، ثمّ تتبع الشوقَ الإرادةُ ، وهي ـ وإن كانت لا تعبيرَ عنها يفيد تصوُّرَ حقيقتها لكن ـ يشهد لوجودها بعد الشوق ما نجده ممن يريد الفعلَ وهو عاجزٌ عنه ، ولا يعلم بعجزه ، فلا يستطيع الفعل وقد أراده ، ثمّ تتبع الإرادةَ القوّةُ

__________________

(١) راجع الأسفار ج ٤ ص ١١٣. وهذا بعينه ما قال التفتازانيّ في شرح المقاصد ج ١ ص ٢٣٦.

(٢) هكذا عرّفها الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص ١٨٤ ، حيث قال : «إنّ الإرادة فينا شوقٌ مؤكّدٌ يحصل عقيب داع». وقال في تعليقته على الأسفار ج ٦ ص ٣٢٣ الرقم (١) : «وذلك لأنّ الإرادة فينا هي الشوق الأكيد الشديد الموافي للمراد». ونسبه صدر المتألّهين إلى الأوّلين في الأسفار ج ٤ ص ١١٤.

(٣) والقائل الشيخ الرئيس في التعليقات ص ١٦.

١٥٦

العاملة المحرّكة للعضلات ، فتحرّك العضلات ، وهو الفعل.

فمبادئ الفعل الإراديّ فينا هي العلم والشوق والإرادة والقوّة العاملة المحرّكة. هذا ما نجده من أنفسنا في أفعالنا الإراديّة. وإمعان النظر في حال سائر الحيوان يعطي أنّها كالإنسان في أفعالها الإراديّة.

فظهر بذلك :

أوّلا : أنّ المبدأ الفاعليّ لأفعال الإنسان الإراديّة بما أنّها كمالاتها الثانية هو الإنسان بما أنّه فاعلٌ علميٌّ ، والعلم متمّم لفاعليّته ، يتمّيز به الكمال من غيره ، ويتبعه الشوقُ من غير توقّف على شوق آخر أو إرادة ، وتتبعه الإرادةُ بالضرورة من غير توقّف على إرادة اُخرى وإلاّ لتسلسلت الإرادات.

فعَدّ الإرادة علّةً فاعليّةً للفعل (١) في غير محلّه.

وإنّما الإرادة والشوق الذي قبلها من لوازم العلم المتمّم لفاعليّة الفاعل.

وثانياً : أنّ أفعال الإنسان ـ ممّا للعلم دخلٌ في صدوره ـ لا تخلو من إرادة الفاعل حتّى الفعل الجبريّ ، وسيأتي في البحث عن أقسام الفاعل ما ينفع في المقام (٢).

وثالثاً : أنّ الملاك في إختياريّة الفعل تَساوي نسبة الإنسان إلى الفعل والترك ، وإن كان بالنظر إليه ـ وهو تامُّ الفاعليّة ـ ضروريُّ الفعل.

ومن الكيفيّات النفسانيّة القدرة ، وهي حالة في الحيوان ، بها يصحّ أن يصدر عنه الفعل إذا شاء ولا يصدر عنه إذا لم يشأ (٣). ويقابلها العجز (٤).

__________________

(١) قال الشيخ الرئيس في التعليقات ص ١٦٤ : «والإرادة علّة للكائنات».

(٢) راجع الفصل السابع من المرحلة الثامنة.

(٣) هذا تعريفها عند الفلاسفة. وأمّا المتكلّمون فعرّفوها بصحّة الفعل ومقابله ـ أي الترك ـ ، راجع الأسفار ج ٤ ص ١١٢ وج ٦ ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤) اعلم إنّهم اختلفوا في أنّ التقابل بينهما هل هو تقابل الملكة والعدم أو تقابل التضاد؟ فيه قولان : أحدهما : أنّ التقابل بينهما تقابلُ الملكة والعدم ، لأنّ العجز عدم القدرة (عمّا من شأنه

١٥٧

وأمّا القدرة المنسوبة إلى الواجب (تعالى) فإذ كان الواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فهي مبدئيّته الفعليّة بذاته لكلّ شيء ، وإذ كانت عين الذات فلا ماهيّة لها ، بل هي صرف الوجود.

ومن الكيفيّات النفسانيّة ـ على ما قيل (١) ـ العلم.

والمراد به العلم الحصوليّ الذهنيّ من حيث قيامه بالنفس قيامَ العرض بموضوعه ، لصدق حدّ الكيف عليه.

وأمّا العلم الحضوريّ فهو حضور المعلوم بوجوده الخارجيّ عند العالِم ، والوجود ليس بجوهر ولا عرض.

والعلم الذي هو من الكيف مختصٌ بذوات الأنفس.

وأمّا المفارقات فقد تقدّم (٢) أنّ علومها حضوريّةٌ غيرُ حصوليّة ، غير أنّ العلوم الحصوليّة التي في معاليلها حاضرةٌ عندها وإن كانت هي أيضاً بما أنّها من صُنْعِها حاضرةً عندها.

ومن هذا الباب الخُلْق ، وهو الملكة النفسانيّة التي تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير رَويَّة (٣).

ولا يسمّى خُلْقاً إلاّ إذا كان عقلا عمليّاً هو مبدأ الأفعال الإراديّة ، وليس هو القدرة على الفعل ، لأنّ نسبة القدرة إلى الفعل والترك متساويةٌ ولا نسبةَ للخُلْق إلاّ إلى الفعل (٤).

وليس المراد به هو الفعل ، وإن كان ربّما يطلق عليه ، لأنّه

__________________

أن يكون قادراً) ، وهذا مذهب أبي هاشم من المعتزلة ، وتبعه المحقّق الطوسيّ في تجريد الإعتقاد ص ١٧٥ ، وراجع كشف المراد ص ٢٥٠. وثانيهما : أنّ التقابل بينهما تقابل التضاد. وهذا مذهب الأشاعرة وجمهور المعتزلة على ما نقل في شرح المواقف ص ٢٩٩ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ٢٤٣ ، وشوارق الإلهام ص ٤٤٢ ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص ٢٧٦ ، وذهب إليه صدر المتألّهين في الأسفار ج ٤ ص ١١٢.

(١) والقائل كثيرٌ من المحقّقين ، كفخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣١٩ ، والمحقّق الطوسيّ في تجريد الإعتقاد ص ١٦٩ ، والتفتازانيّ في شرح المقاصد ج ١ ص ٢٢٤ ، والكاتبيّ والعلاّمة في حكمة العين وايضاح المقاصد ص ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٢) لم يقدّم ، بل سيأتي في الفصل الأوّل والحادي عشر من المرحلة الحادية عشرة.

(٣) هكذا عرّفه الجمهور من الفلاسفة والمتكلّمين. راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٨٥ ، وكشف المراد ص ٢٥٠ ، والأسفار ج ٤ ص ١١٤.

(٤) راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٨٥ ، والأسفار ج ٤ ص ١١٤ ـ ١١٥.

١٥٨

الأمر الراسخ الذي يبتني عليه الفعل (١).

وللخُلْقِ إنشعابات كثيرةٌ تكاد لا تحصى الشُّعَبُ الحاصلة منها ، لكنّ اُصول الأخلاق الإنسانيّة نظراً إلى القُوى الباعثة للإنسان نحو الفعل ثلاثةٌ ، وهي : قُوى الشهوة الباعثة له إلى جذب الخير والنافع الذي يلائمه ، وقُوى الغضب الباعثة له إلى دفع الشرّ والضارّ ، والعقل الذي يهديه إلى الخير والسعادة ويزجره عن الشرّ والشقاء.

فالملكة العاملة في المشتهيات إن لازمَتْ الاعتدال بفعل ما ينبغي كما ينبغي سُمّيت : «عفّة» ، وإن انحرفت إلى حدّ الإفراط سُمّيت : «شَرَهاً» ، وإن نزلت إلى التفريط سمّيت : «خُموداً».

وكذلك الملكة المرتبطة بالغضب لها إعتدالٌ تسمّى : «شجاعة» ، وطرفا إفراط يسمّى : «تهوّراً» ، وتفريط يسمّى : «جُبْناً».

وكذلك الملكة الحاكمة في الخير والشرّ والنافع والضارّ إن لازمت وسط الاعتدال فاشتغلَتْ بما ينبغي كما ينبغي سمّيت «حكمةً» ، وإن خرجت إلى حدّ الإفراط سُمّيت : «جُرْبُزَةً» أو إلى حدّ التفريط سُمّيت : «غباوة».

والهيئة الحاصلة من اجتماع الملكات الثلاث ـ التي نِسْبَتُها إليها نسبةَ المزاج إلى الممتزَج وأثرُها إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ من القوى حقَّهُ ـ إذا اعتدلَتْ سُمّيت : «عدالةً» ، وإن خرجَتْ إلى حدّ الإفراط سُمّيت : «ظلماً» أو إلى حدّ التفريط سُمّيت : «إنظلاماً».

ووسط الاعتدال من هذه الملكات التي هي الاُصول وما يتفرّع عليها من الفروع «فضيلةْ ممدوحةْ» ، والطرفان ـ أعني طرفَي الإفراط والتفريط ـ «رذيلةٌ مذمومةٌ».

والبحث عن هذه الفضائل والرذائل موكولٌ إلى غير هذه الصناعة (٢).

وقد ظهر ممّا تقدّم :

أوّلا : أنّ الخُلْق إنمّا يوجد في العالم الإنسانيّ وغيره من ذوات الأنفس التي

__________________

(١) راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٨٥ ، والأسفار ج ٤ ص ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) وهي صناعة الأخلاق.

١٥٩

تستكمل بالأفعال الإراديّة على ما يناسب كمال وجوده ، فلا خُلْقَ في المفارقات ، إذ لا عقل عمليّاً ولا استكمال إراديّاً فيها.

وثانياً : أنّ كلاّ من هذه الأخلاق التي هي من الكيفيّات النفسانيّة بما أنّها ملكةٌ راسخةٌ تُقابِلها حالٌ من تلك الكيفيّة كالشهوة والغضب والخوف والفزع والحزْن والهمّ والخجل والفرح والسرور والغمّ وغير ذلك. والبحث عن أسبابها الطبيعيّة في الطب ، وعن إصلاحها وتدبيرها بحيث يلائم السعادة الإنسانيّة في صناعة الأخلاق.

ومن الكيفيّات النفسانيّة اللذّةُ والألَم ، واللذّة على ما عرّفوها (١) إدراك

__________________

(١) هكذا عرّفها الشيخ الرئيس في الفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء ، والنجاة ص ٢٤٥. وتبعه المشهور من المحقّقين. ولكن الشيخ عدل منه في الإشارات ، فقال : «إنّ اللذّه هي إدراكٌ ونيلٌ لوصول ما هو عند المدرك كمالٌ وخيرٌ من حيث كذلك. والألم هو إدراك ونيلٌ لوصول ما هو عند المدرك آفةٌ وشرٌّ». وقال المحقّق الطوسيّ : «وهذا أقرب إلى التحصيل من قولهم : (اللذّة إدراك الملايم ، والألم إدراك المنافي). ولذلك عدل الشيخ منه إلى ما ذكره في هذا الموضع». راجع شرح الإشارات ج ٣ ص ٣٣٧ ـ ٣٣٩. وقال التفتازانيّ في شرح المقاصد ج ١ ص ٢٤٤ : «وتصوّرهما بديهيٌّ كسائر الوجدانيات. وقد يفسّران قصداً إلى تعيين المسمّى». وتبعه القوشجيّ في شرحه للتجريد ص ٢٧٧ ، والمحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام ص ٤٤٣.

وفي المقام قولٌ آخر منسوبٌ إلى محمّد بن زكريا الرازيّ الطبيب ، وهو أنّ اللذّة عبارة عن الخروج عن الحالة الغير الطبيعيّة ، والألم عبارة عن الخروج عن الحالة الطبيعيّة. راجع المباحث المشرقيّة ج ١ ص ٣٨٧ ، والأسفار ج ٤ ص ١١٧ ، وشرح المقاصد ج ١ ص ٢٤٤. وتعرّض لهذا القول المحقّق الطوسي ـ كما في كشف المراد ص ٢٥١ ـ ، حيث قال : «وليست اللذّة خروجاً عن الحالة الغير الطبيعيّة» ، إنتهى كلامه على ما في بعض نسخ التجريد. والموجود في بعض آخر منها بهذه العبارة : «وليست اللذّة خروجاً عن الحالة الطبيعيّة». ولمّا كان هذا الكلام ردّاً على الرازيّ فيستفاد منها انّه قال : «اللذّة عبارة عن الخروج عن الحالة الطبيعيّة والألم عبارة عن الخروج عن الحالة الغير الطبيعيّة» ، ولذا نَسَب شيخنا العلاّمة حسن زاده الآملي العبارة الاُولى الى التحريف ، وأمّا المحقّق اللاهيجيّ والشارح القوشجيّ نَسَبا العبارة الثانية الى سهو من القلم. راجع كلامهم في كشف المراد ص ٢٥١ و ٥٧٣ ، وشوارق الإلهام ص ٤٤٣ ـ ٤٤٤ ، وشرح التجريد القوشجيّ ص ٢٧٨.

١٦٠