موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

١٠ ـ الاكتحال

مسألة ٢٤٦ : الاكتحال على صور : (١)

١ أن يكون بكحل أسود مع قصد الزينة ، وهذا حرام على المحرم قطعاً وتلزمه كفّارة شاة على الأحوط الأولى.

٢ أن يكون بكحل أسود مع عدم قصد الزينة.

٣ أن يكون بكحل غير أسود مع قصد الزينة ،

______________________________________________________

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الآية أجنبية عن المقام بالمرة ، لورودها مورد الإحصار وجواز الحلق في مكانه والإحلال إذا لم يقدر على الصبر وإلّا فيصبر إلى ما بعد الذبح ، أورد ذلك صاحب الجواهر.

(١) المشهور هو حرمة الاكتحال بالسواد أو بما فيه طيب. وعن الشيخ في الخلاف أنّه مكروه (١).

والروايات الواردة في المقام على طوائف :

الأُولى : ما دلّ على عدم جواز الاكتحال مطلقاً إلّا لضرورة ، منها : معتبرة عبد الله ابن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سأله رجل ضرير وأنا حاضر فقال : أكتحل إذا أحرمت؟ قال : لا ، ولم تكتحل؟ قال : إنّي ضرير البصر وإذا أنا اكتحلت نفعني ، وإن لم أكتحل ضرني ، قال : فاكتحل» (٢).

الثانية : ما دلّ على الجواز مطلقاً إلّا لمانع آخر كوجود الطيب أو الزعفران فيه كمعتبرة هارون بن حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «لا يكحل المحرم عينيه بكحل فيه زعفران ، وليكحل بكحل فارسي» (٣) والطائفتان متعارضتان بالنفي والإثبات.

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٣١٣.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٧٠ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٣ ح ١٠.

(٣) الوسائل ١٢ : ٤٦٩ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٣ ح ٦.

٤٢١

والأحوط الاجتناب في هاتين الصورتين ، كما أنّ الأحوط الأولى التكفير فيهما.

٤ ـ الاكتحال بكحل غير أسود ، ولا يقصد به الزينة ، ولا بأس به ولا كفّارة عليه بلا إشكال.

______________________________________________________

وبإزائهما طائفة ثالثة وهي روايات معتبرة دلّت على جواز الكحل في بعض الأقسام وعدم جوازه في القسم الآخر ، فتكون مقيّدة لإطلاق الطائفتين المتقدمتين ، فمنها : ما دلّ على عدم الجواز إذا كان الكحل أسود ، وهو مدرك المشهور كصحيحة معاوية بن عمار قال : «لا يكتحل الرجل والمرأة المحرمان بالكحل الأسود إلّا من علّة» (١).

ومنها : ما دلّ على عدم الجواز إذا كان للزينة ، كصحيحة أُخرى لمعاوية بن عمار «لا بأس بأن تكتحل وأنت محرم بما لم يكن فيه طيب يوجد ريحه ، فأمّا للزينة فلا» (٢) وهما أيضاً متعارضتان ، لأنّ المستفاد من الاولى عدم الجواز بالكحل الأسود والجواز إذا كان غير أسود وإن كان للزينة ، والمستفاد من الثانية عدم جواز الاكتحال للزينة وإن كان غير أسود والجواز بالأسود إذا لم يكن للزينة ، فالتعارض يقع بين عقد الإيجاب من أحدهما وبين عقد السلب من الآخر ، وإلّا فلا منافاة بينهما بالنسبة إلى عقد الإيجاب من كل منهما ، فإنّ الأُولى تقول بحرمة السواد والثانية تقول بحرمة الزينة ولا منافاة بين الأمرين وحرمة كل منهما ، وإنّما التنافي بين عقد الإيجاب من أحدهما للعقد السلبي من الآخر ، فان مقتضى الرواية الأُولى حرمة الاكتحال بالسواد مطلقاً سواء كان للزينة أم لا ، ومقتضى العقد السلبي للثانية جواز الاكتحال لغير الزينة وإن كان أسود ، كما أن مقتضى العقد الإيجابي للثانية حرمة الكحل للزينة ومقتضى العقد السلبي للأوّل جواز غير الأسود وإن كان للزينة.

وقد ذكرنا في الأُصول في بحث المفاهيم (٣) أنّه إذا كان قضيتان شرطيتان دلّتا على

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٦٨ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٧٠ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٣ ح ٨.

(٣) في محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٩٧ الثالث : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء.

٤٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثبوت شي‌ء على تقدير وعدم الثبوت على تقدير آخر فقهراً تقع المعارضة بين المنطوق من أحدهما ومفهوم الآخر كما في مثل إذا خفي الأذان فقصّر وإذ خفي الجدران فقصّر فإذا خفي الجدران ولم يخف الأذان يقع التعارض بين منطوق الجملة الثانية وبين مفهوم الجملة الأُولى ، فإن مقتضى إطلاق منطوق الجملة الثانية وجوب القصر سواء خفي الأذان أم لا ، ومقتضى إطلاق مفهوم الجملة الاولى عدم القصر سواء خفي الجدران أم لا.

وربما يقال بوجوب القصر عند خفائهما معاً ، ولكن لا موجب لذلك ، لأنّ المعارضة ليست بين المنطوقين ليرفع اليد عن إطلاق كل منهما ، بل المعارضة بين منطوق أحدهما ومفهوم الآخر ، فالصحيح أن يرفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده بالآخر.

والنتيجة : أنّ القصر يثبت بخفاء أحدهما ، وهذه الكبرى تنطبق على المقام أيضاً فنقيد إطلاق مفهوم كل واحد من الروايتين ونرفع اليد عن إطلاق كل واحد منهما والمتحصل حرمة الاكتحال بالسواد أو للزينة.

ولكن هنا رواية معتبرة دلّت على أنّ العبرة باجتماع الأمرين معاً السواد والزينة وتكون أخص من جميع الروايات فتخصص الأسود بالزينة كما هو الغالب ، وكذلك تخصّص الزينة بالأسود وهي صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «تكتحل المرأة بالكحل كلّه إلّا الكحل الأسود للزينة» ورواها الصدوق مرسلاً (١) فان كان الاكتحال بالسواد لم تكن زينة كما إذا اكتحل بالليل عند النوم فلا إشكال وكذا لو كان للزينة ولكن بغير الأسود ، إلّا أنّ الاحتياط في محلِّه خصوصاً في الأسود.

فتحصل : أنّ الجمع بين الأخبار يقتضي حمل ما دلّ على النهي عن الاكتحال بالسواد على ما كان للزينة.

وأمّا لو اكتحل بغير الأسود ولا للزينة فلا إشكال في الجواز ، بل لم ينسب القول بالحرمة إلى أحد من الأصحاب فيه.

ومن الغريب ما عن شيخنا الأُستاذ في مناسكه حكمه بحرمة الاكتحال مطلقاً (٢).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٦٨ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٣ ح ٣. المقنع : ٢٣٣.

(٢) دليل الناسك (المتن) : ١٥٣.

٤٢٣

١١ ـ النظر في المرآة

مسألة ٢٤٧ : يحرم على المحرم النظر في المرآة للزينة ، وكفارته شاة على الأحوط الأولى.

وأمّا إذا كان النظر فيها لغرض غير الزينة كنظر السائق فيها لرؤية ما خلفه من السيارات فلا بأس به ، ويستحب لمن نظر فيها للزينة تجديد التلبية ، أمّا لبس النظارة فلا بأس به للرجل أو المرأة إذا لم يكن للزينة ، والأولى الاجتناب عنه ، وهذا الحكم لا يجري في سائر الأجسام الشفافة ، فلا بأس بالنظر إلى الماء الصافي أو الأجسام الصقيلة الأُخرى (١).

______________________________________________________

هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم التكليفي من التحريم والجواز ، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الكفّارة فلم يذكر في الروايات لزوم الكفّارة لهذا العمل ، بل صرّح بعضهم بعدم الوجوب والأمر كما ذكروه.

ولكن استدلّ بعضهم لوجوب الكفّارة برواية علي بن جعفر المتقدِّمة (١) الدالّة على أن ارتكاب كل خلاف يوجب الكفّارة بناءً على نسخة «جرحت» وقد عرفت الكلام فيه سنداً ودلالة ، فيكون الحكم بالكفّارة مبنياً على الاحتياط الاستحبابي في جميع الموارد المتقدِّمة للاكتحال.

(١) لا ينبغي الريب في حرمة النظر إلى المرآة في الجملة لدلالة النصوص المعتبرة على ذلك ، منها : صحيح معاوية بن عمار «لا ينظر المحرم في المرآة لزينة» (٢).

إنّما الكلام في أنّ الممنوع خصوص النظر للزينة أو الأعم ، ذهب شيخنا الأُستاذ

__________________

(١) في ص ٤٠٧ وراجع الوسائل ١٣ : ١٥٨ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ٨ ح ٥.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٧٣ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٤ ح ٤.

٤٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

(قدس سره) في مناسكه إلى التعميم (١) ، وخصّ بعضهم بالزينة كما حكي عن الذخيرة (٢) ويظهر ذلك من صاحب الوسائل لقوله في عنوان الباب «تحريم النظر في المرآة للزينة» (٣) ومنشأ الاختلاف اختلاف الروايات الواردة في المقام وهي على طائفتين :

الأُولى : ما قيد فيه النظر بالزينة كالصحيحة المتقدِّمة ، وإلّا فلا إشكال فيه ، كالنظر إلى المرآة شمالاً أو يميناً بحيث لا يرى نفسه فيها وإنّما يريد النظر إلى شي‌ء آخر ، وكنظر السائق فيها لرؤية ما خلفه من السيارات ونحو ذلك ممّا لا يكون النظر فيها للزينة.

الثانية : ما دلّ على المنع من مطلق النظر ولكن علل فيه بالزينة كقوله في صحيحة حماد «لا تنظر في المرآة وأنت محرم فإنّه من الزينة» (٤) فان قوله «لا تنظر في المرآة» مطلق من حيث الزينة وعدمها ولا ينافيه التعليل بالزينة.

وربما يقال بأنّهما مثبتان لا تعارض بينهما والحكم انحلالي يثبت للمطلق وللمقيد فلا تقييد في المقام ، ولا منافاة بين ثبوت الحكم للمطلق وثبوته للمقيد ، فيثبت الحكم للمطلق والمقيد معاً ، فلا موجب للتقييد.

وفيه أوّلاً : أنّه لا إطلاق في المقام ليقال بثبوت الحكم للأعم ، بل الظاهر من الصحيحة المعللة بالزينة أنّ النظر للزينة ممنوع ، وإذا لم تكن الزينة دخيلة في الحكم بالتحريم لم يصح التعليل ، وإلّا لو قيل بالإطلاق وعدم دخل الزينة في الحكم ، فمعناه أن مجرّد النظر إلى الزينة حرام وهذا ليس بحرام قطعاً ، إذ لا نحتمل أنّ النظر إلى الزينة كالنظر إلى الحلي ونحوه حرام شرعاً ، فالمراد من قوله : «فإنّه من الزينة» أنّه تزين ، فلا إطلاق له ليعم مطلق النظر المجرد عن الزينة.

وثانياً : لو سلمنا الإطلاق وأنّ القيد لا مفهوم له ، ولكن لا بدّ من عدم اللغوية

__________________

(١) دليل الناسك (المتن) : ١٥٣.

(٢) الذخيرة : ٥٩٣ السطر ١.

(٣) الوسائل ١٢ : ٤٧٢ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٤.

(٤) الوسائل ١٢ : ٤٧٢ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٤ ح ١.

٤٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لذكر القيد ، فلو كان الحكم ثابتاً للمطلق ولم يكن القيد دخيلاً في الحكم كان التقييد بالزينة في الرايات لغواً محضاً ، فلا بدّ من الالتزام بأنّ التقييد يدل على عدم ثبوت الحكم للمطلق فراراً عن لزوم اللغوية.

وهل يختص الحكم بالمرآة أو يعم كل جسم شفاف يرى الإنسان نفسه فيه؟ لا دليل على التعميم لكل جسم غير معدّ للنظر إليه للزينة ، فما يستعمله الإنسان للنظر فيه أحياناً للزينة يجوز النظر لأصالة الجواز.

ثمّ إنّه في بعض الروايات أمر بالتلبية بعد النظر فكأنّ النظر يوجب نقصاً في إحرامه وتلبيته ، وظاهر الرواية (١) هو الوجوب ، إلّا أنّهم تسالموا على الخلاف فلا يمكن الالتزام بالوجوب ، خصوصاً أن ذلك من المسائل الّتي يكثر الابتلاء بها ، ولو كان تجديد التلبية واجباً لظهر وبان ولا يمكن خفاؤه ، وذلك يكشف عن عدم الوجوب فالحكم استحبابي.

وهل تثبت الكفّارة في النظر في المرآة أم لا؟ مرّ الكلام فيه في الاكتحال (٢) ، وأنّه لا دليل على ثبوت الكفّارة إلّا بناءً على نسخة «جرحت» في رواية علي بن جعفر وقد عرفت ضعفها سنداً ودلالة.

أمّا لبس النظارة فلا يلحق بالنظر إلى المرآة ، فإنّه يرى الأشياء من قريب أو بعيد بواسطة النظارة ، لا أنّه يرى الأشياء فيها ، نعم إذا لبسها للتزين فهذا بحث آخر سيأتي الكلام فيه (٣) منعاً وجوازاً إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٧٣ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٤ ح ٤.

(٢) في ص ٤٢٤.

(٣) في ص ٤٥١.

٤٢٦

١٢ ـ الخف والجورب

مسألة ٢٤٨ : يحرم على الرجل المحرم لبس الخف والجورب ، وكفّارة ذلك شاة على الأحوط ، ولا بأس بلبسهما للنِّساء ، والأحوط الاجتناب عن لبس كل ما يستر تمام ظهر القدم ، وإذا لم يتيسر للمحرم نعل أو شبهه ودعت الضرورة إلى لبس الخف فالأحوط الأولى خرقه من المقدم ، ولا بأس بستر تمام ظهر القدم من دون لبس (١).

______________________________________________________

(١) صرّح الأصحاب بحرمة لبس الخف والجورب للمحرم إلّا لضرورة. ويدلُّ عليه النصوص المعتبرة (١) فبالنسبة إلى الحكم التكليفي لا كلام فيه. وأمّا ثبوت الكفّارة فلا دليل عليه ، والحكم به مبني على الاحتياط الوجوبي ، لا لرواية علي بن جعفر المتقدِّمة (٢) بناءً على نسخة (جرحت) لضعفها سنداً ودلالة ، بل لأجل ما دلّ على أن من لبس ثوباً لا ينبغي له لبسه وهو محرم وفعله متعمداً فعليه دم شاة كما في صحيحتي زرارة (٣) وإنّما لم نجزم بثبوت الكفّارة وقلنا بالاحتياط فذلك للشك في صدق اسم الثوب على الجورب ، وإن أُطلق الثوب في رواية معتبرة على القفازين كقوله (عليه السلام) : «المرأة المحرمة تلبس ما شاءت من الثياب غير الحرير والقفازين» (٤) وحال الجورب حال القفازين فإنّهما من لباس اليدين والجورب من لباس الرجلين ، على أنّه قد أفتى جماعة بوجوب الكفّارة ، هذا بالنسبة إلى الرجال.

وأمّا النِّساء فيجوز لها لبسهما لعدم المقتضي للتحريم بالنسبة إليها ، لاختصاص النصوص المانعة بالرجل ، وقاعدة الاشتراك لا تجري في المقام بعد العلم باختلافهما في

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٠٠ / أبواب تروك الإحرام ب ٥١.

(٢) في ص ٤٠٧.

(٣) الوسائل ١٣ : ١٥٧ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ٨ ح ١ ، ٤.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٦٨ / أبواب الإحرام ب ٣٣ ح ٩.

٤٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كثير من أحكام الحجّ خصوصاً في اللباس.

مضافاً إلى أنّ الصحيحة الدالّة على أنّ المرأة تلبس من الثياب ما شاءت إلّا القفازين (١) تدل على جواز لبس الجورب والخف لها ، وإلّا لو كان ممنوعاً لزم استثناؤه بالنسبة إليها كما استثني القفازان.

ثمّ إنّ الممنوع هل يختص بالجورب والخف أو يعم كل ثوب ساتر للقدم ، كما إذا كان إزاره طويلاً يقع على قدميه ويسترهما؟ قيل بعدم الجواز وبالتعميم ، بدعوى أنّ الملاك في المنع ستر القدم وإلّا فلا خصوصية للجورب والخف.

وفيه ما لا يخفى ، إذ لم يعلم أنّ الملاك ستر القدم ولعل الملاك شي‌ء آخر ، والأحكام تعبدية.

وأمّا تغطية ظهر القدم بغير اللبس كتغطئته باللحاف ونحوه عند النوم مثلاً ، فلا ينبغي الشك في جوازه لعدم صدق اللبس على ذلك قطعاً.

ولو لبس الخف أو الجورب للضرورة هل يجب عليه شق ظهره أم لا؟

قيل بالوجوب ، ولكن لا دليل عليه ، وما دلّ على وجوب الشق روايتان ضعيفتان. الاولى : ما رواه علي بن أبي حمزة البطائني عن أبي بصير (٢) ، والبطائني هو الكذّاب المعروف. الثانية : ما رواه الصدوق بسنده إلى محمّد بن مسلم (٣) ، وطريق الصدوق إليه ضعيف كما في المشيخة (٤).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٩٧ / أبواب تروك الإحرام ب ٤٩ ح ٣.

(٢) الوسائل ١٢ : ٥٠١ / أبواب تروك الإحرام ب ٥١ ح ٣ ، ٥. الفقيه ٢ : ٢١٨ / ٩٩٧.

(٣) الوسائل ١٢ : ٥٠١ / أبواب تروك الإحرام ب ٥١ ح ٣ ، ٥. الفقيه ٢ : ٢١٨ / ٩٩٧.

(٤) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٦.

٤٢٨

١٣ ـ الكذب والسّب

مسألة ٢٤٩ : الكذب والسّب محرّمان في جميع الأحوال ، لكن حرمتهما مؤكّدة حال الإحرام ، والمراد من الفسوق في قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) هو الكذب والسّب ، أمّا التفاخر ، وهو إظهار الفخر من حيث الحسب أو النسب ، فهو على قسمين :

الأوّل : أن يكون ذلك لإثبات فضيلة لنفسه مع استلزام الحط من شأن الآخرين وهذا محرّم في نفسه.

الثاني : أن يكون ذلك لإثبات فضيلة لنفسه من دون أن يستلزم إهانة الغير وحطّاً من كرامته ، وهذا لا بأس به ، ولا يحرم لا على المحرم ولا على غيره (١).

______________________________________________________

(١) أجمع العلماء كافّة على تحريم الكذب والسب في الحجّ وغيره ، والأصل فيه بالنسبة إلى الحجّ قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) (١) وقد فسّر الفسوق في صحيح معاوية بن عمار بالكذب والسباب (٢) وهذا ممّا لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في المراد بالفسوق وتفسيره ، فعن الشيخ (٣) والصدوقين (٤) أنّه الكذب خاصّة ، بل نسب هذا القول إلى المشهور واختاره في الحدائق (٥). وعن القاضي أنّه الكذب على الله تعالى وعلى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعلى الأئمة (٦) (عليهم السلام) ولكن لا موجب لهذا التخصيص بعد إطلاق الأدلّة. وعن ابن الجنيد أنّه الكذب والسباب (٧) كما في صحيح معاوية بن عمار.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٣١.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٦٣ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ١.

(٣) المبسوط ١ : ٣٢٠.

(٤) المقنع : ٢٢٤ ، المختلف ٤ : ١٠٩.

(٥) الحدائق ١٥ : ٤٥٦.

(٦) المهذب ١ : ٢٢١.

(٧) حكاه في المختلف ٤ : ١٠٩.

٤٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وعن الشيخ في التبيان أنّ المراد به جميع المعاصي الّتي نهي المحرم عنها (١). وهذا اجتهاد منه في مقابلة النصوص المفسرة للفسوق ، فانّ الاجتناب عن المعاصي بل عن كل رذيلة وإن كان ممدوحاً في نفسه خصوصاً في حال الإحرام ولكن لا وجه لحمل الفسوق على ذلك ، بعد تفسيره في النصوص المعتبرة بالكذب والسباب أو المفاخرة.

وفي صحيح علي بن جعفر فسّر الفسوق بالكذب والمفاخرة (٢) فان قلنا بأنّ المفاخرة لا تنفك عن السباب ، فانّ المفاخرة إنّما تتم بذكر فضائل لنفسه وسلبها عن المخاطب ، أو يسلب رذائل عن نفسه ويثبتها لخصمه ، وهذا هو معنى السباب كما عن العلّامة في المختلف (٣) ، فلا معارضة بين صحيحة معاوية بن عمار المتقدِّمة وصحيحة علي بن جعفر ، لإرجاع المفاخرة إلى السباب المذكور في صحيحة معاوية بن عمار ، وإن لم يكن عنوان المفاخرة داخلاً في عنوان السب كما إذا افتخر على المخاطب بذكر فضائل لنفسه أو دفع رذيلة عنها من دون أن يمس كرامة المخاطب ومن دون تعريض لنفي فضيلة عنه أو إثبات رذيلة عليه ، فيقع التعارض بين صحيحة معاوية بن عمار وصحيحة علي بن جعفر ، لأن صحيح معاوية بن عمار فسّر الفسوق بالكذب والسباب وصحيح علي بن جعفر فسّره بالكذب والمفاخرة.

وذكر صاحب الحدائق أنّ الصحيحين تعارضا فيما عدا الكذب فيتساقطان ويؤخذ بالمتفق عليه منهما وهو الكذب خاصّة ، فيطرح المختلف فيه من كل من الجانبين وهو السب والمفاخرة (٤) ويؤيّده تفسير الفسوق بالكذب خاصّة في روايات ضعيفة كمرسلة العياشي في تفسيره (٥) ورواية الصدوق عن المفضل بن صالح عن زيد الشحام (٦) ، فإنّها ضعيفة بالمفضل بن صالح ، والفقه الرضوي (٧).

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٦٤.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٦٥ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ٤.

(٣) المختلف ٤ : ١١٠.

(٤) الحدائق ١٥ : ٤٥٩.

(٥) لاحظ الوسائل ١٢ : ٤٦٧ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ٩.

(٦) لاحظ الوسائل ١٢ : ٤٦٧ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ٨.

(٧) فقه الرضا : ٢١٧.

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا السيِّد في المدارك اختار أنّ المراد بالفسوق هو الكذب فقط (١) ، بدعوى أنّ الجمع بين صحيح معاوية بن عمار وصحيح علي بن جعفر يقتضي المصير إلى أنّ الفسوق هو الكذب خاصّة ، لاقتضاء صحيح معاوية بن عمار نفي المفاخرة وصحيح علي بن جعفر نفي السباب ، فيؤخذ بالمتفق عليه منهما وهو الكذب ويتساقطان بالنسبة إلى السب والمفاخرة.

وهذا من مثله عجيب ، وذلك فلأنّ التعارض إنّما هو بين منطوق أحدهما ومفهوم الآخر ، لأن منطوق صحيح معاوية بن عمار يدل على تفسير الفسوق بالكذب والسباب وبالمفهوم المستفاد من الحصر يدل على عدم المنع من المفاخرة ، وكذا صحيح علي بن جعفر بالمنطوق يدل على حرمة الكذب والمفاخرة وبمفهوم الحصر يدل على عدم كون السب من تروك الإحرام ، فمفهوم كل منهما يدل على جواز السباب والمفاخرة ، وحيث إن دلالة المفهوم بالظهور ودلالة المنطوق بالصراحة فيرفع اليد عن ظهور كل منهما بصراحة المنطوق في كل منهما ، فالنتيجة حرمة الجميع وأنّ السب والكذب والمفاخرة من الفسوق. بل لو فرضنا أنّ الروايات الضعيفة المفسرة للفسوق بالكذب خاصّة كانت معتبرة ، كانت القاعدة تقتضي ما ذكرناه.

ثمّ إنّ المفاخرة إن أُخذ في عنوانها نفي الفضيلة عن المخاطب وإثبات منقصة ورذيلة عليه ، فلا ريب في الحرمة ودخولها في صحيح علي بن جعفر ، وإن لم تستلزم ذلك ولا تمس كرامة أحد وإنّما يثبت المحرم فضيلة لنفسه أو ينفي رذيلة عنها من دون تعريض لمؤمن آخر ومن دون أن يمس كرامة أحد من المؤمنين ، فان لم يصدق عنوان المفاخرة على ذلك فهو ، وإن صدق عليه فلا بدّ من إخراجه عن المفاخرة الممنوعة في صحيح علي بن جعفر ، لعدم احتمال حرمة هذا النحو من المفاخرة ، ويكون إطلاق المفاخرة المذكورة في الصحيح غير شامل لهذا النوع من المفاخرة ، لأن رواية علي بن جعفر في مقام تفسير الفسوق والخروج عن الجادة المستقيمة ، وهذا النوع من المفاخرة ليس من الفسوق ، فلا ينطبق عليه عنوان الفسوق والخروج عن الحدود الشرعية.

__________________

(١) المدارك ٧ : ٣٤١.

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : مجرّد الافتخار ما لم يستوجب منقصة على أحد من المؤمنين لا محذور فيه شرعاً ، فلا يصدق عليه عنوان الفسوق.

وأمّا بالنسبة إلى الكفّارة ، فالمعروف عدمها سوى الاستغفار ، بل ذكر صاحب الجواهر (قدس سره) أنّه لم يجد من ذكر للفسوق كفّارة ، بل قيل ظاهر الأصحاب لا كفّارة فيه سوى الاستغفار (١).

ولكن صاحب الوسائل ذهب إلى وجوب الكفّارة لقوله : باب أنّه يجب على المحرم في تعمد السباب والفسوق بقرة (٢).

وذهب صاحب الحدائق إلى وجوب الكفّارة أيضاً عند اجتماع السباب والكذب ولا تجب عند انفراد كل منهما عن الآخر (٣).

وما ذكره المشهور هو الصحيح ، لصحيح الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : «قلت : أرأيت من ابتلي بالفسوق ما عليه؟ قال : لم يجعل الله له حدّا يستغفر الله ويلبي» (٤).

ورواه الصدوق أيضاً بطريقه إلى محمّد بن مسلم والحلبي جميعاً (٥) ، وطريق الصدوق إلى محمّد بن مسلم وإن كان ضعيفاً ولكن طريقه إلى الحلبي صحيح.

ثمّ إن صاحب الوسائل بعد ما روى الرواية الاولى في الباب الثاني من أبواب بقيّة كفارات الإحرام عن الكليني ، قال : ورواه الصدوق وابن إدريس كما مرّ ، وذكر المعلّق أيضاً ورواه الصدوق وابن إدريس كما مرّ ، إلّا أنّ الّذي مرّ في الباب الثاني والثلاثين من تروك الإحرام (٦) ما رواه الصدوق عن الحلبي ، ولكن لم يذكر منه كفّارة الفسوق.

نعم ، كفّارة الفسوق مذكورة في صحيحة الحلبي كما في الفقيه.

__________________

(١) الجواهر ٢٠ : ٤٢٥.

(٢) الوسائل ١٣ : ١٤٨ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ٢.

(٣) الحدائق ١٥ : ٤٦٠.

(٤) الوسائل ١٣ : ١٤٩ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ٢ ح ٢.

(٥) الفقيه ٢ : ٢١٢ / ٩٦٨.

(٦) الوسائل ١٢ : ٤٦٤ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ٢.

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : هاتان الصحيحتان دلّتا على عدم الكفّارة للفسوق ، وصاحب الوسائل حملهما على الجاهل ، لما ثبت من عدم وجوب الكفّارة على غير المتعمد واختار وجوب الكفّارة على العامد ، لصحيح سليمان بن خالد قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : في حديث وفي السباب والفسوق بقرة» (١).

ولا يخفى أن هذا الحمل بعيد وليس من الجمع العرفي بين الروايتين المتنافيتين ، لأن الظاهر من قول السائل : من ابتلي بالفسوق ما عليه؟ والظاهر من جواب الإمام (عليه السلام) : «لم يجعل الله له حدّا يستغفر الله» أنّه لم يجعل في الشريعة المقدّسة لذلك حدّا وشيئاً أصلاً ، لا أنّه جعل له شيئاً ورفعه عند الجهل خاصّة.

وبعبارة اخرى : ما ذكره صاحب الوسائل يبتني على أن تكون الكفّارة مجعولة عند الفسوق ولكن الشارع رفعها عند الجهل ، والظاهر من الصحيحة أنّ الكفّارة غير مجعولة للفسوق أصلاً ، وأنّها غير ثابتة في الشريعة المقدّسة برأسها.

وأمّا ما صنعه في الحدائق من أنّ الكفّارة ثابتة على الجمع بين السباب والكذب (٢) ففيه : أنّ الظاهر من الرواية ثبوت الكفّارة لكل من السباب والفسوق ، والمقام من باب ذكر العام بعد الخاص ، وهذا النحو من الاستعمال شائع في القرآن وغيره ، فمن ذكر الخاص بعد العام قوله تعالى (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ) (٣) ومن ذكر العام بعد الخاص قوله عزّ وجلّ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (٤) وقوله تعالى (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (٥).

وبالجملة : الفسوق عام ذكر بعد الخاص والظاهر من الرواية ثبوت الكفّارة لكل من السباب والفسوق.

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ١٤٨ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ٢ ح ١.

(٢) الحدائق ١٥ : ٤٦٠.

(٣) الرّحمن ٥٥ : ٦٨.

(٤) البقرة ٢ : ٢٦٦.

(٥) النّحل ١٦ : ١١.

٤٣٣

١٤ ـ الجدال

مسألة ٢٥٠ : لا يجوز للمحرم الجدال وهو قول لا والله وبلى والله ، والأحوط ترك الحلف حتّى بغير هذه الألفاظ (١).

______________________________________________________

فالصحيح حمل صحيحة سليمان بن خالد على الاستحباب ، لصراحة صحيح الحلبي في عدم الوجوب ، كما تحمل لذلك صحيحة علي بن جعفر المروية عن قرب الاسناد أيضاً الدالّة على التصدق بشي‌ء على الاستحباب ، فقد روى علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) «وكفّارة الفسوق شي‌ء يتصدق به إذا فعله وهو محرم» وفي نسخة اخرى «وكفّارة الفسوق يتصدّق به إذا فعله وهو محرم» (١).

(١) لا ريب في حرمة الجدال على المحرم للآية الشريفة (٢) والنصوص المعتبرة (٣) ، إنّما الكلام في معناه ، وعن العامّة حمل الجدال على معناه اللغوي وهو مطلق المخاصمة والنزاع (٤) ، ولكن الروايات الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) فسرته بقوله : «لا والله ، وبلى والله» (٥) ، فيقع الكلام في جهات :

الاولى : هل المحرّم قول الرجل لا والله ، وبلى والله على الإطلاق وفي كل مورد ، أو يحرم في خصوص مورد المخاصمة؟ وبتعبير آخر : الممنوع المخاصمة الّتي فيها يمين خاص وهو قول الرجل لا والله ، وبلى والله ، أو أنّ الممنوع مطلق هذا القول ولو في غير مورد المخاصمة؟

يظهر من بعضهم اختصاص الحرمة بمورد المخاصمة ، والظاهر أنّه لا وجه له ، لأنّ الروايات فسّرت الجدال بنفس هذا القول لا المخاصمة المشتملة على هذا القول ، فهذا

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ١١١ / أبواب كفارات الاستمتاع ب ٣ ح ٤ ، ١٦. قرب الاسناد : ٢٣٤ / ٩١٥.

(٢) البقرة ٢ : ٣١.

(٣) الوسائل ١٢ : ٤٦٣ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢.

(٤) المغني ٣ : ٢٧٠ ، الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٦٤٤.

(٥) الوسائل ١٢ : ٤٦٣ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢.

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

القول ممنوع ولو في غير مورد المخاصمة ، وقد وقع التصريح في صحيح معاوية بن عمار بأنّ الجدال قول الرجل لا والله وبلى والله ، وأمّا قول الرجل لا لعمري وبلى لعمري فلا بأس به (١) فمقتضى الإطلاق عدم اختصاص الجدال بالمخاصمة ، فلو سأله أحد هل فعلت كذا؟ فقال : لا والله ، يكون داخلاً في الجدال ، وكذا لو قال له : أنت كذا ، فقال : بلى والله ، فدعوى اختصاص الحكم بمورد المخاصمة بلا موجب ، فلا مانع من الالتزام بأنّ الجدال حقيقة شرعية للمعنى المعهود المذكور في الروايات ، أو أنّه استعمال شرعي فيه. فلا ضير فيما ذكرناه كون معناه اللغوي في الأصل مطلق النزاع والتخاصم (٢).

وممّا يؤكد ما قلناه ما ورد في صحيح معاوية بن عمار «واعلم أنّ الرجل إذا حلف بثلاثة أيمان ولاء في مقام واحد وهو محرم فقد جادل فعليه دم يهريقه ويتصدق به ، وإذا حلف يميناً واحدة كاذبة فقد جادل وعليه دم يهريقه ويتصدّق به» (٣) وكذا ما ورد في موثقة أبي بصير «إذا حلف الرجل ثلاثة أيمان وهو صادق وهو محرم فعليه دم يهريقه وإذا حلف يميناً واحدة كاذباً فقد جادل فعليه دم يهريقه» (٤) فانّ المستفاد منهما أن موضوع الحكم نفس الحلف لا الحلف الواقع في المخاصمة ، وكذا يستفاد ذلك من معتبرة أُخرى لأبي بصير قال : «سألته عن المحرم يريد أن يعمل العمل فيقول له صاحبه : والله لا تعمله ، فيقول : والله لأعملنّه ، فيحالفه مراراً ، يلزمه ما يلزم الجدال؟ قال : لا ، إنّما أراد بهذا إكرام أخيه ، إنّما كان ذلك ما كان لله عزّ وجلّ فيه معصية» (٥) لأنّه لو كان موضوع الحكم هو المخاصمة لكان الأنسب واللّائق الجواب بأنّه لا محذور في هذا الحلف أصلاً ، لعدم الموضوع للجدال ، ولعدم وقوع هذا الحلف في مورد

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٦٥ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ٣ ، ٥ وأورده أيضاً في الوسائل ١٣ : ١٤٦ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ٢٢ ح ٣.

(٢) المنجد : ٨٢ مادّة جدل.

(٣) تقدّم مصدره أعلاه.

(٤) الوسائل ١٣ : ١٤٧ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ١ ح ٧.

(٥) الوسائل ١٢ : ٤٦٦ / أبواب تروك الإحرام ب ٢٣ ح ٧.

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المخاصمة ، لا التعليل بأنّه لا معصية فيه ، لأنّه لم يأت بالجملة المعهودة.

وبالجملة : لا ريب في أنّ المستفاد من الأدلّة أن موضوع المنع هو مجرد الحلف بالجملة المعهودة وإن لم يقع في مورد المخاصمة.

الجهة الثانية : هل يختص الحكم بهاتين الجملتين لا والله ، وبلى والله ، أو يعم جميع أفراد اليمين كقولنا : لا وربّي ، لا والخالق ونحوهما ، بل ومن دون اشتمال على حرف (لا) و (بلى) كما إذا قال : والله ، وبالله؟

ظاهر المشهور هو الاختصاص ، وصرّح المحقق في النافع (١) والشهيد في الدروس (٢) بالتعميم ، وأن موضوع الحكم مطلق الحلف بالله تعالى.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور ، لأنّ الظاهر من صحيح معاوية بن عمار أنّ الحكم مترتب على نفس هذا القول خاصّة ، لا المعنى ولا ما يسمّى يميناً بالله تعالى ليدل على حرمة مطلق الحلف بالله عزّ وجلّ.

والحاصل : الجدال الممنوع شرعاً في الحجّ هو الحلف بالله بالصيغة المخصوصة المذكورة في صحاح لمعاوية بن عمار (٣).

ثمّ إنّه قد استدلّ للقول بالتعميم بعدّة من الروايات :

منها : صحيحة معاوية بن عمار في حديث «والجدال قول الرجل لا والله وبلى والله واعلم أنّ الرجل إذا حلف بثلاثة أيمان ولاء في مقام واحد وهو محرم فقد جادل فعليه دم يهريقه ويتصدق به ، وإذا حلف يميناً واحدة كاذبة فقد جادل وعليه دم» (٤).

ومنها : موثقة أبي بصير «إذا حلف الرجل ثلاثة أيمان وهو صادق وهو محرم فعليه دم يهريقه ، وإذا حلف يميناً واحدة كاذباً فعليه دم يهريقه» (٥) فانّ المستفاد منهما أنّ الموضوع للحكم مطلق الحلف.

__________________

(١) المختصر النافع : ١٠٨.

(٢) الدروس ١ : ٣٨٦.

(٣) الوسائل ١٢ : ٤٦٣ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ١ ، ٣ ، ٥.

(٤) الوسائل ١٣ : ١٤٦ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ١ ح ٣.

(٥) الوسائل ١٣ : ١٤٦ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ١ ح ٧.

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والجواب : أمّا عن صحيح معاوية بن عمار ، أن هذه الجملة «واعلم أنّ الرجل إذا حلف ...» وإن ذكرها مستقلا ولكن ذكر في الصدر «والجدال قول الرجل لا والله ، وبلى والله» فيعلم أنّ الحكم المذكور بعد ذلك مترتب على هذا القول وليس مترتباً على مطلق الحلف.

وبتقريب آخر : ليست الرواية في مقام بيان الجدال وتفسيره ، بل في مقام بيان التفصيل بين اليمين الصادقة والكاذبة ، وأن أيّاً منهما يوجب الكفّارة ، وبذلك يظهر الجواب عن رواية أبي بصير فإنّها في مقام بيان التفصيل بين الحلف الكاذب والصادق وثبوت الكفّارة في الحلف الكاذب وإن كان واحداً ، وثبوتها في الحلف الصادق إذا كان ثلاثة أيمان ، وليست في مقام بيان أن مطلق الحلف يوجب الكفّارة ، فلا إطلاق لها من هذه الجهة.

على أنّه لو سلمنا الإطلاق وشموله لكل حلف ، يقع التعارض بين هذه المطلقات وبين صحيحة معاوية بن عمار الحاصرة بالقول المخصوص «إنّما الجدال قول الرجل : لا والله ، وبلى والله» (١) فإنّها بمفهوم الحصر تدل على عدم حرمة غير هذا القول الخاص ، والتعارض بالعموم من وجه ، لأن صحيحة معاوية بن عمار الحاصرة تدل على أن غير قوله : «لا والله ، وبلى والله» لا أثر له ، سواء كان حلفاً بالله بغير هذا القول أو كان حلفاً بغير الله كقوله : لعمرك ، وتلك الروايات المطلقة تدل على أنّ الممنوع هو الحلف بالله سواء كان بقوله : لا والله ، وبلى والله أو بغير هذا القول ، فيقع التعارض في الحلف بالله بغير هذا القول الخاص ، وبعد التعارض يرجع إلى أصل البراءة.

الجهة الثالثة : هل الحكم مختص بالجملة الخبرية ، أو يعم الجملة الإنشائية؟

لم أر من تعرض لذلك ، والّذي يظهر من الروايات الواردة في المقام عدم شمول الحكم للحلف في الجملة الإنشائية ، إذ يظهر من صحيحة معاوية بن عمار ونحوها الواردة في التفصيل بين الحلف الصادق والكاذب ، أنّ الحلف الممنوع يجري في مورد

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٦٥ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ٣.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

يقبل الصدق والكذب وليس ذلك إلّا في الجملة الخبرية ، وأمّا الإنشائية فغير قابلة للصدق والكذب ، لما ذكرنا في محلِّه (١) أنّ الإنشاء إبراز أمر اعتباري نفساني ولم يكن فيه حكاية عن الخارج ليتصف بالصدق والكذب ، فبقرينة التفصيل بين الصادق والكاذب يعلم أنّ الحكم يختص بالحلف في مورد الجملة الخبرية.

وعلى ذلك تحمل معتبرة أبي بصير قال : «سألته عن المحرم يريد أن يعمل فيقول له صاحبه : والله لا تعمله ، فيقول : والله لأعملنّه فيحالفه مراراً ، يلزمه ما يلزم الجدال؟ قال : لا إنّما أراد بهذا إكرام أخيه ، إنّما كان ذلك ما كان لله عزّ وجلّ فيه معصية» (٢) فانّ المستفاد منها أنّ الحلف المحرّم هو الحلف الاخباري وأمّا الحلف التكريمي الّذي هو مجرد وعد لمؤمن فلا معصية فيه.

فالحكم يختص بما إذا أخبر عن شي‌ء نفياً أو إثباتاً فحلف عليه بالقول المخصوص ، وأمّا الوعد على شي‌ء والإنشاء به على عمل أو ترك شي‌ء فغير داخل في موضوع الحكم ، لأنّه غير قابل للصدق والكذب.

ومنه يظهر أنّه لا بأس بالحلف في التعارفات الدارجة بين الناس لعدم كونه إخباراً عن شي‌ء ، فاستثناء ذلك من الحلف المحرم من الاستثناء المنقطع لعدم دخوله في الحلف الممنوع ، لأن موضوع المنع هو الحلف في مورد الجملة الخبرية المحتملة للصدق والكذب ، وأمّا ما لا يحتمل للصدق والكذب فغير داخل في موضوع الحكم أصلاً.

الجهة الرابعة : هل الجدال يتحقق بمجموع هذين اللفظين ، أعني : لا والله ، وبلى والله ، أو يتحقق بكل منهما مستقلا؟

الظاهر هو الثاني ، لأن إحدى الجملتين تستعمل في الإثبات ، والأُخرى تستعمل في النفي ، ولا يمكن استعمالهما في مقام واحد ، بل الشائع المتعارف استعمال بلى والله في مقام الإثبات ، ولا والله في مقام النفي ، ولا يستعملان في مورد واحد ، فالجدال يتحقق بكل واحد منهما منفرداً عن الآخر.

__________________

(١) في محاضرات في أُصول الفقه ١ : ٨٧.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٦٦ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ٧.

٤٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ويؤكّد ذلك الروايات المفصلة بين الحلف الصادق والكاذب ، فانّ المستفاد منها أنّ الموضوع للحكم هو الحلف ولو بصيغة خاصّة ، ولا ريب في صدق الحلف على كل من اللفظين وإن لم ينضم إلى الآخر.

الجهة الخامسة : هل الحكم يختص بذكر كلمة (لا) و (بلى) أو يعم الحكم لما يؤدي هذين المعنيين ، بأن يقول في مقام النفي : ما فعلت والله ، وفي مقام الإثبات : قد فعلت كذا والله؟ وهل يقتصر على ذلك بالنسبة إلى التعبير بالقسم باللّغة العربية ، أو يعمه فيما لو ترجم إلى غير العربية؟

اختار في الجواهر التعميم وأنّه لا خصوصية لذكر كلمة (لا) و (بلى) بل المعتبر أداء هذين المعنيين نظير قوله (عليه السلام) «إنّما الطلاق أنت طالق» (١) فانّ الطلاق يقع بقولنا : طالق ولا يعتبر لفظ (أنتِ) قطعاً ، بل يقع بقوله : زوجتي أو هي أو فلانة ونحو ذلك طالق وبالجملة لفظ (بلى) و (لا) لبيان المقسوم عليه ، ولا يعتبر خصوص اللفظين في مؤدّاة ، بل يتحقق الجدال بقول : والله وإن ادي المقسوم عليه بغير لفظ (لا) و (بلى) بل يكفي الفارسية ونحوها فيه (٢).

وفيه : أنّ الظاهر من النص اعتبار قول لا والله وبلى والله ، بأن يكون النفي والإثبات يؤديان بكلمة (لا) و (بلى) بلفظ الجلالة بالعربية ، لقوله (عليه السلام) في صحيح معاوية بن عمار «إنّما الجدال قول الرجل : لا والله ، وبلى والله» فإذا أدى القسم أو المقسوم عليه بلفظ آخر غيرهما لا يشمله النص ، وكذا إن كان بغير اللفظ العربي ، وأمّا ما ذكره (قدس سره) من وقوع الطلاق ولو لم يذكر لفظ (أنت) فالأمر كما ذكر (قدس سره) لعدم اعتبار لفظ (أنت) قطعاً ونتعدى إلى غير ذلك من الألفاظ كزوجتي أو هي أو فلانة أو امرأتي طالق ، وذلك للنصوص الدالّة على ذلك خصوصاً ما ورد في جواز طلاق الغائب زوجته وأنّه لا يعتبر حضورها في مجلس الطلاق (٣) ومن

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٥٤ / أبواب مقدمات الطلاق ب ٢٥.

(٢) الجواهر ١٨ : ٣١٣.

(٣) الوسائل ٢٢ : ٥٤ / أبواب مقدمات الطلاق ب ٢٥.

٤٣٩

مسألة ٢٥١ : يستثني من حرمة الجدال أمران :

الأوّل : أن يكون ذلك لضرورة تقتضيه من إحقاق حق أو إبطال باطل (١).

الثاني : أن لا يقصد بذلك الحلف ، بل يقصد به أمراً آخر كإظهار المحبة والتعظيم كقول القائل : لا والله لا تفعل ذلك (٢).

______________________________________________________

المعلوم أن طلاق الغائب لا يقع بقوله : (أنتِ) فمن هذه الروايات نستكشف عدم اعتبار ذكر كلمة (أنتِ).

وبالجملة : مقتضى الجمود على النص والأخذ بظاهر الدليل اعتبار ذكر كلمة (لا) و (بلى) وعدم تحقق الجدال بغيرهما من الألفاظ وإن كان مؤدّياً لهما.

وأمّا صحيحة أبي بصير الّتي يظهر منها تحقق الجدال بمطلق الحلف بالله إلّا إذا كان تكريماً لأخيه (١) فغير ناظرة إلى جواز الحلف بأيّ شي‌ء ولو بغير القول المخصوص وإنّما هي ناظرة إلى أن هذا النحو من الحلف حيث إنّه تكريم لأخيه المؤمن لا يترتب عليه شي‌ء.

وبعبارة اخرى : ليست الرواية في مقام بيان وقوع الحلف بأيّ صيغة وبأيّ قول ، فلا إطلاق لها من هذه الجهة ، وإنّما هي في مقام بيان أنّ الحلف التكريمي لا بأس به.

(١) لا لخصوص حديث نفي الضرر ، بل يدلّنا على جواز ذلك أيضاً صحيحة أبي بصير المتقدِّمة (٢) فإنّ المستفاد منها ما كان فيه معصية لله عزّ وجلّ محرم ، وما كان فيه إحقاق حق أو إبطال باطل لا معصية فيه.

(٢) قد عرفت أنّ الجدال يتحقق بالقسم في موارد الجملة الخبرية وأمّا ما كان من قبيل الإنشاء كالتعظيم والتكريم لأخيه فلا بأس به ، كما يدل عليه صحيح أبي بصير أيضا.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٦٦ / أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ٧.

(٢) المتقدِّم مصدره أعلاه.

٤٤٠