موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

نعم لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحجّ واستطاع بذلك وجب عليه الحجّ (١).

مسألة ٣٢ : إذا آجر نفسه للنيابة عن الغير في الحجّ واستطاع بمال الإجارة قدّم الحجّ النيابي إذا كان مقيّداً بالسنة الحالية ، فإن بقيت الاستطاعة إلى السنة القادمة وجب عليه الحجّ وإلّا فلا (٢) وإن لم يكن الحجّ النيابي مقيّداً بالسنة الفعليّة قدّم الحجّ عن نفسه.

مسألة ٣٣ : إذا اقترض مقداراً من المال يفي بمصارف الحجّ وكان قادراً على وفائه بعد ذلك وجب عليه الحجّ (٣).

______________________________________________________

(١) قد يؤجر المكلّف نفسه للخدمة في طريق الحجّ كالطبخ وغيره بما يصير مستطيعاً ، بحيث يكون متعلق الإجارة نفس العمل المذكور ويكون السير في الطريق مقدّمة لتسليم العمل المملوك إلى مالكه ، ففي مثله يجب عليه الحجّ ويجزئ حجّه عن حجّة الإسلام ، ولا ينافيه وجوب قطع الطريق للغير ، لأنّ الواجب عليه في حج نفسه أفعال الحجّ وأعماله ، وقطع الطريق ليس منها وإنّما هي مقدّمة توصلية ، فما وجب عليه لم يقع عليه الإجارة ، وما استؤجر عليه غير ما وجب عليه.

(٢) لوجوب تسليم العمل المملوك إلى مالكه ، كما لو آجر نفسه لسائر الأعمال كالخياطة والبناء ، فإنّ وجوب تسليم العمل المملوك ينافي ويزاحم وجوب الحجّ على نفسه على الفرض.

نعم ، إذا لم يكن الحجّ النيابي مقيّداً بالعام الحاضر بل كانت الإجارة مطلقة ، قدم الحجّ عن نفسه لعدم المزاحمة ، لكن فيما إذا لم يكن الإتيان به مزاحماً لإتيان الحجّ النيابي في السنين الآتية ، وأمّا إذا كان مزاحماً قدم الحجّ النيابي ، كما لو علم بأنّه لو حجّ عن نفسه في هذا العام لا يتمكّن من الحجّ النيابي في العام القابل ، فالحج النيابي كالديون في المزاحمة وعدمها.

(٣) لا ريب في أنّه لا يجب عليه الاقتراض للحج وإن كان متمكّناً من أدائه بسهولة ، لأنّ ذلك من تحصيل الاستطاعة وهو غير واجب قطعاً. نعم ، لو استدان

٤١

مسألة ٣٤ : إذا كان عنده ما يفي بنفقات الحجّ وكان عليه دين ولم يكن صرف ذلك في الحجّ منافياً لأداء ذلك الدّين وجب عليه الحجّ (١) وإلّا فلا ، ولا فرق في الدّين بين أن يكون حالاً أو مؤجّلاً ، وبين أن يكون سابقاً على حصول ذلك المال أو بعد حصوله.

مسألة ٣٥ : إذا كان عليه خمس أو زكاة وكان عنده مقدار من المال ولكن لا يفي بمصارف الحجّ لو أدّاهما وجب عليه أداؤهما ولم يجب عليه الحجّ ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الخمس والزّكاة في عين المال أو يكونا في ذمّته (٢).

______________________________________________________

مقداراً من المال بحيث صار واجداً للزاد والرّاحلة وكان قادراً على وفائه بلا مشقّة وجب عليه الحجّ لفعليّة الحكم بفعليّة موضوعه.

(١) فإنّ الدّين بنفسه لم يكن منافياً ومزاحماً للحج إلّا إذا كان إتيان الحجّ مزاحماً لأدائه بحيث لو صرف المال في الحجّ لم يتمكّن من وفاء الدّين فحينئذ يقدم الدّين لأهميّته جزماً فإنّ الخروج من عهدة النّاس أهم من حقّ الله تعالى ، بل لو كان محتمل الأهميّة يقدّم أيضاً لأنّ محتمل الأهميّة من جملة المرجحات في باب التزاحم.

ويدلُّ على ذلك مضافاً إلى ما ذكرنا ، صحيح معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل عليه دين أعليه أن يحجّ؟ قال : نعم ، إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين» (١) فإنّ المستفاد منه أنّ الدّين بنفسه لا يمنع عن الحجّ ، فما ذهب إليه المحقق (٢) وجماعة من أنّ الدّين مطلقاً مانع عن الحجّ لا وجه له.

ولا فرق فيما ذكرنا بين كون الدّين حالاً أو مؤجّلاً وبين كونه سابقاً على حصول ذلك المال أم لا ، لأنّ الميزان بالمزاحمة وعدمها.

(٢) إذا كان عليه خمس أو زكاة وكان عنده مقدار من المال لا يكفي إلّا للحج أو

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ١١ ح ١.

(٢) الشرائع ١ : ٢٥٣.

٤٢

مسألة ٣٦ : إذا وجب عليه الحجّ وكان عليه خمس أو زكاة أو غيرهما من الحقوق الواجبة لزمه أداؤها ولم يجز له تأخيره لأجل السفر إلى الحجّ (١). ولو كان ثياب طوافه وثمن هديه من المال الّذي قد تعلّق به الحق لم يصحّ حجّه (٢).

______________________________________________________

لأداء ما عليه من الخمس أو الزّكاة ، فهل يقدّم الحجّ على أداء الحق الشرعي أم لا؟ وهنا صورتان :

الاولى : ما إذا كان الحق متعلّقاً بذمّته ، وحكمه حكم الدّين الشخصي وقد عرفت أنّ الدّين المطالب به يقدّم على الحجّ ، ولا فرق بين كونه مديناً لشخص معيّن أو لجهة من الجهات ، فيتزاحم التكليفان ويجب عليه صرف المال في أداء الدّين ، لأهميّته من حق الله تعالى فتزول الاستطاعة.

الثّانية : أن يكون الحق الّذي هو الزكاة أو الخمس متعلّقاً بعين ماله فلا ريب أيضاً في تقديمهما على الحجّ ، لا لأنّ التعلّق بالعين مانع عن التصرّف فيها على خلاف مقتضى الحال كالتصرّف في العين المغصوبة فإنّه لا يجوز التصرّف فيها ، فإنّ الجواب عن هذا واضح لأنّ حرمة التصرّف في المال لا تكون مانعة ، ولذا لو عزل الزكاة وجاز له تأخير أدائها لم يجز له التصرّف في المال بالحج ، فيتبيّن أنّ عدم وجوب الحجّ غير مستند إلى الحكم التكليفي كحرمة التصرّف في المال أو وجوب الأداء ، بل الوجه في التقديم أنّه مع وجود الحق في ذمّته غير مستطيع وغير واجد لما يحجّ به فإنّ ثبوت الحق في ذمّته يوجب فقدان موضوع الحجّ وهو الاستطاعة.

(١) لعدم الفرق بين الدّين لشخص أو لجهة كالفقراء والسادة ، وقد عرفت فيما سبق أنّ أداء الدّين لأهميّته يقدّم على الحجّ.

(٢) لأنّه كالمغصوب والمعتبر إباحة ثوب الطّواف ، كما أنّه يعتبر حلية ثمن الهدي وإلّا فلا يدخل في ملكه فيكون تاركاً للهدي ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في المسألة الثلاثين.

٤٣

مسألة ٣٧ : إذا كان عنده مقدار من المال ولكنّه لا يعلم بوفائه بنفقات الحجّ لم يجب عليه الحجّ ولا يجب عليه الفحص (١) وإن كان الفحص أحوط.

______________________________________________________

(١) لأنّ الشبهة موضوعيّة فتجري فيها أصالة البراءة العقليّة والنقليّة ، ولا دليل على وجوب الفحص فيها.

وربّما يستدل لوجوب الفحص في المقام بأُمور :

منها : ما عن المحقق النائيني (قدس سره) من أنّ هذا المقدار من الفحص لا يعد من الفحص عرفاً ، فإنّ الفحص بمقدار يعرف أنّه مستطيع أم لا كالمراجعة إلى دفتر حساباته لا يعد ذلك لدى العرف فحصاً ، فإنّه نظير النظر إلى الأُفق لتبين الفجر ونحو ذلك (١).

والجواب عنه : أنّ الفحص لم يؤخذ في لسان أيّ دليل حتّى يقال بأنّ هذا المقدار من الفحص ليس فحصاً عرفاً أو هو فحص عرفاً ، وأدلّة البراءة موضوعها الجاهل والشاك ، ومقتضى إطلاقها جريان البراءة ما دام المكلّف جاهلاً بالموضوع ولا دليل على اعتبار الفحص ، وإنّما يعتبر الفحص في الشبهات الحكمية لدليل مذكور في محلِّه (٢) غير جار في الشبهات الموضوعيّة ، كما يعتبر الفحص في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي والموضوعات المهمّة كالدماء والفروج ، وفي غير ذلك يتمسّك بإطلاق أدلّة الأُصول. نعم ، في بعض الموارد قد لا يصدق عنوان الجاهل كالمورد الّذي يحتاج إلى الفحص اليسير جدّاً ، بل قد لا يعد من الفحص كالنظر إلى الأُفق بفتح عينه ليرى الفجر ، ففي مثله لا يجري الاستصحاب.

ومنها : بأنّه لولا الفحص لزمت المخالفة القطعيّة الكثيرة.

وفيه أوّلاً بالنقض بموارد كثيرة للأُصول الشرعيّة ، كالشك في الطّهارة والنّجاسة ونحوهما ممّا يعلم فيها بالمخالفة غالباً لو تفحّص عنها.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٠٢.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٤٨٩.

٤٤

مسألة ٣٨ : إذا كان له مال غائب يفي بنفقات الحجّ منفرداً أو منضمّاً إلى المال الموجود عنده ، فإن لم يكن متمكّناً من التصرّف في ذلك المال ولو بتوكيل من يبيعه هناك لم يجب عليه الحجّ (١)

______________________________________________________

وثانياً بالحل ، فإنّ المكلّف بالنسبة إلى نفسه لا يعلم بوقوعه في المخالفة ، ولو علم لكان من العلم الإجمالي في التدريجيّات ويجب الفحص حينئذ ولكنّه خارج عن محل الكلام ، وأمّا بالنسبة إلى سائر الناس فإنّه قد يعلم بوقوعهم في الخلاف ولكن لا أثر لذلك بالنسبة إلى نفسه.

ومنها : خبر زيد الصائغ الوارد في الدراهم الممتزجة من الفضّة والمس والرصاص الآمر بتخليصها وتصفيتها حتّى يحترق الخبيث ويبقى الخالص قال : «قلت : وإن كنت لا أعلم ما فيها من الفضّة الخالصة إلّا أنّي أعلم أنّ فيها ما يجب فيه الزّكاة؟ قال : فاسبكها حتّى تخلص الفضّة ويحترق الخبيث ثمّ تزكي ما خلص من الفضّة لسنة واحدة» (١) فإنّ الأمر بالتخليص ليس إلّا لاعتبار الفحص وإلّا فلا موجب له.

والجواب عن ذلك أوّلاً : أنّ الخبر ضعيف السند بزيد الصائغ وثانياً : أنّه ضعيف الدلالة ، بأنّه لو كانت الدراهم ممتزجة من ثلاثة أشياء فيتمكّن المكلّف من إعطاء الزّكاة بنسبة المال الموجود في الدراهم ولا حاجة إلى إعمال هذه العمليّة من سبك الدراهم وتخليصها. والظاهر أنّ الرواية في مقام بيان تعليم كيفيّة التخليص وليست في مقام بيان وجوب الفحص.

فتحصل : أنّه لا دليل على وجوب الفحص في هذه الموارد ، وللمكلّف أن يعمل بالأُصول الشرعيّة الجارية فيها.

(١) لعدم صدق الاستطاعة ، لأنّ العبرة في تحقق الوجوب بالتمكّن من التصرّف ومجرّد الملكيّة لا يحقق موضوع الاستطاعة.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٥٥ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٢١ ح ٢.

٤٥

وإلّا وجب (١).

مسألة ٣٩ : إذا كان عنده ما يفي بمصارف الحجّ وجب عليه الحجّ ولم يجز له التصرّف فيه بما يخرجه عن الاستطاعة ولا يمكنه التدارك ، ولا فرق في ذلك بين تصرّفه بعد التمكّن من المسير وتصرّفه فيه قبله ، بل الظاهر عدم جواز التصرّف فيه قبل أشهر الحجّ أيضاً (٢).

______________________________________________________

(١) لصدق الاستطاعة ، إذ لا يعتبر فيها حضور المال وكونه تحت يده فعلاً ، بل الميزان هو التمكّن من التصرّف والمفروض حصوله.

(٢) لا ريب في أنّ مقتضى حكم العقل حرمة تفويت الملاك وعدم جواز تعجيز المكلّف نفسه عن أداء الواجب بعد فعليته وتحقق شرائطه وحدوده وإن كان الواجب متأخّراً ، لأنّ الميزان في تقبيح العقل للتعجيز هو تنجيز الواجب وفعليته وإن كان زمان الواجب استقباليّاً.

والظاهر أنّه لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز إتلاف الاستطاعة بعد تحققها وإنّما اختلفوا في مبدأ زمان عدم الجواز ، فالمعروف بينهم أنّ مبدأه خروج الرفقة فيجوز الإتلاف قبل خروج القافلة الاولى وإن كان متمكّناً من المسير. وعن بعضهم كالسيِّد في العروة أنّ مبدأه هو التمكّن من المسير ولا عبرة بخروج الرفقة ، فيجوز له قبل أن يتمكّن من المسير أن يتصرّف في المال بما يخرجه عن الاستطاعة ، وأمّا بعد التمكّن منه فلا يجوز وإن كان قبل خروج الرفقة (١).

وعن المحقق النائيني أنّ العبرة بأشهر الحجّ ، فإذا هلّ هلال شوال لم يجز له إتلاف ما استطاع به.

والظّاهر أنّه لا دليل على شي‌ء ممّا ذكروه ، والصحيح عدم جواز إتلاف الاستطاعة من أوّل زمان حصولها ، ولو قبل التمكّن من المسير أو قبل خروج الرفقة أو قبل أشهر الحجّ ، وذلك لأنّ مقتضى الآية الكريمة والرّوايات المفسّرة للاستطاعة

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٢٣٩ / ٣٠٢٠.

٤٦

نعم ، إذا تصرّف فيه ببيع أو هبة أو عتق أو غير ذلك حكم بصحّة التصرّف وإن كان آثماً بتفويته الاستطاعة (١).

______________________________________________________

تنجّز الوجوب عليه بمجرّد حصول الاستطاعة من الزاد والرّاحلة وتخلية السرب وصحّة البدن ، من دون فرق بين حصولها في أشهر الحجّ أو قبلها أو قبل خروج الرفقة أو قبل التمكّن من المسير أو بعده ، فمتى حصلت الاستطاعة يتنجز الواجب عليه ، وأشهر الحجّ إنّما هو ظرف للواجب لا للوجوب ، فالوجوب المستفاد من الأدلّة غير محدّد بوقت خاص ، ولذا لو استطاع قبل أشهر الحجّ وفرضنا أنّه لا يتمكّن من الوصول إلى الحجّ لو سافر في شهر شوال لبعد المسافة كما في الأزمنة السابقة بالنسبة إلى البلاد البعيدة يجب عليه السفر في زمان يمكنه الوصول إلى الحجّ ولو في شهر رجب أو قبله ، فلا عبرة بأشهر الحجّ ولا بغير ذلك ممّا ذكروه.

(١) لما ذكرنا في الأُصول أنّ النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد (١) ، وحاصل ما ذكرنا هناك : أنّ المعاملات كالبيع مثلاً مركبة من أُمور ثلاثة لا رابع لها ، وهي الاعتبار الشرعي أو العقلائي ، والمبرز بالكسر والمبزر بالفتح أي اعتبار نفس البائع.

أمّا الاعتبار الشرعي أو العقلائي فلا يعقل تعلّق النهي به ، لأنّه خارج عن تحت اختيار البائع أو المشتري ، إذ ليس ذلك بفعله وإنّما هو فعل الشارع ، فما يصح تعلّق النهي به إمّا المبرز بالكسر أو المبرز بالفتح ومجرّد النهي عن أحدهما أو كليهما لا يقتضي الفساد ، بل أقصاه دلالته على المبغوضية ، ولا ينافي ذلك ترتب أثر البيع عليه ، فإنّه من قبيل غسل الثوب بالماء المغصوب ، فإنّه وإن كان محرّماً ولكن يطهر الثوب به جزماً.

نعم ، لو تعلّق النهي بنفس عنوان البيع إرشاداً إلى الفساد كالنهي عن بيع ما ليس عنده أو النهي عن بيع الغرر ، فيدل على الفساد لا لأجل الحرمة والمبغوضيّة بل للإرشاد إلى الفساد ، ولذا قد تكون المعاملة جائزة ومع ذلك يحكم عليها بالفساد.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٦.

٤٧

مسألة ٤٠ : الظاهر أنّه لا يعتبر في الزاد والرّاحلة ملكيتهما ، فلو كان عنده مال يجوز له التصرّف فيه وجب عليه الحجّ إذا كان وافياً بنفقات الحجّ مع وجدان سائر الشروط (١).

______________________________________________________

(١) لصدق الاستطاعة بالتمكّن من التصرّف في المال ، وإباحته له وإن لم يكن المال ملكاً له.

وربما يورد عليه بأنّ مقتضى إطلاق بعض الأخبار المفسّرة للاستطاعة كقوله (عليه السلام) : «له زاد وراحلة» (١) ملكية الزاد والرّاحلة ، لظهور اللّام في الملك فلا يكفي مجرّد الإباحة ، وأمّا وجوب الحجّ بالبذل فقد ثبت بالدليل ، فالمستفاد من الأخبار وجوب الحجّ بملكيّة الزاد والرّاحلة أو ببذلهما ، وأمّا قوله (عليه السلام) : «إذا قدر الرّجل على ما يحجّ به» ونحوه كما في صحيح الحلبي (٢) وغيره ممّا ظاهره الأعم من الملك والإباحة فمقتضى القاعدة تقييده بالملك لحمل المطلق على المقيّد.

ففيه : مضافاً إلى إمكان منع ظهور اللّام في الملك دائماً بل كثيراً ما يستعمل في مطلق الاختصاص كقولنا : الجل للفرس ، أنّه لا مجال لحمل المطلق على المقيّد في أمثال المقام ، فإنّ المطلق إنّما يحمل على المقيّد إذا وردا في متعلّقات الأحكام كالمثال المعروف أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة ، لا في موضوعاتها كنجاسة الخمر والمسكر ، فإنّ المطلق إنّما يحمل على المقيّد لحصول التنافي بينهما بعد إحراز وحدة المطلوب كمورد المثال المعروف ، وأمّا إذا لم يكن بينهما تناف فلا موجب للحمل ، كما في المقام فإنّ حصول الاستطاعة بملكيّة الزاد والرّاحلة لا يناف حصولها بالإباحة وجواز التصرّف في المال بأيّ نحو حصلت.

وأمّا قياس الإباحة المالكيّة بالإباحة الشرعيّة كالأنفال والمعادن والمباحات

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ٣.

٤٨

مسألة ٤١ : كما يعتبر في وجوب الحجّ وجود الزاد والرّاحلة حدوثاً كذلك يعتبر بقاءً إلى تمام الأعمال (١). بل إلى العود إلى وطنه (٢) فإن تلف المال في بلده أو في أثناء الطريق لم يجب عليه الحجّ وكشف ذلك عن عدم الاستطاعة من أوّل الأمر.

______________________________________________________

الأصليّة في عدم حصول الاستطاعة بذلك كما في المستمسك (١) ، فيرد عليه بوضوح الفرق بينهما ، لصدق الاستطاعة بالإباحة المالكية عرفاً وعدم صدقها بمجرّد إباحة الأسماك في البحر له ، نعم لو صاد السمك وحاز المباحات واستولى عليها تحقق عنوان الاستطاعة ، وأمّا مجرّد الجواز الشرعي للحيازة فلا يحقق الاستيلاء لتحصل الاستطاعة.

(١) مقتضى الأدلّة الدالّة على اعتبار الاستطاعة في وجوب الحجّ اعتبار بقائها إلى تمام الأعمال ، بمعنى أنّه يلزم الإتيان بأعمال الحجّ عن استطاعة ، لأنّ الحجّ عبارة عن مجموع الأعمال المعهودة فلا بدّ من اقترانها بالاستطاعة ، وإلّا كما لو تلف المال في أثناء الطريق أو في أثناء الأعمال يكشف عن عدم الاستطاعة من أوّل الأمر ، فلا يجزي عن حجّة الإسلام كما لو حجّ من الأوّل عن غير استطاعة.

(٢) بمعنى أنّه لو فقد مصارف العود إلى وطنه في أثناء الطريق أو في أثناء الأعمال كشف ذلك عن عدم الاستطاعة من الأوّل ، فإنّ الحجّ إنّما يجب على من كان واجداً للزاد والرّاحلة إلى تمام الأعمال ، فلو فقدهما في أثناء الطريق أو في أثناء الأعمال يكشف عن عدم كونه مستطيعاً وعدم كونه واجداً لهما من أوّل الأمر.

نعم ، لو حجّ وانتهى من الأعمال ثمّ فقد مصارف العود إلى وطنه فذلك لا يضر بصحّة حجّه وأجزأه عن حجّة الإسلام ، لأنّه إنّما اعتبرنا مئونة الإياب لأجل الحرج في البقاء في مكّة ، ولا يجري نفي الحرج بعد الانتهاء من الأعمال ، لاستلزامه خلاف الامتنان إذ لا امتنان في الحكم بالفساد بعد إتيان العمل.

__________________

(١) المستمسك ١٠ : ١١٧.

٤٩

ومثل ذلك ما إذا حدث عليه دين قهري ، كما إذا أتلف مال غيره خطأ ولم يمكنه أداء بدله إذا صرف ما عنده في سبيل الحجّ (١) نعم ، الإتلاف العمدي لا يسقط وجوب الحجّ (٢) بل يبقى الحجّ في ذمّته مستقرّاً فيجب عليه أداؤه ولو متسكعاً هذا كلّه في تلف الزاد والرّاحلة ، وأمّا تلف ما به الكفاية من ماله في بلده فهو لا يكشف عن عدم الاستطاعة من أوّل الأمر بل يجتزي حينئذ بحجّه ولا يجب عليه الحجّ بعد ذلك (٣).

______________________________________________________

(١) قد سبق (١) أن ذكرنا أنّ الدّين في نفسه لا يمنع عن وجوب الحجّ ، وإنّما يمنع عنه إذا كان حالاً ومطالباً به ، وهذا من دون فرق بين كون سبب الدّين الاستقراض ونحوه أو إتلاف مال الغير خطأ.

(٢) فإنّ الإتلاف العمدي كإتلاف نفس الزاد والرّاحلة اختياراً بعد حصولهما ووجودهما ، فإنّ ذلك لا يمنع عن استقرار الحجّ في ذمّته لفعليّته عليه بعد استكمال شرائطه ، فيجب عليه التحفّظ على الاستطاعة فلو أزالها اختياراً يستقر عليه الحجّ وصار ديناً عليه ووجب الإتيان به بأيّ وجه تمكّن.

(٣) يعني إذا تلف بعد تمام الأعمال ما به الكفاية من ماله في وطنه يجتزئ بحجّه ولا أثر لتلف ما به الكفاية ، وذلك لأنّا إنّما اعتبرنا الرّجوع إلى الكفاية لنفي الحرج وهو امتناني فلا يجري بعد الإتيان بالأعمال ، لأن لازمه الحكم بالفساد وعدم الاجتزاء بما أتى به ولا امتنان في ذلك فلا مانع من الحكم بالصحّة ، نظير من اغتسل أو توضأ ثمّ علم بأنّ وضوءه أو غسله كان حرجيّا ، فإنّه لا يحكم بالفساد لأنّه على خلاف الامتنان ، ونفي الحرج إنّما يجري في موارد الامتنان.

__________________

(١) في المسألة ٣٤.

٥٠

مسألة ٤٢ : إذا كان عنده ما يفي بمصارف الحجّ لكنّه معتقد بعدمه ، أو كان غافلاً عنه ، أو كان غافلاً عن وجوب الحجّ عليه غفلة عذر لم يجب عليه الحجّ وأمّا إذا كان شاكّاً فيه أو كان غافلاً عن وجوب الحجّ عليه غفلة ناشئة عن التقصير ثمّ علم أو تذكر بعد أن تلف المال فلم يتمكّن من الحجّ ، فالظاهر استقرار وجوب الحجّ عليه إذا كان واجداً لسائر الشرائط حين وجوده (١).

______________________________________________________

(١) قد يجهل المكلّف عن كونه مستطيعاً جهلاً مركباً كالقاطع والمعتقد بالخلاف وقد يغفل عن وجود المال بمقدار مصارف الحجّ ، وقد يغفل عن وجوب الحجّ عليه غفلة عذر لا يلتفت إلى وجوبه عليه لعدم معرفته بالأحكام الإسلاميّة وقلّة المسلمين في البلد الّذي يسكنه وهو جديد عهد بالإسلام مثلاً ، وقد يكون جاهلاً جهلاً بسيطاً يحتمل الخلاف كالشاك ، وقد يكون غافلاً عن وجوب الحجّ غفلة ناشئة عن التقصير ، ثمّ إنّه بعد تلف المال يتذكّر ويعلم بوجوب الحجّ عليه ، فهل يستقر عليه الحجّ أم لا؟.

ذهب السيِّد في العروة إلى استقرار وجوب الحجّ عليه في جميع الصور ، لأنّ الجهل والغفلة لا يمنعان عن الاستطاعة الواقعيّة ، غاية الأمر أنّه معذور في ترك ما وجب عليه ، وعدم التمكّن من جهة الغفلة والجهل لا ينافي الوجوب الواقعي ، والعلم شرط في التنجيز لا في ثبوت أصل التكليف (١).

وذهب المحقق القمي في جامع الشتات إلى عدم الوجوب في جميع الصور ، لأنّه لجهله لم يكن مورداً للتكليف ، وبعد التفاته وتذكره لم يكن له مال ليحج به فلا يستقر عليه الوجوب (٢).

والصحيح هو التفصيل كما في المتن بين الجهل البسيط والمركب ، فإن كان الجهل جهلاً بسيطاً وكان شاكّاً فالظاهر استقرار وجوب الحجّ عليه ، لما حقق في محلِّه (٣) من

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٢٤٠ / ٣٠٢٢.

(٢) جامع الشتات ١ : ٢٨١ / ٤١٦.

(٣) مصباح الأُصول ٢ : ٢٦٥.

٥١

مسألة ٤٣ : كما تتحقّق الاستطاعة بوجدان الزاد والرّاحلة تتحقّق بالبذل (١).

______________________________________________________

أن رفع الحكم في مورده حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحجّ واستقراره عليه واقعاً إذ العلم بالاستطاعة لم يؤخذ في موضوع وجوب الحجّ ، ولا مانع من توجّه التكليف إليه لتمكّنه من الإتيان به ولو على سبيل الاحتياط.

وبعبارة أُخرى : في مورد الجهل البسيط الّذي كان يتردد ويشك في أنّه مستطيع أم لا ، إذا كان اعتماده على أصل شرعي يعذره عن ترك الواقع ما دام جاهلاً به ، إذا انكشف الخلاف وبان أنّه مستطيع تنجز عليه التكليف الواقعي كسائر موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهريّة. بخلاف ما لو كان جاهلاً بالجهل المركب وكان معتقداً للخلاف ، فإنّ التكليف الواقعي غير متوجّه إليه لعدم تمكّنه من الامتثال حتّى على نحو الاحتياط ، فإن من كان قاطعاً بالعدم لا يمكن توجّه التكليف إليه لعدم القدرة على الامتثال.

وما يقال من أنّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل فإنّما هو في مورد الجهل البسيط الّذي يتمكّن من الامتثال في مورده لا الجهل المركّب والقطع بالخلاف الّذي لا يتمكّن من الامتثال أصلاً ، ففي هذه الصورة الحق مع المحقق القمي من عدم الوجوب لأنّه لجهله لم يكن مورداً للتكليف وبعد علمه لم يكن له مال ليحجّ به.

وكذلك الحال في موارد الغفلة فإنّها إن كانت الغفلة مستندة إلى تقصير منه كترك التعلّم عمداً فالظاهر استقرار وجوب الحجّ عليه ، فإنّ الغفلة لا تمنع عن الاستطاعة الواقعيّة ولا تنافي الوجوب الواقعي.

وأمّا إذا لم تكن ناشئة عن تقصير منه فالرفع في حقّه رفع واقعي والحكم غير ثابت في حقّه واقعاً فلا يستقر عليه الحجّ ، لعدم ثبوت التكليف في حقّه في فرض الغفلة ، وفي فرض الالتفات وإن أمكن تكليفه ولكن المفروض أنّه لا مال له بالفعل فلا موجب لوجوب الحجّ عليه.

(١) إجماعاً ونصوصاً ، منها : صحيحة العلاء عن محمّد بن مسلم ، على ما رواه

٥٢

ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الباذل واحداً أو متعدداً (١)

______________________________________________________

الصدوق في كتاب التوحيد ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ (... وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ... قال : يكون له ما يحجّ به ، قلت : فمن عرض عليه الحجّ فاستحيى ، قال : هو ممّن يستطيع» (١).

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار في حديث قال : «فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيى فلم يفعل ، فإنّه لا يسعه إلّا أن يخرج ولو على حمار أجدع أبتر» (٢).

وربما يناقش في الاستدلال بالنصوص ، لدلالتها على وجوب الحجّ ولو مع العسر والحرج وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

والجواب عن ذلك أنّ الظاهر منها خصوصاً من صحيحة معاوية بن عمار وجوب الحجّ عليه مع المشقّة والتسكع في مورد استقرار الحجّ بالبذل ورفضه بعد البذل ، فالأمر بتحمّل المشقّة والحجّ متسكعاً في هذه النصوص بعد فرض استطاعته بالبذل ، فإنّ المستفاد من النصوص أنّ مورد الأسئلة رفض الحجّ بعد البذل ، فحينئذ يستقر الحجّ في ذمّته ولا بدّ من الخروج عن عهدته ولو متسكعاً حتّى على حمار أجدع أبتر ، فيعلم من ذلك أنّ البذل كالملك يحقق الاستطاعة فلا تختص الاستطاعة بالملك.

بل يمكن استفادة كفاية الاستطاعة البذليّة من نفس الآية الشريفة ، لدلالتها على وجوب الحجّ بمطلق الاستطاعة وهي تتحقق بالبذل وعرض الحجّ أيضاً. نعم الرّوايات الخاصّة فسّرت الاستطاعة بقدرة خاصّة وهي التمكّن من الزاد والرّاحلة وتخلية السرب وصحّة البدن ، وهذه الأُمور كما تحصل بالملك تحصل بالبذل أيضاً.

(١) لإطلاق النصوص.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٢ ، التوحيد : ٣٤٩ / ١٠.

(٢) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٣.

٥٣

وإذا عرض عليه الحجّ والتزم بزاده وراحلته ونفقة عياله وجب عليه الحجّ ، وكذلك لو أُعطي مالاً ليصرفه في الحجّ وكان وافياً بمصارف ذهابه وإيابه وعياله (١). ولا فرق في ذلك بين الإباحة والتمليك (٢). ولا بين بذل العين وثمنها (٣).

مسألة ٤٤ : لو اوصي له بمال ليحج به وجب الحج عليه بعد موت الموصي إذا كان المال وافياً بمصارف الحجّ ونفقة عياله ، وكذلك لو وقف شخص لمن يحجّ أو نذر أو أوصى بذلك وبذل له المتولي أو الناذر أو الوصي وجب عليه الحجّ (٤).

مسألة ٤٥ : لا يجب الرّجوع إلى الكفاية في الاستطاعة البذليّة (٥).

______________________________________________________

(١) لصدق البذل وعرض الحجّ بذلك أيضاً ، وأمّا نفقة العيال فالنصوص خالية عنها فلا بدّ من الرّجوع إلى ما تقتضيه القاعدة ، فإن كان له عيال تجب عليه نفقتهم وكان سفر الحجّ مانعاً عن الإنفاق عليهم فيدخل المقام في باب التزاحم ويقدم الأهم ولا يبعد أن يكون الإنفاق على العيال أهم لكونه من حقوق الناس ، فلا يجب الحجّ لو لم يبذل نفقة عياله إلّا إذا كان عنده ما يكفيهم إلى أن يعود ، وكذا لا يجب الحجّ إذا كان عدم الإنفاق حرجيّا عليه. نعم ، لو لم يتمكّن من الإنفاق عليهم حتّى مع عدم السفر بحيث كان الإنفاق عليهم متعذِّراً عليه حج أو لم يحجّ ، حينئذ يقدِّم الحجّ لعدم المزاحمة.

(٢) لإطلاق الرّوايات وصدق العرض بكل من الإباحة والتمليك ، ولا وجه للقول بالاختصاص بصورة التمليك ، بل صورة الإباحة أظهر دخولاً في إطلاق الرّوايات لأنّ قوله : «دعاه قوم أن يحجوه» أو قوله : «فإن عرض عليه الحجّ» ظاهر في الإباحة ، فإنّ الغالب التزام الباذل بمصارف الحجّ لا بذل عين المال على نحو التمليك.

(٣) إذ لا فرق في صدق عرض الحجّ بين بذل العين وثمنها.

(٤) لصدق عرض الحجّ على جميع ذلك كلّه.

(٥) لا يخفى أنّ عمدة ما استدلّ به على اعتبار الرّجوع إلى الكفاية في الاستطاعة أمران :

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : خبر أبي الربيع الشامي قال : «سُئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ (... وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ... إلى أن قال : هلك النّاس إذن لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن الناس يجب عليه أن يحجّ بذلك ، ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفّه لقد هلك اذن الحديث» (١).

ثانيهما : دليل نفي العسر والحرج ، فإنّ السفر إلى الحجّ إذا استلزم تعطيل معاشه وإعاشة عياله لو عاد إلى بلده ، لا يجب لوقوعه في الحرج.

وكلا الأمرين لا يجري في الاستطاعة البذليّة ، أمّا الخبر فمورده الاستطاعة الماليّة لأمره (عليه السلام) بصرف بعض ماله في الحجّ وإبقاء بعضه لقوت عياله ، ولا إطلاق له يشمل الاستطاعة البذليّة. هذا مضافاً إلى ما ذكرنا سابقاً (٢) أنّ هذه الزيادة مرويّة على طريق المفيد وطريقه إلى أبي الربيع مجهول.

وأمّا دليل نفي الحرج فكذلك لا يأتي في الاستطاعة البذليّة ، لأنّ المفروض أنّ المبذول له لا يصرف شيئاً من المال في الحجّ وإنّما مصارفه على الباذل ، ويكون حاله بعد الحجّ كحاله قبل الحجّ فلا يقع في الحرج بسبب سفره إلى الحجّ ، بخلاف الاستطاعة الماليّة فإنّه لو صرف جميع ما عنده من المال في الحجّ بحيث لو رجع إلى بلاده ولا مال له لكفاية نفسه وعياله يكون سفره إلى الحجّ مستلزماً لوقوعه في الحرج فيرتفع وجوبه.

نعم ، لو وقع في الحرج من جهات أُخر ولو على سبيل الندرة يسقط الوجوب بالبذل أيضاً ، كما لو فرضنا أنّ الشخص كسبه منحصر في خصوص أشهر الحجّ ، ولو سافر إلى الحجّ في هذه الأشهر لا يتمكّن من الكسب أصلاً ويتعطّل أمر معاشه في طول السنة.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٧ / أبواب وجوب الحج ب ٩ ذيل ح ١.

(٢) في ص ٣٥.

٥٥

نعم ، لو كان له مال لا يفي بمصارف الحجّ وبذل له ما يتمم ذلك وجب عليه القبول (١) ولكن يعتبر حينئذ الرّجوع إلى الكفاية (٢).

مسألة ٤٦ : إذا اعطي مالاً هبة على أن يحجّ وجب عليه القبول (٣). وأمّا لو خيّره الواهب بين الحجّ وعدمه ، أو أنّه وهبه مالاً من دون ذكر الحجّ لا تعييناً ولا تخييراً لم يجب عليه القبول (٤).

مسألة ٤٧ : لا يمنع الدّين من الاستطاعة البذليّة (٥) نعم ، إذا كان الدّين حالاً وكان الدائن مطالباً والمدين متمكِّناً من أدائه إن لم يحجّ لم يجب عليه الحجّ (٦).

______________________________________________________

(١) لصدق العرض بذلك ، ولا يختص عنوان عرض الحجّ ببذل تمام النفقة ، فإنّ الميزان بتحقّق الاستطاعة ولو بالتلفيق بين ما عنده من المال وما بذل له.

(٢) إذا كانت الاستطاعة ملفقة من المال والبذل يعتبر فيها الرّجوع إلى الكفاية لجريان الدليلين المتقدِّمين المذكورين في أوّل المسألة في مثل ذلك كما لا يخفى.

(٣) لصدق عرض الحجّ على ذلك ، ولا يختص العرض بالإباحة والبذل.

(٤) أمّا في الهبة المطلقة فالأمر واضح لأنّ القبول من تحصيل الاستطاعة وهو غير واجب ، وأمّا القبول في الهبة المخيّرة بين الحجّ وغيره فربّما يقال بوجوبه ، لصدق الاستطاعة وعرض الحجّ بذلك ، لأنّ عرض شي‌ء آخر منضمّاً إلى عرض الحجّ لا يضر بصدق عرض الحجّ.

وفيه : أنّ التخيير بين الحجّ وغيره يرجع إلى أن بذله مشروط بعدم صرف المال المبذول في أمر آخر ، أو مشروط بإبقاء المال عنده ، ولا يجب على المبذول له تحصيل الشرط.

(٥) الدّين إنّما يمنع من الحجّ فيما إذا دار الأمر بين صرف المال في أداء الدّين أو في السفر إلى الحجّ ، وأمّا لو فرض أنّه يسافر مجاناً ولم يصرف مالاً فلا مزاحمة في البين فيجب عليه الحجّ.

(٦) وكذا لو كان الدّين مؤجّلاً ولكن يعلم المدين أنّه لو حجّ لا يتمكّن من أداء

٥٦

مسألة ٤٨ : إذا بذل مال لجماعة ليحج أحدهم ، فإن سبق أحدهم بقبض المال المبذول سقط التكليف عن الآخرين ، ولو ترك الجميع مع تمكّن كلّ واحد منهم من القبض استقرّ الحجّ على جميعهم (١).

______________________________________________________

دينه أصلاً ، ففي مثله يقدم أداء الدّين لأنّ العبرة بالمزاحمة وأداء الدّين أهم ، نعم لو علم بالتمكّن من الأداء بعد الرّجوع فلا يكون الدّين مانعاً.

(١) ربما يناقش في الوجوب كما في المستمسك تبعاً لصاحب الجواهر (١) ، بأنّ الاستطاعة نوعان : ملكية وبذلية ، وكلتاهما في المقام غير حاصلة ، لانتفاء الملك على الفرض ، وأمّا البذليّة فلعدم شمول نصوص البذل له ، لأنّ البذل وعرض الحجّ إنّما يتحقق بالنسبة إلى الشخص الخاص وأمّا العرض للجامع فلا معنى له فلا يشمله النصوص.

والجواب : أنّ البذل للجامع بما هو جامع وإن كان لا معنى له ، لعدم إمكان تصرّف الجامع في المال ، ولكن البذل في المقام في الحقيقة يرجع إلى البذل إلى كلّ شخص منهم ، غاية الأمر مشروطاً بعدم أخذ الآخر ، فمعنى البذل إليهم تخييراً أن من أخذ المال منكم يجب عليه الحجّ ولا يجب على الآخر ، وأمّا إذا لم يأخذه واحد منهم فالشرط حاصل في كلّ منهم فيستقر عليهم الحجّ ، نظير : ما إذا وجد المتيممون ماءً يكفي لواحد منهم فإن تيمم الجميع يبطل.

نعم ، يفترق مسألة التيمم عن المقام في الجملة ، وهو أنّه في باب التيمم يجب السبق إلى أخذ الماء على من كان متمكناً من الغلبة ومنع الآخر ودفعه ، ولا يجب التسابق في المقام لأنّ المال بذل على نحو الواجب المشروط ، وإيجاد الشرط غير واجب.

__________________

(١) المستمسك ١١ : ١٤٦ ، الجواهر ١٧ : ٢٦٩.

٥٧

مسألة ٤٩ : لا يجب بالبذل إلّا الحجّ الّذي هو وظيفة المبذول له على تقدير استطاعته ، فلو كانت وظيفته حجّ التمتّع فبذل له حجّ القِران أو الإفراد لم يجب عليه القبول وبالعكس (١). وكذلك الحال لو بذل لمن حجّ حجّة الإسلام (٢). وأمّا من استقرّت عليه حجّة الإسلام وصار معسراً فبذل له وجب عليه ذلك (٣). وكذلك من وجب عليه الحجّ لنذر أو شبهه ولم يتمكّن منه (٤).

______________________________________________________

(١) فإنّ البذل لا يغيّر وظيفته من قسم خاص إلى قسم آخر من الحجّ ، وإنّما البذل يحقق له الاستطاعة. وبعبارة اخرى : المستفاد من النصوص أنّ الاستطاعة المعتبرة في الحجّ غير منحصرة بالماليّة بل تتحقّق بالبذل أيضاً ، فلا فرق بين المستطيع المالي والبذلي في الوظائف المقرّرة له.

(٢) فإنّه لا يجب عليه القبول ، لأنّ المفروض أنّه قد أدّى الواجب ولا يجب عليه الإتيان ثانياً.

(٣) لحصول القدرة على الامتثال بهذا البذل ، فإنّ الواجب عليه إتيان الحجّ متى قدر عليه وتمكّن منه ولو بالقدرة العقليّة ، فإنّ حال الحجّ حينئذ حال سائر الواجبات الإلهيّة من اعتبار القدرة العقليّة فيها ، فوجوب القبول في هذا المورد ليس لأجل أخبار البذل ، لأنّ تلك الأخبار في مقام توسعة الاستطاعة الخاصّة المعتبرة في حجّ الإسلام ، وأمّا وجوب الحجّ على من استقرّت عليه حجّة الإسلام فلم يعتبر فيه الاستطاعة الخاصّة المفسّرة في الرّوايات ، بل حاله حال سائر التكاليف في الاكتفاء بالقدرة العقليّة في وجوب الإتيان بها ، والمفروض حصول القدرة في الصورة المذكورة ، ولذا لو وهب له مال على نحو الإطلاق يجب عليه القبول ، لأنّه يحصل له التمكّن من الامتثال والقدرة على الإتيان فيجب عليه تفريغ ذمّته بحكم العقل.

(٤) لمّا عرفت من أنّ القدرة الخاصّة المعتبرة في الحجّ المفسّرة في الرّوايات بالزاد والرّاحلة وغيرهما إنّما تعتبر في حجّة الإسلام خاصّة ، وأمّا سائر أقسام الحجّ الواجبة فلا يعتبر فيها إلّا القدرة العقليّة المعتبرة في سائر الواجبات الإلهيّة ، فمتى حصلت له

٥٨

مسألة ٥٠ : لو بذل له مال ليحج به فتلف المال أثناء الطريق سقط الوجوب (١) نعم ، لو كان متمكّناً من الاستمرار في السفر من ماله وجب عليه الحجّ وأجزأه عن حجّة الإسلام (٢) إلّا أنّ الوجوب حينئذ مشروط بالرّجوع إلى الكفاية (٣).

مسألة ٥١ : لا يعتبر في وجوب الحجّ البذل نقداً ، فلو وكّله على أن يقترض عنه ويحجّ به واقترض وجب عليه (٤).

مسألة ٥٢ : الظاهر أنّ ثمن الهدي على الباذل (٥) فلو لم يبذله وبذل بقيّة المصارف لم يجب الحجّ على المبذول له ، إلّا إذا كان متمكّناً من شرائه من ماله (٦)

______________________________________________________

القدرة على الامتثال ولو بالبذل أو الهبة يجب عليه القبول لتفريغ ذمّته بحكم العقل كما قلنا.

(١) لاعتبار الاستطاعة في وجوب الحجّ حدوثاً وبقاءً ، فإذا فقدت الاستطاعة في الأثناء ينكشف عدم ثبوت الوجوب.

(٢) لأنّ الميزان في وجوب الحجّ بحصول الاستطاعة ولو بالتلفيق بين ما عنده وبالبذل.

(٣) لما عرفت في المسألة الخامسة والأربعين اعتبار الرّجوع إلى الكفاية في الاستطاعة الملفقة لجريان دليل اعتباره فيها.

(٤) لحصول الشرط وهو الاستطاعة بالاقتراض وإن لم يجب تحصيله ، نظير توقف الاستطاعة على الكسب ، فإنّه لا يجب عليه الاكتساب لتحصيل الشرط ولكن إذا اكتسب وحصلت الاستطاعة وجب الحجّ لحصول الشرط.

(٥) لأنّ الهدي من أعمال الحجّ ، وعرض الحجّ وبذله يتحقق ببذل تمام أعماله وواجباته وإلّا فلم يعرض عليه الحجّ ، بل عرض بعض الحجّ فلا تشمله النصوص.

(٦) إذا كان المبذول له متمكّناً من شراء الهدي ولم يبذل له الباذل وجب على المبذول له شراؤه ويجب عليه الحجّ حينئذ ، لكفاية الاستطاعة المركبة من الاستطاعة

٥٩

نعم ، إذا كان صرف ثمن الهدي فيه موجباً لوقوعه في الحرج لم يجب عليه القبول. وأمّا الكفّارات فالظاهر أنّها واجبة على المبذول له دون الباذل (١).

مسألة ٥٣ : الحجّ البذلي يجزئ عن حجّة الإسلام ولا يجب عليه الحجّ ثانياً إذا استطاع بعد ذلك (٢).

______________________________________________________

المالية والبذلية ، إلّا إذا كان صرف ثمن الهدي فيه موجباً لوقوعه في الحرج فلم يجب عليه القبول لنفي الحرج.

(١) لأنّ الباذل لم يلتزم بشي‌ء من ذلك ، وإنّما صدر موجبها من المبذول له باختياره ، فلا موجب لكونها على الباذل فإنّ الباذل تعهّد بصرف نفقات الحجّ وليست الكفّارات من أعمال الحجّ ، وهذا من دون فرق بين الكفّارات العمديّة والخطئيّة ، فلا وجه لتوقف السيِّد في العروة في الكفّارات غير العمديّة (١).

(٢) المعروف بين الفقهاء إجزاء الحجّ البذلي عن حجّة الإسلام فلو أيسر بعد ذلك لا يجب عليه الحجّ ثانياً ، بل لم يعرف الخلاف في ذلك إلّا من الشيخ في كتاب الاستبصار واستدلّ فيه بصحيح الفضل لقوله (عليه السلام) : «وإن أيسر فليحج» (٢). وأمّا إطلاق حجّة الإسلام على ما حجّ به بالبذل فباعتبار ما ندب إليه من الحجّة في حال إعساره ، فإنّ ذلك يعبّر عنها بأنّها حجّة الإسلام من حيث كانت أوّل الحجّة وليس في الخبر أنّه إذا أيسر لم يلزمه الحجّ ، بل فيه تصريح أنّه إذا أيسر فليحج ، ثمّ قال (قدس سره) وأمّا صحيح معاوية بن عمار الدال على الصحّة وأنّها حجّة تامّة (٣) فلا ينافي صحيح الفضل الدال على إعادة الحجّ إذا أيسر ، لأنّ خبر معاوية دلّ على أنّ حجّته تامّة وصحيحة يستحق بفعلها الثواب ، ولا ينافي ذلك وجوب الحجّ مرّة ثانية إذا أيسر (٤).

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٢٤٥ / ٣٠٤١.

(٢) الوسائل ١١ : ٤١ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٦.

(٣) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٢.

(٤) الإستبصار ٢ : ١٤٣.

٦٠