موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

سواء في ذلك حج التمتّع والقِران والإفراد (١). وإذا كان موته في أثناء عمرة التمتّع أجزأ عن حجّه أيضاً ولا يجب القضاء عنه (٢) وإن مات قبل ذلك وجب القضاء حتّى إذا كان موته بعد الإحرام وقبل دخول الحرم ، أو بعد الدخول في الحرم بدون إحرام (٣).

______________________________________________________

والجواب عن ذلك : أنّه لا بدّ من رفع اليد عن دلالة صحيح زرارة ، لأن دلالته على الإجزاء في صورة الدخول إلى مكّة بالظهور ، لأنّ الدلالة على ذلك بالمفهوم ، وأمّا الأخبار المتقدّمة الدالّة على الإجزاء بالدخول في الحرم بالصراحة فيرفع اليد عن ظهور صحيح زرارة بصراحة تلك الأخبار. مضافاً إلى إمكان إرادة الحرم من مكّة باعتبار شمولها لتوابعها وضواحيها ، مع العلم بأنّ الفصل بين الحرم ومكّة قليل جدّاً.

(١) لأنّ الميزان بكون الحجّ حجّة الإسلام ، فلا فرق بين أقسام الحجّ لإطلاق الأدلّة.

(٢) لأنّ حجّ التمتّع عمل واحد مركّب من العمرة والحجّ فيكون مشمولاً للروايات.

(٣) لأنّ الظاهر من الرّوايات أنّ الموجب للسقوط والإجزاء كونه محرماً ودخل الحرم ، ولا دليل على الاكتفاء بأحدهما ، والنص إنّما دلّ على الإجزاء فيما لو مات بعد الإحرام والحرم.

خلافاً لما عن الشيخ (١) وابن إدريس (٢) فقالا بالإجزاء بالإحرام وإن لم يدخل الحرم ، ولا دليل لهما سوى إشعار بعض الأخبار ، كقوله في صحيح بريد العجلي «وإن كان مات وهو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله وزاده ونفقته وما معه في حجّة الإسلام» (٣) فإن مفهومه الإجزاء إذا مات بعد الإحرام.

__________________

(١) لاحظ النهاية : ٢٨٤ ، المبسوط ١ : ٣٠٦ ، الخلاف ٢ : ٣٩٠.

(٢) السرائر ١ : ٦٤٩.

(٣) الوسائل ١١ : ٦٨ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٦ ح ٢.

٨١

والظاهر اختصاص الحكم بحجّة الإسلام فلا يجري في الحجّ الواجب بالنذر أو الإفساد (١). بل لا يجري في العمرة المفردة أيضاً (٢) فلا يحكم بالإجزاء في شي‌ء من ذلك.

______________________________________________________

وفيه أوّلاً : أنّ إطلاقه معارض بمفهوم صدره الّذي يدل على عدم الإجزاء إذا كان الموت قبل الدخول في الحرم.

وثانياً : أنّ مفهومه الدال على الإجزاء إذا مات بعد الإحرام يعارضه منطوق صحيح زرارة المتقدِّم (١) الدال على الإجزاء في صورة الدخول إلى مكّة ، فيرفع اليد عن المفهوم بمنطوق خبر زرارة.

وثالثاً : أنّ أقصى ما يدل عليه صحيح بريد أنّه لو مات قبل الإحرام وفي أثناء الطريق يصرف ما معه من الأموال في حجّة الإسلام ويقضى عنه ، وأمّا لو مات بعد الإحرام فلا يجعل زاده وجمله ونفقته في حجّة الإسلام ، وأمّا أن عمله يجزئ أم لا فالرواية ساكتة عنه ولم ينعقد لها إطلاق من هذه الجهة.

(١) لأنّ مورد الأخبار الدالّة على الإجزاء إنّما هو حجّة الإسلام ولا إطلاق لها يشمل غيرها ، فإنّ الحجّ النذري أو الإفسادي ليس بحج الإسلام ، بناءً على أنّ حج الإسلام في مورد الحجّ الإفسادي هو الحجّ الأوّل ، والثّاني إنّما يجب من باب العقوبة كما في النص (٢).

(٢) حتّى في العمرة المفردة الّتي يجب الإتيان بها في حجّ القِران أو الإفراد ، لأنّ الإجزاء على خلاف القاعدة ويحتاج إلى دليل ، وموضوع الدليل إنّما هو الحجّ ولا يشمل العمرة المفردة ، فلو مات في أثناء حجّ القِران أو الإفراد يجزئ عن حجّه كما عرفت ولا يجزئ عن عمرته ، لأنّ الحجّ والعمرة في هذين الموردين عملان مستقلّان وإجزاء أحدهما عن الآخر ممّا لا دليل عليه.

__________________

(١) في ص ٨٠.

(٢) الوسائل ١٣ : ١١٢ / أبواب كفارات الاستمتاع ب ٣ ح ٩.

٨٢

ومن مات بعد الإحرام مع عدم استقرار الحجّ عليه ، فإن كان موته بعد دخوله الحرم فلا إشكال في إجزائه عن حجّة الإسلام ، وأمّا إذا كان قبل ذلك فالظاهر وجوب القضاء عنه (١).

______________________________________________________

(١) اختلف الفقهاء ، في هذه المسألة إلى قولين :

أحدهما : إجراء التفصيل المذكور في مورد الاستقرار إلى مسألتنا هذه ، وهي ما لو مات مع عدم استقرار الحجّ عليه.

ثانيهما : اختصاص التفصيل المتقدّم بمن استقرّ عليه الحجّ ، بدعوى أنّه لا وجه لوجوب القضاء عمّن لم يستقر عليه الحجّ ، لأنّ موته يكشف عن عدم الاستطاعة الزمانيّة ، ولذا لا يجب إذا مات في البلد قبل الذهاب.

والصحيح هو الأوّل ، لإطلاق الأخبار في التفصيل المذكور ، حيث يستفاد من ذلك أن من لم يستقر عليه الحجّ إذا مات في عام الاستطاعة بعد الإحرام ودخول الحرم أجزأه عن حجّة الإسلام ولا يجب القضاء عنه ، وإذا مات قبل ذلك يقضى عنه.

ولا نرى مانعاً من الالتزام بوجوب القضاء عنه إن لم يستقر عليه الحجّ ، إلّا ما يقال من أنّ موته يكشف عن عدم الاستطاعة الزمانيّة ، نظير ما لو مات في بلده في عام الاستطاعة فلا موضوع لوجوب القضاء عنه.

ويرد عليه : أنّ الموت في عام الاستطاعة ولو في الطريق أو بعروض مانع آخر عن الإتيان بالحج وإن كان يكشف عن عدم ثبوت الاستطاعة واقعاً ، ولكن لا منافاة في وجوب القضاء عمّن مات في الطريق بعد التلبس بالإحرام وقبل الدخول في الحرم وإن لم يستقر عليه الحجّ ، فإنّ الأحكام الشرعيّة أحكام تعبديّة تابعة لما تقتضيه الأدلّة ، والمفروض أنّ إطلاق الأخبار لا قصور في شموله لمن لم يستقر عليه الحجّ ولعل ذكر الصرورة في صحيح بريد العجلي شاهد على ما ذكرنا ، لأن أكثر من يخرج إلى الحجّ لا سيما في الأزمنة السابقة هو ممّن حصلت له الاستطاعة في نفس السنة ، ولم يكن قد استقرّ عليه الحجّ في السنين السابقة ، فلا وجه لاختصاص الأخبار بمن استقرّ

٨٣

مسألة ٦٩ : إذا أسلم الكافر المستطيع وجب عليه الحجّ ، وأمّا لو زالت استطاعته ثمّ أسلم لم يجب عليه (١).

______________________________________________________

عليه الحجّ ، ولا إجماع على الخلاف ، فلا مانع من الأخذ بإطلاق الرّوايات ومقتضاه عدم الفرق بين من استقرّ عليه الحجّ وبين من لم يستقر عليه.

(١) إذا أسلم الكافر مع بقاء استطاعته وجب عليه الحجّ لفعلية موضوعه كما لو استطاع بعد إسلامه ، وأمّا لو زالت استطاعته ثمّ أسلم فهل يجب عليه الحجّ متسكعاً باعتبار استطاعته السابقة أم لا يجب؟

المشهور هو الثّاني ، لا لحديث الجب المعروف (١) فإنّه ضعيف سنداً ، بل لقيام السيرة القطعيّة من زمن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وزمن الأئمّة (عليهم السلام) على أن من يسلم لم يكلف بقضاء ما فاته من العبادات.

وربّما يشكل الحكم بعدم وجوب القضاء في خصوص الحجّ ويقال بأنّ الحجّ من الواجبات غير المؤقتة فلا يتصوّر فيه قضاء ولا تخلف عن وقته ، فمتى أسلم يجب عليه الحجّ لبقاء وقته ، فلا يجري فيه حديث الجب عمّا قبله ولا السيرة ، نظير ما لو أسلم الكافر أثناء الوقت فإنّه تجب عليه الصلاة.

وفيه : أنّ الحجّ وإن لم يكن من الواجبات المؤقتة ولا يتصوّر فيه القضاء عمّا فات على نحو الواجبات المؤقتة ، ولكن لا ريب في أنّ موضوعه الاستطاعة ويرتفع الحكم بارتفاع موضوعه ، كما أنّ فعليته بفعلية موضوعه ، فمقتضى القاعدة ارتفاع الحكم بوجوب الحجّ بزوال الاستطاعة لارتفاعه بارتفاع موضوعه ، حتّى في مورد المسلم الّذي أهمل حتّى زالت استطاعته ، وإنّما التزمنا بوجوب الحجّ بعد زوال الاستطاعة لأخبار خاصّة ، وهذه الأخبار لا تشمل المقام لعدم شمول التسويف والإهمال له فحال الحجّ حال بقيّة العبادات من الصّلاة والصّوم.

__________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١٩٩.

٨٤

مسألة ٧٠ : المرتد يجب عليه الحجّ (١) لكن لا يصح منه حال ارتداده (٢) فإن تاب صحّ منه (٣) وإن كان مرتداً فطريّاً على الأقوى (٤).

______________________________________________________

(١) المرتد مطلقاً فطريّاً كان أو مليّاً يجب عليه الحجّ ، سواء كانت استطاعته حال إسلامه السابق أو حال ارتداده ، ويعاقب على تركه.

أمّا إذا كان مستطيعاً حال إسلامه فترك الحجّ وارتدّ فالأمر واضح.

وأمّا إذا استطاع حال ارتداده فكذلك يجب عليه الحجّ ، بناءً على تكليف الكفّار بالفروع كما هو المشهور ، وأمّا بناءً على عدم تكليف الكفّار بالفروع كما هو المختار فيختص ذلك بالكافر الأصلي ، وأمّا المرتد الّذي له سابقة الإسلام فمقتضى إطلاق الأدلّة الأوّليّة تكليفه بالفروع ولا دليل على خروجه منها ، كما ورد ذلك في الكافر الأصلي.

(٢) لتوقف صحّة العبادة على الإسلام والإيمان.

(٣) إذا تاب المرتد وجب عليه الحجّ وصحّ منه ، سواء بقيت الاستطاعة أو زالت قبل توبته ، أمّا إذا كان مستطيعاً حال إسلامه وتوبته فلا كلام ، وأمّا إذا زالت الاستطاعة قبل توبته فكذلك يجب عليه ، فلا تجري فيه قاعدة جب الإسلام أو السيرة لاختصاصهما بالكافر الأصلي إذا أسلم ، ولا سيرة بالإضافة إلى المرتد إذا تاب وأسلم ، كما لا تجري قاعدة الجب لاختصاصها بالكافر الأصلي بحكم التبادر. مضافاً إلى ما عرفت من ضعف سند حديث الجب.

(٤) ربّما يقال بأنّ المعروف عدم قبول توبته فلا يصح منه الحجّ وغيره من العبادات ، ولكن ذكرنا في محلِّه أنّ المرتد الفطري إذا تاب وأسلم تجري عليه أحكام الإسلام وحاله كحال سائر المسلمين ، ومجرد التلبس بالكفر في زمان لا يخرجه عن قابليّة تكليفه بأحكام الإسلام (١).

__________________

(١) راجع شرح العروة ٤ : ١٩٩.

٨٥

مسألة ٧١ : إذا حجّ المخالف ثمّ استبصر لا تجب عليه إعادة الحجّ (١).

______________________________________________________

والمراد من عدم قبول توبته إنّما هو بالنسبة إلى أُمور ثلاثة ، قتله وتقسيم أمواله ومفارقة زوجته ، فهو مؤمن وربّما تقبل توبته ولكن لا تنفع توبته في خصوص هذه الأحكام الثلاثة.

(١) كما هو المشهور عند أصحابنا ، وحكي عن ابن الجنيد (١) وابن البراج (٢) وجوب الإعادة. والصحيح ما ذهب إليه المشهور والرّوايات بذلك متظافرة ، ومدلولها صحّة الصلاة والصّيام والحجّ إلّا الزكاة لأنّه وضعها في غير مواضعها.

منها : صحيحة بريد العجلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : «كل عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته ثمّ منّ الله عليه وعرّفه الولاية فإنّه يؤجر عليه إلّا الزّكاة ، لأنّه يضعها في غير مواضعها ، لأنّها لأهل الولاية ، وأمّا الصلاة والحجّ والصيام فليس عليه قضاء» (٣) كما أنّ صدرها أيضاً يصرّح بالإجزاء وعدم لزوم الإعادة ، نعم تدل على استحباب الإعادة.

ولكن بإزائها أخبار تدل على وجوب الإعادة إذا استبصر وعمدتها روايتان.

الاولى : خبر علي بن مهزيار قال «كتب إبراهيم بن محمّد بن عمران الهمداني إلى أبي جعفر (عليه السلام) إنّي حججت وأنا مخالف وكنت صرورة فدخلت متمتعاً بالعمرة إلى الحجّ ، قال : فكتب إليه أعد حجّك» (٤).

الثّانية : خبر أبي بصير في حديث قال : «وكذلك الناصب إذا عرف فعليه الحجّ وإن كان قد حج» (٥).

__________________

(١) نقله عنه في المختلف ٤ : ٤٦.

(٢) المهذّب ١ : ٢٦٨.

(٣) الوسائل ٩ : ٢١٦ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٣ ح ١.

(٤) ، (٥) الوسائل ١١ : ٦٢ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٣ ح ٦ ، ٥.

٨٦

إذا كان ما أتى به صحيحاً في مذهبه ، وإن لم يكن صحيحاً في مذهبنا (١).

______________________________________________________

والجواب : أنّ الخبرين ضعيفا السند ، الأوّل بسهل بن زياد والثّاني بعلي بن أبي حمزة البطائني. مضافاً إلى إمكان حملهما على الاستحباب بقرينة بقيّة النصوص المعتبرة المصرّحة بالاستحباب ، منها صحيحة عمر بن اذينة «عن رجل حجّ ولا يدري ولا يعرف هذا الأمر ثمّ منّ الله عليه بمعرفته والدينونة به ، أعليه حجّة الإسلام؟ قال : قد قضى فريضة الله ، والحجّ أحب إليّ» (١).

(١) قد عرفت أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ المخالف إذا استبصر لا تجب عليه إعادة عباداته من الحجّ والصّلاة والصّيام للنصوص الكثيرة ، وإنّما وقع الكلام في أنّ موضوع الحكم بالإجزاء هل هو العمل الصحيح عنده وعندنا ، أو الصحيح في مذهبه والفاسد في مذهبنا ، أو الفاسد عند الجميع ، أو الصحيح في مذهبنا والفاسد عنده.

فمحتملات المسألة أربعة :

الأوّل : أن يكون العمل الّذي أتى به المخالف مطابقاً لمذهبه ومذهبنا جميعاً ، ففي مثله يحكم بالإجزاء بدعوى أنّ الأخبار ناظرة إلى تصحيح عمله من جهة فقدان الولاية ، وأمّا بالنسبة إلى سائر الشرائط فلا بدّ أن يكون واجداً لها ، فإذا كان العمل فاسداً من غير جهة الولاية فلا تشمله النصوص.

ويرد على ذلك أنّه يستلزم حمل النصوص الكثيرة على الفرد النادر جدّاً أو على ما لا يتّفق في الخارج أصلاً ، إذ من المستبعد جدّاً أن يأتي المخالف بعمل صحيح يطابق مذهبه ومذهبنا معاً ، ولا أقل من اختلاف وضوئه لوضوئنا.

الثّاني : أن يكون مورد النصوص العمل الصحيح عنده والفاسد عندنا ، وهذا هو القدر المتيقن من الرّوايات الدالّة على الإجزاء.

الثّالث : أن يكون العمل الصادر من المخالف فاسداً عند الجميع ، كما لو طاف ستّة

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٦١ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٣ ح ٢.

٨٧

مسألة ٧٢ : إذا وجب الحجّ وأهمل المكلّف في أدائه حتّى زالت الاستطاعة وجب الإتيان به بأيّ وجه تمكّن ولو متسكِّعاً (١).

______________________________________________________

أشواط أو لم يقف في المشعر أصلاً ونحو ذلك ، فربّما يقال بشمول الأخبار لذلك ، لأنّ الحكم بالإجزاء منة من الله تعالى ، ومقتضى الامتنان تصحيح عمله وإلغاء وجوب القضاء بعد الإستبصار.

ويشكل بأنّ الظاهر من الرّوايات كون العمل الصادر منه صحيحاً ، وإنّما كان الشخص فاقداً للولاية ، فالسؤال ناظر إلى الإعادة من جهة فساد العقيدة ، وإلّا فالمخالف لا يرى فساد عمله لولا الإستبصار ، فلو كان عمله فاسداً عنده فهو لم يصل ولم يحجّ على مذهبه ، مع أنّ المفروض أنّه يسأل عن حجّه وعن صلاته.

الرّابع : أن يكون العمل صحيحاً عندنا وفاسداً في مذهبه ، فإن لم يتمش منه القربة فلا ريب في بطلان عمله لأجل فقدان قصد القربة ، وقد عرفت أنّ النصوص لا تشمل العمل الفاسد في نفسه مع قطع النظر عن فساد العقيدة وإن تمشى منه قصد القربة ، فلا يبعد شمول النصوص لذلك والحكم بالأجزاء ، إذ لا يلزم في الحكم بالإجزاء أن يكون العمل فاسداً عندنا ، بل لا نحتمل اختصاص الحكم بالإجزاء بالفاسد الواقعي.

(١) لا يخفى أنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة زوال الوجوب بزوال الاستطاعة ولو بالإهمال والتسويف ، لزوال الحكم بزوال موضوعه نظير المسافر والحاضر بالنسبة إلى وجوب القصر والتمام. نعم ، يكون آثماً في ترك الحجّ بالإهمال والتسويف ، فإن تاب بعد عصيانه ربّما يتوب الله عليه كما هو الحال في سائر المعاصي.

وإنّما نلتزم بالوجوب بعد زوال الاستطاعة بأيّ وجه تمكن ولو متسكعاً ، لأدلّة خاصّة تدل على إيجاب الإتيان بالحج ولو متسكعاً على من استقرّ عليه الحجّ وأهمل وسوّف حتّى زالت استطاعته ، وتلك الأدلّة هي النصوص الدالّة على أن من استطاع ولم يحجّ ومات ، مات يهوديّاً أو نصرانيّاً ، كما في صحيحة ذريح المحاربي عن أبي عبد الله

٨٨

ما لم يبلغ حدّ العسر والحرج (١). وإذا مات وجب القضاء من تركته (٢).

______________________________________________________

(عليه السلام) قال : «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحجّ أو سلطان يمنعه ، فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً» ونحوها غيرها (١) فإنّ المستفاد من هذه الرّوايات أنّه يجب على المكلّف القيام بالحج الّذي سوّف وأهمل في امتثاله لئلّا يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً.

وبعبارة أُخرى : المستفاد من هذه الرّوايات أن من استطاع للحج واستقرّ عليه ثمّ تركه مات يهوديّاً أو نصرانيّاً ، ويصدق ذلك حتّى على من استقرّ عليه الحجّ وزالت استطاعته ، فيجب عليه الإتيان بالحج حتّى يموت مسلماً ولا يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً.

هذا كلّه مضافاً إلى تسالم الأصحاب وعدم الخلاف بل الإجماع بقسميه كما في الجواهر (٢).

(١) قد عرفت أنّ وجوب الإتيان بالحج ولو متسكعاً على من استقرّ عليه الحجّ إنّما استفيد من الرّوايات الخاصّة ، فهو في الحقيقة وجوب جديد وتكليف جديد فحاله حال بقيّة التكاليف الشرعيّة الّتي ترتفع إذا لزم منها الحرج ، فالتكليف بالحج عليه ساقط بالفعل إذا استلزم الحرج وإن كان عاصياً في ترك الحجّ في أيّام استطاعته فالالتزام بوجوب الإتيان بالحج حتّى إذا كان حرجيّا لا موجب له ، بل مقتضى أدلّة نفي الحرج عدم الوجوب إذا كان الإتيان به حرجيّا.

(٢) من أصل تركته كسائر الديون لا من الثلث ، لجملة من النصوص منها : موثقة سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرّجل يموت ولم يحجّ حجّة الإسلام ولم يوص بها وهو موسر ، فقال : يحجّ عنه من صلب ماله ، لا يجوز غير ذلك» (٣).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ٧ ح ١ وغيره.

(٢) الجواهر ١٧ : ٣١٣.

(٣) الوسائل ١٣ : ٧٢ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٨ ح ٤.

٨٩

ويصحّ التبرّع عنه بعد موته من دون اجرة (١).

الوصيّة بالحج

مسألة ٧٣ : تجب الوصيّة على من كانت عليه حجّة الإسلام وقرب منه الموت (٢)

______________________________________________________

(١) لأنّ العبرة بتفريغ ذمّة الميّت وإتيان الحجّ عنه ولو بالتبرّع ولا نحتمل خصوصيّة للاستئجار ، ولا إشكال في جواز التبرّع عن الميّت وبراءة ذمّته بذلك كما في النصوص (١).

(٢) لأنّ العقل يحكم بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف إذا كانت منجّزة ، فإنّ التكليف اليقيني المنجّز يقتضي الامتثال اليقيني ، فلا بدّ له من الإتيان به إمّا مباشرة إذا تمكّن وإلّا فتسبيباً ، بل لو شكّ في الموت وعدمه يجب عليه المبادرة وليس له التأخير في الأداء للزوم الخروج عن عهدة التكليف. واستصحاب بقاء الحياة لا أثر له في المقام لعدم ترتب الأثر الشرعي عليه ، ولذا ذكرنا في الواجبات الموسّعة فيما لو شكّ في الحياة وعدمها أنّه تجب عليه المبادرة إليها ولا يجوز له التأخير تمسّكاً باستصحاب البقاء إلى آخر الوقت ، إلّا إذا اطمأن بالبقاء إلى آخر الوقت كما هو الغالب.

وقد ذكرنا في بحث أحكام الأموات من شرح العروة (٢) أنّه يجب عند ظهور أمارات الموت ، بل عند عدم الاطمئنان بالبقاء أداء حقوق النّاس الواجبة مع الإمكان والوصيّة بها مع عدمه ، كما أنّه يجب عليه الإيصاء بالواجبات الّتي لا تقبل النيابة حال الحياة كالصّلاة والصّيام والحجّ إذا كان قبل أشهر الحج إذا كان له مال ، بل مطلقاً إذا احتمل وجود متبرع. وأمّا إذا كان الواجب قابلاً للنيابة حال حياته كالحج فيما إذا عجز عن إتيانه وكان في أشهر الحجّ فتجب عليه الاستنابة إذا كان عالماً باستمرار عذره إلى الموت.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٧٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٣١.

(٢) في المسألة [٨٤١].

٩٠

فإن مات تقضى من أصل تركته وإن لم يوص بذلك (١)

______________________________________________________

(١) أمّا أصل وجوب قضائها فتدل عليه نصوص كثيرة منها صحيحة محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل مات ولم يحجّ حجّة الإسلام ولم يوص بها ، أيقضى عنه؟ قال : نعم» (١).

وأمّا إخراجها من أصل التركة وإن لم يوص بها ، فيدل عليه أيضاً عدّة من النصوص المعتبرة ، منها موثق سماعة بن مهران قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرّجل يموت ولم يحجّ حجّة الإسلام ولم يوص بها وهو موسر ، فقال : يحجّ عنه من صلب ماله ، لا يجوز غير ذلك» (٢) ونحوه غيره.

وربّما يتوهّم بأنّه يعارض هذه الأخبار الكثيرة ما في ذيل صحيح معاوية بن عمار لقوله «ومن مات ولم يحجّ حجّة الإسلام ولم يترك إلّا قدر نفقة الحمولة وله ورثة فهم أحق بما ترك ، فإن شاؤوا أكلوا وإن شاؤوا حجّوا عنه» (٣) فإنّ تلك الأخبار تدل على وجوب إخراج الحجّ من أصل المال ، وهذا يدل على رجوع المال إلى الورثة وجعل الخيار لهم في أداء الحجّ فكيف يجمع بين الطائفتين؟.

والجواب أنّه لا تعارض في البين أصلاً ، لأنّ مورد الطائفة الثّانية ولو بقرينة صدر الصحيحة من لم يكن له مال يفي بمصارف الحجّ ، وإنّما ترك ما يفي بمقدار نفقة الحمولة ، فحينئذ يسقط قضاء الحجّ عنه لعدم وفاء المال له ، فطبعاً يرجع المال إلى الورثة فإن شاؤوا أكلوا وإن شاؤوا حجّوا عنه ، وكلامنا في من ترك مالاً يفي للحج ولم يوص به. كما أنّ صدر الصحيحة يدل على وجوب الحجّ عنه من صلب ماله إذا أوصى له ، وظاهره أنّه له مال يفي للحج عنه لقوله «في رجل توفي وأوصى أن يحجّ عنه ، قال : إن كان صرورة فمن جميع المال ، إنّه بمنزلة الدّين الواجب».

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٧٢ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٨ ح ٥.

(٢) الوسائل ١١ : ٧٢ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٨ ح ٤

(٣) الوسائل ١١ : ٦٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٥ ح ٤.

٩١

وكذلك إن أوصى بها ولم يقيّدها بالثلث (١) وإن قيّدها بالثلث ، فإن وفى الثلث بها وجب إخراجها منه (٢) وتقدّم على سائر الوصايا (٣).

______________________________________________________

مضافاً إلى أنّه لا ينبغي الرّيب في تقدّم تلك الأخبار لكثرتها وشهرتها بل للقطع بصدور بعضها ، فلا بدّ من طرح هذه الصحيحة أو تأويلها.

(١) فإنّها تخرج من صلب المال ، لأنّها بمنزلة الدّين وقد دلّت على ذلك عدّة من الأخبار ، منها صحيح معاوية بن عمار «عن رجل مات فأوصى أن يحجّ عنه قال : إن كان صرورة فمن جميع المال» (١).

(٢) لوجوب تنفيذ الوصيّة.

(٣) لو عيّن مصرف ثلثه وأوصى بصرفه في الحجّ وفي أُمور أُخرى ، فإن وفى الثلث بالجميع فلا كلام ، وإن لم يف فهل يوزّع المال بينها بالسوية ، أو يخرج الحجّ أوّلاً فإن بقي شي‌ء صرفه في البقيّة؟.

الظاهر هو الثّاني ، وتدل عليه جملة من الرّوايات المعتبرة.

منها : صحيحة معاوية بن عمّار «إنّ امرأة من أهلي ماتت وأوصت إليّ بثلث مالها وأمرت أن يعتق عنها ويحجّ عنها ويتصدّق ، فنظرت فيه فلم يبلغ ، فقال : ابدأ بالحج فإنّه فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ ، واجعل ما بقي طائفة في العتق ، وطائفة في الصدقة» (٢).

ومنها : صحيحة أُخرى له «في امرأة أوصت بمال في عتق وحج وصدقة فلم يبلغ قال : ابدأ بالحج فإنّه مفروض ، فإن بقي شي‌ء فاجعل في الصدقة طائفة وفي العتق طائفة» (٣) ونحوهما غيرهما.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٦٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٥ ح ١.

(٢) الوسائل ١٩ : ٣٩٧ / أبواب الوصايا ب ٦٥ ح ١.

(٣) الوسائل ١٩ : ٣٩٧ / أبواب الوصايا ب ٦٥ ح ٢ ، ١١ : ٧٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٣٠ ح ١.

٩٢

وإن لم يف الثلث بها لزم تتميمه من الأصل (١).

مسألة ٧٤ : من مات وعليه حجّة الإسلام وكان له عند شخص وديعة واحتمل أنّ الورثة لا يؤدّونها إن ردّ المال إليهم وجب عليه أن يحجّ بها عنه (٢). فإذا زاد المال من اجرة الحجّ ردّ الزائد إلى الورثة (٣). ولا فرق بين أن يحجّ الودعي بنفسه أو يستأجر شخصاً آخر (٤). ويلحق بالوديعة كل مال للميت عند شخص بعارية أو إجارة أو غصب أو دين أو غير ذلك (٥).

______________________________________________________

(١) لرجوع ذلك في الحقيقة إلى أنّه لم يوص بالحج ، وقد عرفت وجوب إخراج الحجّ من الأصل وإن لم يوص.

(٢) ويدلُّ على ذلك صحيح بريد العجلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سألته عن رجل استودعني مالاً وهلك وليس لولده شي‌ء ، ولم يحجّ حجّة الإسلام قال : حجّ عنه وما فضل فأعطهم» (١) والظاهر أنّ المسألة غير خلافية في الجملة.

إنّما الكلام في أنّ الأصحاب قيّدوا جواز إخراج الحجّ بعلم المستودع أو ظنّه أنّ الورثة لا يؤدّون وإلّا وجب استئذانهم ، ولكن الظاهر أنّه لا موجب لهذا التقييد ، لأنّ الصحيحة مطلقة تشمل حتّى صورة احتمال تأدية الوارث الحجّ. نعم ، لو علم بأنّ الوارث يؤدّي الحجّ فالرواية منصرفة عن هذه الصورة.

(٣) لوجوب ردّ المال وإيصاله إلى أصحابه ، وتدل عليه أيضاً نفس الصحيحة المتقدّمة الآمرة بالرد.

(٤) لأنّ المستفاد من النص حسب الفهم العرفي هو أنّ الغرض تفريغ ذمّة الميِّت سواء كان بمباشرته أو بتسبيب منه.

(٥) إذ لا خصوصيّة للوديعة ، لأنّ العرف يفهم من جواز صرف المستودَع مال الوديعة في الحجّ ، أنّ المقصود وجود مال عند شخص يعلم بأنّ صاحبه لم يحجّ ، سواء كان المال الموجود عنده على نحو الوديعة أو غيرها.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ١٨٣ / أبواب النيابة في الحجّ ب ١٣ ح ١.

٩٣

مسألة ٧٥ : مَن مات وعليه حجّة الإسلام وكان عليه دين وخمس وزكاة وقصرت التركة ، فإن كان المال المتعلق به الخمس أو الزكاة موجوداً بعينه لزم تقديمهما (١). وإن كانا في الذمّة يتقدّم الحجّ عليهما (٢) كما يتقدّم على الدّين (٣).

______________________________________________________

(١) لتعلّقهما بالعين ، فالتركة بتمامها ليست للميّت بل هو شريك مع أرباب الزّكاة أو الخمس على نحو الإشاعة أو الشركة في الماليّة كما هو الصحيح عندنا ، والحجّ يخرج من ماله لا من المال المشترك بينه وبين غيره ، وهذا واضح جدّاً.

(٢) كما إذا تلفت العين وانتقل الحق الشرعي إلى الذمّة ، ويدلُّ على تقديم الحجّ عليهما صحيح معاوية بن عمّار المتقدِّمة «قال قلت له : رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزّكاة ، وعليه حجّة الإسلام وترك ثلاثمائة درهم فأوصى بحجّة الإسلام وأن يقضى عنه دين الزّكاة ، قال : يحجّ عنه من أقرب ما يكون ، ويخرج البقيّة في الزّكاة» (١) ، ونحوه صحيحه الآخر ، ولكن فيه «وعليه من الزّكاة سبعمائة درهم» (٢).

ومورد الصحيحتين وإن كان هو الزّكاة ، ولكن يتعدّى إلى الخمس ، إذ لو فرضنا تقدّم الحجّ على الزكاة مع أنّها أهم من الخمس ، فتقدّمه على الخمس بطريق أولى أو لا أقل فلمساواته لها ، لأنّ الخمس بدل الزّكاة وهو من هذه الجهة محكوم بحكم الزّكاة.

(٣) ويدلُّ عليه صحيح بريد العجلي «عن رجل خرج حاجّاً ومعه جمل له ونفقة وزاد فمات في الطريق ، قال : إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم فقد أجزأ عنه حجّة الإسلام ، وإن كان مات وهو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله وزاده ونفقته وما معه في حجّة الإسلام ، فإن فضل من ذلك شي‌ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دين» (٣) وهو صريح في تقديم الحجّ على الدّين الشخصي.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٥٥ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٢١ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٩ : ٣٥٩ / أبواب الوصايا ب ٤٢ ح ١.

(٣) الوسائل ١١ : ٦٨ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٦ ح ٢.

٩٤

مسألة ٧٦ : من مات وعليه حجّة الإسلام لم يجز لورثته التصرّف في تركته قبل استئجار الحجّ ، سواء كان مصرف الحجّ مستغرقاً للتركة أم لم يكن مستغرقاً على الأحوط (١).

______________________________________________________

(١) أمّا في فرض الاستغراق فلعدم انتقال التركة إلى الورثة ، فإنّ المستفاد من الكتاب العزيز (... مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ...) (١) تأخّر مرتبة الإرث عن الوصيّة والدّين ، وكذا المستفاد من السنة كصحيح محمّد بن قيس «إنّ الدّين قبل الوصيّة ثمّ الوصيّة على أثر الدّين ، ثمّ الميراث بعد الوصيّة» (٢) وكموثقة السكوني «أوّل شي‌ء يبدأ به من المال الكفن ثمّ الدّين ثمّ الوصيّة ثمّ الميراث» (٣).

فإن كان على الميّت دين ينتقل المال من الميّت إلى الغرماء لا من الورثة ، فالمال باق على ملك الميّت ، ولا محذور في ملكيّة الميّت ، فالغرماء يتلقون المال من الميّت لا من الورثة ، ويكون الوارث أجنبيّا عن المال ولا يجوز له التصرّف فيه ، والمفروض أنّ الحجّ بمنزلة الدّين فإذا كان على الميّت حج فلا يجوز للورثة التصرّف في ذلك المال حتّى يوجد من يحجّ عنه.

هذا كلّه بناءً على الرأي الصحيح من عدم انتقال المال إلى الورثة إذا كان الدّين مستغرقاً ، وأمّا بناءً على الرأي الآخر من انتقال التركة إلى الورثة ، فكذلك لا يجوز لهم التصرّف فيها لأنّها متعلّقة لحق الغير.

وأمّا إذا لم يكن الدّين أو مصرف الحجّ مستغرقاً للتركة فالظاهر جواز التصرّف في غير مقدار الدّين ، وذلك فإنّ مقدار الدّين وإن لم ينتقل إلى الورثة من الأوّل بل هو باق على ملك الميّت إلّا أنّ الزائد ملك للوارث على نحو الكلّي في المعيّن ، وله تطبيق الكلّي على أيّ فرد شاء من الأفراد الخارجيّة إلى أن يبقى مصرف الحجّ ، نظير بيع صاع من صبرة فإنّ القاعدة تقتضي جواز التصرّف في الصبرة إلى أن يبقى مقدار صاع

__________________

(١) النِّساء ٤ : ١١.

(٢) الوسائل ١٩ : ٣٢٩ / أبواب الوصايا ب ٢٨ ح ٢ ، ١.

(٣) الوسائل ١٩ : ٣٢٩ / أبواب الوصايا ب ٢٨ ح ٢ ، ١.

٩٥

نعم ، إذا كانت التركة واسعة جدّاً والتزم الوارث بأدائه جاز له التصرّف في التركة كما هو الحال في الدّين (١).

______________________________________________________

للمشتري.

هذا مضافاً إلى السيرة القطعيّة القائمة على جواز تصرّف الوارث في مال مورثه وإن كان مديوناً ، وحمل السيرة على ما إذا كان الميّت غير مدين أصلاً بعيد جدّاً ، لأنّ الغالب هو اشتغال ذمّة كثير من الأموات حتّى الأغنياء منهم بالدّين ، ولا أقل مهور زوجاتهم ، فالحكم بعدم جواز التصرّف للورثة في صورة عدم الاستغراق مبني على الاحتياط كما في المتن ، خصوصاً بالنظر إلى ذهاب جماعة من أصحابنا على ما نسب إليهم إلى عدم جواز التصرّف حتّى في فرض عدم الاستغراق ، ولم يفرقوا بين المستغرق وغيره ، استناداً في ذلك إلى أنّ حق الغرماء متعلّق بذلك المال وهو غير متشخص ، فإن كلّ جزء من أجزاء المال إذا لوحظ كان متعلّقاً لحق الغريم ، ومعه يشكل تصرّف الوارث لأنّ تصرفه في مال مشترك بينه وبين غيره.

والجواب : ما عرفت من أنّ المال بمقدار الدّين ينتقل من الميّت إلى الغرماء رأساً والزائد ينتقل إلى الورثة ، وانّ ملكيّتهم له على نحو الكلّي في المعيّن فيجوز لهم التصرّف فيه.

(١) قد عرفت جواز التصرّف إذا لم يكن الدّين مستغرقاً ولا فرق بين الواسعة جدّاً وغيرها ، وإنّما حكم بعدم جواز التصرّف في غير المستغرق احتياطاً وخروجاً عن شبهة الخلاف ، وأمّا إذا كان المال واسعاً جدّاً فلا شبهة في الجواز ، هذا كلّه ما تقتضيه القاعدة.

وأمّا بحسب النصوص فقد دلّ بعض النصوص على التفصيل بين الاستغراق وعدمه ، من دون فرق بين سعة التركة وعدمها ، وهو موثق عبد الرّحمن بن الحجاج «عن رجل يموت ويترك عيالاً وعليه دين أينفق عليهم من ماله؟ قال : إن كان يستيقن أنّ الّذي ترك يحيط بجميع دينه فلا ينفق ، وإن لم يكن يستيقن فلينفق عليهم

٩٦

مسألة ٧٧ : من مات وعليه حجّة الإسلام ولم تكن تركته وافية بمصارفها وجب صرفها في الدّين أو الخمس أو الزكاة إن كان عليه شي‌ء من ذلك ، وإلّا فهي للورثة (١). ولا يجب عليهم تتميمها من مالهم لاستئجار الحجّ (٢).

مسألة ٧٨ : من مات وعليه حجّة الإسلام لا يجب الاستئجار عنه من البلد بل يكفي الاستئجار عنه من الميقات ، بل من أقرب المواقيت إلى مكّة إن أمكن وإلّا فمن الأقرب فالأقرب (٣).

______________________________________________________

من وسط المال» (١).

(١) لسقوط وجوب الحجّ عنه حينئذ لعدم إمكان الحجّ به على الفرض ، وكذلك إن وفى المال ببعض الأعمال ، لأنّ الحجّ واجب ارتباطي يرتبط بعضه ببعض فلا يفيد وفاء المال ببعض الأعمال ، فيعامل مع المال على ما تقتضيه القاعدة من صرفه في الدّين ومنه الزّكاة والخمس إن كان مديوناً ، وإلّا فالمال للورثة لتأخّر الإرث عن الدّين.

(٢) لعدم الدليل على ذلك والأصل العدم.

(٣) لا خلاف بين الأصحاب في أن من استقرّ عليه الحجّ ومات قبل أن يحجّ يقضى عنه من صلب ماله ، وإنّما اختلفوا في المكان الّذي يجب الاستئجار منه على أقوال ثلاثة ، ذكرها المحقق في الشرائع (٢) :

الأوّل : ما ذهب إليه الأكثر بل المشهور أنّه يقضى عنه من أقرب الأماكن والمواقيت إلى مكّة إن أمكن الاستئجار منه ، وإلّا فمن غيره مراعياً الأقرب فالأقرب.

الثّاني : ما نسب إلى الشيخ من أنّه يستأجر من بلد الميّت (٣).

الثّالث : ما اختاره جماعة من التفصيل بين سعة المال فمن بلد الميّت ، وإلّا فمن

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٣٣٢ / أبواب الوصايا ب ٢٩ ح ٢.

(٢) الشرائع ١ : ٢٥٧.

(٣) لاحظ النهاية : ٢٨٣ ، المبسوط ١ : ٣٠١ ، الخلاف ٢ : ٢٥٥ المسألة ١٨.

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الأقرب إلى بلده.

وهنا تفصيل آخر : وهو وجوب الاستئجار من البلد في صورة سعة المال وإلّا فمن الميقات ، من دون نظر إلى الأقرب فالأقرب إلى بلده ، ويترتب على هذا التفصيل أنّه لو عجز من البلد ينتقل الاستئجار إلى الميقات رأساً ، وإن وسع المال للاستئجار من البلاد القريبة لبلد الميّت.

والصحيح هو القول المشهور ، والوجه فيه : أنّه لم يرد في المقام نص يعيّن مكان الاستئجار ، وإنّما النص ورد في باب الوصيّة بالحج وفي الحجّ عن الحي ، وكلاهما أجنبي عن محل كلامنا ، فلا بدّ في المقام من الرّجوع إلى ما تقتضيه القاعدة ،

وهي تقتضي الحجّ الميقاتي دون البلدي.

وذلك لأنّ الواجب على الميّت إنّما هو الحجّ ، وهو اسم لإعمال ومناسك مخصوصة تبدأ من الإحرام وتنتهي إلى الحلق أو التقصير أو تنتهي إلى طواف النِّساء في حجّ التمتّع مثلاً ، وأمّا المقدّمات وطي المسافات فهي خارجة عن حقيقة الحجّ فلا موجب للاستئجار عن ذلك من صلب المال ، لأنّ الّذي وجب إخراجه من صلب المال إنّما هو الحجّ لا المقدّمات الّتي لا ترتبط بالحج ، فالواجب حينئذ الاستئجار من الميقات بل من الأقل أُجرة ، فإنّ المواقيت مختلفة من حيث قلّة الأُجرة وكثرتها حسب القرب والبعد ، إذ لا موجب لاختيار الأكثر اجرة مع إمكان اختيار الأقل أُجرة وسقوط الواجب بذلك.

ولكن الأحوط الاستئجار من البلد مع سعة المال خروجاً عن شبهة الخلاف ، إلّا أنّ الزائد عن اجرة الحجّ الميقاتي يحسب من حصّة الكبار لا الصغار كما هو واضح لأنّ المال في غير مصرف الحجّ ينتقل إليهم ولا مجوّز لجواز التصرّف في أموالهم.

وقد يستدل للقول الثّالث بأنّه لو كان حيّاً وجب عليه صرف المال من البلد للسير منه إلى الميقات ، فلمّا مات سقط الحجّ عن بدنه وبقي وجوب صرف المال فلا بدّ من قضائه.

وفيه : أنّ صرف المال من البلد ليس بواجب نفسي شرعي وإنّما هو واجب عقلي

٩٨

والأحوط الأولى الاستئجار من البلد إذا وسع المال ، لكن الزائد عن اجرة الميقات لا يحسب على الصغار من الورثة (١).

مسألة ٧٩ : من مات وعليه حجّة الإسلام تجب المبادرة إلى الاستئجار عنه في سنة موته (٢) فلو لم يمكن الاستئجار في تلك السنة من الميقات لزم الاستئجار من البلد ، ويخرج بدل الإيجار من الأصل ، ولا يجوز التأخير إلى السنة القادمة ولو مع العلم بإمكان الاستئجار فيها من الميقات (٣).

______________________________________________________

مقدّمي ، ولذا لو سار المستطيع في بلده إلى أحد المواقيت لا بنية الحجّ ثمّ أراده فأحرم صحّ وأجزأ عن حجّة الإسلام.

وبما ذكرنا يتّضح ضعف بقيّة الأقوال.

(١) قد عرفت وجه ذلك.

(٢) والوجه في ذلك : أنّ المال بمقدار مصرف الحجّ باق على ملك الميّت ولم ينتقل إلى الورثة ، فهو أمانة عندهم ولا يجوز لهم التصرّف فيه إلّا فيما يعود إلى الميّت وهو الحجّ ، وكذا لا يجوز إبقاء المال عندهم إلى السنة الأُخرى ، لأنّ ذلك أيضاً تصرّف غير جائز ويحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فالتخلّص من ذلك يقتضي المبادرة إلى الاستئجار وعدم التأخير إلى السنة اللّاحقة.

(٣) لما عرفت أنّ مصرف الحجّ باق على ملك الميّت فيجب صرفه في الحجّ ولو استلزم زيادة الأُجرة ، وليس للورثة أن يؤخروا الحجّ في هذا الفرض توفيراً على الورثة حتّى مع العلم بإمكان الاستئجار من الميقات في السنة اللّاحقة ، فحينئذ يجب الاستئجار من البلد ويخرج بدل الإيجار من الأصل ، وهذا كلّه من آثار لزوم المبادرة والفوريّة.

وربّما يقال بأنّ ذلك ضرر على الورثة فيرتفع بالحديث ، والجواب عنه واضح لأنّ المال لم ينتقل إليهم فكيف يتوجّه الضرر إليهم ، نعم يستلزم ذلك تفويت منفعة لهم ولا بأس به ، إذ لا دليل على عدم جواز تفويت المنفعة عن الغير.

٩٩

مسألة ٨٠ : من مات وعليه حجّة الإسلام إذا لم يوجد من يستأجر عنه إلّا بأكثر من اجرة المثل يجب الاستئجار عنه ويخرج من الأصل ، ولا يجوز التأخير إلى السنة القادمة توفيراً على الورثة وإن كان فيهم الصغار (١).

مسألة ٨١ : من مات وأقرّ بعض ورثته بأنّ عليه حجّة الإسلام وأنكره الآخرون ، فالظاهر أنّه يجب على المقر الاستئجار للحج ولو بدفع تمام مصرف الحجّ من حصّته ، غاية الأمر أنّ له إقامة الدعوى على المنكرين ومطالبتهم بحصّته من بقيّة التركة (٢). ويجري هذا الحكم في الإقرار بالدين أيضاً (٣).

______________________________________________________

(١) لأنّ مصرف الحجّ لم ينتقل إلى الورثة فلا موجب لملاحظة الصغار ، بل لا بدّ من صرفه في الحجّ فوراً كما عرفت في المسألة السابقة.

(٢) لأنّ ثبوت مصارف الحجّ في التركة كالدّين على نحو الكلّي في المعيّن ، فيجب على الوارث المعترف إخراج جميع مصارف الحجّ من حصّته بمقتضى إقراره ، ولو كانت مصارف الحجّ بمقدار ما ورثه لحصّته ، إذ لا إرث قبل أداء الدّين.

نعم ، له مطالبة بقيّة الوراث ما ورثه بحصّته من بقيّة التركة ، لأنّ المال مشترك بينهما فيأخذ الباقي منهم مقاصة إن كانوا جاحدين ، وإلّا فيقيم الدعوى عليهم.

(٣) قد ظهر وجه ذلك ممّا ذكرناه في كيفيّة إخراج مصارف الحجّ ، وحاصله : أنّ المستفاد من الكتاب والسنّة تأخّر مرتبة الإرث عن الدّين والوصيّة ، ويستفاد منهما أيضاً أنّ ثبوت الدّين في التركة على نحو الكلّي في المعيّن لا على نحو الإشاعة ، ولذا لو تلف بعض المال بعد موت المورث لزم إخراج الدّين كاملاً من بقيّة المال ولا ينقص من الدّين شي‌ء ، وهذا شاهد قطعي على أنّ الدّين بالنسبة إلى التركة كالكلّي في المعيّن لا على نحو الإشاعة ، إذ لو كان على نحو الإشاعة لزم توزيع التالف على الدّين وبقيّة المال ولم يقل به أحد.

فإذا كانت نسبة الدّين إلى التركة نسبة الكلِّي في المعين ، فإذا اعترف بعض الورثة بالدّين وأنكره الآخر أو لم يعترف به أخذ المنكر نصف التركة ، وكذلك المقر يأخذ النصف الآخر ولكن يجب عليه أن يعطي تمام الدّين حسب اعترافه ويكون الباقي له

١٠٠